الفاو ورأس البيشة

مسميات غامضة تبحث عن تفسير


[B]
كاظم فنجان الحمامي
اختلفت الآراء والتفسيرات بشأن أصل تسمية (الفاو, ورأس البيشة ). وتوسعت الدراسات في البحث والتنقيب عن المعاني الحقيقية لهذه الأسماء, التي تمثل أهم النقاط الساحلية العراقية. المتربعة فوق دلتا شط العرب. والتي مازالت تقف بشموخ على مشارف الحدود الشمالية لحوض الخليج العربي. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
السفن العراقية تلوذ بمسجد الفاو في مشهد معبر

أسماء حفرت, منذ زمن بعيد, في ذاكرة التاريخ الملاحي والتجاري والزراعي والسياسي لبلاد ما بين النهرين. لكنها ظلت مستعصية على الفهم. وجاءت معظم الآراء التوضيحية, التي تناولتها المراجع اللغوية والجغرافية, بخصوص هذه المسميات, متخبطة, وغير مستقرة على رأي واضح وصريح. ولم تحض بالقبول حتى عند الذين استوطنوا هذه المناطق, من الأجيال السابقة واللاحقة. . وما أن تحاول أن تستفسر عن معاني تلك المسميات, حتى يصدمك السرد الممل للافتراضات المطروحة من هذا الباحث أو ذاك. بخصوص هذه التسمية أو تلك. . وتنهال عليك عبارات الشرح المستهلكة, مثل : (هناك من يقول أن. .), (وهناك رأي آخر. . ), ( وهنالك رأي ثالث ). وربما رأي رابع, وخامس وسادس. . . وعلى هذا المنوال المشبع بالغموض والتشتت, والذي يفتقر إلى الدقة. وينقصه الثبات على رأي مقنع واحد. . وسوف استعرض أمامك, عزيزي القارئ اللبيب, كل الآراء الضبابية التي قيلت بشأن أصل تسمية (الفاو). ثم أتناول كل ما قيل حول أصل تسمية (رأس البيشة). وسترى بنفسك إنها غير مقنعة, أو إنها أقحمت داخل سياقات التفسير المتخبط, الذي جرت عليه أساليب الحكواتية. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
خطوط رأس البيشة المتمددة نحو الخليج العربي

فمنهم من يقول لك إن اسم الفاو يرجع إلى اسم سفينة تعود إلى أهل الديلم, اسمها (فاو). تحطمت وغرقت عند مقتربات السواحل العراقية. من دون أن يوضح لنا تاريخ غرقها, أو يبين لنا سبب مجيء أهل الديلم إلى سواحلنا . . ورأي آخر يقول أنها سميت بذلك نسبة إلى (الفيء), ويعني الظلال. في حين أن التسمية ولدت قبل أن تغرس أية شجرة على ارض الفاو. لأنها وببساطة كانت مرعى لأهل المعامر, ويطلق عليها (الدكاك). وتغطيها الأحراش والأدغال التي لا يمكن أن يستظل بظلها احد. . وهناك من يقول, أنها صيحة أطلقها بحار اسباني, صارخا (فاو . . فاو) وهو على سفينته التي أجهدها عناء السفر, مشيرا إلى اليابسة. أو مبشرا بالخبز والطعام. ولا ندري من الذي سمع هذا البحار؟, أو كيف انتقلت هذه الصيحة التي أطلقها في عرض البحر إلى اليابسة. . أرأيت. عزيزي القارئ الكريم. . أنها مجرد آراء متضاربة قالها زيد. أو صرح بها عمر. . لكننا عندما نرجع إلى قواميس اللغة العربية. ونطالع ما كتبه الأب لويس معلوف اليسوعي في المنجد. وما قاله العالم العراقي الكبير, الدكتور مصطفى جواد. نجد أن المعنى المجرد للكلمة, يشير إلى أن (الفأو) يعني المضيق في الوادي. ويعني الموضع الأملس. والداره من الرمال. والليل. والمغرب. ويعني أيضا بطن من بطون الأرض. أو الأرض المكشوفة للناظر. . وفي البلاد العربية ثلاث فاوات : فاو العراق, وفاو الحجاز, وفاو مصر. وأنا اتفق مع الحاج عبد الكريم الملا نوشاد (*) في رأيه بان احدهما أصل الانتشار لاسم الفاو لأسباب كثيرة سنتطرق إليها هنا. . فالفاو في ارض نجد والحجاز, هي قرية أثرية تقع عند مقتربات وادي الدواسر, عثر فيها على آثار وكتابات مسمارية. وكانت تمر بها طرق القوافل المتجهة إلى العراق واليمن وسواحل الخليج العربي. .

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
أطلال مدينة الفاو القديمة على شط العرب (حوز إبراهيم طهماز)

وسوف نرى لاحقا أن قرية الفاو الواقعة في الحجاز, وكذلك مسميات الوديان المتصلة بها, وأسماء القبائل التي تسكنها. تتطابق تطابقا يثير الدهشة مع مسميات المناطق الواقعة على شط العرب. . والآن دعنا نستعرض ما قيل في تفسير أصل تسمية رأس البيشة. . فهناك من يقول أن شكل الامتداد الطيني لرأس البيشة, والذي يشبه إلى حد ما منقار البط . هو الذي طغى على هذا المكان. . ولما كان أهل الفاو يطلقون لفظة ( بشّه ) على البطة. فأنهم صاروا يسمون هذا الساحل بـ (رأس البيشة), لأنه يشبه رأس البشة. . بربكم أي بطة هذه التي تسبح في أعماق البحر؟. . ومن قال أن هذه المنطقة تشبه منقار البط ؟. ثم أن شكل ومساحة الطرف الجنوبي للسواحل العراقية يتغير من عام إلى آخر, بسبب تراكمات الترسبات الغرينية الهائلة التي تستقر سنويا على هذه السواحل. . ولو حاولنا التعمق في البحث لوجدنا أن هناك الكثير من المفردات الشائعة في اللهجات العربية والخليجية المطابقة في اللفظ مع مفردة (بيشة). . فالبيشة : هي السلسلة الحديدية التي تربط بها أرجل الحصان, وهي تصنع من الفولاذ وتتكون من عدة حلقات. وهذه المفردة شائعة عند أهل الفرات, في العراق. . والبيشة : تعني النقاب الذي يغطي العينين في اللهجة السعودية. تقابلها البوشية, أو البوشي في اللهجة العراقية. أو البرقع في الإماراتية. أو الطرحة في الكويتية. أو الإيشارب في السورية. . والبيشة : لفظ فارسي, وتعني الصنعة والمهارة. ويقال ماعون بيشة : أي إناء دقيق الصنع. . والبيشة : قرية مصرية, من ضواحي أشمون, في محافظة المنوفية. . والبيشة : من البيش, وهو نبات فيه سم قاتل . . والبيشة : من البيش أيضا, وهي الحفرة التي يوضع فيها الغرس. وأباش الشجرة جعلها تثبت. . والبيشة : من (ب ش ش ), ومنها البشاشة, أي إطلاق الوجه. ورجل هش بش, أي طلق الوجه. وبيّش الله وجهه, أي حسّنه. .
ولو كان المفسرون السابقون يعلمون بهذه المفردات التي أضفتها هنا, لقالوا لنا أن رأس البيشة يعني حافر الفرس. أو انه يعني البرقع الذي يغطي السواحل العراقية. وقد يقول قائل منهم, أن فلاحا مصريا من قرية البيشة في المنوفية حرث هذه الأرض وغرسها بفسائل النخيل. . وربما ينسجوا ما يشاءون من الآراء الخنفشارية, التي تشتمل على اللغط في التفاسير الارتجالية الضعيفة. ومع ذلك فإنها ستكون اقرب إلى التصديق من حكاية تلك البطة المجنونة, التي راحت تعوم في لجة البحر, بمنقارها الطويل !!. . أما إذا ذهبنا إلى ارض نجد والحجاز فسنجد إن (بيشة) عبارة عن مدينة كبيرة (محافظة ), ضاربة في عمق التاريخ. تقع في الجزء الشمالي من المنطقة الجنوبية لجزيرة العرب. وترتفع عن سطح البحر بحوالي 3600 قدم. وفيها قرابة 240 قرية. تنتشر كلها على ضفاف وادي كبير يسمى ( وادي البيشة ). وهو اكبر أودية السراة الشرقية على الإطلاق. وتنحدر من هذا الوادي أودية عسيران وشهران وقحطان. ويقام عليه الآن سد عملاق. يعد ثاني اكبر سد في الشرق الأوسط بعد السد العالي في مصر. . والبيشة في ارض نجد والحجاز من المناطق الزراعية المنتجة, والمعروفة بخصوبة تربتها وغزارة مياهها. وتشتهر بزراعة النخيل. وفيها أكثر من ثلاثة ملايين نخلة. . ولعل من المناسب هنا أن نتطرق إلى موقف تاريخي في غاية الأهمية. ورد في كتاب العقد الفريد. . وقع في عام الوفود. وذلك عندما قدم جرير بن عبد الله البجلي على الرسول الأعظم, فسأله عن منزله بالبيشة, فقال جرير : سهل ودكاك, وسلم وأراك, وحمض وعلاك, ونخلة ونخلة, ماؤها ينبوع, وجنابها مريع, وشتاؤها ربيع. . فقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إن خير الماء الشب, وخير المال الغنم, وخير المرعى الأراك, والسلم إذا اخلف كان لجينا, وإذا اسقط كان ردينا, وإذا أكل كان لبينا. . وقد تردد اسم البيشة في بعض النصوص العربية القديمة. فقد قال شاعر من قريش :
وجاءت من أباطحها قريش . . . . كسيل أتى بيشة حين سالا
وقال حسان بن ثابت :
كأنهم في الوغى والموت مكتنع . . . . أسد ببيشة في أرساغها فدع
وتحدث عنها المؤرخون العرب. نذكر منهم أبن بلهيد في (صحيح الأخبار), وحمد الجاسر في كتابه (مع الشعراء). . وهناك دلائل كثيرة تؤكد على أن البيشة موجودة في العراق, وموجودة في الحجاز. وان التي في الحجاز أقدم بكثير من بيشة العراق. وان الفاو موجودة في العراق وموجودة في الحجاز. . وان فاو الحجاز تتوسط بين وادي الدواسر والبيشة. في حين نجد أن فاو العراق تتوسط أيضا بين قرية الدواسر ورأس البيشة. . فهل هذه مجرد مصادفات عابرة ؟. . ثم إن هذه المناطق ( في العراق وفي الحجاز ) اشتهرت ببساتين النخيل, وممارسة الزراعة. وان الفاو والدواسر والبيشة العراقية استوطنتها قبائل عربية معروفة. نزحت من نجد والحجاز, وتنتمي في جذورها إلى بطون القبائل العربية الأصيلة, التي ولدت في قلب شبه الجزيرة العربية. وتوحدت في المسميات القبلية والعشائرية. ومازالت ترتبط فيما بينها بعلاقات وأواصر عشائرية متينة. . نذكر منهم قبائل : العتوب, والسعدون, وشمر, وتميم, والدواسر, وزبيد, والشهران, وربيعة. .
ولا ننسى أن نذكر هنا. إن القبائل العربية كانت تمتلك حرية الارتحال والانتقال من مكان إلى آخر. وكانت تجوب البلاد العربية على هواها, وحسب الظروف المعيشية والسياسية المؤاتية. وذلك في المرحلة التي سبقت توقيع معاهدات ترسيم الحدود السياسية. . وإنها ربما نقلت معها حبها لواحاتها ووديانها ومدنها القديمة التي انطلقت منها. وبالتالي قيامها بإطلاق المسميات القديمة على البقاع الجديدة التي استوطنت فيها. . فلو ذهبنا إلى أقصى المغرب العربي لوجدنا مدنا تحمل اسم (البصرة), أو (بغداد). وان بعض المغاربة مازالوا يحملون ألقابا ترتبط ببلاد ما بين النهرين. مثل : لقب (العراقي), و(البغدادي). وذلك على الرغم من بعد المسافة بين مراكش, التي تقع في أقصى الغرب الأفريقي, وبغداد التي تقع في أقصى الشرق العربي. . إذن نحن أمام عوامل تاريخية وقبلية وبيئية ومهنية مشتركة, ودلائل منطقية توضح لنا ملامح اللغز المفقود في مسميات الفاو والبيشة والدواسر. وتكشف لنا عن سر التشابه والتطابق الكبير في مسميات القرى والقبائل, وفي طبيعة الأعمال الزراعية التي تخصصوا فيها. وتعبر عن عمق العلاقات السكانية, والصلات العشائرية الوثيقة, والرحيل المتبادل بين وديان الحجاز وضفاف شط العرب. .
وفي ضوء ما تقدم نرى ضرورة التعمق في دراسة ظاهرة التشابه الكبير في اسم مدينة الفاو العراقية, والفاو الحجازية. وبين البيشة العراقية, والبيشة الحجازية. وبين الدواسر العراقية, والدواسر الحجازية. . فالموضوع يستحق البحث والتحقيق المبني على الأسس البحثية الصحيحة, والأساليب العلمية الرصينة. . ومن الله العون والتوفيق. .
[/B
]_____________________________________
(*) – الحاج عبد الكريم الملا نوشاد وخلف الشيخ علي. ( الإيجاز فيما تشابه من أسماء المدن في العراق والحجاز ). محاضرة ألقيت في قاعة الخطيب البغدادي, تحت إشراف الهيئة العربية العليا لكتابة تاريخ الأنساب في الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب يوم الأحد 28 محرم 1422 هـ , الموافق 22/4/2001 م . ونشرت في موقع كتابات على الشبكة الدولية في 12/7/2004