آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. تيسير الناشف
    تاريخ التسجيل
    27/10/2006
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    الدكتور تيسير الناشف

    منذ سنوات كثيرة لا يزال المجتمع المدني في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، ضعيفا. ويتكون المجتمع المدني من فئات مختلفة منها الهيئات والرابطات الثقافية والعلمية والخيرية والإجتماعية والرياضية والنقابات الحرفية والعمالية والصحفية وغيرها. وتتضمن عبارة المجتمع المدني طبيعة العلاقات بين الأفراد أنفسهم والعلاقات بين الأفراد والسلطات الحكومية وغير الحكومية. ومن السمات الرئيسية للمجتمع المدني انكماش التدخل الحكومي وترك حيز واسع يمارس فيه أفراد الشعب نشاطاتهم بقدرأكبر من الحرية وخلو الناس من الخوف من بطش السلطات الحكومية وتوفر قدر كبير من التماسك الإجتماعي ومن إمكانية التنبؤ بنوع السلوك وبطبيعة الأدوار التي يؤديها أفراد المجتمع.

    الغلو في النزعة الفردية والقبلية والطائفية لا تتعايش
    مع مفهوم المجتمع المدني السليم

    وتوجد وسائل لتعزيز المجتمع المدني، منها الإقرار بالاعتماد المتبادل لأفراد المجتمع بوصفه وحدة متماسكة واحدة والفهم المتجانس لدى الأفراد للصالح العام واعتقاد أفراد المجتمع بالانتماء الى إطار سياسي مدني مشترك. إن الإفراط في النزعة الفردية والمبالغة في الطمع باكتساب النفوذ السياسي من شأنهما ان يضعفا تماسك المجتمع، مما يؤدي الى إضعاف المجتمع المدني. والإفراط في الفردية يضعف المجتمع المدني أو يؤخر نشوءه لأن هذا الإفراط ينطوي على الإفراط في الانطلاق الفردي بينما يتضمن الإنتماء إلى المجتمع المدني التقيد ببعض القيود المتأصلة في هذا المجتمع من قبيل مراعاة قيم اجتماعية وقانونية ومن قبيل قبول مفاهيم التعاقد والتعاضد والتكافل على المستوى الاجتماعي. ومما من شأنه أن يسهم أيضا في تعزيز المجتمع المدني نشوء ورعاية الحياة الفكرية التي تتولد عن مصادر مختلفة من أهمها المؤسسات الأكاديمية والجامعية والثقافية والتربوية. ويمكن للتنشئة المنزلية والمدرسية والدراسة الجامعية أن تؤديا دورا هاما في إضعاف النزعة الفردية وفي تقليل ذلك الطمع عن طريق إظهار مردوداتهما السلبية على نشوء المجتمع المدني. إن ذلك الإضعاف والتقليل ليس من شأنهما أن يمسا بقدرة المرء على أن يحقق أهدافه ومصالحه.
    ولتعزيز المجتمع المدني من اللازم أن تنشأ المؤسسات المدنية والأهلية التي تعنى بشتى مجالات الفكر والأدب والكتابة والرياضة والصحافة والرابطات الطبية والصحافية والنقابات المهنية والعمالية التي لا تحتاج أو تقل حاجتها إلى السلطات الحكومية في توفير الموارد المالية اللازمة.
    ومن الصعوبة البالغة نشوء المجتمع المدني بدون إزالة الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، لأسباب منها أن بؤرة الإنتماء لكل من هذه المؤسسات، أي الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، تتناقض مع بؤرة الإنتماء إلى المجتمع المدني، وهي مجموع أفراد الشعب كلهم، وليست مجموع أفراد الطائفة أو الحمولة أو العشيرة أو القبيلة.
    ولتعزيز أو تحقيق المجتمع المدني من الأفضل ألا تقام مؤسسات من قبيل اليانصيب والمقامرة لأن وجود هذه المؤسسات يدل على وجود روح التهرب من مواجهة الواقع ويشجع على وجود هذه الروح، بينما يتطلب وجود المجتمع المدني الحضور والمشاركة الفكريين والثقافيين والسياسيين.

    دور الفكر في نشوء المجتمع المدني وتعزيزه

    ولتحقيق نشوء المجتمع المدني أو لتعزيز هذا المجتمع من اللازم إشاعة الأفكار والمواقف الفاضلة. عن طريق هذه الإشاعة يمكن الإسهام في تشكيل الحياة العامة القائمة على الفضيلة.
    ويمكن للمفكرين أن يؤدوا دورا هاما في إنشاء المجتمع المدني أو إصلاحه أو تعزيزه. ويتطلب ذلك الاعتقاد بأثر الأفكار. لقد بينت بحوث أجريت على امتداد سنوات كثيرة في علم النفس الإدراكي والإجتماعي أن الأفكار مصدر معول عليه في التحفيز على السلوك البشري وأنها يمكن أن تكون محفزة على اتخاذ موقف يقوم على الفضيلة المدنية. وأحيانا تكون الأفكار مصدرا للتحفيز على السلوك الفاضل أكثر تعويلا من المغريات المالية والمادية وآليات التحكم الإجتماعي. ومن الدلائل على قوة أثر الأفكار ما شهده التاريخ البشري من حالات كثيرة تجلت فيها أعمال الإيثار الحقيقي من قبيل تكريس الحياة لمساعدة الفئات الضعيفة ونجدة الناس المستضعفين المظلومين من الظالمين بدون أن يصاحب تلك الأعمال الاهتمام بالحوافز الإقتصادية أو الخوف من العقوبة. وحتى السلوك الأخلاقي العادي - من قبيل مراعاة الآخرين والنزاهة واحترام القيم الإجتماعية - يديمه على الأمد الطويل التفاهم والاعتقاد. والناس الذين لديهم اعتقاد بغرض القانون أشد حماسا لاتباعه من الذين يعرفون ببساطة ما سيحدث لهم لو ألقي القبض عليهم وهم ينتهكونه. وتشير الدراسات الإنمائية إلى أن لدى المدارس والكليات والجامعات إمكانية التأثير في صغار السن أثناء الوقت الذي فيه تنشأ لديهم ملكة الفهم وتتكون لديهم المواقف والمعتقدات الثابتة المتعلقة بالمجتمع. إن تثقيف العقول الشابة بالفضيلة أمر شديد الإلحاح في هذه الأيام التي تضغط فيها ضغوط كثيرة في شتى مجالات الحياة على الفرد.

