نحو ابتكار المثقف الحلقة الأولى
العلاقة ما بين الثقافة والمثقف
تتصاعد أزمات الشرق الأوسط حدة وتعقيدا ، وعلى رأسها أزمة " المسالة الفلسطينية " إذا جاز التعبير – التي تعتبر جوهر الصراع في هذا الشرق منذ تقطيعه إلى عدة مشارق حتى محاولة لملمته داخل شرق أوسط كبير .
وفي خضم هذا الصراع ، وما بين الظهور والتقدم ، والتلاشي والتراجع ، وما بين الأزمة والانفراج وتفاعل العلاقات الداخلية والخارجية للقضية الفلسطينية ، تبرز عدة أسئلة تدور حول مفهوم المثقف الفلسطيني وخاصة والعربي عموما ، فمن هو وأين دور المثقف ومهمته ؟
ان صورة المثقف الفلسطيني منذ نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية وتطورها ، غير واضحة المعالم ومشوهة الأدوات العملية والمرجعيات والبنيات الفكرية والنظرية أيضا .
ويحكم المرء على هذه الصيغة للمثقف من خلال عدو مؤشرات ودلائل تشير وتثبت على ان الذين " يشتغلون " بالثقافة اليوم وبعيدين كل البعد عن طبيعة مهمة المثقف ودوره داخل المجتمع إذ يفتقر واقع القضية الفلسطينية إلى مثقفين حياديين لا يتركز دورهم فقط بالتقدم ، بل في ابتكار المثقفين الجدد لعدة أسباب من أهمها :
1 – العلاقة ما بين المثقف وثقافته : إذ ان المثقف أو المفكر التقدمي ، ينطلق في مهمته من مرجعية نظرية قائمة على أساس التفاعل والتفاهم الواعيين داخل محتواها الفكري ، ولا يكون المثقف تقدميا وواعيا لدوره الطليعي إلا بمقدار ما تكون العلاقة جدلية ما بينه كناقل و " مشتغل "، وبين مرجعيته وبنيته الفكرية والثقافية ، بحيث تتضمن هذه العلاقة استمرارية تجدد بتجدد أدواته ومرجعياته ، وصياغة العلاقة بدقة جدلية هي التي تحدد معالم المثقف وكما تحدد دوره ومهمته في المجتمع وإما الحاصل في الواقع الفلسطيني فإن صلة الربط أو طبيعة العلاقة ما بين المثقف والثقافة ميكانيكية التماثل كل البعد عن أي تجديدات واعية ، وهذا أدى بالضرورة إلى تواجد مثقف بصورة مشوهة ذات عزلة عاجية أو استنكاف خانق أو تحيز مقيت .
2 – العلاقة مابين المثقف والمحيط السياسي والمدني : إذا انه من النادر في مجتمعنا الفلسطيني على وجه الحصر إيجاد مثقف بالمعنى النقي اللا متحزب اللا متحيز لفئات وقطاعات معينة ، حيث ان طبيعة العلاقة في المجتمع المدني والأحزاب أو السلطة إما تكون علاقة مصالحة ووثاق أو علاقة عداء وخصام تؤدي إلى تخلي المثقف عن دوره في حبس نفسه داخل دهاليز المثل الطوباوية التي لا تشي بسوى برج عاجي لا يسمع
فيه المثقف صرخات الشعب الذي هو بأمس الحاجة إلى التنوير والتقدم . فخيبة الأمل إذا التي يتلقاها تنتج من علاقته المباشرة أو اللا مباشرة من أنماط الجاهزة والسائدة ، وهذه بدوره يؤدي إلى إفراغ المثقف من محتواه وتقهقر أهدافه ومهماته ، ووصوله أخيرا إلى صيغة المثقف الانتهازي المتحيز لإشكال القمع والعنف المنظم أو اللا منظم أيضا ، ولا يتوقف عند التحيز فقط بل يسعى إلى إعادة إنتاج ثقافته بما يتناسب مع أهداف جماعته وفئته السلطوية . ومن هنا فإن ما يمنح المثقف مساحة نقية ومحايدة لممارسة وتنفيذ دوره ومهامه تتركز في صياغة تحالفات قائمة على أساس صلات مؤقتة مع أحزاب أو مؤسسات المجتمع المدني ، تهدف وتلتقي مع برنامج المثقف التقدمي . فصياغة التحالفات التكتيكية تقي المثقف بالمصير التمثال والتواطؤ وتمنحه في نفس الوقت هامش حرية تتنفس في أجوائه وأفكاره النقدية والتقدمية الهواء النقي . ففي كتابه (تمثيلات المثقف) يؤكد ادوارد سعيد على انه من " المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر ان يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات " الاختزالية " التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر . " وهذا يعني بالضرورة ابتعاد المثقف عن كافة الإشكال والصيغ الجاهزة التي تفرزها السلطة من جهة والمجتمع المدني من جهة أخرى ان ارتباط المثقف في الواقع السياسي الفلسطيني باطر حزبية وتنظيمية اثر على دوره التنويري وأدى إلى شرعنه الرجعية وبروز التماثل مع هذه الأطر . والحاجة الآن تتجلى في صياغة علاقة جدلية صريحة ما بين المثقف والسلطة والمجتمع المدني ، علاقة تبرز وتعزز مهمات المثقف التي تتمثل في التنوير والاحتجاج والرفض والانتقاد والتقدم والتغيير ... وقد يقول البعض ان المجتمع الفلسطيني لايخلو من المثقفين المستقلين والحياديين ... حساً ولكن حتى المثقفين الذين يدعون استقلالهم لايمكنهم إثبات ذلك ، إذا ان معظم المثقفين والمفكرين الفلسطينيين اليوم كانوا قبل صورتهم الحالية في السابق مرتبطين ومنتميين إلى اطر حزبية وتنظيمية ، وإذا كانت صيغتهم الحالية مستقلة كما يدعون فإنها لن تؤدي إلى انجاز مهمات المثقف لأنها جاءت كتابية مشوشة وسلبية بخيبة أمل من إطارهم السابق أدت إلى التحول الجذري نحو أسس إنسانية ومعايير أخلاقية يحمي المثقف من إشكالية الحداثة والقديم والجديد ، بحيث تكون البنية الفكرية والثقافية التي هي بحد ذاتها " صنعة " المثقف خالية من أي تناقض يحدث تقويضا في مرجعيته الفكرية وتلاشيه هو من خلال تخليه عن أهدافه . هذا الخطاب الإنساني الذي يمثل المسحوقين والمستضعفين في الأرض يولد في المركز ولكنه ينشأ ويترعرع في المحيط الذي يتخبط في الظلام الدامس ، ووحده المثقف هو من ينشر هذا لخطاب ويسعى إلى تنوير المحيط الذي هو الشعب الفلسطيني الذي تتشكل غالبيته من القطاع الريفي ، فالغريب في الأمر ان كافة المؤسسات والمنتديات الثقافية والاجتماعية التي تدعي التنوير والاستقلالية تتواجد وتمارس هواياتها في المركز ـــ المدن – من جهة اخرى فان التناقض الرئيس مع الاحتلال افرز بيئة مثقفة – ليست ثقافية بالضرورة – متوفرة في كافة قطاعات وشرائح الشعب الفلسطيني ، ولكن هؤلاء الناس المثقفين لايقومون بوظيفة ومهمة المثقف كما يقول ( غرامشي ) ، ففي ظل الاحتلال المهمة الإستراتيجية الأولى الملقى على كاهل المثقف لا تتمحور في الملاحظة والتسجيل والتنوير فقط ، بل في الاحتجاج وتمثيله للمعانة الاجتماعية لأبناء شعبه والشهادة على كابدوه وإعادة تأكيد صمودهم رغم كل شيء وتدعيم ذاكرتهم كما يؤكد ادوارد سعيد على هذا في كتابه تمثيلات المثقف . فالمثقف الحق هو الذي يقف في وجه السطوة أعلى مراحل السلطة ، وفي المسالة الفلسطينية الذي يزيد الوضع سوءاً هو غياب المثقف في ظل حضور السطوة المزدوجة التي تتطلب بالضرورة للتصدي إزاءها إلى دور مزدوج يبحث عن مثقف غائب .إذا ان مهمة المثقف في واقعنا الفلسطيني تختلف عن مهمة أي مثقف آخر ، فهي تتجلى ما بين العلاقات الداخلية التي تتمثل في الانقسام والتفكك في المجتمع السياسي الفلسطيني من جهة ، وتحول الاحتلال الإسرائيلي إلى شكل أكثر أناقة تجسد أخيرا في حلة انا بوليس الباهظة الثمن من جهة أخرى ، وتتجلى المهمة المزدوجة للمثقف أيضا في العلاقات الخارجية التي تتمثل في الأوضاع الإقليمية الساخنة – العراق وسوريا ولبنان – والشراهة المتزايدة لإحداث إشكال الاستعمار – العولمة الغربية – وهذه العلاقات الداخلية والخارجية التي ترسم علاقة القضية الفلسطينية وتحدياتها تبحث بصورة لا واعية عن مفكرين ومثقفين للتصدي لها من خلال اطر فكرية وثقافية تجدد بتجدد المثقف . ان خطاب المثقف الفلسطيني اليوم لا يحتاج إلى صحافة صفراء ، ولا يحتاج أيضا إلى ملخص جديد بل إلي خطاب إنساني تقدمي تنويري يكفل التوطئة للمخاض الجديد الذي سيحل مكان القديم .

الأسير باسم الخندقجي
عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني