إلى الجحيم أيها الليلك
مع حكاية سميح القاسم
دراسة نقدية
بقلم : د . محمد أيوب
الكاتب والقارئ هما عماد أي نص أدبي ،فلا حياة للنص الأدبي دون قارئ يضفي عليه من عنده معاني متجددة تتجدد وتتعدد بتجدد وتعدد القراء ، فالقارئ هو المؤلف الثاني للنص ، وقد يخرج القارئ من قراءته للنص الأدبي بمفاهيم مطابقة لما أراده المؤلف ، أو بمفاهيم مغايرة لها، وقد يكتشف القارئ الناقد ما يكمن في ذهن الكاتب أو في عقله الباطن، في اللاوعي ، وتتأثر قراءتنا للنص بثقافتنا وحالتنا النفسية ، كما أن التطور البيولوجي والعقلي للإنسان له دور كبير في اختلاف القراءات بين حين وحين .
والحقيقة أن الشكل الخارجي للعمل الأدبي هو أول ما يجذب انتباه القارئ فيجتذبه لقراءة هذا النص أو ينفره منه ، ومن هنا كان لابد من دراسة النص الموازي للنص الأصلي لتحديد مدى أثره على رواج النص ، فالعنوان ولوحة الغلاف والتعليقات التي قد توجد على الغلاف، والمقدمة إن وجدت ، كل ذلك يشكل فضاء هاماً يتنفس في النص والقارئ معاً .
إن دراسة النص الموازي في حكاية سميح القاسم تستهدف أساساً دراسة النص المحيط بما يشتمل عليه من عنوان رئيس وعناوين داخلية للفصول ، وكل ما يشير إلى المظهر الخارجي للكتاب من صورة مصاحبة للغلاف ، أو كلمة الناشر ، أو مقطعاً معيناً من المحكي، وسأتطرق إلى النص الفوقي بما يشتمل عليه من تعليقات وقراءات تدور حول النص.
تعريف بالنص :
قدم لنا سميح القاسم نصه النثري على أنه حكاية أتوبيوغرافية، وقد يتصور القارئ أنه سيقدم لنا شخصية محددة المعالم بحيث يبدو تطورها التكويني واضحاً، ولكنا بالمقابل نجد أنه يقدم لنا الحكاية التكوينية للقضية الفلسطينية،وقد كانت الفكرة هي العنصر السائد في هذه الحكاية ، فالفكرة هي أبرز عنصر يسيطر على القارئ عند قراءته لهذا النص .
تقع الحكاية في 102 صفحة من القطع الصغير ، صدرت عن دار صلاح الدين في القدس سنة1977م وقد قسم حكايته إلى ستة أجزاء ، خصص لكل جزء عنواناً، وبدأ هذه العناوين بعنوان الانشطار ، ويمتد هذا الجزء من ص 7 – 39 ، والهاوية من ص 39 – 50، والمواجهة من ص 51 – 71 ، والمستحيل من ص 73 – 83 ، والقتل من ص 85 – 90 ، والقيامة من ص 91 – 102 .
ولعل تقسيم الحكاية إلى ستة أجزاء يوحي لنا بحرب حزيران أو حرب الأيام الستة كما يسميها الإسرائيليون ، حيث تم بعدها احتلال فلسطين بكاملها ؛ فتم التطابق بين إيلانة " الشجرة لغويا " وإسرائيل رمزاً ودنيا " فلسطين " .