    لا ينشأ المجتمع المدني السليم
    في حالة الطغيان السياسي

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى بدون أن يسود جو الديمقراطية الإجتماعية والسياسية الذي تتاح فيه للإنسان أن يمارس حرية الرأي وحرية التعبير عنه وحرية انتقاد السلطة الحكومية وغير الحكومية. ولا يمكن أن ينشأ هذا المجتمع ويدوم بدون أن تكف السلطات الحكومية وغير الحكومية عن الطغيان على حياة الناس وشؤونهم، مما يعني النيل من تفرد شخصيتهم واستقلالها ومن كرامتهم والانتقاص من حقهم في الحياة. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى ما دامت حرية الإنسان وحياته معرضتين للخطر من جراء قيام السلطات بمحاسبة ومحاكمة الناس بالظن والشبهات وليس عن طريق مراعاة الأصول القضائية السليمة والمستنيرة التي يتجسد فيها مبدأ العدل الإجتماعي ومبدأ تغليب الحس السليم ومبدأ أن الإنسان بريء ما لم تثبت إدانته دون أدنى شك. المجتمع المدني لا يمكن أن يقوم وأفراده خائفون مرتعبون من سيف السلطات المسلط على رقابهم. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ما دام الحاكم مالكا للدولة وما دامت خزانة الدولة خزانته الخاصة.
    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني إذا لم تتوفر الإمكانية الحقيقية لدى كل فرد في المجتمع لأن يتولى السلطة الحكومية وإذا لم توفر البدائل الحقيقية لتولي السلطة ولتداولها بين الناس من أعلى مستوى إلى أدنى مستوى على هرم السلطة الحكومية وغير الحكومية. المجتمع المدني لا يمكن أن ينشأ في ظل تركيز السلطة في أيدي قلة قليلة أو حزب واحد متربع على أريكة الحكم ولا يبارحها. وأحد أسس المجتمع المدني إتاحة الفرصة للمشاركة الحقيقية الجريئة والصريحة في مناقشة الأمور المطروحة. ولا يتوفر هذا الأساس في المجتمع الذي يخاف أفراده من الإعراب عن آرائهم في هذه الأمور. وحتى ينشأ المجتمع المدني ينبغي ألا يكون الحاكم شديد الخوف من إعراب الناس عن مواقفهم، إذ بشدة الخوف هذه يميل الحاكم إلى لجم لسان الشخص الممارس لحريته ويلوذ الفرد بالصمت اللذين (أي اللجم والصمت) لا يمكن بوجودهما أن ينشأ المجتمع المدني.
    ويصعب أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب لا يعرف حكامه معنى وقيمة الحياة المدنية ولم يذوقوها، ولم ينشأوا في ذلك المجتمع ولكن نشأوا وترعرعوا في مجتمع يخلو من الديمقراطية السياسية والإجتماعية ويمجد القوة ولا يقيد سلوك الممسكين بمقاليد السلطة، فجاءت شخصياتهم متشربة بروح هذه الحالة الإجتماعية.

    المجتمع المدني والتنشئة والتنمية

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب يعاني أفراده من الأمية والفقر والجوع والمرض، إذ في هذه الحالة يسهل إخضاعهم للسلطة ويصعب تحقيق مشاركتهم في الحياة السياسية. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد المجتمع المدني توفر صفات منها معرفة التاريخ والإقتصاد ومعرفة طبيعة العلاقات الإجتماعية والعامل النفسي فيها وتوفر الصفات الأخلاقية مثل قدر أكبر من الإخلاص والنزاهة وتوفر الحس بالمسؤولية الإجتماعية وبالعدالة والتسامح، وهي صفات تجعل من الممكن إصدار حكم أكثر صحة والقيام بالخطاب الديمقراطي. ولإيجاد الصفات الخلقية من اللازم إنشاء مراكز للتنمية الخلقية للقيام ببحوث ثقافية عن كيفية تقوية التمسك بالأخلاق والفضيلة لدى الشباب والبالغين. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد هذا المجتمع التجربة العملية لتنظيم المجتمع. بهذه التجربة يمكن للناس أن يتعلموا كيف يعملون ضمن جماعات. ويمكن للدراسات الإنسانية والإجتماعية والطبيعية في الكليات والجامعات أن تعزز جميع هذه الصفات والمهارات، وبالتالي يمكنها أن تسهم في تنشئة صغار السن والبالغين عليها.
    ومن أهداف التعليم الجامعي التي ينبغي أن تحظى بالأولوية الأولى أن ينشئ الأساتذة طلبتهم على المواطنة الديمقراطية الصالحة، بما في ذلك المشاركة في الشؤون المدنية والاطلاع على التراث العربي الذي يتناول موضوع المواطنة الصالحة والديمقراطية والمشاركة في إدارة الشؤون السياسية والمدنية للمجتمع. من اللازم أن يولي الأساتذة قدرا أكبر من الإهتمام لهذا الموضوع في محاضراتهم وأن تضع الجامعات مقررات عن هذا الموضوع وأن تكون مشاركة الطلاب فيها إلزامية. وبعبارة أخرى، من اللازم زيادة الإهتمام بموضوع المواطنة والمجتمع المدني في مقررات المدارس الإبتدائية والثانوية والجامعات.

    المجتمع المدني والممارسة المدنية

    ومن البرامج التي يمكن وضعها وتنفيذها في العالم العربي من أجل إعداد الطلاب للمواطنة الصالحة البرنامج الدراسي الذي يجمع الغرض الأكاديمي والغرض الإجتماعي في الوقت نفسه من قبيل البرنامج الدراسي للحصول على شهادة الشؤون الإجتماعية والبرنامج الدراسي للحصول على البكالوريوس في العلوم السياسية أو الإجتماع، وهو البرنامج الذي يمكن أن يجمع الدراسة النظرية وقسم العمل التطبيقي الميداني الذي يتمثل على سبيل المثال في مراقبة جلسات المجالس المحلية القروية والبلدية والجلسات البرلمانية والحكومية والمشاركة في المناقشات وإبداء التعليقات والملاحظات بمنأى عن الضغط الحكومي. ويمكن أن تدرج مواد دراسية يمكن أن تستعمل في دورات المدارس الثانوية والجامعات. ويمكن أن تناقش الدورات الدراسية التي يقدمها أساتذة الجامعات الطرق التي يمكن عن طريقها للمواد التي تدرس الفضيلة المدنية أن تدمج في الدورات الدراسية في العلوم الإنسانية والإجتماعية وفي العلوم الطبيعية. ومن شأن هذه البرامج أن تعزز حس الفرد بالإنتماء إلى مجتمعه وأن تعزز التعلم الأكاديمي وتقوي الإلتزام الخلقي والمدني.
    ويمكن أيضا للكليات والجامعات أن تسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني بطريقة أخرى، وذلك بمشاركتها الأكبر في النشاطات الإجتماعية والثقافية من قبيل المشاركة في ندوات تضم عمالا وفلاحين وإيجاد وتوثيق العلاقات بين المؤسسات الجامعية ومؤسسات الحكم الذاتي والمؤسسات الحكومية والخيرية، والمشاركة الفعلية للأساتذة والكتاب والمفكرين والمثقفين في نشاطات المجتمع من قبيل مشاركتهم في الرقص الشعبي والجلوس حول الموائد معهم في الأفراح والأطراح ومحادثتهم. من شأن هذه المشاركة أن تكون مدماكا في بناء صرح المجتمع المدني.
    ومما من شأنه أن يسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني أن يشارك الجنود في أداء وظائف غير الوظائف العسكرية، من قبيل مساعدتهم، على سبيل المثال، للبدو المعانين من عواصف الصحاري أو السكان المعانين من الهزات الأرضية وغير ذلك من النكبات.
    وليس من شأن انعزال الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين عن الشعب وانزوائهم في منازلهم ومكاتبهم وتقوقعهم في صومعاتهم الحكومية ان تسهم في نشوء المجتمع المدني السليم. لتحقيق هذا النشوء من اللازم أن يختلط العاملون في السلك الحكومي في أفراد الشعب وأن يخاطبوهم وأن يتبادلوا الأفكار معهم.

    المجتمع المدني وتحريف معاني المفاهيم

    ولن ينشأ المجتمع المدني السليم ما دامت معاني المفاهيم تحرف فيه، مفاهيم تمس صميم الحياة السياسية والإجتماعية من قبيل الديمقراطية وحكم القانون والتمثيل ونزاهة القضاء. وبهذا التحريف تعتبر الديمقراطية ترتيبا يضعه الحاكم وأتباعه لتأمين مواصلته للإمساك بزمام السلطة ويعتبر حكم القانون الحكم الذي يطوعه الحاكم لتفسيراته له ويعتبر القانون مواد يسهل تغييرها سهولة وضعها ويعتبر التمثيل النيابي عملية لجمع الناس أو لحشرهم في بناية فيها يهتفون بحياة الحاكم ويتفوهون بالثناء عليه ومنافقته. هذه الحالة المسرحية التي يشاهدها ويعيها الواعون أصحاب الضمائر الحية من الناس تدخلهم في احباطات نفسية وتجعل عيونهم جاحظة من الدهشة وتجعل الإستياء يأكل قلوبهم وتجعلهم يلوذون بالصمت المكبوت لأن لديهم التجربة والمعرفة والتنبؤ بما سيؤول إليه مصير قوم هذه هي حالتهم.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. تيسير الناشف
    تاريخ التسجيل
    27/10/2006
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    الدكتور تيسير الناشف

    منذ سنوات كثيرة لا يزال المجتمع المدني في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، ضعيفا. ويتكون المجتمع المدني من فئات مختلفة منها الهيئات والرابطات الثقافية والعلمية والخيرية والإجتماعية والرياضية والنقابات الحرفية والعمالية والصحفية وغيرها. وتتضمن عبارة المجتمع المدني طبيعة العلاقات بين الأفراد أنفسهم والعلاقات بين الأفراد والسلطات الحكومية وغير الحكومية. ومن السمات الرئيسية للمجتمع المدني انكماش التدخل الحكومي وترك حيز واسع يمارس فيه أفراد الشعب نشاطاتهم بقدرأكبر من الحرية وخلو الناس من الخوف من بطش السلطات الحكومية وتوفر قدر كبير من التماسك الإجتماعي ومن إمكانية التنبؤ بنوع السلوك وبطبيعة الأدوار التي يؤديها أفراد المجتمع.

    الغلو في النزعة الفردية والقبلية والطائفية لا تتعايش
    مع مفهوم المجتمع المدني السليم

