العجائبي في رواية " وراء السراب ... قليلا "
لابراهيم الدرغوثي

بقلم : الدكتور الهادي غابري
أستاذ الأدب والنقد العربي الحديث / كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس/ تونس



تمهيد :
ينهل ابراهيم الدرغوثي من فن الحكاية الشعبيّة التونسيّة الموروثة في بيئته المنجميّة فأنشأ رواية "وراء السّراب ...قليلا وهي رواية عجائبيّة (1 )عالمها اللامعقول الذي يشي بعجائبيّة غير معهودة في الفن الروائي التونسي الحديث ، ذلك أن السارد التقط ما هو مثير وباعث للغرابة فابتدع عالما متخيّلا يجسّد فيه أحداثا غريبة فحدّد لها السارد فضاء غريبا تنمو وتتطور فيه الشخوص والأحداث على نحو مذهل، يبدأ العجيب بدءا من عنوان الرواية وراء السراب ، فهو مركّب إضافي يفيد المكان لكنه مكان بعيد متباعد ، كلّما كان الاقتراب منه كان ابتعاد السراب وأكثر هروبا إلى الأمام ، لم يحدّد عنوان الرواية نهاية السراب بل أكد على أن المكان المقصود هو وراء السراب قليلا ، ولا يمكن حصر تلك القلّة في المدّة الزمنيّة أوفي المسافة المكانيّة ، وهو دليل على استحالة الحلول بالمكان المقصود وكذلك استحالة تحديد نهاية الزمن فضلا عن وصف المكان بالسراب الذي يخلب الأبصار فلا يمكن حصره إطلاقا ، رغم التّوهّم بالقبض عليه والدخول فيه ، وهو ضرب من العبث الذي يشي بعجائبيّة في الرواية رغم إطنابها في سرد أحداث واقعيّة وحقيقيّة ، لكنها أحداث موشّاة بالعجيب ، وهو عجيب مزيج من التراث القديم كما هو عجيب مستنبط من تطورات القرن العشرين في عالم صحراوي سمته الجفاف والسراب مع استحالة القبض على السراب كاستحالة القبض على الريح، فالقبض على السراب وهم كالقبض على وهم السعادة في ظلمات أنفاق المناجم وهي سراب خلـّب يطاردها العمال دون طائل كمطاردة الظمآن للسراب في الصحراء .

التمثال العجيب :
يهيمن المكان في رواية وراء السراب... قليلا فيصبح بطلا فاعلا في الأحداث لارتباطه بالأصالة والعراقة والجذور ، فالكائنات البشريّة في حياتها وموتها تلتصق بالمكان التصاقا لا انفصال فيه ، وجسّدت الجدّة رمز الموروث و الأصالة فانزاحت عن طبيعتها البشريّة خلال تظافر عناصر الطبيعة : الريح والبرق والمطر اعلانا عن تحوّل عند منتصف الليل حدّا فاصلا بين زمننين : الأمس وهو الماضي واليوم وهو الجديد الذي تحوّلت فيه الجدّة إلى تمثال جامد يرفض الفناء ويطمح إلى الخلود شأنه شأن تماثيل الآلهة والزعامات والقيادات العسكريّة والسياسيّة والروحيّة عبر الحضارات والأزمان ، ارتبط تحوّل الجدّة إلى تمثال بتغيّر فجئي في حركة الطّبيعة بانبعاث عناصرها متفاعلة فيما بينها لتحوّل معالم الطبيعة من الهدوء إلى الصخب والثورة ومن الجدب إلى الخصب في ظرف زماني فاصل ارتهن بنزول المطر رمزا لانبعاث بعد سبات . وبذلك كانت ولادة الجدّة من جديد فأصبحت حيةّ من حيث انتهت ميّتة " عند منتصف الليل هطلت الأمطار بشدّة ....فكلّما همّ أحد الأولاد بالخروج من البيت يتخطّف البرق نور عينيه ...ثمّ صفّر الريح صرصرا عاتيا ...عندما هدأت العاصفة خرج الجميع إلى فناء الدار. رأوْا رجليْ الجدّة قد غاصتا حدّ الركبتين في التربة التي تحوّلت إلى حجر أحمر . ورأوْا جسمها الذي غطّته الرمال قد تحجّر وصار أصلب من الحديد ...تحوّلت الجدّة إلى تمثال رخامي مغروس في قلب الأرض " (2)
التمثال روح العصر وهو تعبير وشهادة تاريخيّة عنه ، كما أنه لوحة فنيّة جامدة لكنّها دفقة بالحياة تحنو بلطف على أحفادها ، تلك هي عجائبية الجدّة وقد دفع فيها السارد الحياة لتتواصل مع نسلها " فمشيت وراءه وأنا أتخبّط في الضوء إلى أن صدمني تمثال الجدّة الواقف في وسط الساحة ، فذهبت أولا للسلام عليها . قبّلت يدها الحجريّة فأحسست بها حارّة تحت شفتيّ . ثم رأيتها تحط خفيفة على شعر رأسي وتمسح عليه بحنوّ ورقّة ." (3)
تشي تحوّلات التمثال من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة بطبيعة القوى الخارقة التي تصنع تلك التغيّرات ، وهي قوى لا مرئية مجهولة المصدر وفجئية دون مقدّمات مما يدل على طبيعة المؤثّرات الخفيّة الفاعلة في الأرض والبشر ، تلك المؤثرات الخفيّة هي سند السارد في تطوير الأحداث نحو الأغرب ثم الإبحار في عوالم تخييلية دون حدود تجعل من المعقول لا معقولا ومن اللا معقول معقولا وهو ضرب من الكتابة السّرديةالتي تكسر كل الحدود لتأصيل نمط جديد من الكتابة له مسار مخصوص من خلال تشكيل المادة الحكائيّة التي تخرج عن المألوف فتقدّم عالما عجيبا وغريبا تمّحي فيه الفواصل بين الحياة والموت وبين الإنسان والحيوان وتزول فيه الحدود بين الخيالي والواقعي وقد تعالقت نصوص المادة الحكائيّة من مصادر مختلفة ،. فكسر السارد الأزمنة وخلط بينها في النص الروائي ثم كيّفتها الذات الساردة لتحتجّ بها أو لتحتج عليها

العجيب الجنسي
تكشف أحداث الرواية عن علاقة جنسيّة محرّمة بين فرنسيّ كافر ـ حسب المفهوم الشعبي ـ وبين عائشة المسلمة في مجتمع بدائي رعوي أبوي سمته العقديّة التدين الشعبي الذي يرى في دين الآخر كفرا مثلما هو شأن الفرنسي لويس نصراني الديانة أو هو غير متديّن ومع ذلك اتخذت منه الجماعة المسلمة موقفا لأنه أحبّ عائشة المسلمة " لقد هتك هذا الرومي عرضنا يا شيخنا .. ..فاجأه الشباب وهو يتفخّذ عائشة " (4) دين الإسلام يمنع الكافر من وطء المسلمة " (5)
كانت الصدمة قويّة على الجماعة المسلمة ولن تنطفئ شرارتها إلاّ بدخول الفرنسي الكافر دين الإسلام وهو الحل الذي أفتى به فقيه الجماعة " فظهر البشر على وجه الإمام وتمتم : لقد وجدت الحل . سأهدي هذا الكافر إلى الدين الحق . فإن أجاب إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّد ا رسول الله حمى بدنه من الجَلْد في الدنيا ومن نار جهنّم يوم الحشر" (6) فتمّ حلّ الإشكال الديني بزعامة الفقيه بطريقة سحريّة توحي بعالم الشعوذة لما فيها من تأثير مغناطيسيّ على الفرنسي جعلته يتوهّم أنه في حضرة ساحر ماهر قادر على الاستحواذ على العقول وقيادة أهلها إلى ما يريد " والفرنسي مشدود لا يدري إن كان في حضرة شيخ أو إمام ساحر فكل ما في هذا الرجل يبعث على الاطمئنان ويملأ القلب فرحا وسعادة ولكن ما يأتي به من خوارق زعزع كيانه وهزّ روحه القلقة فقال وهو يمدّ يديه إلى الطعام المبسوط على المائدة : أنا لم أغتصب عائشة يا أبي . إنها تحبّني وأنا أعشقها . إنني أنوي خطبتها من قومها ولا أريد بها سوءا أبدا . ـ ولكن ديننا يمنع زواج المسلمة من الكافر ، فهل لك في الإسلام ياولدي ؟ ..." (7) الصدمة الحضاريّة التي أحدثها لقاء المحرّم جنسا بين كافر ومسلمة يدلّ على أن الصدام بين الوافد الأجنبي بحضارته وبين الأهالي المحلّيين بعقائدهم الموروثة مرجعيّته بالدرجة الأولى دينيّة ترتبط في ذهن الفرنسي بالحل السحري متمثّلا في شخص الإمام ـ فقيه الجماعة المسلمة ـ تنصهر فيه وبأوامره تقتدي دون تفكير ، فهو فقيه يمثّل سلطة روحيّة قويّة على أتباعه رغم أنه فقيه متفقّه قليل العلم ، زهيد البضاعة ، لا دراية له ولا رشاد ، فهو في مغارته ولو كان يعيش بين الناس فساهم الفقيه بعقليّته تلك بوعي أو بغير وعي في تجهيل مجتمعه أو تهميشه أو انهياره ، وتنطبق على الفقيه من خلال أفعاله وأقواله في حضرة الفرنسي هيأة الساحر أكثر من هيأة الفقيه وإن ارتدى القبّعة أو العمامة وأطال لحيته واكتسى جبة أو برنسا أو ثوبا طويلا حجة
على إسلامه فهو في الواقع مشعوذ و إن أفتى برؤية الهلال وهو لا يرى القمر ولو كان بدرا ساطعا . ظهور الفرنسي أمام الفقيه الذي زعم تحويله من الكفر إلى الإسلام لم يكن تحولا مقنعا مبنيا على حجج منطقية بل كان تحولا مبنيا على السحر لما قام به الفقيه من أفعال وأقوال سحريّة لعبت دور المخدّر الذهني للسيطرة على الفرنسي وشلّ إرادة التفكير فيه فإذا هو واقع في جاذبيّة الفقيه الروحية بإتقانه فنون الآداء السحرية " وارتفع صوت الشيخ وهو يقرأ أوراده . وتلألأت الأنوار في قلب الفرنسي فنام على الرمل كما ينام الرضيع في حضن أمه الدافئ " (8) رافقت تحوّل الفرنسي للإسلام طقوس و مؤثـّرات قام بها الفقيه ساعدت على قذف نور الإيمان في صدر الفرنسي ومثل هذا الإيمان عجيب والفقيه فاعله بارع في تثبيت دعاويه الروحيّة بين أتباعه المحلّيين وفي الآخرالوافد وبين التابع والوافد تتجلّى قدرة الفقيه بحيله وتطويع معارفه الدينيّة لخدمة شخصه حتى يبدو عين الجماعة التي بها ترى لذلك برع في السيطرة على الجميع من خلال أقاويله الطلسميّة وخفة اليد لإيهام الأخر بقدرته العحائبية
على الإتيان بالخوارق والمعجزات فيذهل الأتباع وكذلك الفرنسي الذي أعجب بقدرات الفقيه وهو إعجاب باكتشاف حضارة روحيّة شرقيّة جديدة يعايشها على عيّن المكان بل هو محور تجربة الإمام "وانتهى الشيخ وضيفه من الطعام فصفّق مرّة أخرى فرفعت المائدة من أمامهما وارتفعت في الجوّ فتابع الفرنسي طيرانها بعينيه مذهولا إلى أن صارت أصغر من قطعة نقود فضّيّة ثم غابت عن الأنظار " (9)
تصرّفات الإمام لا تستند إطلاقا إلى روح الإسلام الحقيقي بل هي تصرّفات لها صلة بالسحر والقوى الخفيّة التي تخدم الإنس حسب المرويّات الشعبيّة ومع ذلك تقنّع الإمام بطقوس الإسلام ، لكنها في الواقع هي طقوس الإسلام الصوفي الطرقي لما فيه من عجائبيّة تطوّع المستحيل إلى الممكن فيتبع الناس الإمام لأنه أتى حجّة لا تقبل القدح في ذهن العوام فيقعون تحت سيطرته الروحيّة وينقادون إليه انقيادا أعمى .

الأرواح والأشباح العجيبة :
يرتبط ظهور الأرواح والأشباح بالأماكن الخالية كالكهوف والمغاور والأودية ، وعموما بالأماكن الموحشة المقفرة التي لا يرتادها الإنس ، فيرى سالكها أشباحا مثيرة للرعب أويسمع أصواتا مخيفة ، لا سيّما أشباح وأصوات الأموات الذين لقوا حتفهم في ظروف غير طبيعيّة مثلما هو شأن ضحايا أنفاق جبل الوصيّف من عمال وكذلك حيوانات العمل كالبغال والحمير بسبب عدم الحماية وغياب وسائل الإنقاذ وهو إهمال تعمدته شركة الفسفاط لأن العمال تونسيّون " بعد وصولي بأربعة أيام إلى المتلوي انتدبتني شركة الفسفاط عامل أنفاق . أيامها كانت الشركة تمرّ بأزمة خانقة إذ قل الإقبال على العمل داخل الأنفاق بعد حدوث انهيارات كبيرة في دواميس هضبة جبل الوصيّف ... فإن العمّال الذين بقوا خارج الأنفاق يؤكدون أن عدد المفقودين فاق الخمسمائة." (10)
أصبح المكان مخيفا وموضوع حكايات وأعاجيب يختلقها الراوي ويشكّلها حسب حالاته النفسيّة ويضفي عليها كل راو قصصا مثيرة يتقبلها السامع فيصدّقها لما يمثّله النفق من ألغاز ومجهول .
تسكن تلك الحكايات باطن العمال وهم ينبشون الأنفاق فتتصوّر لهم أشباح وأصوات أموات جبل الوصيّف وتلك التصوّرات تجسيم لتلك الحكايات تتجلّى في هيئة صور وأصوات بشر تطلب النجدة أثناء انهيار النفق " وأشرعنا الفؤوس .وعوّلنا على الله لما تناهى إلى أسماعنا صوت استغاثة يأتي من بعيد . كانت أصوات كثيرة تتصايح وتطلب النجدة . إلينا يارحمة الرب ... إلينا يا غضب الأجداد ... إلينا فإننا نموت .. إلينا يا أولاد الحلال ... إلينا يا أولاد الكلب ... إلينا يا أولاد الزنى ... إلينا فإننا نختنق " (11) هكذا خُيّل إلى العمال الجدد سماع أصوات العمال الأموات ، وهو تخيّل مبني على الوهم ، إذ كل عامل داخل النفق يحمل في ذهنه مسبّقا هاجس أصوات الأموات مما يجعله يتوهّم على أنه حقيقة ما فكّر فيه ، وهي حالة نفسيّة تتلبّس بالخائف من المجهول " وتلك الأصوات التي استمعنا إليها هي استغاثات أولئك العملة وقد ظلّت هائمة تطوف في أنفاق الجبل باحثة لها عن مخرج" (12)
يطل السارد على فاجعة الموت الجماعي يتساوى فيها الإنسان والحيوان في أنفاق جبل الوصيّف من خلال بقايا مهشّمة لرفات الآدميّ ورفات الحيوانيّ مما يجعل عمليّة الفرز بين ماهو إنساني وبين ماهوحيواني عملية مستحيلة ، تغطي عظام الموتى مساحة هائلة من الأنفاق المظلمة الرطبة ممزوجة بروائح متنوّعة تخنق الأنفاس ، تلك المساحة المقبرة هي بمثابة ساحة قتال اختلّت فيها موازين القوى بين قوّة الجبل وبين إرادة حياة العمّال فقاوموا سقوط الأنفاق بالزّند والفأس والهامة حتى النهاية فكان موت بعض العمّال واقفا رمزا للمقاومة الجماعيّة العنيدة لسلطة الجبل " هالني ما رأيت كتل من العظام الآدميّة والحيوانيّة مكدّسة فوق بعضها رؤوس بغال وأقحاف رؤوس بشر . وفكوك سفليّة وعظام لأذرع وأرجل و.... في الجهة الأخرى من المغارة ، رأيت هيكلا عظميّا قائما على رجليه كانت بقايا ثيابه قد تكدّست تحته وفانوسه مرمي على جنبه ، ورأسه مائل قليلا إلى الوراء كالمتّكئ على الجدار " (13)
تلاحم الهياكل العظميّة بالمكان والزمان وهي متداخلة بعضها بالبعض كتداخل الحكايات الواحدة تلو الأخرى يؤلّف بينها السارد باعتباره المحور فيفجّر أمكنة الأنفاق ليبنيها من جديد ويملأها بموجوداتها وناسها مستقدما إيّاها من الماضي فيبعث في المكان الحركة والحيويّة ليلتقي الماضي والحاضر بالمستقبل في الرواية ، وهكذا لا يكون الدور المسند للهياكل العظميّة المهشّمة والمتناثرة داخل النفق للتذكيرفقط بالماضي ، وإنما لتكون شهادة على أن الذي شاهده السارد كان موجودا حقّا ينبض بالحياة قبل انهيار الجبل وبذلك مشهد العظام لا يتحدّث عن الذي ما عاد موجودا وإنما عمّا كان حيّا فقط ، الوعي لا يتعامل مع المشهد الحالي عن طريق الشّفقة لمصير العمّال لكنه يؤكّد يقينا بهول الفاجعة من خلال تلازم المكان والزمان والشخوص في العمل الإبداعي ، فما تكاد النظرات تقع على مشهد العظام الجامدة حتى تنفجر الشخصيّات عبر الأزمنة المتداخلة ومن قبل الأماكن الغائبة لتنقل المُشاهد إلى واقع آخر يشدّه إليه بما يثير فيه من ذكريات بعيدة حاولت السنون دفعه لنسيانها فإذا هي تنفجر فيه من جديد فيحياها وكأنها الآن تحدث أمامه وهكذا تتلاحم الشخوص بالمكان والزمان لتبعث الحركة والحياة وتستعيد جانبا من ماضي جبل الوصيّف رافدها التلاحم الثلاثي ليشكّل وثيقة إدانة قويّة على هول الفاجعة التي كانت اكتشافا جديدا لعالم الموت الجماعي " لقد اكتشفنا مقبرة جبل الوصيّف .هنا هلك أكثر من خمسمائة عامل في العام الأول من هذا القرن "(14)
حكاية السارد الشّاهد / المؤرخ /الموثّق/مع المقبرة المنسيّة هي حكاية عجيبة واقعيّة أنشأها السارد من خلال أفعاله وأقواله ليدلّل على هيبة الموت وعبثيّة الحياة انطلاقا من الفلسفة الوجوديّة في ثنائيّة الوجود والعدم ، التي بشّرت بها الفلسفة الوجوديّة ، فثمة جيل من الأدباء العرب تربى على فكرة الوجوديّة ونهل من ثقافة المذهب الوجودي من خلال تراثه الروائي والمسرحي ، خاصة منه إرث الفيلسوف الفرنسي الوجودي سارتر Sartre ، وهو ما نلمس تأثيره الفاعل في رواية وراء السراب قليلا من خلال التزام الرواية مبدأ الحرية والفرديّة ثم اختراق السائد المجتمعي والأدبي والدّيني والسياسي وهو مذهب الالتزام الذي نادى به سارتر ومجايلوه وغاية رواية وراء السراب قليلا ابتداع شكل سردي يستند إلى إنجازات الأدب الغربي الحديث في توظيفه للإرث الوجودي ، وهو ما تمثّل في الرواية من نزوع إلى العدميّة وتصوير لشروخ الذات وتشظّيها في أنفاق المناجم المظلمة " كانت عظام الموتى مكدّسة في كل مكان على مسافة تزيد على طول كيلو مترين . وكانت رؤوس البغال تبدو كبيرة جدا بعد أن انحسر عنها اللحم والجلد . فيثيرني منظرها وسط عظام الآدميين ويركب رأسي الجنون فأعبث برؤوس البغال . أحوّلها من مكانها وأضعها على هياكل عظام بشريّة . وأقف أتأمل المنظر الغريب . آدميّ برأس بغل . وأحدّث نفسي قائلا : أولسنا حقيقة بشرا برؤوس بغال . لو لم نكن على هذه الشاكلة لما قبلنا العمل في هذا الجحيم لنتقاضى بعض الفرنكات التي لا تكاد تفي بالحاجة ثم نبذ ّرها في الحانات أو في المواخير . وبدأت أدور حول نفسي وأصيح : أنا آدمي برأس بغل " ( 15)
لذلك شارك السارد في عمليّة إعادة الخلق الرمزي للكائنات البشريّة والحيوانيّة ليجسد عبثيّة الحياة في المناجم فقلب المفاهيم فإذا الهياكل العظميّة البشريّة تعلوها رؤوس بغال ، وهو خلق جينيّ سمته المسخ كما هو في الحكايات القديمة المخيفة ، فالمزج بين ما هو حيواني وإنساني هو بمثابة تطعيم في بعض الأشجار المثمرة فتأتي ثمارها مزجا بين هذه الشجرة وتلك الشجرة ، لكن عملية تركيب الهياكل العظميّة الحيوانيّة على هياكل عظميّة إنسانيّة لن تثمر فكرا خصبا بل تثمر فكرا عقيما لأن رأس البغل المستعار لهيكل الإنسان من طبيعته عقيم ، وهي فطنة السارد في توظيف الموروث الجيني الحيواني العقيم للطبيعة البشريّة وهو توظيف علمي غايته كشف عقم الفكر العربي بداية القرن العشرين ، عصر تفتّح الفكر الأوروبي ، العقم في الفكر العربي قسري فرضه تحوّل عجيب خارج عن إرادة العرب من جهة " كانوا قد تحوّلوا إلى أوادم برؤوس بغال " (16) ومن جهة أخرى تحوّل طبيعي عجيب لكنه مخالف لطبيعة الخلق البشري " وقام . رأيت رأس بغل ينبت فوق كتفيه " (17) العقم الفكري فرضته ظروف ضاغطة كبّلت ذلك الفكر المتوهّج سابقا فتحوّل إلى فكر عقيم جامد أشار السارد إليه من خلال عمليّة تحوّل الآدمي إلى حيوان من جنس البغل تأكيدا على عقم الفكر العربي
حلول السارد بمكان الفناء الجماعي ومعاينته له هو بمثابة توثيق ميدانيّ وشهادة تاريخيّة محايدة وصادقة لما حدث في أنفاق جبل الوصيّف . يتأكد صدق الشهادة التاريخيّة بكونها جاءت متـأخرة بقرابة ما يزيد عن مُضي قرن من الزمن على الحادثة الفاجعة في حين يستدعي التوثيق التاريخي العلمي فوات نصف قرن من الزمن حتى تكون شهادة المؤرّخ موضوعية بمنآى عن الضغوطات الخارجية أو التأثيرات الذاتيّة التي تسم التوثيق التاريخي الفوري ولا يعني هذا أن السارد مؤرخ لكنه جمع في روايته التاريخ الحقيقي وأشار إليه في حواشي الرواية بالسنوات والشهور أو أحال عليه من خلال ذكره لأسماء أو أماكن يمكن تحديد هويّتها وتاريخها . مزج السارد ذلك التاريخ بحكايات الموروث الشعبي التونسي العــــــجيب وأضفى عليه ثقافته العربيّة القديــــمة مــــــــستقدمـــــا حـــكايات الـــجن " ومــــــات مرزاق القبائلــــــــي بــــــعــــــــــد أن التقيته بستة
شهور .سلبه شق أمواله ثم قتله قتلة شنيعة أكل نصفه وترك لنا النصف الآخر ... وأزعجت الانفجارات الشق وفريقه فاختبؤوا في زوايا الأنفاق متربّصين بالرجال بحثوا عن الغافل فأكلوه وعن الشاب فشربوا دمه وتفرّقوا في الأمكنة البعيدة في أعماق الجبل يسلبون وينهبون . فتكدّست أنصاف الجثث في كل مكان وملأ الهلع القلوب الواجفة . ظلّ هذا القتل مريبا . لم يجد له عملة المنجم تفسيرا إلى أن اكتشف عزيز السلطاني شقـّا. ذهب ليتفقّد العامل الجديد فرأى الشقّ باركا فوق صدره يمص الدم من عرق ، فصده في عنقه والرجل يخبط برجليه ويخور خوار الثيران القتيلة (18)
يرتبط ظهور الشقّ حسب الحكايات التراثيّة القديمة بوحدة المسافر في الخلاء فيهلكه ضربا أوفزعا ويتصوّره الخيال على هيئة " من الجن صورة الواحد منهم على نصف صورة إنسان . له نصف رأس وعين واحدة وكذلك جميع أعضائه . وهو يقفز برجله قفزا شديدا ويعدو عدوا منكرا " (19)
كذلك حضر الشقّ في رواية وراء السراب قليلا في خلاء الدواميس وظلمتها ، ويتميّز بعدوانيّة وسادية قوامها امتصاص دم الأحياء حتى الموت وما تمثّله عملية مص الدماء من تعذيب وتمثيل بالجثة ، وهي سلب أموال العمال التونسيين داخل النفق وخارجه . توظيف حكاية الشق الخيالية القديمة تراثيا تحيل على حكاية الشق الحديث فإذا هو حقيقي يتجلّى في المؤسسة الاستعماريّة العسكريّة وشركات الفسفاط يتسرّب الشق ّ هنا وهناك بألوان وأشكال مختلفة فيسكن باطن الشخوص ويتلبّس بهم في اليقظة والنوم لما له من سلطة ماديّة ومعنويّة تهيمن على المكان والزمان وهو ما يفرض على الشخوص الحذر الدائم " تعالوا ورائي ، لكن حاذروا حتى لا نكون لقمة سائغة للشق وأصحابه " (20)
رغم جبروت الشقّ وقوّته في بعده الرمزي الفرنسي ينقلب عليه الشق الضعيف من العمال التونسيين ويصبح شقّا فعليا في معناه الرمزي التراثي ويثأر من مغتصبه شارب دمه ، فإذا الرواية صراع الشّقوق مع الشّقوق التي يتربّص بعضها بالبعض الآخر للوثب عليه ، في صراع الأضداد للأضداد مع تفاوت القوى بين الشق الضعيف والشق القوي مخاتلة ومداورة وغرّة تبشّر بانبثاق الوعي العمّالي التونسي تمهيدا لثورة شعبيّة ضدّ الاستعمار الفرنسي عمادها شق تونسي في دلالته الرمزيّة التراثيّة مع مفارقة بين الشقّ التراثي القديم والشقّ الرمزي التونسي لأن الشق التراثي له الغلبة والنصر على ضحاياه الأبرياء أما الشقّ التونسي نهايته الموت وهو يواجه شقا فرنسيّا بآلات أقوى منه غير أن السارد لا يعدم الشق التونسي بل يجعله خالدا بعد موته بإدراجه في متحف باردو مضرّجا بدماء الشهداء وبذلك ينهض ذلك الشقّ بوظيفة الشاهد التاريخي الحي على فظاعة المعتدي الفرنسي . وكان السارد قد حدّد هويّة الشق الرمزي التونسي فاسمه" ابراهيم زلميته " Allumette (21) وهي كلمة معرّبة عن الفرنسيّة وتعني عود الثقاب كنّى بها السارد إبراهيم لتنهض بالوظيفة الإيديولوجيّة وإبراهيم كائن حقيقيّ له أوراق مدنيّة ثبوتيّة وهو مدرج في قائمات عمّال المناجم ويضطلع بمهمّة النور وهو يشعل أعواد الثقاب في الظلام إشارة إلى الثورة انطلاقا من الدواميس المظلمة .
غير أن الاستعمار أطفأ كلّ نور تحرّري من خلال قتله إبراهيم زلميته ْ الرمز " ولم يحضر إبراهيم زلميته ذلك الاجتماع فكثرت الأسئلة حول غيبته لقد اختفى في الطريق بين داري ودار أولاد مطرود . ثم ظهر بعد ثلاثة أشهر في صورة شقّ شقٌ شرس يقفز على رجل واحدة ويشعل أعواد ثقاب في كل مكان فأهلك خلقا كثيرا من أعوان فرنسا . وظلّ يقفز ويشعل النيران إلى أن قتلته كتيبة من جنود المستعمرات . خرّقوا نصف الجسد المندفع في وجوههم بآلاف الطلقات . ولمّا اختفى صوت الرصاص وضاعت رائحة البارود داخل دواميس الجبل اكتشفوا لدهشتهم نصف رجل : رجل واحدة ويد واحدة وعين واحدة وقلب يملأ الصدر . وانتبه رجال الإدارة إلى الوهج الذي لفح وجوه العمال بالسعادة الغامرة فجروا وراءه يأسرونه ويعوّضونه بالظلام " (22) تلك هي صورة السلطات الاستعماريّة الفرنسيّة وهي تلاحق وتطارد وتختطف وتنفي وتسجن وتغتال الوطنيين التونسيين الأحرار الذين يهدّدون مصالحها العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة سالكة في ذلك أدهى وأخطر السبل العجيبة لتحقيق أهدافها .

عجائب الأولياء :
وظّف السارد عجائب الأولياء والمشعوذين في رواية وراء السراب قليلا ليصنع المفارقة بين الخيال والواقع في إشارة إلى الواقع الغيبي السائد في البلاد التونسيّة بداية القرن العشرين من خلال الحضور المكثّف للزوايا وطرقها الصّوفيّة وشيوخها الذين وظّفهم الاستعمار حسب حاجته لتهدئة الأتباع عندما أضرب العمّال في المناجم أربعين يوما بتحريض من النقابي الإيطالي زاري عندها التجأ مدير شركة الفسفاط إلى التوسط بأولئك الشيوخ المعتمدين في شركة فسفاط قفصة ـ صفاقس للتأثير على العمال كي يفكّوا الإضراب . التوسط بعالم الشيوخ الغيبي يعكس ذهنيّة المجتمع التونسي آنذاك كما يبرز فطنة المستعمر إلى نقاط الضعف الروحيّة والنفسيّة في ذلك المجتمع ثم قدرة المستعمر على الاستفادة من تلك الثغرات التي حضرت في الرواية على شكل احتفالات دينية شعبويّة أقوالا وأفعالا وهيئة ولباسا تتوفّر فيها أركان احتفالات وطقوس المسرح الديني التّراثي لما فيه من متعة الفرجة وما تثيره تلك الاحتفالات الدينيّة من غرائبيّة تسحر المتفرّج الأجنبي " امتطى المدير الحصان وسار الموكب إلى الزاوية القادريّة تحف به وجوه القوم من جميع الجهات . وجد المدير أمام الزاوية خلقا كثيرا وأعلاما ترفرف وبنادير تقرع ورجالا يقرؤون البردة والمنفرجة والحواة من مريدي سيدي ابن عيسى يلتهمون العقارب حيّة . ويقبّلون الأفاعي . ويبقرون بطونهم بالسكاكين والسيوف دون أن يحدث لهم ذلك ألما . ويحرقون وجوههم بالنيران . ويتمرّغون على المسامير . ويمشون على الجمر حفاة . فرجة قالها المدير . ليتها كانت بمناسبة عيد من أعياد فرنسا المجيدة " (23)
فسّر مدير شركة الفسفاط تلك الاحتفالات فرحا بقدومه على أنها احتفال لفرنسا يقدّمه المغلوب للغالب والهامش للمركزوكان يرى في ذلك فخرا لأمجاد فرنسا وهي تذلّ شعوبا ضعيفة .
سلطة الغيب متمثّلة في الشيوخ متحالفة مع سلطة الواقع الاقتصادي والسّياسي والعسكري والثّقافي متمثلة في شخص مدير شركة الفسفاط يلتقيان في السيطرة الروحيّة والمادّية بأساليب متلونة على المجتمع التونسي ، السلطتان وجهان لعملة واحدة ، يلتقيان في تغييب الوعي واستدراج الآخر البسيط للدوران في فلك إحدى السلطتين لما تمثّله كل منهما من قدرة على التأثيرالروحي والمادي. يكشف السارد عن صورة السلطة الروحيّة وهي صورة آدميّة في خلقتها ولها وجه مكر الحيوان ابن آوى في خلقها " هؤلاء الشيوخ المعمّمين ذوي الوجوه الشّبيهة بوجه ابن آوى " (24)
يحضر الموروث الشعبي المتّصل بالغيب والرؤية والأحلام والمكاشفة في رواية وراء السراب قليلا من خلال المخلوقات العجيبة التي لا يدركها البصر بل يسمع صوتها إنذارا أو بشارة فتطلق عليه المخيّلة الشعبيّة" الهاتف أو الرئيّ ." (25)
وفي العادة تسمع تلك الأصوات أثناء النوم ، ويذهب علماء النفس أنها تأتي لتحقيق رغبة مكبوتة عجز الإنسان عن تحقيقها في اليقظة .

عجائب القيد والحريّة :
تتجلى ملحمة القيد والحريّة في رواية وراء السراب قليلا من خلال فكّ قيد العبيد التونسيين وتمكينهم من حرّياتهم تامة " قال عمي : ناديتك يا شيخ العبيد لأعلمك بفرمان الباي الذي يطلب فيه من الأسياد تحرير عبيدهم ويمنع فيه ـ تحت طائلة الحبس ـ الرقّ وتمليك النفس البشريّة لغير الله " (26) فرمان الباي تحوّل عجيب في النظم الاجتماعيّة التونسيّة بداية القرن العشرين وهو تحوّل فرضته علاقات الدول الأوربيّة مع نظام البايات في تونس ومرجعيّته السّلطة المركزيّة العثمانيّة بتركيا وهو نظام ديني يستمدّ سلطاته من الشريعة الإسلاميّة ومن العجب أن لا يقبل العبيد هذا الفرمان التحرّري فيرفضون الانعتاق ويتوقون إلى العبوديّة " لكن العبيد لم يبرحوا المكان . وعادوا إلى اللغط والهياج وصاح شيخهم : قل لسيّدك أن لا حاجة لنا بحريّته واطلب منه أن يسمح لنا بالعودة إلى أسيادنا " (27) العبودية مطلب السود الجماعي لأنهم لم يستوعبوا مفهوم الحرّية الجديد فلم يألفوه من قبل واعتبروه من أعاجيب الدهر ، فهم نشؤوا على العبوديّة والرضوخ لسلطة الأسياد البيض أما القبول بالحرّية هو خروج عن العادة والمألوف والسّائد الاجتماعي في نظر العبيد فكان الرفض الجماعي لهذا المفهوم الجديد العجيب الذي يساوي بين العبد وسيّده " وانفلتت عجوز من ركن قصيّ من أركان السقيفة ، جرت عنيفة وارتمت في حجر عمّي وراحت تقبّل يديه وتبكي ثم أخرجت من صدرها ثديها وقالت : أحلّفك بالحليب الذي رضعته من هذا الثدي أن لا ترمي بنا إلى هذه الحرّية التي لا نعرف ماذا نفعل بها " (28) رفض الحريّة جهل بمعانيها ، لذلك خشي العبيد تلك المعاني وتوجّسوا خيفة منها وربما اعتقدوا أن الحرّيّة الموهوبة لهم هي نوع جديد من العبوديّة وقد تكون أفظع من عبوديّتهم الحاليّة وعبوديّة أجيالهم السود ، فضلا عن أن التعوّد على حياة العبوديّة يورث المذلّة والمهانة ، فلا تستقيم حياة العبد إلا بوجوده في مستنقع العبوديّة إرث أجداده العريق .

عجائب الفسفاط :
مثّل اكتشاف مخزونات الفسفاط*بالجنوب التونسي حدثا عجيبا أثار فضول ودهشة سكّان تلك المناطق فكان الجنوب قطبا جاذبا للبدو الرّحل ولأجانب بهويّات مختلفة " في هذا الخلاء زرع الفرنسيّون مدينة تعج بالحياة . فما كان بالأمس القريب قفرا تحوّل بلمسة ساحر إلى برج بابل يرطن فيه الخلق بلغات شرقيّة وغربيّة : فرنسيةّ وإيطالية ، ومالطيّة وإسبانيّة وروسيّة وبربريّة وعربيّة بلهجاتها المختلفة " (29) ذلك الخليط من الألسن يحمل معه ثقافته وموروثه فتتلاقح تلك الثقافات فيما بينها لتنشئ ثقافة جديدة تستجيب لطبيعة الحياة المنجميّة فتحصل الفائدة الفكريّة وتساهم في تطوّر الحياة بفضل اختلاف الأمم الوافدة إلى الجنوب التونسي ، فإذا تلك البقعة من الأرض هي بابل العصر بأعاجيبها العمرانيّة والفننّية والفكريّة والاقتصادية وربما فاقت أعاجيب بابل القديمة بأبراجها المشيّدة في بلاد الرافدين في الشرق القديم .

عجائب السّكك الحديديّة:
وفّرت الفسفاط مواطن شغل قارة وفرضت حياة مدنيّة جديدة لها شروطها وقوانينها من تغيير في نمط العيش وسلوك وعلاقات يفرضها الواقع الجديد الذي ضبطه الأجانب ليتطابق مع نظمهم في بلدانهم الأصليّة ، هذا الواقع الجديد جلب معه تقنية حديثة لم يألفها البدو من قبل واعتبروها من العجائب المرتبطة بالجن والوحوش المفترسة ومن ذلك نظرتهم إلى القطار والسّكك الحديديّة في أول مشاهدة لهم لتلك الآلات " في الصباح ، سمعنا قصفا كقصف الرعود ، ورأينا عمودا من الدخان يصعد نحو السماء ، يظهر ثم يغيب فجأة وراء الجبل . جرت القرية برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها وكلابها وحميرها نحو مصدر الصوت . ولم يبق وراء الأسوار سوى نساء قصرنا ورجل يتنمّر على ظهر جواد اشتاقت النساء للفرجة على أعجوبة الكفار ولكنهن كن خائفات من بطش أعمامي فأوصينني بأن أشاهد لهن هذا الوحش الذي يحمل في بطنه الرجال والدّواب ليطوي بهم المسافات البعيدة ولا يتعب .... واقترب الوحش الذي كان يدب على خطّين من الحديد..... ثم توقف فجأة أمامي ونفث دخانا أسود وهمدت حركته .... التفت يمينا وشمالا فلم أجد أحدا في الساحة . تفرّق الخلق المذعور في كل الاتجاهات . فرّ الناس من أمام وحش الحديد وامتلأ المكان بالرهبة " (30)
في بادئ الأمر زرعت خطوط السكك الحديدية والقطار الفزع والحيرة بين السكان البدو فصوّر الشعر الشعبي(31) ذلك الحضور الحديدي وما يثير من استغراب وبحث عن الخلاص منه لأن القطار في تصوّر البدو من المخلوقات العجيبة في حركته وسكونه وهو تصوّر يعكس صدمة الحضارة الأوربيّة ووقعها في نفوس البدو كما يكشف عن الخوف الساكن في باطن مجتمع ما يزال يعيش الخرافة والغيب " وواصلنا المسير حتى وصلنا حي المحطّة فرأينا القاطرات جاثمة فوق سكك الحديد كأنها وحوش أسطوريّة خرجت من باطن الأرض . تنفث دخانا أسود وتطلق بين الحين والآخر زعيقا وخوارا "(32) يألف البدو القطار والسكك الحديدية تدريجيا فيتمتّعون بخدماتها في نقل الأفراد والأمتعة بسرعة فيرتبطون بعجلة التطور والحياة المدنيّة رغم أن تلك الآلات لم تأت بها فرنسا لخدمة غرض إنساني في تونس قصد تحضير السكان الاصليين الذين أطلقت عليهم كلمة " انديجان Indigène" (33) تحقيرا وامتهانا لهم ، بل جاءت بتلك الآلات لنقل مخزون الفسفاط وخيرات البلاد إلى ماوراء البحار عبر البواخر" لكن العمال ... تحدّثوا عن عرقهم الذي شربه التراب وعن جهدهم الذي رحّلته الشركة في عربات تذهب إلى ميناء صفاقس ملأى بالتعب والإرهاق وتعود محمّلة بالخيرات السّبعة التي تعرض في فيترينات المقتصديّة : موز وأنا ناس وتفاح وعنب وفراوله وجوز وإجاص ... يشاهد العمال وأطفالهم هذه الخيرات لكنّهم لا يقدرون على لمسها فيكتفون بالنظر إليها من بعيد والحديث معها من وراء الزجاج ووصفها للأهل والأحباب وتخمين طعمها والحلم بها في ليالي الشتاء الطويلة " (34) ساهمت السّكك الحديدية في تعمير الجنوب التونسي لكنّها لعبت دور اللص العلني الماهر الذي ينقل الخيرات الباطنيّة من التراب الأسود في سلسلة طويلة من العربات في رحلات متلاحقة لا تعرف التّوقف فيما يظن الناس أن التراب الأسود هو ذهب " وعدنا نلحّ في السؤال : وهل هذا الفسفاط نوع من الذهب ؟ فابتسم أول مرة بعد عبوسه الطّويل . وقال وهو يتنهّد : هو أخ غير شقيق للذهب ." (35) الذهب هو المعدن الأصفر الوحيد المعروف والمتداول بينهم وبه يقاس ثراء الأفراد ، الذهب من الكنوز المدفونة في باطن الأرض التي يبحث عنها الأثريّون والمغامرون وارتبطت قصص العثور على الذهب بحكايات الجن والعفاريت المعرقلة أو المساعدة للعثور عليه ، وقد يقدّم المغامر حياته ثمنا لذلك المعدن .

عجائب المبغى :
التطور التقني العجيب صحبه أيضا تطوّر اجتماعي عجيب تمثّل في جلب الفرنسيين لبغايا من الجزائر لعموم شركة فسفاط قفصة للتنفيس جنسيّا عن العمال ، تلك البغايا أثارت نعرات عرقيّة ودينيّة بين مختلف الأجناس وبين الوافدين من بربر الجزائر بعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم الاجتماعيّة وهي نظم مرتبطة بالشرف من جهة ومن جهة أخرى تهتكه علنا في المبغى تحت رعاية وحراسة رجاله الذين يدّعون الشرف والعفّة " قلت له مازحا : ولم ذلك يا براقش ؟ فقال : منعني جماعة من رجال القبائل الجزائريين من الوصول إلى حسيبة وهي كما تعرف ، أغلى عندي من روحي . قلت : ولماذا يمنعونها عنك وهي تعمل في الماخور وأنت تدفع مافيه الكفاية؟ قال : رجال القبائل قرّروا ذلك وانتهى الأمر . قلت وماذا قرّروا ؟ قال : سيمنعون بناتهم عن بقيّة الرجال في هذا المنجم بدعوى أنهن جزائرييات وأن شركة الفسفاط جاءت بهن من جبال جرجرة للترفيه عن العمّال الجزائريين فقط" . (36)
أدى ذلك الخلاف الجنسي إلى اقتتال دموي عنيف ذهب ضحيّته عدد هائل من رجال القبائل الجزائريين والطرابلسيّة الليبيين ومثّل كلا الفريقين بجثث القتلى من الطرف الآخر وهو تمثيل عجائبي تمّحي منه الإنسانيّة "أبعدوا الأحياء عن الأموات وشحذوا السّكاكين إلى أن صارت تبرق ثم بدؤوا في جدع أنوف الأسرى وفي قص آذانهم . ومرّوا إلى الأموات ففعلوا بهم ما فعلوه بالأحياء الجرحى . وطلبوا خيطا ومخيطا فشكّلوا بالآذان والأنوف المقطوعة عقدا زيّنوا به عنق حمار " (37) صورة التمثيل بالأحياء والجثث تعكس ذهنيّة الحياة البدائيّة المتوحّشة وتكشف عن طبيعة العلاقات بين عمال المناجم فهي قائمة على التناحر الدموي لأتفه الأسباب فتلعب العصبية العرقيّة أوالدينية أو الجهويّة دورا هاما في تحديد مصير الأفراد ، ويظل العنف في أشكاله المختلفة سيد الموقف تحدّده موازين القوى بين الأطراف المتنازعة في حين يذكي الاستعمار نار الفتنة مباشرة أو عبر أعوانة للسيطرة على الرعاع والغوغاء وقد ألهتهم مشاغلهم الخاصّة عن مواجهته

الخاتمة :
يهدف حضور العجائبي في رواية وراء السراب ... قليلا إلى حثّ المروي له على إعادة قراءة الواقع التونسي بداية القرن العشرين لمعرفة الحالة الفكريّة السائدة آنذاك ، فإذا الغيب سيد الموقف ،وبه يفسّر الأفراد كل عجيب يطرأ عليه ، وهي في اعتقادهم طوارئ من فعل الجن أو الكائنات اللامرئيّة التي تتحكم في الأحداث وتوجّهها حسب رغبتها . العجائبي في الرواية ليس خيالا مجنّحا أو مسخا يثير التقزز والخوف ، لكنّه مسخ يقدح في ذهن المروي له شرارة التفكير النّقدي في مرحلة انتقاليّة عرفتها البلاد التونسيّة من مرحلة البداوة إلى مرحلة الحضارة بعد اكتشاف الفسفاط بالجنوب التونسي وما رافق تلك المرحلة من تصوّرات عجيبة خلخلت سواكن النفوس المطمئنّة إلى أقوال الفقيه أو العرّاف .
يلامس العجائبي في الرواية الخلقة والأخلاق وظاهر وباطن الشخوص لاستجلاء الحقائق عبر الوصف المكثّف ليكون العجيب حيّا ناطقا يشي بأن حالة غير طبيعيّة قد حدثت أوهي في طور الحدوث ، وقد جاء العجائبي في الرواية وفق كتابة سرديّة تكسر الحدود بين الأجناس الأدبيّة كما تكسر الزمن و تخلطه بين الماضي والحاضر والمستقبل و هذا الفن الروائي من خصائص الرواية الحديثة التي دأب إبراهيم الدرغوثي على الكتابة في أنماطها المختلفة.

الهوامش :
1ـ العجائبيّة ، انظر ابن منظور ، لسان العرب ، مادة عجب انظر مثلا : شيء معجب إذا كان حسنا جدا ، العُجْب الذي يحب محادثة النساء ولا يأتي الريبة [...] العُجْب والعَجْب والعجْب الذي يعجبه القعود مع النساء ، العُجْب الزّهو [...] ورجل مُعجَب أو مُعجب مزهو بما يكون منه حسنا أو قبيحا [ ..] المُعْجَب الإنسان المعجَب بنفسه .
التّعَجُّب ، عند أهل العربية من أقسام الخبر على الأصح . قال ابن فارس : هو تفضيل الشيء على أضرابه . وقال ابن الصائغ استعظام صفة خرج بها المتعجّب منه عن نظائره . وقال الزمخشري : معنى التعجّب تعظيم الأمر في قلوب السّامعين لأن التّعجّب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله . وقال الرماني : المطلوب في التعجب الإبهام لأن من شأن الناس أن يتعجّبوا مما لا يعرف سببه ، كلّما استبهم السّبب كان التعجّب أحسن . قال واصل : التعجّب إنما هو المعنى الخفي سببه ، والصّيغة الدالة عليه تسمى تعجّبا مجازا ،انظر،التهانوي ، كشّاف اصطلاحات الفنون ، مادة : العجب / التّعجّب .
لمزيد التفاصيل حول العجيب أنظر ، وحيد السعفي ، العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن ، تبر الزّمان للنشر ط1 ، تونس 2001 ص27 ـ 36
" كذلك لا بد من ملاحظة أن تعريفات العجائب التي توجد في فرنسا في كتابات متأخّرة إن لم تكن موّحدة مع تعريفنا فإنها لا تناقضه أيضا ، ودون إبطاء مبالغ ، سنعطي بعض الأمثلة المستقاة من النّصوص المناسبة ، يكتب كاستكس Castex في الحكاية العجائبيّة في فرنسا : يتميّز العجائبي بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الحياة الواقعيّة ، ويكتب لويس فاكس Louis Vax في الفن والأدب العجائبيّان : يحب القص العجائبي ... أن يقدّم لنا بشرا مثلنا ، فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير . يكتب روجيه كايوا Roger Caillois في قلب العجائبي : إنما العجائبي كلّه قطيعة أوتصدّع للنظام المعترف به ، واقتحام من اللامقبول لصميم الشرعيّة اليوميّة التي لاتتبدّل ، واضح أن هذه التعريفات الثلاثة هي ، عن قصد أوغير قصد شروح على بعضها البعض : ففي كل مرّة هناك السّر الخفي ، المستغلق عن التفسير ، اللا مقبول الذي يندس في الحياة الواقعيّة أوفي العالم الواقعي أو كذلك في الشرعيّة اليوميّة التي لا تتبدّل . توجد هذه التعريفات ، جملة مشمولة في التعريف الذي اقترحه المؤلفون الأوائل المذكورون والذي كان يفترض مسبّقا وجود أحداث من نوعين : أحداث العالم الطبيعي وأحداث العالم فوق ـ الطبيعي . Tzvetan Todorov , Introduction à la Littérature Fantastique, éd .Seuil , Paris , 1970 ,p.30- 31
2 ـ إبراهيم الدرغوثي ، وراء السراب ..قليلا ، دار الإتحاف للنشر ، ط 1 تونس 2002 ص29
3 ـ م . ن ص 73
4 ـ م . ن ص 165
5 ـ م . ن ص 160
6 ـ م . ن ص 167
7 ـ م . ن ص 168
8 ـ م . ن ص 168
9 ـ م . ن ص 168
10 ـ م . ن ص 108
11 ـ م . ن ص 119
12 ـ م . ن ص 124
13 ـ م . ن ص 123
14 ـ م.ن ص 124
15 ـم.ن ص 124 ـ 125
16 ـ م .ن ص 126
17 ـ م .ن ص 128
18 ـ م .ن ص 116
19 ـ الجاحظ ، الحيوان ، ج6 طبعة دار الكتاب ، بيروت 1969
20 ـ وراء السراب ... قليلا ص 120
21 ـ م .ن ص 179
22 ـ م .ن ص 192
23 ـ م .ن ص 205 ـ 206
24 ـ م .ن ص 205
25 ـ الرئيّ : هو جنس من الجن له صوت مسموع و جسم غير مرئي يحيط صاحبه بالأسرار و يطلعه على الغيب ، ذكره أبو علي القالي في كتاب الأمالي ج .1 ص 132 ـ 134 و انظر كذلك قصصا عن الرّئي في تفسير ابن كثير ج . 6 ص 300 ـ 301 أما الهاتف و الرّئي هما جنس واحد من الجن الأزرق
26 ـ وراء السراب ... قليلا ص 37
27 ـ م.ن ص 39
28 ـ م. ن ص 38
* ـ فيليب توماس Philippe Thomas: بيطري فرنسي (1843 ـ 1910 ) اكتشف مخزونات الفسفاط في الجنوب الغربي التونسي سنة 1885 . وفي سنة 1900 سمّيت محطّة المتلوي باسمه تكريما له .
29 ـ م .ن ص 100
30 ـ م .ن ص 47 ـ 48
31 ـ و من ذ لك قول الشاعر الشعبي بداية القرن العشرين و هو خائف من شق خطّي السكك الحديدية منطقة المكناسي ، فاعتبر الخطّين ثعبانين مخيفين ، فطلب من رأسه تدبّر الأمر للخلاص من الخطّين :
يا راســـــــــــــــي دَ بّر كيفــــــــــــــاش المكناسي دَخْلُوه زُوزْ احناش
و أطلق الشّاعر الشعبي في بلاد الجريد على القطار كلمة المَشينَةَ المعرّبة عن الفرنسية machine واصفا حركة تلك الآلة في سيرها و دورانها الالتوائي كالثعبان قائلا :
يا لا لا يُمّا المشـــــــــــــــــينة
بعدْ لَمْشتْ وَلَّـــــــــــــتْ دَارتْ
بطّلْنا و النفحة طـــــــــــــــارت
ورد هذا الشعر في ص 98 من الرواية ، يردّده المغنّون إلى اليوم تعبيرا عن أحاسيسهم العاطفيّة خلال فترات الهجر والوصل بين المحبّين . وللقطار دور هام في ذلك الحب ّّّ .
32 ـ وراء السراب ... قليلا ص 133
33 ـ م . ن ص 184
34 ـ م . ن ص 200
35 ـ م . ن ص 84
36 ـ م . ن ص 132
37 ـ م . ن ص 144