وتحكي لنا الحكاية قصة فتاة اسمها دنيا تحب ثوبها الليلكي الذي تصر على لبسه باستمرار ، وقد تعلق بدنيا هذه أكثر من شخص، منهم حسن الكسيح والمؤلف والسارد ، تغادر دنيا إلى الخارج بينما يبقى حسن الكسيح في الداخل إلى أن يموت، ولكن المؤلف يبعثه من جديد بعد حرب حزيران ليقوم بعملية عسكرية وسط تل أبيب، وبذلك يجعلنا المؤلف نعيش وهم تعاقب العيش والانبعاث عدة مرات ، وقد تشرد سمير كما تشردت دنيا، ولكن سمير لم يتوان عن العمل ، فقد تعلم ليعود من أجل العمل لتخليص دنيا من أسرها ، وتختلط صورة دنيا بصورة إيلانة عند أوري حين يكون في دورية بالقرب من أحد مخيمات اللاجئين في القدس فيندفع نحوها ، وتظن دنيا أنه سمير ؛ فتخرج لمقابلته ، وينطلق الرصاص بغزارة ليموت أوري وتموت دنيا ، وكأن المؤلف يريد أن يقول لنا إن هناك من يريد قتل أي لقاء بين الشعبين من أجل العيش بسلام حسب مفهومه السياسي الذي يؤمن به " دولتان لشعبين "
الغلاف :
يتكون الغلاف من لوحة ذات أرضية بيضاء أشبه ببساط أو فضاء ينتثر فيه ضباب كثيف ليلكي اللون يلف عدة أشخاص غير واضحي المعالم ، مما يوحي لنا بالغموض ، وفي أعلى صفحة الغلاف الخارجية نجد عنوان الكتاب " إلى الجحيم أيها الليلك " ، وفي أسفل الصفحة نجد اسم المؤلف مجردا من أية صفة سوى أن الليلك الذي يحيط به أقل من ذلك الضباب الذي يلف الأشخاص غير واضحي المعالم ، أما صفحة الغلاف الأخيرة فلونها أبيض ، يوجد في أسفلها اسم دار النشر"منشورات صلاح الدين– القدس"،والثمن حيث تم تحديده بعشر ليرات وقت النشر، كما يوجد في نهاية صفحة الغلاف الأخيرة إشارة إلى أن لوحة الغلاف من عمل الفنان " إبراهيم حجازي"، أما في الصفحة الداخلية للعنوان فنجد في الثلث الأعلى اسم سميح القاسم، وفي النصف الأسفل نجد عنوان الحكاية تتلوه علامة تعجب ، وفي الجهة اليسرى للعنوان وأسفله مباشرة نجد عبارة حكاية أتوبيوغرافية بين قوسين ، وفي الصفحة الثالثة نجد إشارة إلى دار النشر والطبعة ، وفي الصفحة الخامسة نجد عبارة على لسان هملت موضوعة بين قوسين : " ستفهم من يكون هؤلاء الناس ، لأن الممثلين لا يصونون سراً ، ويفشون بكل شيء "
العنوان :
تكمن أهمية العنوان في كونه عنصراً من أهم العناصر المكونة للنص ، حيث يحاول المؤلف أن يضمن عنوانه معنىً مكثفاً يثبت فيه قصده برمته ، فالعنوان باختصار هو النواة التي ينبني حولها النص ، وهو يحقق أغراضاً منها :
1 – التعريف بالمؤلّف والجنس الأدبي .
2 – يعكس مضمون المؤلف وأفكاره .
3 – يدفع القارئ للقراءة .
والعناوين أنواع مختلفة ، فمنها ما يركز على الزمن ، أو على الأسماء البطولية ، والعنوان في المحكي هو علامة تواصلية ، وعلامة ثقافية تنجز قصد التواصل مع العالم ، وقد لجأ الروائي الحديث إلى الحذف ، وهو على أنواع منها :
1 – حذف ملحق النص .
2 – الحذف المضموني بحيث يتراوح الحذف بين البوح والتكتم .
3 – الحذف النحوي : ويشكل هذا النوع من الحذف فجوات نفسية صادمة للمتلقي.
فالحذف يقود إلى الغموض والإيهام المقصود من طرف الكاتب ، والغموض إما :
1 – لازم يعدد المعنى ويعطيه فرصاً عديدة للتأويل ، بحيث تتم عملية تأويل مع قراءة كل نص .
2 – وغموض غير لازم لا يعطي فرصة للتأويل . ( 1 )
وإذا دققنا النظر في حكاية سميح القاسم ، نجد أن العنوان يستفز القارئ بتكتمه وبوحه في الوقت نفسه ، فالعنوان فيه حذف مقصود ، وقد أشار المؤلف إلى الحذف ص 18 ، حيث قالها بوضوح : " ولتذهب إلى الجحيم أيها الليلك " ، إن المؤلف يأمر ذلك الليلك بالذهاب إلى الجحيم ليتخلص من ذلك الغموض الذي يلفنا به العنوان والليلك معاً ، فالعنوان على الغلاف يسبح في بحر من الليلك ، وعلى الرغم من أن الليلك كلون له طعم خاص لا يخلو من جمال ، فإنه يكتسب هنا معنىً مغايراً يجرده من جماله ويجعل منه مناخاً كابوسياً يلف الأشياء بالغموض ، فشتان ما بين فستان دنيا الليلكي بجماله وفتنتها فيه ، وبين ليلك الغلاف ، الغموض هنا محبط وقاتل ، والوضوح هناك حياة متدفقة توقفت فجأة برحيل دنيا إلى بلاد الغربة .
وفي ص 18 نجد أن المؤلف يقطع كلمة الليلك إلى حروفها ، يقول : ليل خانق يبدد سكينتي لمجرد سماع هذه الكلمة " ليلك ".. لفظة تستعصي علي قراءتها .. أتهجاها ألف مرة : لام ياء لام مرة أخرى ثم كاف ، وأضبط شكلها ، فتحة على اللام الأولى ، سكون على الياء، فتحة على اللام الثانية ، وضمة منونة على الكاف " (2) وكأنه يريد لنا أن نشتق من هذه الكلمة اللعينة كلمات ألعن مثل كلمة ليل العربية وكلمة ليل العبرية ، و ليلُك وليلي ، وكلي وكلك ، لي ، لك ، فالليل الآثم يلفنا جميعاً يهوداً وعرباً، يحجب عن عيوننا الوضوح ، وقد أشار المؤلف إلى ذلك ص 48 ، حين قال : " الموت لي ولكم يا أولاد الكلاب " .
إن لجوء المؤلف إلى الحذف النحوي والحذف المضموني يدفع القارئ إلى البحث عما يختبئ وراء العنوان من مضامين ، وبالتالي فإن قراءة الكتاب والعنوان على الرغم من الحذف الذي مارسه المؤلف يدل على الزمن العادي الليل وهو زمن دنيوي ، ويدل على الزمن الأخروي من خلال استخدامه لكلمة الجحيم ، فالجحيم في الآخرة هو نقيض جنة النعيم ، وقد استخدم حرف الجر " إلى " ليدل على انتهاء الغاية التي تمناها للّيلك وكل ليلك يوحي بالغموض والتيه وانعدام وضوح الرؤيا .
ومن المفترض أن يقدم لنا النص مرايا متعددة للعنوان ، وبالتالي فإن حكمنا على العنوان الرئيس يظل ناقصاً ما لم نمعن النظر في النص أثناء قراءتنا له ، فبعد كل فصل تتم عملية تأويل قد يكون معضداً أو مضاداً للعنوان ، وكما رأينا فإن عنوان سميح هو من النوع الجملي ، فهو يتكون من جملة على صيغة الأمر ، ولكنه حذف لام الأمر وفعلها لتذهب أو فعل الأمر اذهب ليخلق علامة استفهام كبيرة في ذهن القارئ تغريه بقراءة الكتاب الذي نجده مقسماً إلى ستة أجزاء تختلف من حيث الطول من فصل إلى آخر، وكل فصل يحمل عنواناً يرتبط بوشيجة ما بالعنوان الرئيس، وسأتناول هذه العناوين واحداً بعد الآخر :
1 – الانشطار :
يتناثر الانشطار هنا وهناك في هذا الفصل ، ففي ص 8 نقرأ : " عين خضراء واحدة ترمقني " ترى أين العين الأخرى ؟ هل انشطرت عن أختها ؟ أم أن أنها تنظر إلى الآخر ؟ وفي نفس الصفحة يقول : " نثرثر قليلاً ثم أشتهي البكاء حين نفترق .. أنا إلى مدرسة الصبيان وهي إلى مدرسة البنات … " انشطار آخر يعيشه المجتمع العربي من خلال الفصل بين الجنسين في المدارس الابتدائية وغيرها ، كما تنشطر ثقة الناس في أنفسهم ، فهم لا يعتمدون على أنفسهم في الدفاع عن وطنهم ، مما أفقدهم الوطن وقادهم إلى ذلك الانشطار الكبير : " الله سيدافع عنا ويحمينا من اليهود الشريرين .( 3 )، وبعد الكارثة ينشطر الإنسان عن إيمانه بالله ، فلم يعد هناك من يستطيع إعادة دنيا إلى منزلها ، حتى الزمن انشطر بين الشيخوخة بثقلها وأمراضها وبين الطفولة بذكرياتها الجميلة، في ص 18 يقول: " إنها حقارة أن نخفي عن الناس أسرارنا .. أكثر من ذلك فلعله من الحقارة أن تكون هناك ثمة أسرار " إن الأسرار تجعل الإنسان يعيش حالة من الانشطار النفسي بين البوح والكتمان ، مما يسفر عنه حالة من عدم الاستقرار والقلق ، وقد اختار الراوي وقت الظهيرة للالتقاء بسيدته الجميلة لأن هذه الفترة تتوسط زمانيا بين الانشطارين المتكررين يومياً .. انشطار النهار عن الليل في الصباح ، وانشطار الليل عن النهار في المساء ، كما أن فترة الظهيرة تشكل انشطاراً عن العالم المشغول بهموم أخرى أبعد ما تكون عن الجنس ( 4 )، والسيدة الجميلة لا تريد أن تكون نفسها ، فهي تستخدم المساحيق لتزور حقيقتها ، لتنشطر عن واقعها إلى واقع مزور ملئ بالإيهام والخداع ، وفي ص 28 يتركز الانشطار في كلمات مركزة مثل : الحب والمقت، الليل والنهار، القيظ والصقيع، تناقض غريب يكرس غموض الليلك الذي يوحي به العنوان، ويختتم المؤلف الفصل بانتشار الليلك وتدفقه.


الهاوية :
تتمثل الهاوية في الخروج الكبير من الوطن ، فالجموع تندفع إلى هاوية الغربة "تتدفق نهراً بشرياً داكناً يلهث ، يعوي وينتحب "، ( 5) ثم يحدد المؤلف حقيقة الهاوية حين يقول : " بلاد ضائعة ، ناس ضائعون ، أولاد ضائعون ، كسيح مجنون ، بلاد مجنونة ، بلاد كسيحة ، والموت هو الهاوية اللانهائية والأبدية " ويقول عن حسن الكسيح : " لقد شبع نوماً .. مات قبل أيام " ( 6 ) ويختتم الفصل بانتشار الليلك بحيث يغمر العالم .
المواجهة :
في هذا الفصل عدة إشارات إلى المواجهة ، فهي مواجهة عسكرية تارة ، ومواجهة فكرية تارة أخرى ، أو حتى مواجهة لغوية ، ففي ص 52 نقرأ : " الحكومة السورية الجديدة موضوع رائع لافتتاحية العدد القادم ، هؤلاء الثوار الشبان ، كم يفعمني حماسهم بالأمل ، لكن هل يعرفون إسرائيل على حقيقتها ؟" إن المواجهة تتطلب معرفة دقيقة بالآخر، لأنه دون هذه المعرفة لن تكون هناك مواجهة حقيقية ، كما يشير المؤلف إلى المواجهة الإعلامية التي كانت وما زالت تشكل محوراً أساسياً من محاور عمل الحزب الشيوعي في إسرائيل : " لن نسمح للدعاية الصهيونية أن تجعل من ذلك الجزائري العاق بطلاً ، لن نسمح لهم بتزييف عملة السلام " ( 7 )
والوعي واللاوعي يتواجهان من خلال كأس الشراب : " يقولون إن الكأس السابعة هي حد السكر ، بعدها يتخطى الإنسان حدود الوعي وتبدأ مغامرته الخطيرة في مجاهل ذاته ، في مجاهل الشخص الثاني الذي هو هو ، بعد الكأس السابعة تبدأ أنفسنا بالتململ والتنفس والخروج إلى النور ، إلى نور الحقيقة " (8 ) وكأن الحقيقة المرة لا تتكشف إلا بعد أن يتوارى الوعي في ثياب اللاوعي ، فالوعي أضعف من أن يتحمل الحقيقة الفاجعة ، أما المواجهة اللغوية بين العبرية والعربية فقد عرضها سميح على شكل قصيدة بالعبرية كتبها النادل الذي يعمل في مقهى كسيت في شارع ديزنغوف ، وهذه القصيدة نعارض الحرب ، وقد أورد القصيدة بالعبرية ثم أورد ترجمتها بالعربية ، وبعد ذلك يعود إلى المواجهة العسكرية التي حدثت