    وتوجد وسائل لتعزيز المجتمع المدني، منها الإقرار بالاعتماد المتبادل لأفراد المجتمع بوصفه وحدة متماسكة واحدة والفهم المتجانس لدى الأفراد للصالح العام واعتقاد أفراد المجتمع بالانتماء الى إطار سياسي مدني مشترك. إن الإفراط في النزعة الفردية والمبالغة في الطمع باكتساب النفوذ السياسي من شأنهما ان يضعفا تماسك المجتمع، مما يؤدي الى إضعاف المجتمع المدني. والإفراط في الفردية يضعف المجتمع المدني أو يؤخر نشوءه لأن هذا الإفراط ينطوي على الإفراط في الانطلاق الفردي بينما يتضمن الإنتماء إلى المجتمع المدني التقيد ببعض القيود المتأصلة في هذا المجتمع من قبيل مراعاة قيم اجتماعية وقانونية ومن قبيل قبول مفاهيم التعاقد والتعاضد والتكافل على المستوى الاجتماعي. ومما من شأنه أن يسهم أيضا في تعزيز المجتمع المدني نشوء ورعاية الحياة الفكرية التي تتولد عن مصادر مختلفة من أهمها المؤسسات الأكاديمية والجامعية والثقافية والتربوية. ويمكن للتنشئة المنزلية والمدرسية والدراسة الجامعية أن تؤديا دورا هاما في إضعاف النزعة الفردية وفي تقليل ذلك الطمع عن طريق إظهار مردوداتهما السلبية على نشوء المجتمع المدني. إن ذلك الإضعاف والتقليل ليس من شأنهما أن يمسا بقدرة المرء على أن يحقق أهدافه ومصالحه.
    ولتعزيز المجتمع المدني من اللازم أن تنشأ المؤسسات المدنية والأهلية التي تعنى بشتى مجالات الفكر والأدب والكتابة والرياضة والصحافة والرابطات الطبية والصحافية والنقابات المهنية والعمالية التي لا تحتاج أو تقل حاجتها إلى السلطات الحكومية في توفير الموارد المالية اللازمة.
    ومن الصعوبة البالغة نشوء المجتمع المدني بدون إزالة الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، لأسباب منها أن بؤرة الإنتماء لكل من هذه المؤسسات، أي الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، تتناقض مع بؤرة الإنتماء إلى المجتمع المدني، وهي مجموع أفراد الشعب كلهم، وليست مجموع أفراد الطائفة أو الحمولة أو العشيرة أو القبيلة.
    ولتعزيز أو تحقيق المجتمع المدني من الأفضل ألا تقام مؤسسات من قبيل اليانصيب والمقامرة لأن وجود هذه المؤسسات يدل على وجود روح التهرب من مواجهة الواقع ويشجع على وجود هذه الروح، بينما يتطلب وجود المجتمع المدني الحضور والمشاركة الفكريين والثقافيين والسياسيين.

    دور الفكر في نشوء المجتمع المدني وتعزيزه

    ولتحقيق نشوء المجتمع المدني أو لتعزيز هذا المجتمع من اللازم إشاعة الأفكار والمواقف الفاضلة. عن طريق هذه الإشاعة يمكن الإسهام في تشكيل الحياة العامة القائمة على الفضيلة.
    ويمكن للمفكرين أن يؤدوا دورا هاما في إنشاء المجتمع المدني أو إصلاحه أو تعزيزه. ويتطلب ذلك الاعتقاد بأثر الأفكار. لقد بينت بحوث أجريت على امتداد سنوات كثيرة في علم النفس الإدراكي والإجتماعي أن الأفكار مصدر معول عليه في التحفيز على السلوك البشري وأنها يمكن أن تكون محفزة على اتخاذ موقف يقوم على الفضيلة المدنية. وأحيانا تكون الأفكار مصدرا للتحفيز على السلوك الفاضل أكثر تعويلا من المغريات المالية والمادية وآليات التحكم الإجتماعي. ومن الدلائل على قوة أثر الأفكار ما شهده التاريخ البشري من حالات كثيرة تجلت فيها أعمال الإيثار الحقيقي من قبيل تكريس الحياة لمساعدة الفئات الضعيفة ونجدة الناس المستضعفين المظلومين من الظالمين بدون أن يصاحب تلك الأعمال الاهتمام بالحوافز الإقتصادية أو الخوف من العقوبة. وحتى السلوك الأخلاقي العادي - من قبيل مراعاة الآخرين والنزاهة واحترام القيم الإجتماعية - يديمه على الأمد الطويل التفاهم والاعتقاد. والناس الذين لديهم اعتقاد بغرض القانون أشد حماسا لاتباعه من الذين يعرفون ببساطة ما سيحدث لهم لو ألقي القبض عليهم وهم ينتهكونه. وتشير الدراسات الإنمائية إلى أن لدى المدارس والكليات والجامعات إمكانية التأثير في صغار السن أثناء الوقت الذي فيه تنشأ لديهم ملكة الفهم وتتكون لديهم المواقف والمعتقدات الثابتة المتعلقة بالمجتمع. إن تثقيف العقول الشابة بالفضيلة أمر شديد الإلحاح في هذه الأيام التي تضغط فيها ضغوط كثيرة في شتى مجالات الحياة على الفرد.

    لا ينشأ المجتمع المدني السليم
    في حالة الطغيان السياسي

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى بدون أن يسود جو الديمقراطية الإجتماعية والسياسية الذي تتاح فيه للإنسان أن يمارس حرية الرأي وحرية التعبير عنه وحرية انتقاد السلطة الحكومية وغير الحكومية. ولا يمكن أن ينشأ هذا المجتمع ويدوم بدون أن تكف السلطات الحكومية وغير الحكومية عن الطغيان على حياة الناس وشؤونهم، مما يعني النيل من تفرد شخصيتهم واستقلالها ومن كرامتهم والانتقاص من حقهم في الحياة. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى ما دامت حرية الإنسان وحياته معرضتين للخطر من جراء قيام السلطات بمحاسبة ومحاكمة الناس بالظن والشبهات وليس عن طريق مراعاة الأصول القضائية السليمة والمستنيرة التي يتجسد فيها مبدأ العدل الإجتماعي ومبدأ تغليب الحس السليم ومبدأ أن الإنسان بريء ما لم تثبت إدانته دون أدنى شك. المجتمع المدني لا يمكن أن يقوم وأفراده خائفون مرتعبون من سيف السلطات المسلط على رقابهم. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ما دام الحاكم مالكا للدولة وما دامت خزانة الدولة خزانته الخاصة.
    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني إذا لم تتوفر الإمكانية الحقيقية لدى كل فرد في المجتمع لأن يتولى السلطة الحكومية وإذا لم توفر البدائل الحقيقية لتولي السلطة ولتداولها بين الناس من أعلى مستوى إلى أدنى مستوى على هرم السلطة الحكومية وغير الحكومية. المجتمع المدني لا يمكن أن ينشأ في ظل تركيز السلطة في أيدي قلة قليلة أو حزب واحد متربع على أريكة الحكم ولا يبارحها. وأحد أسس المجتمع المدني إتاحة الفرصة للمشاركة الحقيقية الجريئة والصريحة في مناقشة الأمور المطروحة. ولا يتوفر هذا الأساس في المجتمع الذي يخاف أفراده من الإعراب عن آرائهم في هذه الأمور. وحتى ينشأ المجتمع المدني ينبغي ألا يكون الحاكم شديد الخوف من إعراب الناس عن مواقفهم، إذ بشدة الخوف هذه يميل الحاكم إلى لجم لسان الشخص الممارس لحريته ويلوذ الفرد بالصمت اللذين (أي اللجم والصمت) لا يمكن بوجودهما أن ينشأ المجتمع المدني.
    ويصعب أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب لا يعرف حكامه معنى وقيمة الحياة المدنية ولم يذوقوها، ولم ينشأوا في ذلك المجتمع ولكن نشأوا وترعرعوا في مجتمع يخلو من الديمقراطية السياسية والإجتماعية ويمجد القوة ولا يقيد سلوك الممسكين بمقاليد السلطة، فجاءت شخصياتهم متشربة بروح هذه الحالة الإجتماعية.

