البط والأوز في ديوان العرب (1)
بقلم: وديع فلسطين
......................
دمياط مدينة ساحلية تقع في مواجهة بور سعيد، وتشتهر بصناعة "الموبيليا" التي تُصدَّر إلى بلدان كثيرة، بل إن الصنّاع المهرة في هذه المدينة عرفوا طريق الهجرة إلى الخارج للانتفاع بكفاءاتهم وخبراتهم. وتشتهر دمياط بأكلات شهية منها صواني السمك والجبن الدمياطي والحلوى التي تُعرف باسم "المشبك"، كما تشتهر بالبط الدمياطي الشهير الذي يختلف عن البط البلدي بأنه أصغر حجماً، وأقلُّ دسماً، وأسرع طهياً، وأشهى مذاقاً، وأسهل هضماً.
ويُشاع عن الدمايطة أنهم يعرفون قيمة القرش، فلا يُنفقونه في غير وجهه الصحيح، ومن هنا قيل عنهم إنهم أبخل من بخلاء الجاحظ!
وقد أنجبت دمياط عدداً غير قليل من الأدباء والشعراء، منهم الدكتورة بنت الشاطئ، والشعراء محمد الأسمر، ومحمد مصطفى الماحي، وعلي الغاياتي، وحسن كامل الصيرفي، وعبد اللطيف النشار، والأديب نقولا يوسف مؤرخ دمياط وأعلامها، وقد نزح معظم هؤلاء الأدباء والشعراء من دمياط إما إلى القاهرة وإما إلى الإسكندرية.
وكان صديقنا الشاعر محمد مصطفى الماحي يدعو أصدقاءه من الأدباء والشعراء إلى ندوات أدبية يعقدها في داره ـ ومن المصادفات اللطيفة أن بيته يقع في شارع يحمل اسم البحتري ـ وكنت من جملة هؤلاء الأصدقاء الذين يغشون ندواته في العصاري، فإذا وافت الساعة الثامنة مساء تفرّقنا، كلٌّ إلى وجهته!
وذات يوم اتصل بي الماحي لدعوتي إلى ندوته، ولكن في الساعة الثامنة مساء. فقلت له: إن هذا موعد متأخر، لأننا اعتدنا الانصراف في الثامنة، بعد أن تكون الندوة بدأت في الخامسة، فقال: إن ظروفاً خاصة هي التي حدت به إلى تحديد هذا الموعد المتأخر.
وعندما وصلت إلى داره، وجدته مجتمعاً في حديقته الصغيرة الخلفية مع صديقنا الشاعر أحمد رامي ـ وهو جاره ـ وسرعان ما انضم إلينا الشعراء: محمود غنيم، والعوضي الوكيل، وحسن كامل الصيرفي، ومختار الوكيل، وعامر بحيري، وعبد السلام شهاب. ولما اكتمل النصاب دعانا الماحي إلى داخل المنزل، فإذا الموائد العامرة ممتدة، تتصدّرها ألوان من البط الدمياطي المشوي والمقلي والمسلوق والمُحمّر والمحشوّ! فقلت للماحي: إننا لم نتفق على هذا، فقد لبيت دعوتك إلى ندوة "بريئة" ليس فيها "رشاوى" من البط ومشتقاته! فقال: هي فعلاً زيارة بريئة، وأنا في انتظار حكمك بالبراءة، ولم أفهم ماذا يعني بهذه العبارة!
وجلسنا إلى المائدة، وكلُّنا على الطعام عاكف، مع إبداء إعجابنا بمهارة الطُّهاة وشهية الألوان، ولاحظت في أثناء ذلك أن الماحي ومحمود غنيم كان يتبادلان نظرات لا تخلو من معنى، وإن لم أفطن إلى سر هذه النظرات الماكرة.
ولما فرغنا من غذاء البطون، دعانا الماحي إلى صالون الأدب والشعر، وافتتحه بقوله إنه تعرّض لحملة شعرية شرسة من زميله غنيم يتهمه فيها بالبخل الشديد باعتباره من أهل دمياط. ولهذا فكّر في أن يدعونا لكي نكون شهوداً على تهافت هذا الاتهام، فنصدر حكمنا بعد سماع الاتهام ودفاع المتهم. وعندئذ ألقى محمود غنيم قصيدة ساخرة طويلة تضمّنت اتهام الماحي بأنه يحتكر البط الدمياطي لنفسه، ولا يُشرك فيه أحداً، وبأنه يُحكم إغلاق أبواب بيته حتى لا يشم الجيران رائحة الشواء التي يحتكرها هي بدورها. وظل غنيم يسوق عبارات الاتهام ونحن نضج بالضحك من سخرياته ومبالغاته، حتى لقد قال: إن نابليون ـ بكل جحافله ـ لا يستطيع أن يقهر روح البخل لدى الماحي!، ولما ختم قصيدته ردّ عليه الماحي بقصيدة، وتحدّى "غنيم" بأن يولم وليمة تُحاكي مآدب الماحي في ترفها وبذخها، وعاد غنيم يُفنِّد حجج الماحي، والماحي يرد عليه، ونحن نستمع إلى هذه المساجلات الشعرية الطريفة، ولا نملك إلا الإغراق في الضحك. ثم فُتِح الباب أمام الشعراء الحاضرين فخاضوا في هذه المعركة الشعرية ارتجالاً، فمنهم من سفّه غنيم، ومنهم من قال: إن الماحي سخي، ولكنه مقل، لأنه لا يُقيم أمثال هذه المآدب إلا مرة في كل قرن! وكان مسك الختام أرجوزة من الزجل أنشدها عبد السلام شهاب طائية القافية، تنتهي أبياتها بعبارات مثل: الدمياطي، وبنت الشاطي، والحفلاطي، وطاطي طاطي وهلم جرا. وقضينا سهرة ماتعة في سماع هذا الشعر، ثم طلب الماحي الحكم في هذا الاتهامات الجائرة، فقلنا له: إن مائدة البط المفتخرة هي البرهان على أن "غنيم" مفترٍ، وقد حكمنا ببراءتك من هذه الاتهامات.
ولأنني لست شاعراً فقد كان دوري هو دور المستمع لا المشارك، ولهذا حرصت في اليوم التالي على كتابة تعليق فكه على هذه المناظرة الشعرية وبعثت به إلى الماحي الذي جمع كل ما قيل في هذه الندوة ورغب في نشره في كتيب، ولكن وفاة زوجته حطّمته تماماً، فلزم الفراش، ولحق بها بعد ذلك، ومؤكّد أن حصيلة هذه الندوة تُعدُّ من المستطرفات الأدبية الجميلة.
هذا عن البط، أما عن الأوز فقد درج الشاعر التونسي محمد الشاذلي خزنه دار (1881-1954م)، ويطلقون عليه لقب "أمير شعراء الخضراء" على أن يقتني في بيته سرباً من الأوز، فلمّا تعرّض للسجن على أيدي الفرنسيين بعث برسائل إلى زوجته يوصيها بالأوز خيراً، ومما جاء في قصيدته الموجهة إلى الأوز:
كــوني معي قُرْباُ وبُعْداً إنني أهْـوى عفَافَكِ فالعفافُ رِدائي
فيك الفضائلُ كلُّها جُمِعَتْ، فما حسْنـاءُ فيهم شَابَهَتْ حسْنائي
صـــوني الأوزَّ وبشِّريهِ بأنَّهُ في يومِ إطْــلاقي منْ الطُّلقَاءِ
وهكذا يتسع ديوان العرب للبط الدمياطي والأوز التونسي!
ــــــــــــــــ
(1) المصدر: جريدة "الراية" القطرية، في 12/4/1997م.
المفضلات