آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الإبداع وشَرَك الرَّمز- د.شاكر مطلق

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية الدكتور شاكر مطلق
    تاريخ التسجيل
    01/04/2007
    العمر
    86
    المشاركات
    259
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي الإبداع وشَرَك الرَّمز- د.شاكر مطلق

    الإبداع وشَرَك الرَّمز
    د.شاكر مطلق

    يشكل الرّمز ، أياً كان مصدره ، في الذاكرة الفردية وفي الذاكرة الجمعية كماً مختزلاً من المعلومات ومن الأوهام الطامحة إلى إشباع الرغبات (الأسطورة) أومن الموروث التاريخي ( وامعتصماه ) أو الشبه التاريخي ( حكاية ديك الجن الحمصي وكأسا الشراب المصنوعتان من الرماد) ، يشكل الرمز هذا ، في كـل الحالات ، وفي غيرها أيضاً، جسراً يستطيع القارئ أو المتلقي ، بشكل عام ، أن يعبر من خـلاله إلى فضـاءات ما في النص الإبداعي من دون أن يترهل هذا النص في الشرح والتفسير وفي سرد الخلفيات والوقائع ويتحول بذلك إلى نص تفسيري نثري ، في حالة النص الشـعري ، لأن مثل هذه الأمور يحملها الرمـز على عاتقه ويقوم ، بسرعة فائقة ، في ذاكرة المتلقي العارف ، بتوصيل كل هذه الأمور إليه لربطها بالكلمة أو بالجملة التي توضعـت فيها لتخلق فضاءاً أوسـع طالما هي قابلة عند المتلقي ، للاستيعاب ولإثارة مثل هذه (الحقائق) أوالتداعيات في مخيِّلته وبالتالي تعطي النشوة أو الذهول من غير المتوقَّع .
    ولكن الأمر يختلف ، بالطبع ، عندما يقع هذا الرمز الحامل للسرِّ وللمفتاح في آنٍ واحد معاً على خلايا دماغية ، غير مبرمجة لفـك مثل هذا السر، مع أنها تملك ولا تدري بذلك .
    والغموض أو الإبهام القائم بين النص والمتلقي ، في مثل هذه الحالة ، لا يجب أن يصدر دوماً عن عدم معرفة المتلقي ، وعدم استعداده وعن قصور معرفيٍّ ، لتلقي تلك المعلومات ولكنه قـد يصدر عن بُعْدِ ذلك الرمـز النادر أو الغريب عن موروث المتلقي وعن بيئته الحياتية والفكرية ، وعن الكَمِّ المعرفي المعقول المطلوب حضوره لديه .
    ومن العبث والعقم أن يستعمل المبدع في نصه رمزاً غامضاً لا يكاد يعرفه إلا من له اهتمام وخبرة بالموضوع ، وليكن مثلاً الأسطورة الإغريقية أو الفرعونية أو حتى الرافدية التي نمت على أرضنا ولا نزال نحيا ، بشكل أو بآخر ، بعض تجلياتها ، من دون أن ندري في كثير من الأحيان .
    فالترحيب بأحدٍ ما ، بوضع الكفِّ المبسوطة على الصدر والتَّربيت عليه ، هو تقليد شائع جداً بيننا ، وهو موجود على أختام بابل وأكاد ، ونشأ ، ولا يزال ، على أرضنا العربية