سنة 1967 ، وما سببته للطرفين من مآسي ، فقد عادت الشلة كلها إلى مقهى كسيت، حتى إيلانة عادت .. الوحيد الذي لم يعد كان أوري نفسه(9)، ومع أنهم عادوا جميعاً فقد حدث انشطار ما داخل نفوسهم، شرخ كبير حدث ، فقد جاءوا جميعاً لكن عاداتهم لم تكن معهم ، غابت ابتسامة إيلانة وانطفأ مرحها رغم النصر الذي حققته إسرائيل عام 1967م، هاهي إيلانة تحاول إقناع النادل أن أوري لن يعود ، تقول ذلك وكأنها تواجه نفسها محاولة إقناعها بهذه الحقيقة المرّة(10)، إن المواجهة مع الذات أمر ضروري في جميع الظروف والمواقف ، لأنه دون هذه المواجهة لن تستقيم تصرفات الإنسان ، ولن يكون إنساناً سوياً ، بل إن المؤلف يمد المواجهة إلى حد المقابلة بين قرحته وقرحة إيلانة ، هذه القرحة التي تنغص حياة الطرفين معاً، يقول : " أترين ؟ إن بيننا شبهاً كبيراً . أنا أيضاً أحمل قرحة . غير أني أعترف أن قرحتك أجمل بكثير"(11)، وقد تكون المواجهة شخصية في ميدان القتال، وكأن المؤلف يود أن يعود بنا إلى عصر المبارزة الفردية والفروسية : " يدهشك أنني التقيت بأوري مرة أخرى ، التقيت به في ساحة القتال ، كان هو يهاجمني ، وكنت أدافع عن نفسي " ، ويستطرد : " أوهموا أوري أنه لا يمكن أن يعيش إلا بموتي ، فمات هو قبل أن يستوعب استحالة موتي " ، (12) وفي إطار هذه المواجهة يلجأ كل من السارد وأوري على انفراد إلى شجرة نادرة لتضميد جراحهما ، ولكنهما يتواجهان رغم الجراح التي أصيبا بها ، ورغم ارتباطهما بهذه الشجرة النادرة "الأصل المشترك بين العرب واليهود " ونلاحظ في هذا الفصل أن المؤلف لم يشر إلى انتشار الليلك ، ربما لأن المواجهة هي الوضوح بعينه .


4 – المستحيل :
في معادلة الحياة يصعب أن يقتلع طرف الطرف الآخر، أو أن يزيله من الوجود ، وإذا كانت هذه الحقيقة تنطبق على التنظيمات ، فإنها أحق بأن تنطبق على الشعوب ، فلن يستطيع شعب مهما بلغت قوته أن يطمس وجود شعب آخر،يقول السارد : " حزب عظيم كهذا لا يمكن القضاء عليه أيها الرفاق " (يقصد الحزب الشيوعي السوداني ) (13 ) ، كما يرى المؤلف أن الطرفين الفلسطيني والأردني يحتاجان إلى الوضوح ، وإلا فمن المستحيل أن يتخلصا من الليلك ، وكما أن إيلانة لم تقتنع بموت أوري ، فإن تانيا ترى استحالة موت سمير، فهي لا تصدق ذلك رغم وجود صورته ونبأ وفاته في قصاصة من صحيفة " سمير لم يمت ، سمير لا يمكن أن يموت ، هذا غير معقول" ( 14)
5 - القتل :
القتل نتيجة حتمية للمواجهة بين الطرفين ، وكثيراً ما يكون النصر هزيمة في جوهره ( 15 )، ويرتبط هذا الفصل بالفصل السابق، فالجيوش الجرارة التي تتدفق نحو قمة التل الصغير لترفع الأعلام المستحيلة ، للنصر المستحيل ، فوق القمة المستحيلة ، في النقطة المستحيلة .. فالقتل والمواجهة العسكرية لن يكونا بحال من الأحوال وسيلة لتحقيق النصر المستحيل ، وهنا ينتشر الليلك في نهاية الفصل ليغمر كل شيء.
6 – القيامة :
القيامة في طرف يقابلها انشطار في الطرف الآخر ، فانطلاق المقاومة الفلسطينية ممثلة بانبعاث حسن الكسيح من موته ومعافاته من كساحه، وذلك الانفجار الرهيب في محطة السيارات في تل أبيب سببا انشطاراً من نوع آخر ، فقد انطلقت شظايا المفاجئات في كل مكان ، ويشير المؤلف إلى قيام عرب الداخل بدور الصوت لعرب الخارج ، التمزق هناك يقابله توحد هنا " لا تتكلم . أنا صوتك في هذه اللحظة " ( 16 ) ، وبانبعاث المقاومة من جديد بعد احتلال 1967م ينهار الليلك وينتهي الغموض ، ويرتفع أذان الوضوح : " أنذا انتصرت عليك أيها الليلك …………. فإلى الجحيم أيها الليلك " ، إن بداية الوضوح تكمن في إدراك فئة - ولو محدودة – من الشعب الإسرائيلي بإمكانية الحل، تقول إيلانة لأوري : " يخيل إلى أن لقاءنا لن يستتب ولن يدوم ما لم يلتق هذا الشاب بحبيبته دنيا " إن هذه القناعات الجديدة والوليدة تشكل قيامة من نوع آخر في المجتمع الآخر ، ومن بعيد .. من نقطة اختفاء حسن أطلت دنيا الصغيرة ، تلك الدنيا من العدل والهوية التي صرخ صاحبنا مطالباً بها في ثنايا الكتاب ، تظل دنيا بثوبها الليلكي ليعود للّيلك جماله الأزلي الأبدي .. الوضوح بكل معانيه .
ملاحظات الكاتب :
لم يكثر الكاتب من ملاحظاته وتعليقاته في الكتاب ، فقد أورد في بداية الكتاب عبارة على لسان هملت : سنفهم من يكون هؤلاء الناس ، لأن الممثلين لا يصونون سراً ، ويفشون بكل الأشياء " ، هذه العبارة تشكل مفتاحاً للنص بكامله ، فالمعرفة سبب الوضوح ، وبالتالي التخلص من غموض الليلك ، والكاتب بهذه العبارة يحاول أن يشير إلى أن ما يجري في هذا العصر من أحداث ، إنما هو جزء من مسرحية من مسرحيات اللامعقول ، وأن الممثلين في هذه الأحداث يدركون أنهم يمثلون دوراً منوطاً بهم ، وبالتالي فإن صمتهم لن يطول ، لأن الستارة ستسدل وستنكشف الحقيقة ولو بعد حين ، وقد أورد المؤلف تعليقاً آخر ص 47 يقول : " حين أقول صرنا " فإنني أعني " نحن الأولاد " أما بالنسبة لي شخصياً، فأنا أعتقد أنه ما زال هناك ولو ابن حلال واحد يشهد بأنني لم ألحق بحسن سوءاً سوى سوء التفرج … " سميح هنا يمزج الخاص بالعام والشخصي باللاشخصي ، فهو حين يتحدث عن نفسه ، إنما يشير ولو من طرف خفي إلى الحزب الشيوعي في تلك الفترة ، والذي لم يلحق أذى بالقضية ، ولكنه وقف موقف المتفرج على ما يجري لأنه لا يملك غير ذلك ، وغير إبداء الرأي ، وذلك بسبب شعور الحزب بأنه جزء من هذه القضية ، كما يشعر سميح القاسم بتوحده مع حسن الكسيح :
يا سميح يا سميح أنت حسن الكسيح
يا سميح يا ملعون أنت حسن المجنون
الكتابات التي كتبت حول النص :
قبل حوالي أربعة عشر عاماً ، كتبت مقالا عن حكاية إلى الجحيم أيها الليلك " باسم مستعار هو توفيق حسن ، وقد عثرت على المقال مطبوعاً في الأعمال الكاملة لسميح القاسم في الجزء السابع في دائرة النقد إلى جانب مقالات أخرى تناولت الحكاية من زوايا مختلفة ، إلا أن أيا من هذه الدراسات لم تتناول العنوان بما يقدمه من إمكانات تأويل للنص تساعد على فهمه، وقد ركزت في المقال على الطبقة العاملة ممثلة في نادل مقهى كاسيت .
أما أنطوان شلحت فقد ركز على ذلك الخيط الذي يربط بين حكاية "الليلك" وبين " الصورة الأخيرة " ، يرى شلحت أن سميح القاسم في حكايته يقدم لنا مسحاً شاملاً للعلاقات بين الشعبين، ويتعرض إلى بروز الجيل الجديد من عرب الداخل وخروجه إلى حيز الفعل، هذا الجيل بقسميه : العامل والمتعلم يقع بين مطرقة هواجس البحث عن مستقبله ، وسندان العراقيل المنتصبة أمامه كالسد المنيع ، وأخيراً يصل أنطوان شلحت إلى نتيجة مؤداها أنه سيأتي يوم يفهم فيه العالم أجمع أن الإنسان هو أقدس شيء على الأرض .
أما ميسون الغلاييني فقد تناولت بالتعليق رغبة سميح القاسم في وقوع الحوادث الغريبة ، حتى ولو كانت في بؤس إنسان تدهمه سيارة ولا يعرفه ، فربما يكون ممن يتحملون ذنب ضياع دنيا ، وترى أن الحقيقة بينها وبين إيلانة ستظل ضائعة عاجزة عن تحقيق ميعاد أكيد بينهما .
ويرى سعد فتحي النمر أن الليلك لم يكن سوى لون طبيعي وعادي في الأيام العادية، ولكن في لحظة غير عادية تتحول مضامين الألوان ، فالأحمر يصبح ثورة ، والأخضر يصبح أملاً ، والأزرق يتحول إلى شفافية رومانسية . إن المضمون الجديد للّيلك هو المستقبل المخيف ، وغير الواضح ، والمؤلم في الوقت نفسه ، والحقيقة أن سميح كان يتحدث عن الحاضر بغموضه ورهبته عندما يتحدث عن الليلك ، ومما يؤكد وجهة نظري هذه أن كاتب المقال نفسه يقول ص 288 ، " هذا كان موقفه ، فهو لا ينكر إمكانية اللقاء والعدل في المستقبل وبعد عدة أجيال " فالمستقبل ليس هو اللّيلك ، ولكنه الحاضر المخيف بكل بشاعته وقسوته بدليل أن سميحاً في نهاية حكايته يدفع بالليلك إلى الجحيم .
كما يرى كاتب المقال أن ( سميح ) يطرح مسألة اعتراف الحزب الشيوعي بالدولة الصهيونية ، فالعجوز ترمز إلى الاعتراف بالدولة والتي يستطيع من خلالها الوصول إلى السيدة الشابة " الديمقراطية "، كما يشير إلى أن ( سميح ) يرمز بواسطة حسن الكسيح إلى قيادة الثورة الإقطاعية ، وبموت حسن يشير إلى انفضاض الناس من حول هذه القيادة الإقطاعية ، وبانبعاث حسن يشير إلى بروز القيادة البورجوازية للثورة .
والتساؤل الذي يطرح نفسه : هل يمكن لهذه القيادة أن تتخلص من الإعاقة التي كان يعاني منها حسن الكسيح ؟ وهل تستطيع أن تقود السفينة إلى بر الأمان وأن تخلصنا من ذلك الضباب الليلكي ؟ أعتقد أننا ما زلنا نعاني من نفس الأعراض المرضية السابقة وإن تغيرت من حيث الدرجة والمظهر ، إن الجميع يقفون حيارى مشلولي الإرادة أمام ما يدبر لدنيا و لا يستطيعون له دفعاً .




الهوامش :
1 - شعيب حليفي ، النص الموازي ، مجلة الكرمل عدد46، 1992، ص82 - 89
2 - الحكاية ص 18 .
3 – الحكاية ص 10 .
4 - الحكاية ، ص 22 .
5 – الحكاية ، ص 39 .
6 - الحكاية ص 49 .
7 - الحكاية ، ص 52 .
8 – الحكاية ص 53 .
9 – الحكاية ص 58 .
10 - الحكاية ، ص 60 .
11 – الحكاية ، ص 62 .
12 – الحكاية ، ص 64 .
13 - الحكاية ، ص 76 .
14 – الحكاية ، ص 81 .
15 – الحكاية ، ص 56 .
16 - الحكاية ، ص 96 .