إلياس لونروت أبو الملحمة الفنلندية، الكاليفالا
ا. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

إلياس لونروت (9/4/1802-19/3/Elias L?nnrot, 1884) شخصية فنلندية مرموقة ومتعددة الجوانب: طبيب وشاعر وأبو اللغة الفنلندية المكتوبة الثاني،(الأول: ميخائيل أچريكولا) ولغوي وبروفيسور اللغة الفنلندية وآدابها بجامعة ألكسندر القيصرية، جامعة هلسنكي حاليا وجامع فولكلور وصحفي وباحث في علم النبات وعازف على الفلوت ومؤسس وناشر للعديد من الدوريات الفنلندية. إنه الابن الرابع في عائلة ذات سبعة أولاد عاشت في قرية Sammatti بالقرب من العاصمة هلسنكي حياة بسيطة وعمل الوالد خياطا. ومن المرجّح أن تكون تلك المعيشة المتواضعة التي ترعرع إلياس (وقد دُعي أيضا: إلْكّا وإلّو) في كنفها كانت قد غرست روح القيم الإنسانية والتواضعَ في فؤاد الطفل النجيب والمتعطش للعلم والمعرفة في فترة زمنية عزّت فيها دور العلم وقد أسعفت الظروف ذلك الفتى فحظي بنصراء أثرياء.
درس لونروت بمدينة توركو في غرب فنلندا علم الفولكلور وانخرط في الحركة الوطنية الفنلندية وتأثر بأفكار الأستاذ Henrik Gabriel Porthan المؤرخ والذي حثّ الطلاب على دراسة علم الفولكلور وذهب إلى أن الهوية الثقافية ينبغي أن تترسّخ في اللغة والفولكلور الشفوي. واتسم القرن التاسع عشر بنمو الفكرة القومية، ويعود الاستخدام الأول لمفهوم “القومية” الحديث إلى العام 1798. والفولكلور مفهوم ثقافي خاصّ بالموروث الثقافي الشعبي، شعر وأدب محكي ورقص وعادات وتقاليد وأنمطة معيشية إلخ وهو هام للحفاظ على الخاصية الإثنية لكل مجتمع بشري. وفي العام 1827 حصل لونروت على شهادة الماجستير من جامعة توركو العريقة وكانت أطروحته حول قصائد فايناموين، بطل الكاليفالا وهي الملحمة الفنلندية وبين العامين 1829-1831 أصدر لونروت على نفقته الخاصة أربعة مجلدات شعرية باسم كانتلي. بعد ذلك درس الطب بجامعة هلسنكي وعالجت أطروحته موضوع السحر في الطب لدى الفنلنديين وتخرج عام 1832.
سكن لونروت في Kainuu عاصمة منطقة كَياني بالقرب من كاريليا الروسية بين الأعوام 1833-1853 وخلالها قام برحلاته المشهورة للقرى والأرياف الفنلندية بغية جمع وتدوين وتسجيل التراث الفولكلوري. آنذاك عمل لونروت طبيبا وحيدا لحوالي أربعة آلاف شخص. قام بهذه الرحلات مستخدما وسائل نقل متنوعة وفي مقدمتها السير على الأقدام الحافية التي كان يطليها بالقار لحمايتها. وكان قد حقق ونشر مجموعة من الألغاز عام 1833 ومجموعة من الأمثال عام 1842 وطبيب الفلاح الفنلندي سنة 1839 ومجموعة من الأشعار حول السحر سنة 1880. لا نزاع في أن الكاليفالا هي أهم إنجاز قام به لونروت الذي جمع هذا الشعر الشعبي، قرابة خمسة وستين ألف بيت من الشعر، بحماس ومنهجية ونقّح وعدّل وأضاف عليه. صدرت هذه الملحمة المسماة بالقديمة سنة 1835 أما الطبعة الثانية والشاملة عام 1849.