    فبحمص مثلاً ( حبالتاه !) فإننا نجهل أحياناً مصدر هذه العبارة الآرامية _ التدمرية التي تعني
    واحسرتاه ! وآسفاه ! ولكننا نأخذ أحياناً على المبدع استعماله لرموز معروفـة في موروثنـا بمفهومه الواسـع الذي لا يتوقف عند " امرىء القيـس " وإنما يمتد من بابل وآكاد وحتى سومر ، وبصرف النظر عن الأصل الإثني ، لأننا ورثة كل هذا الكم من الإبداع والحضارة _ أقول نأخذ عليه استعماله للاسم الرمز ( إنكيدو) مثلا ، صاحب ( كلكامش) وندَّه ، بحجة إننا لا يجب أن ننتظر من القارئ أن يعرف أسطورة ( كلكامش) أو أسـطورة الخلق البابلية أو يعرف شـيئاً عـن ( بعل ) وعـن " عناة " وعن الراعي ديموزي ( تموز ) وعشيقته عشتروت _ عشتار _ إنانا السومرية ، هذا ، في الوقت الذي يعرف فيه طالب المدرسة ، في ألمانيا مثلا ، عن رموز تراثه ما يمكنه من فهم إسقاطات المبدع عندما يتناول حكاية(زيغفريد) الخرافية أو( الُّلـوره لاي ) وغيرها من أساطير نهر (الراين) _ ( الأب ) _ … الخ الأمر الذي لا أستطيع فهمه ، في أوساط المثقفين على الأقل ، وفي الوقت الذي تتوفر فيه المراجع لمعرفة إرثنا الحضـاري العظيـم والتـزود منه ولـو بخط يسمح للقارئ بالتواصـل مع الاستعمالات الرمزية لهذا الموروث ، التي يتم التعامل معها وليس دوماً بنجاح ، في شعرنا الحديث والمعاصر .
    وهذا الأمر أدهشني ، عندما كنت في بلدان جنوب شرق أسيا وبخاصة في الصين واليابان وتايلاند والفيلبين … الخ _ وهو معرفة المثقفين ، على الأقل ، بأساطير بلادهم وبالتفاصيل حول بعض شخصيات تلك الأساطير الرمزية وما تعنيه مثلاً وردة ( اللوتس ) البيضاء من دلالة فكرية ودينية وما يعنيه ( إزهار الكرز ) _ الهمزة تحت الألـف _ مـن دلالات في شعر ( الهايكو) الياباني أو قصيدة ( التانكا ) مثلاً .
    فالرمز في الأدب وبخاصة في الشعر ، هو جزء هام من بنائية النص بشرط أن يكون استعماله ، لا من أجل الاستعمال السردي فحسب ، وإنما من أجل جعله جسراً للعبور إلى فضاء أرحب للنص أومن أجل استيعابه لخلق رمز جديد أو أسطورة جديدة تتوالد أو تترافق مع الموروث المعروف وربما تتضارب معه أحياناً … لا فرق .
    وما يتعلق بالشعر هنا ، يمكن أن ينطبق على الفنون الإبداعية الأخرى من رسم وموسيقى وسأورد مثالاً على ذلك :
    منذ أعوام ، وأيام عز الاتحاد السوفييتي المأسوف على شبابه ، وأستعير هذه المقولة من نص محفور على تمثال حسناء " منبج " وفيه المأسـوف على شبابها … أقول في أحد تلك الأيام عرض فـي حمص في نقابة الفنـون الجميلة ، معرضـاً فنياً لرسامين سوفييت . ومن بين الرسوم المعروضة لوحة أثارت إعجابي بشكل خاص لما رأيت فيها من استعمال رائع للرمز الذي لم يصل ، على ما يبدو، للغالبية العظمى مـن الفنانين والمشاهدين ، إن لـم نقل لهم جميعـاً ، وقـد احتاروا في سبب إعجابي المفرط فيها ، مما دعاني إلى تقديم الشرح وتعليل ذلك .
    اللوحة تصوِّر ، من الخلف ، رجلاً ضخم الجثة يلبس رداء الطبيب ويرفع يده اليمنى المزودة بكفٍ مطاطي ، كما يستعمله الأطباء في الفحوص والعمليات ، وبما أن وجهـه يلتفت قليلاً إلى اليمين فإن سمات الوجه تشير إلى شخصيته بدون شك ولا لبس .
    إلى يمينه تقف( أفروديت ) بشعرها الأشقر الذهبي الطويل في المحارة _ عشتار ولدت من زبد البحر _ وهـي عارية تماماً وقد أبدعها ( بوتشللي ) ذات يوم وهي أيضاً معروفة ومشهـورة . أمـام الطبيب طاولة معدنية ذات أذرع ودواليب … وهي في الواقع طاولة فحص نسائية قديمة العهد ، وقد لا يتعرفها اليوم الجيل الجديد من الأطباء .
    بقي أن أقول أن وجه (الطبيب) المزعوم هو وجه الديكتاتور الفاشي ( موسيليني) الذي يريد أن يتفحص الجمال _ الحرية _ حسياً بفحص نسائي … وفهمكم يكفي .
    نحن إذن أمام استعمال رائع للرمز بإسقاطٍ سياسيٍّ مذهل لم يصل عندنا وإن كنت أشتمُّ عـدداً ضخماً ممن شاهدوا اللوحـة في بلدها أوفي أوروبا الغربية ، قد وصلته المضامين والإسقاطات ، وقام المشرفون على وضعها في واجهة المعرض لأهميتها .
    مثالين آخرين لاستعمال الرمز بشكل موفق تماماً وبشكلٍ غامض نسبياً في جمهور معين وبزمان خاص ، من الموسيقى .

    المثال الأول : هـو العمل الموسيقي الخالد المسمى " شـهـرزاد " _ 1889 _ للموسيقي الروسي العظيم : نيكولاي ريمسكي كورساكوف ( 1844 _ 1908 ) وهي المقطوعة ذات الرقم ( أوبوس 20 /رقم واحد ) والتي كما يبدو لنا فوراً من العنوان ، مستمدة من حكايات " ألـف ليلة وليلة " .
    وعلى الرغـم مـن أن الحكايات الشرقية تعتبر غريبة على البيئة الروسية والأوروبية بشكل عام ، إلا أن حكايات " شهرزاد "هذه كانت قد ترجمت وانتشرت وذاع صيتها في ذلك الوقت وألهبت مخيلات الشعراء والفنانين والموسيقيين أيضاً ووجدت تواصلها مع الجمهور وإن كانت هي ، في الأصل ، رمزاً شرقياً غريباً عن بيئتهم الجغرافية والثقافية ومع ذلك تواصل معها الجمهور ولاقت قبولاً عظيماً .

    المثال الثاني : أستمده من أعمال الفنان النرويجي الشهير إدوارد غريغ ( 1834 _ 1907 ) م الذي كتب عمله " بييرغونت " في القرن التاسع عشر وظهر في مسرحيات " أيبسن " العظيم الذي شاهدت على دار الأوبرا في العاصمة ( أوسلو) تمثالاً جميلاً له ، وفيه استعمل ( غريغ) رموز شرقية غربية من المجتمع النرويجي : عواطف أومزاج صباحي (شرقي) _ موت عزيز _ خطـف العـروس ( رقصة ليبية صاخبة ) وطعمها ، طبعاً ، بموروث بلاده مثل : رقصة انتيرا في صالة ( قصر ) ملك الجبل … الخ .
    وهنا كـان لا بـد من شرح ما ، لإيصال المعنى إلى الجمهور على الرغم من معرفة الجمهور بشكـل عـام ، بأجـواء الشرق الخيالية والسحرية ، كما وصلتهم من خلال كتب المستشرقين وما وصلهم من خلال " ألف ليلة وليلة" والأمثلة كثيرة على ذلك سواء في الأدب أو الفن أو الموسيقى .
    الموضـوع يتعلـق _ إذن _ في دقـة اختيار الرمـز والحساسية في توظيفه في النص الإبداعـي والاستفادة مـن أبعاده الدلالية أو قلبها وإعادة تشكيلها من جديد لتخلق دَهَشاً جديداً مناقضاً للمعروف وللمألوف .
    ويتطلب هذا ، بالطبع ، معرفة دقيقة وواسعة بكل دلالات الرمز _ عبر تاريخ نشـوءه _ وبالتفاصيل التي تحيط به وبنشأته وبالظروف التاريخية التي راج بها أو تلاشى . ولا يكفي _ حسب رأيي _ معرفة وجه واحد لقطعة النقود حتى نسلم بأننا نعرف الوجه الآخر الذي قـد يكون مخالفاً تماماً لما نتوقع ، وعندها تكون المفاجأة غير السارة .
    ( أفـروديـت ) ، عند الإغريق ، إلهـة الحـب والجمال ، وهي مستمدة في الأصل من (عشتروت) البابلية _ عشتار_ وهي الوريثة (لإنَّانا السومرية ) وتحمل مثل تلك الدلالات، ولكنها أيضاً الربـة المحاربـة والبغي المقدسـة ، والسيدة الأم الكبرى وغير ذلك الكثير … فالشاعر يجب أن يختار من كل تلك الصفات والوجوه ما يتلاءم مع نصه ومع الإسقاط الـذي يريده ولا يكتفي بوضع ( الرمز) هكذا ، بدون إبراز الجانب الذي يريده منه ، وإلا مرَّ مرور الكرام ولم يقم بتقديم الهام أو الجديد .
    هكذا نلخص ونقول :
    إن استعمال ( الرمز ) في النص الإبداعي المعاصر والحديث هو استعمال مشرع ، ولكنه مشروط أيضاً بالمعرفة الدقيقة لدلالات الرموز ، وما أكثرها في بعض الأحيان ! ، كمـا أن الاستعمال لا يجوز أن يقود إلى إثقال النص بالرموز الغريبة عن البيئة والموروث الثقافي إذا لم تكن مشهورة معروفة ( أوليس = أوديسوس ) مثلاً ، وإلا أفضى النص إلى قبو مظلمٍ وإلى إبهام غير مقبول يضر بالنص أكثر مما يفيده .
    كما أنه لا يمكن أن يوضع اللوم دوماً على عدم معرفة المتلقي وإنما قد يكون اللوم في عدم معرفة المبدع الكافية بما بين يديه من دلالات أو عدم معرفة استعمالها الدقيق .
    ويظل استعمال ( الـرمـز) ، بالرغم مـن كل هذا ، أمراً مشروعاً بل ومطلوباً لإعطاء النص فضاءً أرحب وإعطاء المتلقي مزيداً من النشوة ومن الدَّهَشْ .
    **************************************************

    حمص _ سورية د. شاكر مطلق
    E.-MAIL: mutlak@scs-net.org

    حمص – سورية / Homs-Syria
    بغطاسية – شارع ابن زريق 3
    هـ : عيادة (Prax.) 2222655 31 963 +
    ص.ب.( 1484) P.O.B.
    E-Mail:mutlak@scs-net.org

  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية الدكتور شاكر مطلق
    تاريخ التسجيل
    01/04/2007
    العمر
    86
    المشاركات
    259
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي الإبداع وشَرَك الرَّمز- د.شاكر مطلق

    الإبداع وشَرَك الرَّمز
    د.شاكر مطلق

    يشكل الرّمز ، أياً كان مصدره ، في الذاكرة الفردية وفي الذاكرة الجمعية كماً مختزلاً من المعلومات ومن الأوهام الطامحة إلى إشباع الرغبات (الأسطورة) أومن الموروث التاريخي ( وامعتصماه ) أو الشبه التاريخي ( حكاية ديك الجن الحمصي وكأسا الشراب المصنوعتان من الرماد) ، يشكل الرمز هذا ، في كـل الحالات ، وفي غيرها أيضاً، جسراً يستطيع القارئ أو المتلقي ، بشكل عام ، أن يعبر من خـلاله إلى فضـاءات ما في النص الإبداعي من دون أن يترهل هذا النص في الشرح والتفسير وفي سرد الخلفيات والوقائع ويتحول بذلك إلى نص تفسيري نثري ، في حالة النص الشـعري ، لأن مثل هذه الأمور يحملها الرمـز على عاتقه ويقوم ، بسرعة فائقة ، في ذاكرة المتلقي العارف ، بتوصيل كل هذه الأمور إليه لربطها بالكلمة أو بالجملة التي توضعـت فيها لتخلق فضاءاً أوسـع طالما هي قابلة عند المتلقي ، للاستيعاب ولإثارة مثل هذه (الحقائق) أوالتداعيات في مخيِّلته وبالتالي تعطي النشوة أو الذهول من غير المتوقَّع .
    ولكن الأمر يختلف ، بالطبع ، عندما يقع هذا الرمز الحامل للسرِّ وللمفتاح في آنٍ واحد معاً على خلايا دماغية ، غير مبرمجة لفـك مثل هذا السر، مع أنها تملك ولا تدري بذلك .
    والغموض أو الإبهام القائم بين النص والمتلقي ، في مثل هذه الحالة ، لا يجب أن يصدر دوماً عن عدم معرفة المتلقي ، وعدم استعداده وعن قصور معرفيٍّ ، لتلقي تلك المعلومات ولكنه قـد يصدر عن بُعْدِ ذلك الرمـز النادر أو الغريب عن موروث المتلقي وعن بيئته الحياتية والفكرية ، وعن الكَمِّ المعرفي المعقول المطلوب حضوره لديه .
    ومن العبث والعقم أن يستعمل المبدع في نصه رمزاً غامضاً لا يكاد يعرفه إلا من له اهتمام وخبرة بالموضوع ، وليكن مثلاً الأسطورة الإغريقية أو الفرعونية أو حتى الرافدية التي نمت على أرضنا ولا نزال نحيا ، بشكل أو بآخر ، بعض تجلياتها ، من دون أن ندري في كثير من الأحيان .
    فالترحيب بأحدٍ ما ، بوضع الكفِّ المبسوطة على الصدر والتَّربيت عليه ، هو تقليد شائع جداً بيننا ، وهو موجود على أختام بابل وأكاد ، ونشأ ، ولا يزال ، على أرضنا العربية

    فبحمص مثلاً ( حبالتاه !) فإننا نجهل أحياناً مصدر هذه العبارة الآرامية _ التدمرية التي تعني
    واحسرتاه ! وآسفاه ! ولكننا نأخذ أحياناً على المبدع استعماله لرموز معروفـة في موروثنـا بمفهومه الواسـع الذي لا يتوقف عند " امرىء القيـس " وإنما يمتد من بابل وآكاد وحتى سومر ، وبصرف النظر عن الأصل الإثني ، لأننا ورثة كل هذا الكم من الإبداع والحضارة _ أقول نأخذ عليه استعماله للاسم الرمز ( إنكيدو) مثلا ، صاحب ( كلكامش) وندَّه ، بحجة إننا لا يجب أن ننتظر من القارئ أن يعرف أسطورة ( كلكامش) أو أسـطورة الخلق البابلية أو يعرف شـيئاً عـن ( بعل ) وعـن " عناة " وعن الراعي ديموزي ( تموز ) وعشيقته عشتروت _ عشتار _ إنانا السومرية ، هذا ، في الوقت الذي يعرف فيه طالب المدرسة ، في ألمانيا مثلا ، عن رموز تراثه ما يمكنه من فهم إسقاطات المبدع عندما يتناول حكاية(زيغفريد) الخرافية أو( الُّلـوره لاي ) وغيرها من أساطير نهر (الراين) _ ( الأب ) _ … الخ الأمر الذي لا أستطيع فهمه ، في أوساط المثقفين على الأقل ، وفي الوقت الذي تتوفر فيه المراجع لمعرفة إرثنا الحضـاري العظيـم والتـزود منه ولـو بخط يسمح للقارئ بالتواصـل مع الاستعمالات الرمزية لهذا الموروث ، التي يتم التعامل معها وليس دوماً بنجاح ، في شعرنا الحديث والمعاصر .
    وهذا الأمر أدهشني ، عندما كنت في بلدان جنوب شرق أسيا وبخاصة في الصين واليابان وتايلاند والفيلبين … الخ _ وهو معرفة المثقفين ، على الأقل ، بأساطير بلادهم وبالتفاصيل حول بعض شخصيات تلك الأساطير الرمزية وما تعنيه مثلاً وردة ( اللوتس ) البيضاء من دلالة فكرية ودينية وما يعنيه ( إزهار الكرز ) _ الهمزة تحت الألـف _ مـن دلالات في شعر ( الهايكو) الياباني أو قصيدة ( التانكا ) مثلاً .
    فالرمز في الأدب وبخاصة في الشعر ، هو جزء هام من بنائية النص بشرط أن يكون استعماله ، لا من أجل الاستعمال السردي فحسب ، وإنما من أجل جعله جسراً للعبور إلى فضاء أرحب للنص أومن أجل استيعابه لخلق رمز جديد أو أسطورة جديدة تتوالد أو تترافق مع الموروث المعروف وربما تتضارب معه أحياناً … لا فرق .
    وما يتعلق بالشعر هنا ، يمكن أن ينطبق على الفنون الإبداعية الأخرى من رسم وموسيقى وسأورد مثالاً على ذلك :
    منذ أعوام ، وأيام عز الاتحاد السوفييتي المأسوف على شبابه ، وأستعير هذه المقولة من نص محفور على تمثال حسناء " منبج " وفيه المأسـوف على شبابها … أقول في أحد تلك الأيام عرض فـي حمص في نقابة الفنـون الجميلة ، معرضـاً فنياً لرسامين سوفييت . ومن بين الرسوم المعروضة لوحة أثارت إعجابي بشكل خاص لما رأيت فيها من استعمال رائع للرمز الذي لم يصل ، على ما يبدو، للغالبية العظمى مـن الفنانين والمشاهدين ، إن لـم نقل لهم جميعـاً ، وقـد احتاروا في سبب إعجابي المفرط فيها ، مما دعاني إلى تقديم الشرح وتعليل ذلك .
    اللوحة تصوِّر ، من الخلف ، رجلاً ضخم الجثة يلبس رداء الطبيب ويرفع يده اليمنى المزودة بكفٍ مطاطي ، كما يستعمله الأطباء في الفحوص والعمليات ، وبما أن وجهـه يلتفت قليلاً إلى اليمين فإن سمات الوجه تشير إلى شخصيته بدون شك ولا لبس .
    إلى يمينه تقف( أفروديت ) بشعرها الأشقر الذهبي الطويل في المحارة _ عشتار ولدت من زبد البحر _ وهـي عارية تماماً وقد أبدعها ( بوتشللي ) ذات يوم وهي أيضاً معروفة ومشهـورة . أمـام الطبيب طاولة معدنية ذات أذرع ودواليب … وهي في الواقع طاولة فحص نسائية قديمة العهد ، وقد لا يتعرفها اليوم الجيل الجديد من الأطباء .
    بقي أن أقول أن وجه (الطبيب) المزعوم هو وجه الديكتاتور الفاشي ( موسيليني) الذي يريد أن يتفحص الجمال _ الحرية _ حسياً بفحص نسائي … وفهمكم يكفي .
    نحن إذن أمام استعمال رائع للرمز بإسقاطٍ سياسيٍّ مذهل لم يصل عندنا وإن كنت أشتمُّ عـدداً ضخماً ممن شاهدوا اللوحـة في بلدها أوفي أوروبا الغربية ، قد وصلته المضامين والإسقاطات ، وقام المشرفون على وضعها في واجهة المعرض لأهميتها .
    مثالين آخرين لاستعمال الرمز بشكل موفق تماماً وبشكلٍ غامض نسبياً في جمهور معين وبزمان خاص ، من الموسيقى .

    المثال الأول : هـو العمل الموسيقي الخالد المسمى " شـهـرزاد " _ 1889 _ للموسيقي الروسي العظيم : نيكولاي ريمسكي كورساكوف ( 1844 _ 1908 ) وهي المقطوعة ذات الرقم ( أوبوس 20 /رقم واحد ) والتي كما يبدو لنا فوراً من العنوان ، مستمدة من حكايات " ألـف ليلة وليلة " .
    وعلى الرغـم مـن أن الحكايات الشرقية تعتبر غريبة على البيئة الروسية والأوروبية بشكل عام ، إلا أن حكايات " شهرزاد "هذه كانت قد ترجمت وانتشرت وذاع صيتها في ذلك الوقت وألهبت مخيلات الشعراء والفنانين والموسيقيين أيضاً ووجدت تواصلها مع الجمهور وإن كانت هي ، في الأصل ، رمزاً شرقياً غريباً عن بيئتهم الجغرافية والثقافية ومع ذلك تواصل معها الجمهور ولاقت قبولاً عظيماً .

    المثال الثاني : أستمده من أعمال الفنان النرويجي الشهير إدوارد غريغ ( 1834 _ 1907 ) م الذي كتب عمله " بييرغونت " في القرن التاسع عشر وظهر في مسرحيات " أيبسن " العظيم الذي شاهدت على دار الأوبرا في العاصمة ( أوسلو) تمثالاً جميلاً له ، وفيه استعمل ( غريغ) رموز شرقية غربية من المجتمع النرويجي : عواطف أومزاج صباحي (شرقي) _ موت عزيز _ خطـف العـروس ( رقصة ليبية صاخبة ) وطعمها ، طبعاً ، بموروث بلاده مثل : رقصة انتيرا في صالة ( قصر ) ملك الجبل … الخ .
    وهنا كـان لا بـد من شرح ما ، لإيصال المعنى إلى الجمهور على الرغم من معرفة الجمهور بشكـل عـام ، بأجـواء الشرق الخيالية والسحرية ، كما وصلتهم من خلال كتب المستشرقين وما وصلهم من خلال " ألف ليلة وليلة" والأمثلة كثيرة على ذلك سواء في الأدب أو الفن أو الموسيقى .
    الموضـوع يتعلـق _ إذن _ في دقـة اختيار الرمـز والحساسية في توظيفه في النص الإبداعـي والاستفادة مـن أبعاده الدلالية أو قلبها وإعادة تشكيلها من جديد لتخلق دَهَشاً جديداً مناقضاً للمعروف وللمألوف .
    ويتطلب هذا ، بالطبع ، معرفة دقيقة وواسعة بكل دلالات الرمز _ عبر تاريخ نشـوءه _ وبالتفاصيل التي تحيط به وبنشأته وبالظروف التاريخية التي راج بها أو تلاشى . ولا يكفي _ حسب رأيي _ معرفة وجه واحد لقطعة النقود حتى نسلم بأننا نعرف الوجه الآخر الذي قـد يكون مخالفاً تماماً لما نتوقع ، وعندها تكون المفاجأة غير السارة .
    ( أفـروديـت ) ، عند الإغريق ، إلهـة الحـب والجمال ، وهي مستمدة في الأصل من (عشتروت) البابلية _ عشتار_ وهي الوريثة (لإنَّانا السومرية ) وتحمل مثل تلك الدلالات، ولكنها أيضاً الربـة المحاربـة والبغي المقدسـة ، والسيدة الأم الكبرى وغير ذلك الكثير … فالشاعر يجب أن يختار من كل تلك الصفات والوجوه ما يتلاءم مع نصه ومع الإسقاط الـذي يريده ولا يكتفي بوضع ( الرمز) هكذا ، بدون إبراز الجانب الذي يريده منه ، وإلا مرَّ مرور الكرام ولم يقم بتقديم الهام أو الجديد .
    هكذا نلخص ونقول :
    إن استعمال ( الرمز ) في النص الإبداعي المعاصر والحديث هو استعمال مشرع ، ولكنه مشروط أيضاً بالمعرفة الدقيقة لدلالات الرموز ، وما أكثرها في بعض الأحيان ! ، كمـا أن الاستعمال لا يجوز أن يقود إلى إثقال النص بالرموز الغريبة عن البيئة والموروث الثقافي إذا لم تكن مشهورة معروفة ( أوليس = أوديسوس ) مثلاً ، وإلا أفضى النص إلى قبو مظلمٍ وإلى إبهام غير مقبول يضر بالنص أكثر مما يفيده .
    كما أنه لا يمكن أن يوضع اللوم دوماً على عدم معرفة المتلقي وإنما قد يكون اللوم في عدم معرفة المبدع الكافية بما بين يديه من دلالات أو عدم معرفة استعمالها الدقيق .
    ويظل استعمال ( الـرمـز) ، بالرغم مـن كل هذا ، أمراً مشروعاً بل ومطلوباً لإعطاء النص فضاءً أرحب وإعطاء المتلقي مزيداً من النشوة ومن الدَّهَشْ .
    **************************************************

    حمص _ سورية د. شاكر مطلق
    E.-MAIL: mutlak@scs-net.org

    حمص – سورية / Homs-Syria
    بغطاسية – شارع ابن زريق 3
    هـ : عيادة (Prax.) 2222655 31 963 +
    ص.ب.( 1484) P.O.B.
    E-Mail:mutlak@scs-net.org

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •