تعود "المحاكم" وتصمد "حماس".. ما بعد "الدحلانية"30/4/2008
من أدق ما كتب بعد سيطرة حماس على قطاع غزة مقالة الزميل إبراهيم غرايبة في"الغد": سقوط "الدحلانية"؛ إذ عرَى نظرية "سلطة الأمن" النامية بتدفق ملاين الدولارات والسلاح وأجهزة التعذيب والتنصت. ولم ينفعها ذلك كله عندما فقدت ثقة موظفيها قبل ثقة شعبيها.
وكما تساءل محمود درويش كيف يدافع جندي القصر الذي يقيم صاحبه في الخارج. تهاوت "سلطة الأمن" في سويعات على وقع تطمينات محمد دحلان لحلفائه بقرب أفول "سلطة المقاومة" تحت وطأة الحصار الخانق اقتصاديا وسياسيا والنخر الداخلي فتنا واغتيالات واختطافات اختفت بعد أفوله.
ما يشهده الصومال اليوم من عودة للمحاكم الإسلامية على رغم التفوق الكاسح لقوات الاحتلال الأثيوبي يؤكد أن "سلطة المقاومة" المتغذية من الداخل أقوى من "سلطة الأمن" المدعوم من الخارج. ولو خرجت القوات الأثيبوبية من الصومال لما بقي موظفوها في السلطة ساعات ولشدوا الرحال معها. على كثرة الفوارق بين الواقعين الصومالي والفلسطيني إلا أن ثمة مشتركا بين الحركتين وهو: النزاهة في عالم فاسد. فالصوماليون يعلمون جيدا من هو شيخ شريف شيخ محمد، فهو منهم وفيهم، وكان بإمكانه يوم آل إليه حكم البلاد أن يحولها إلى مزرعة مثله مثل أمراء الحرب من قبله، لكنه قدم نموذجا نادرا في النزاهة. وأمن مجتمعه من خوف بعد أن ظل عقودا نهبا لصراعات دولية وإقليمية وقبلية.
سمعت من شيخ شريف -عندما التقتيه في الدوحة- حكاية هجرته من الصومال بعد الحرب وسقوط نظام المحاكم والتي تكشف إخلاص الرجل وصبره وجهاده. فالحرب كانت محسومة لصالح التفوق الهائل للجيش الأثيوبي ومشاركة الطيران والاستخبارات الأميركيين. فقد قضى أكثر قادة المحاكم وجندها المحيطين بشيخ شريف، ومن نجا من القصف المدمر رأى من الموت أشكالا. فالطائرات الأميركية كانت تتعقبهم وهم في طريقهم إلى نيروبي، وتقطعت بهم السبل وجاعوا إلى أن أكلوا من حشائش الأرض وأوراق الشجر، وشربوا مياه المستنقعات إلى أن سلمهم الكينيون إلى القوات الأميركية.
أحسن الأميركيون –على قلة توفيقهم– عندما أفرجوا عن الشيخ شريف. وكان بإمكانهم تلفيق تهمة إرهاب له. لكنهم أدركوا أنهم يحتاجون في النهاية إلى من يتحدثون إليه. خصوصا أنهم يعلمون أنه لم يرتكب ذنبا، فهو قاتل قوات احتلال، وبسط الأمن والعدل في بلاده بعد أن خربها أمراء الحرب الذين رجعوا على متن الدبابات الأثيوبية وقصف الطيران الأميركي.
يراهن الأميركيون حتى الساعة على صمود قوات الاحتلال والموظفين التابعين لها في الصومال وإن خاب رهانهم تفاوضوا مع المحاكم التي ستعود إلى السلطة في ساعات لو زال الاحتلال.
ارتكبت المحاكم حماقات مثل منع القات في بلد لا يجد الناس تسرية عن أنفسهم إلا فيه، وقلل ذلك من شعبيتها. تماما كما ارتكبت حماس حماقات أيضا، لكن ارتفاع مؤشر الشعبية أو هبوطه لا علاقة له بثبات مؤشر الثقة. وهو ما يفسر صمود حماس طيلة فترة الحصار. فثقة الناس هي التي تحفظ النظام لا قوة الأمن. وإلا كيف يمكن لحماس أن تصمد في مواجهة كل هذه العزلة التي لا يقطعها إلى قصف الطيران الإسرائيلي؟
يعيش إسماعيل هنية هو وأبناؤه وأسرته بين شعبهم.وكان بإمكانه أن يجد متسعا في أجنحة الفنادق في مكة والدوحة والقاهرة.. لو أراد، ويجد عذرا بالمنع الإسرائيلي. ليست الثقة في النزاهة فحسب؛ هي ثقة في المقاومة أيضا. وقد تحقق في غضون الحصار وغياب "الدحلانية" إنجاز فدائي غير مسبوق لعل أبرزه اختطاف شاليط وعلمية معبر كرم أبو سالم وغيرها.
يخطئ الأميركيون عندما يدعمون من جيب دافع الضرائب "سلطة الأمن" ويحاربون "سلطة المقاومة" ولا يجنون غير الفشل والكراهية. فيما تجني الشعوب مزيدا من القهر والجوع والدماء. لا يؤمل من الأميركيين دعم "سلطة المقاومة" بقدر ما يرجى منهم أن يتركوا الناس وخياراتهم. وقد ثبت تاريخيا من شاه إيران إلى ماركوس وصولا إلى "الدحلانية" أنهم أعجز من أن يحموا من يكرهه الناس. وعليهم أن يفكروا بطريقة جديدة تراعي انقراض ظاهرة مزعجة.
المفضلات