والكاليفالا عبارة عن شعر شعبي تناقلته الأجيال المتعاقبة شفاهيا بالغناء منذ القدم، وترتكز على نزاع بين قبيلتين إلا أن الجو العام هادىء ويرنو إلى المودة والسلام. تبدأ أحداث الملحمة قبل التاريخ الميلادي عندما عبد الفنلنديون إلههم الوثني Ukko، ومعناه “المسن، العجوز” وتنتهي بانتصار الديانة المسيحية. تتمثل العقدة الأساسية في الملحمة بصراع كاليفا وبوهيولا على امتلاك سامبو، الطاحونة السحرية. ترجمت هذه الملحمة إلى سبع وأربعين لغة حتى اليوم ومنها العربية بقلم الأديب اللبناني سحبان أحمد مروة، بيروت 1991 في 419 ص. يظهر أن الإسكندنافيين كانوا طليعيين في فهم أهمية الحكاية الشعبية ثقافيا وقد دُوّنت الحكايات النرويجية عام 1230 بقلم المؤرِّخ والشاعر الآيسلندي سْنوري سطورلوسون، حول حياة الآلهة والأبطال في آيسلندا. وما جمعه لونروت كان قد ألهب خيال الشعب الفنلندي ووعيه حين عاش تحت الحكم القيصري الروسي. في ذلك القرن، التاسع عشر، كانت اللغة السويدة لغة الثقافة والروسية لغة الحكم والإدارة أما اللغة الفنلندية فانحصر استعمالها في صفوف الفلاحين والطبقة الفقيرة. وهكذا خلقت الكاليفالا الهوية المميزة للشعب الفنلندي، إنها حجر الزاوية في الحياة الثقافية الفنلندية حتى الآن.
يسجّل التاريخ الفنلندي صفحاتٍ مشرقة كثيرة لجهود لونروت في مجالات عديدة مثل دوره في تحسين الأوضاع الصحية للفنلنديين وتوعيتهم، إسهامه في بناء الثقافة باللغة الفنلندية ودوره في تطوير هذه اللغة كأب ثان لها بعد المطران ميخائيل أجريكولا (?1510-1557)، مساهمته في الموسيقى واختراع آلة الكانتلي الموسيقية التي وطّدت الهوية الوطنية الفنلندية ووحدت الثقافة القومية بالرغم من العراقيل اللغوية والأحزاب السياسية التي كانت فاعلة في الساحة آنذاك. ويذكر أن أجريكولا كان قد استعمل ما يقارب الثمانية آلاف كلمة في ترجماته الدينية أما أكبر إنجاز قام به لونروت فكان إعداده المعجم الفنلندي السويدي ذي المائتي ألف لفظة. وفي هذا السياق لا مندوحة من التنويه بجهود لونروت بخصوص إيجاد مفاهيم وعبارات وألفاظ جديدة في اللغة الفنلندية نذكر منها ما معناه بالعربية: القومية والأدب والمستقل والاتفاقية وحق التصويت والحرارة والحِبْر والجمهورية والمفرد والجمع وقيمة الانسان والمواطنة ورقم ولاحقة وفضيلة ورذيلة ومريض وعارضة/عوارض وعدوى وشريان ووريد الخ. أضف إلى ذلك إسهامَه المميز في مجال علم النبات فقد أعدّ أول بحث شامل عن أصناف النباتات الطبيعية في فنلندا. وفي مجال الموسيقى كان لونروت قد أدخل بعض التعديلات على سلّم الآلة الموسيقية الوطنية الفنلندية الكانْتِلي فجعله سلّما لونيا.
كانت الصفوة المثقفة في فنلندا في غضون القرن التاسع عشر تعدّ على الأصابع أمثال J. L. Runeberg, J. V. Snellman، زميلي لونروت في الدراسة في أكاديمية مدينة توركو، وكل عرف الآخر وتراسلوا وتأججت نار الإيدولوجيا والأدلجة في كافة أنحاء فنلندا رغم أنف الرقابة الروسية القيصرية الشديدة. وتباحثت هذه النخبة بشأن قضايا كثيرة هامة مثل: هل للدولة التي لا تاريخ لها حقّ في الوجود؟ وقد استقر الرأي على أن أهم ركيزة بالنسبة للشعب هي لغته القومية. وقد ذهب لونروت إلى أن اللغة أساسُ الثقافة وشرط أساسي في إحياء الشعب ولا بد من تعليمه اللغة الفنلندية.
هذا الرجل الفذّ كان جدّ متواضع مع أنه اعتبر حتى أثناء سنوات حياته بطلا قوميا. اتسم إلياس لونروت بدرجة عالية من احترام الذات والرؤية الواضحة وزان الأمور بكل جديّة وموضوعية وعمق بغية اكتشاف خطورة أية خطوة قبل الشروع في تنفيذها بإرادة فولاذية.