    المجتمع المدني والتنشئة والتنمية

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب يعاني أفراده من الأمية والفقر والجوع والمرض، إذ في هذه الحالة يسهل إخضاعهم للسلطة ويصعب تحقيق مشاركتهم في الحياة السياسية. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد المجتمع المدني توفر صفات منها معرفة التاريخ والإقتصاد ومعرفة طبيعة العلاقات الإجتماعية والعامل النفسي فيها وتوفر الصفات الأخلاقية مثل قدر أكبر من الإخلاص والنزاهة وتوفر الحس بالمسؤولية الإجتماعية وبالعدالة والتسامح، وهي صفات تجعل من الممكن إصدار حكم أكثر صحة والقيام بالخطاب الديمقراطي. ولإيجاد الصفات الخلقية من اللازم إنشاء مراكز للتنمية الخلقية للقيام ببحوث ثقافية عن كيفية تقوية التمسك بالأخلاق والفضيلة لدى الشباب والبالغين. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد هذا المجتمع التجربة العملية لتنظيم المجتمع. بهذه التجربة يمكن للناس أن يتعلموا كيف يعملون ضمن جماعات. ويمكن للدراسات الإنسانية والإجتماعية والطبيعية في الكليات والجامعات أن تعزز جميع هذه الصفات والمهارات، وبالتالي يمكنها أن تسهم في تنشئة صغار السن والبالغين عليها.
    ومن أهداف التعليم الجامعي التي ينبغي أن تحظى بالأولوية الأولى أن ينشئ الأساتذة طلبتهم على المواطنة الديمقراطية الصالحة، بما في ذلك المشاركة في الشؤون المدنية والاطلاع على التراث العربي الذي يتناول موضوع المواطنة الصالحة والديمقراطية والمشاركة في إدارة الشؤون السياسية والمدنية للمجتمع. من اللازم أن يولي الأساتذة قدرا أكبر من الإهتمام لهذا الموضوع في محاضراتهم وأن تضع الجامعات مقررات عن هذا الموضوع وأن تكون مشاركة الطلاب فيها إلزامية. وبعبارة أخرى، من اللازم زيادة الإهتمام بموضوع المواطنة والمجتمع المدني في مقررات المدارس الإبتدائية والثانوية والجامعات.

    المجتمع المدني والممارسة المدنية

    ومن البرامج التي يمكن وضعها وتنفيذها في العالم العربي من أجل إعداد الطلاب للمواطنة الصالحة البرنامج الدراسي الذي يجمع الغرض الأكاديمي والغرض الإجتماعي في الوقت نفسه من قبيل البرنامج الدراسي للحصول على شهادة الشؤون الإجتماعية والبرنامج الدراسي للحصول على البكالوريوس في العلوم السياسية أو الإجتماع، وهو البرنامج الذي يمكن أن يجمع الدراسة النظرية وقسم العمل التطبيقي الميداني الذي يتمثل على سبيل المثال في مراقبة جلسات المجالس المحلية القروية والبلدية والجلسات البرلمانية والحكومية والمشاركة في المناقشات وإبداء التعليقات والملاحظات بمنأى عن الضغط الحكومي. ويمكن أن تدرج مواد دراسية يمكن أن تستعمل في دورات المدارس الثانوية والجامعات. ويمكن أن تناقش الدورات الدراسية التي يقدمها أساتذة الجامعات الطرق التي يمكن عن طريقها للمواد التي تدرس الفضيلة المدنية أن تدمج في الدورات الدراسية في العلوم الإنسانية والإجتماعية وفي العلوم الطبيعية. ومن شأن هذه البرامج أن تعزز حس الفرد بالإنتماء إلى مجتمعه وأن تعزز التعلم الأكاديمي وتقوي الإلتزام الخلقي والمدني.
    ويمكن أيضا للكليات والجامعات أن تسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني بطريقة أخرى، وذلك بمشاركتها الأكبر في النشاطات الإجتماعية والثقافية من قبيل المشاركة في ندوات تضم عمالا وفلاحين وإيجاد وتوثيق العلاقات بين المؤسسات الجامعية ومؤسسات الحكم الذاتي والمؤسسات الحكومية والخيرية، والمشاركة الفعلية للأساتذة والكتاب والمفكرين والمثقفين في نشاطات المجتمع من قبيل مشاركتهم في الرقص الشعبي والجلوس حول الموائد معهم في الأفراح والأطراح ومحادثتهم. من شأن هذه المشاركة أن تكون مدماكا في بناء صرح المجتمع المدني.
    ومما من شأنه أن يسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني أن يشارك الجنود في أداء وظائف غير الوظائف العسكرية، من قبيل مساعدتهم، على سبيل المثال، للبدو المعانين من عواصف الصحاري أو السكان المعانين من الهزات الأرضية وغير ذلك من النكبات.
    وليس من شأن انعزال الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين عن الشعب وانزوائهم في منازلهم ومكاتبهم وتقوقعهم في صومعاتهم الحكومية ان تسهم في نشوء المجتمع المدني السليم. لتحقيق هذا النشوء من اللازم أن يختلط العاملون في السلك الحكومي في أفراد الشعب وأن يخاطبوهم وأن يتبادلوا الأفكار معهم.

    المجتمع المدني وتحريف معاني المفاهيم

    ولن ينشأ المجتمع المدني السليم ما دامت معاني المفاهيم تحرف فيه، مفاهيم تمس صميم الحياة السياسية والإجتماعية من قبيل الديمقراطية وحكم القانون والتمثيل ونزاهة القضاء. وبهذا التحريف تعتبر الديمقراطية ترتيبا يضعه الحاكم وأتباعه لتأمين مواصلته للإمساك بزمام السلطة ويعتبر حكم القانون الحكم الذي يطوعه الحاكم لتفسيراته له ويعتبر القانون مواد يسهل تغييرها سهولة وضعها ويعتبر التمثيل النيابي عملية لجمع الناس أو لحشرهم في بناية فيها يهتفون بحياة الحاكم ويتفوهون بالثناء عليه ومنافقته. هذه الحالة المسرحية التي يشاهدها ويعيها الواعون أصحاب الضمائر الحية من الناس تدخلهم في احباطات نفسية وتجعل عيونهم جاحظة من الدهشة وتجعل الإستياء يأكل قلوبهم وتجعلهم يلوذون بالصمت المكبوت لأن لديهم التجربة والمعرفة والتنبؤ بما سيؤول إليه مصير قوم هذه هي حالتهم.


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. تيسير الناشف
    تاريخ التسجيل
    27/10/2006
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    المجتمع المدني: كيفية نشوئه وتعزيزه

    الدكتور تيسير الناشف

    منذ سنوات كثيرة لا يزال المجتمع المدني في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، ضعيفا. ويتكون المجتمع المدني من فئات مختلفة منها الهيئات والرابطات الثقافية والعلمية والخيرية والإجتماعية والرياضية والنقابات الحرفية والعمالية والصحفية وغيرها. وتتضمن عبارة المجتمع المدني طبيعة العلاقات بين الأفراد أنفسهم والعلاقات بين الأفراد والسلطات الحكومية وغير الحكومية. ومن السمات الرئيسية للمجتمع المدني انكماش التدخل الحكومي وترك حيز واسع يمارس فيه أفراد الشعب نشاطاتهم بقدرأكبر من الحرية وخلو الناس من الخوف من بطش السلطات الحكومية وتوفر قدر كبير من التماسك الإجتماعي ومن إمكانية التنبؤ بنوع السلوك وبطبيعة الأدوار التي يؤديها أفراد المجتمع.

    الغلو في النزعة الفردية والقبلية والطائفية لا تتعايش
    مع مفهوم المجتمع المدني السليم

    وتوجد وسائل لتعزيز المجتمع المدني، منها الإقرار بالاعتماد المتبادل لأفراد المجتمع بوصفه وحدة متماسكة واحدة والفهم المتجانس لدى الأفراد للصالح العام واعتقاد أفراد المجتمع بالانتماء الى إطار سياسي مدني مشترك. إن الإفراط في النزعة الفردية والمبالغة في الطمع باكتساب النفوذ السياسي من شأنهما ان يضعفا تماسك المجتمع، مما يؤدي الى إضعاف المجتمع المدني. والإفراط في الفردية يضعف المجتمع المدني أو يؤخر نشوءه لأن هذا الإفراط ينطوي على الإفراط في الانطلاق الفردي بينما يتضمن الإنتماء إلى المجتمع المدني التقيد ببعض القيود المتأصلة في هذا المجتمع من قبيل مراعاة قيم اجتماعية وقانونية ومن قبيل قبول مفاهيم التعاقد والتعاضد والتكافل على المستوى الاجتماعي. ومما من شأنه أن يسهم أيضا في تعزيز المجتمع المدني نشوء ورعاية الحياة الفكرية التي تتولد عن مصادر مختلفة من أهمها المؤسسات الأكاديمية والجامعية والثقافية والتربوية. ويمكن للتنشئة المنزلية والمدرسية والدراسة الجامعية أن تؤديا دورا هاما في إضعاف النزعة الفردية وفي تقليل ذلك الطمع عن طريق إظهار مردوداتهما السلبية على نشوء المجتمع المدني. إن ذلك الإضعاف والتقليل ليس من شأنهما أن يمسا بقدرة المرء على أن يحقق أهدافه ومصالحه.
    ولتعزيز المجتمع المدني من اللازم أن تنشأ المؤسسات المدنية والأهلية التي تعنى بشتى مجالات الفكر والأدب والكتابة والرياضة والصحافة والرابطات الطبية والصحافية والنقابات المهنية والعمالية التي لا تحتاج أو تقل حاجتها إلى السلطات الحكومية في توفير الموارد المالية اللازمة.
    ومن الصعوبة البالغة نشوء المجتمع المدني بدون إزالة الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، لأسباب منها أن بؤرة الإنتماء لكل من هذه المؤسسات، أي الطائفية والحمائلية والعشائرية والقبلية، تتناقض مع بؤرة الإنتماء إلى المجتمع المدني، وهي مجموع أفراد الشعب كلهم، وليست مجموع أفراد الطائفة أو الحمولة أو العشيرة أو القبيلة.
    ولتعزيز أو تحقيق المجتمع المدني من الأفضل ألا تقام مؤسسات من قبيل اليانصيب والمقامرة لأن وجود هذه المؤسسات يدل على وجود روح التهرب من مواجهة الواقع ويشجع على وجود هذه الروح، بينما يتطلب وجود المجتمع المدني الحضور والمشاركة الفكريين والثقافيين والسياسيين.

    دور الفكر في نشوء المجتمع المدني وتعزيزه

    ولتحقيق نشوء المجتمع المدني أو لتعزيز هذا المجتمع من اللازم إشاعة الأفكار والمواقف الفاضلة. عن طريق هذه الإشاعة يمكن الإسهام في تشكيل الحياة العامة القائمة على الفضيلة.
    ويمكن للمفكرين أن يؤدوا دورا هاما في إنشاء المجتمع المدني أو إصلاحه أو تعزيزه. ويتطلب ذلك الاعتقاد بأثر الأفكار. لقد بينت بحوث أجريت على امتداد سنوات كثيرة في علم النفس الإدراكي والإجتماعي أن الأفكار مصدر معول عليه في التحفيز على السلوك البشري وأنها يمكن أن تكون محفزة على اتخاذ موقف يقوم على الفضيلة المدنية. وأحيانا تكون الأفكار مصدرا للتحفيز على السلوك الفاضل أكثر تعويلا من المغريات المالية والمادية وآليات التحكم الإجتماعي. ومن الدلائل على قوة أثر الأفكار ما شهده التاريخ البشري من حالات كثيرة تجلت فيها أعمال الإيثار الحقيقي من قبيل تكريس الحياة لمساعدة الفئات الضعيفة ونجدة الناس المستضعفين المظلومين من الظالمين بدون أن يصاحب تلك الأعمال الاهتمام بالحوافز الإقتصادية أو الخوف من العقوبة. وحتى السلوك الأخلاقي العادي - من قبيل مراعاة الآخرين والنزاهة واحترام القيم الإجتماعية - يديمه على الأمد الطويل التفاهم والاعتقاد. والناس الذين لديهم اعتقاد بغرض القانون أشد حماسا لاتباعه من الذين يعرفون ببساطة ما سيحدث لهم لو ألقي القبض عليهم وهم ينتهكونه. وتشير الدراسات الإنمائية إلى أن لدى المدارس والكليات والجامعات إمكانية التأثير في صغار السن أثناء الوقت الذي فيه تنشأ لديهم ملكة الفهم وتتكون لديهم المواقف والمعتقدات الثابتة المتعلقة بالمجتمع. إن تثقيف العقول الشابة بالفضيلة أمر شديد الإلحاح في هذه الأيام التي تضغط فيها ضغوط كثيرة في شتى مجالات الحياة على الفرد.

    لا ينشأ المجتمع المدني السليم
    في حالة الطغيان السياسي

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى بدون أن يسود جو الديمقراطية الإجتماعية والسياسية الذي تتاح فيه للإنسان أن يمارس حرية الرأي وحرية التعبير عنه وحرية انتقاد السلطة الحكومية وغير الحكومية. ولا يمكن أن ينشأ هذا المجتمع ويدوم بدون أن تكف السلطات الحكومية وغير الحكومية عن الطغيان على حياة الناس وشؤونهم، مما يعني النيل من تفرد شخصيتهم واستقلالها ومن كرامتهم والانتقاص من حقهم في الحياة. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ويبقى ما دامت حرية الإنسان وحياته معرضتين للخطر من جراء قيام السلطات بمحاسبة ومحاكمة الناس بالظن والشبهات وليس عن طريق مراعاة الأصول القضائية السليمة والمستنيرة التي يتجسد فيها مبدأ العدل الإجتماعي ومبدأ تغليب الحس السليم ومبدأ أن الإنسان بريء ما لم تثبت إدانته دون أدنى شك. المجتمع المدني لا يمكن أن يقوم وأفراده خائفون مرتعبون من سيف السلطات المسلط على رقابهم. ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني ما دام الحاكم مالكا للدولة وما دامت خزانة الدولة خزانته الخاصة.
    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني إذا لم تتوفر الإمكانية الحقيقية لدى كل فرد في المجتمع لأن يتولى السلطة الحكومية وإذا لم توفر البدائل الحقيقية لتولي السلطة ولتداولها بين الناس من أعلى مستوى إلى أدنى مستوى على هرم السلطة الحكومية وغير الحكومية. المجتمع المدني لا يمكن أن ينشأ في ظل تركيز السلطة في أيدي قلة قليلة أو حزب واحد متربع على أريكة الحكم ولا يبارحها. وأحد أسس المجتمع المدني إتاحة الفرصة للمشاركة الحقيقية الجريئة والصريحة في مناقشة الأمور المطروحة. ولا يتوفر هذا الأساس في المجتمع الذي يخاف أفراده من الإعراب عن آرائهم في هذه الأمور. وحتى ينشأ المجتمع المدني ينبغي ألا يكون الحاكم شديد الخوف من إعراب الناس عن مواقفهم، إذ بشدة الخوف هذه يميل الحاكم إلى لجم لسان الشخص الممارس لحريته ويلوذ الفرد بالصمت اللذين (أي اللجم والصمت) لا يمكن بوجودهما أن ينشأ المجتمع المدني.
    ويصعب أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب لا يعرف حكامه معنى وقيمة الحياة المدنية ولم يذوقوها، ولم ينشأوا في ذلك المجتمع ولكن نشأوا وترعرعوا في مجتمع يخلو من الديمقراطية السياسية والإجتماعية ويمجد القوة ولا يقيد سلوك الممسكين بمقاليد السلطة، فجاءت شخصياتهم متشربة بروح هذه الحالة الإجتماعية.

    المجتمع المدني والتنشئة والتنمية

    ولا يمكن أن ينشأ المجتمع المدني لدى شعب يعاني أفراده من الأمية والفقر والجوع والمرض، إذ في هذه الحالة يسهل إخضاعهم للسلطة ويصعب تحقيق مشاركتهم في الحياة السياسية. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد المجتمع المدني توفر صفات منها معرفة التاريخ والإقتصاد ومعرفة طبيعة العلاقات الإجتماعية والعامل النفسي فيها وتوفر الصفات الأخلاقية مثل قدر أكبر من الإخلاص والنزاهة وتوفر الحس بالمسؤولية الإجتماعية وبالعدالة والتسامح، وهي صفات تجعل من الممكن إصدار حكم أكثر صحة والقيام بالخطاب الديمقراطي. ولإيجاد الصفات الخلقية من اللازم إنشاء مراكز للتنمية الخلقية للقيام ببحوث ثقافية عن كيفية تقوية التمسك بالأخلاق والفضيلة لدى الشباب والبالغين. ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد هذا المجتمع التجربة العملية لتنظيم المجتمع. بهذه التجربة يمكن للناس أن يتعلموا كيف يعملون ضمن جماعات. ويمكن للدراسات الإنسانية والإجتماعية والطبيعية في الكليات والجامعات أن تعزز جميع هذه الصفات والمهارات، وبالتالي يمكنها أن تسهم في تنشئة صغار السن والبالغين عليها.
    ومن أهداف التعليم الجامعي التي ينبغي أن تحظى بالأولوية الأولى أن ينشئ الأساتذة طلبتهم على المواطنة الديمقراطية الصالحة، بما في ذلك المشاركة في الشؤون المدنية والاطلاع على التراث العربي الذي يتناول موضوع المواطنة الصالحة والديمقراطية والمشاركة في إدارة الشؤون السياسية والمدنية للمجتمع. من اللازم أن يولي الأساتذة قدرا أكبر من الإهتمام لهذا الموضوع في محاضراتهم وأن تضع الجامعات مقررات عن هذا الموضوع وأن تكون مشاركة الطلاب فيها إلزامية. وبعبارة أخرى، من اللازم زيادة الإهتمام بموضوع المواطنة والمجتمع المدني في مقررات المدارس الإبتدائية والثانوية والجامعات.

    المجتمع المدني والممارسة المدنية

    ومن البرامج التي يمكن وضعها وتنفيذها في العالم العربي من أجل إعداد الطلاب للمواطنة الصالحة البرنامج الدراسي الذي يجمع الغرض الأكاديمي والغرض الإجتماعي في الوقت نفسه من قبيل البرنامج الدراسي للحصول على شهادة الشؤون الإجتماعية والبرنامج الدراسي للحصول على البكالوريوس في العلوم السياسية أو الإجتماع، وهو البرنامج الذي يمكن أن يجمع الدراسة النظرية وقسم العمل التطبيقي الميداني الذي يتمثل على سبيل المثال في مراقبة جلسات المجالس المحلية القروية والبلدية والجلسات البرلمانية والحكومية والمشاركة في المناقشات وإبداء التعليقات والملاحظات بمنأى عن الضغط الحكومي. ويمكن أن تدرج مواد دراسية يمكن أن تستعمل في دورات المدارس الثانوية والجامعات. ويمكن أن تناقش الدورات الدراسية التي يقدمها أساتذة الجامعات الطرق التي يمكن عن طريقها للمواد التي تدرس الفضيلة المدنية أن تدمج في الدورات الدراسية في العلوم الإنسانية والإجتماعية وفي العلوم الطبيعية. ومن شأن هذه البرامج أن تعزز حس الفرد بالإنتماء إلى مجتمعه وأن تعزز التعلم الأكاديمي وتقوي الإلتزام الخلقي والمدني.
    ويمكن أيضا للكليات والجامعات أن تسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني بطريقة أخرى، وذلك بمشاركتها الأكبر في النشاطات الإجتماعية والثقافية من قبيل المشاركة في ندوات تضم عمالا وفلاحين وإيجاد وتوثيق العلاقات بين المؤسسات الجامعية ومؤسسات الحكم الذاتي والمؤسسات الحكومية والخيرية، والمشاركة الفعلية للأساتذة والكتاب والمفكرين والمثقفين في نشاطات المجتمع من قبيل مشاركتهم في الرقص الشعبي والجلوس حول الموائد معهم في الأفراح والأطراح ومحادثتهم. من شأن هذه المشاركة أن تكون مدماكا في بناء صرح المجتمع المدني.
    ومما من شأنه أن يسهم في نشوء وتعزيز المجتمع المدني أن يشارك الجنود في أداء وظائف غير الوظائف العسكرية، من قبيل مساعدتهم، على سبيل المثال، للبدو المعانين من عواصف الصحاري أو السكان المعانين من الهزات الأرضية وغير ذلك من النكبات.
    وليس من شأن انعزال الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين عن الشعب وانزوائهم في منازلهم ومكاتبهم وتقوقعهم في صومعاتهم الحكومية ان تسهم في نشوء المجتمع المدني السليم. لتحقيق هذا النشوء من اللازم أن يختلط العاملون في السلك الحكومي في أفراد الشعب وأن يخاطبوهم وأن يتبادلوا الأفكار معهم.

    المجتمع المدني وتحريف معاني المفاهيم

    ولن ينشأ المجتمع المدني السليم ما دامت معاني المفاهيم تحرف فيه، مفاهيم تمس صميم الحياة السياسية والإجتماعية من قبيل الديمقراطية وحكم القانون والتمثيل ونزاهة القضاء. وبهذا التحريف تعتبر الديمقراطية ترتيبا يضعه الحاكم وأتباعه لتأمين مواصلته للإمساك بزمام السلطة ويعتبر حكم القانون الحكم الذي يطوعه الحاكم لتفسيراته له ويعتبر القانون مواد يسهل تغييرها سهولة وضعها ويعتبر التمثيل النيابي عملية لجمع الناس أو لحشرهم في بناية فيها يهتفون بحياة الحاكم ويتفوهون بالثناء عليه ومنافقته. هذه الحالة المسرحية التي يشاهدها ويعيها الواعون أصحاب الضمائر الحية من الناس تدخلهم في احباطات نفسية وتجعل عيونهم جاحظة من الدهشة وتجعل الإستياء يأكل قلوبهم وتجعلهم يلوذون بالصمت المكبوت لأن لديهم التجربة والمعرفة والتنبؤ بما سيؤول إليه مصير قوم هذه هي حالتهم.


  4. #4
    قاص وناقد
    مشرف وكالة واتا للأنباء سابقاً
    الصورة الرمزية عبد الحميد الغرباوي
    تاريخ التسجيل
    08/01/2007
    العمر
    72
    المشاركات
    1,763
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    http://watanews.com/news_view_295.html
    مع تحياتي
    عبد الحميد الغرباوي


  5. #5
    قاص وناقد
    مشرف وكالة واتا للأنباء سابقاً
    الصورة الرمزية عبد الحميد الغرباوي
    تاريخ التسجيل
    08/01/2007
    العمر
    72
    المشاركات
    1,763
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    http://watanews.com/news_view_295.html
    مع تحياتي
    عبد الحميد الغرباوي


  6. #6
    قاص وناقد
    مشرف وكالة واتا للأنباء سابقاً
    الصورة الرمزية عبد الحميد الغرباوي
    تاريخ التسجيل
    08/01/2007
    العمر
    72
    المشاركات
    1,763
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    http://watanews.com/news_view_295.html
    مع تحياتي
    عبد الحميد الغرباوي


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •