ذكريات الحداثة
أذكر أنني كنت مولعا بدراسة الشعر الإنجليزي أثناء دراستي بالجامعة , وكنت أٌولي مذاكرته عناية خاصة عن باقي المواد ولعل السبب في ذلك يعود لحبي الشديد للأدب والشعر العربي الذي أظنه إنتقل بالتبعية إلى الشعر الإنجليزي . تعلقت بأشعار شكسبير في البداية ثم تعمق الحب أكثر حينما إنتقلت لدراسة شعر المدرسة الرومانسية التي قدست الذات والبدائية والسذاجة ورفضت الواقع، وادعت أن الشرائع والتقاليد والعادات هي التي أفسدت المجتمع, فكم كنت متعلقا برموزها وبعض من مبادئها وكم من ليلة قضيتها بين أشعار أساطين هذا المذهب في الغرب : بايرون ، وشيلر ، وشيلي، وكيتس، ووردزورث، وكولريدج .

وتتطور الأمر فيما بعد لأجد نفسي في أحضان المدرسة الواقعية والرمزية معجبا تارة بأشعار وروايات إدجار الآن بو وتارة أخرى مشمئزا نافرا منها ثم ليأتي أخيرا ت . س إليوت لأجد نفسي غارقا في رموز وألغاز ومفاهيم تعافها نفسي . وأذكر أنني كنت أخوض بعض الحوارات مع أساتذتي معترضا أو محاولا الفهم وفي أغلب الأحيان كانت محصلتي من النقاش هي العودة بخفي حنين . وهكذا إنتهت علاقتي بالشعر الإنجليزي بالجامعة ولكن الصراع من أجل محاولة فهم ما يقال أو يحدث لم يتوقف عند هذه المرحلة – لأقرر فيما بعد أنه ينبغي عليً إعادة الكثير مما قرأت ودرست بداية من شكسبير وإنتهاء ب ت س إليوت وإدجار الآن بو , وتمتد الرحلة لأضع قدماي على أعتاب الحداثة وهنا قررت أن أبدأ هذه المرة بشكل أكثر إدراكا ووعيا ـ فالآن أصبحت أدرك أن الموضوع ليس مجرد إعجاب بكلمات وأحاسيس تبثها بعض الكلمات والصور في نفسي ذلك أني كنت قد تعلمت من تجربتي مع إليوت وألان بو أن الموضوع أعمق وأفقه بكثير مما كنت أظن . وبدأت أقرأ في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان والرموز الأخرى مثل : مالارميه، وفاليرى وموباسان وتوسعت لأقرأ في ترجماتهم وسيرهم الذاتية محاولا فهم المزيد عن تلك الفلسفة التي ينهلون منها لأجد مرة أخرى أن الأمر لم يزدني إلا إنهاكا وتعبا وكأنه قبض الريح وتلمست مدى خطورة ما يبشر به الحداثيون .

وبعد أن تسللت الحداثة إلى الأدب والشعر العربي بل والمعتقد وإستشرت لتشمل كثير من نواحي الحياة الفكرية والأدبية ـ وأصبح الكثيرون من رموزها من الشعراء والمفكرين والأدباء العرب مجرد سفراء لمؤسسي هذه المدرسة في الغرب يعملون ليل نهار لزرع مبادئها والترويج لها في كل محفل ـ رأيت أن أعرض للقراء في هذا الصرح الثقافي العظيم الأسس التاريخية والثقافية لهذه المدرسة ثم نعرض لأهم روادها بالغرب وسفرائها بالعالم العربي وتأثير فلسفتها على المعتقد الديني والموروث الحضاري والإجتماعي مستشهدا بكثير من الكتب والأبحاث والمقالات التي كُتبت في هذا الموضوع