أضواء على السينما الافريقية الملتزمة
*
محمد ياسر منصور ** كاتب وباحث سوري

ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب والباحث السوري محمد ياسر منصور كتب هذه المادة حصريا لمركز الدراسات الإفريقية في واتا.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

آداما درابو (من مالي) ، دريسا توريه وبيير ياموغو (من بوركينا فاسو) ، دافيد ـ بيير فيلا (من الكونغو) دافيد أشقر (من غينيا) كانوا غير معروفين في الغرب إلى أن قدم مهرجان كان في العام 1991 ، أول أفلامهم . وقد عرفوا أكثر من سابقيهم كيف يعقدون أواصر الصلة مع خيال "القدامى".
(مايو 1991)
كان مهرجان كان حتى ذلك الحين يدعو خصوصاً "كبار" السينما الإفريقية أمثال : سمبن عثمان ، سليمان سيسيه، إدريسا أودراوغو ... والحدث الجديد في ذلك العام 1991 ، هو اختيار أفلام إفريقية فيها أربعة أعمال لمخرجين شبان مغمورين (اثنين من بوركينا ، وواحد من الكاميرون، وواحد من مالي) كانت أفلامهم قد أثارت جدلاً ممتعاً ، في مهرجان السينما الإفريقية المقام في واغادوغو (فسباكو).في حين كان التوق إلى الديمقراطية يظهر جلياً وبقوة في المدن الإفريقية ، والدورة الثانية عشرة في فسباكو اتسمت ، في الواقع ، بظهور مخرجين جدد يؤكدون الحاجة إلى التساؤل عن الماضي وإعادة النظر في الثقافة والنظام الاجتماعي التقليدي . فألقوا نظرة جديدة على المواجهة بين التقاليد والحداثة ، وحاولوا وضع التصورات للغد المضيء وللذاكرة المكتسبة.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تحاول فيها السينما الإفريقية إقامة علاقات بالعالم الفكري والخيالي " للأقدمين " . فقد سبق للمخرج سليمان سيسيه(من مالي) أن عبر في فيلمه ييلن( Yeelen) عن رغبة الأفارقة في إعادة امتلاك ناصية ماضيهم، وثقافتهم وصورتهم التي كان يتم تركيبها في معظم الأحيان من قبل المؤرخين، وعلماء السلالات البشرية والفنانين القادمين من عوالم أخرى.
تتساءل إدريسا أودراوغو (من بوركينا) بدورها في فيلمها تيلاي (أي القانون) عن "العادات" الإفريقية". ويتحدث فيلمها عن رجل شاب يعود إلى القرية ليعيش مع خطيبته فيجدها تزوجت والده. فيرفض هذا الوضع ويخرق قواعد الشرف والكرامة. ومنذ ذلك الحين لم يعد له مكانة في المجتمع، وكما في التراجيديا الإغريقية ، سيضرب القدر ضربته بلا رحمة ولا هوادة. كانت إدريسا أودراوغو تريد إبراز فكرة أن قصة إفريقية يمكن أن تبلغ الجميع وتنال من جميع الناس دون استثناء. وقد ربحت الرهان في فيلمها. الذي حصل على جائزة حصان يينينغا. وللمرة الأولى تذهب أرفع جائزة من فسباكو إلى فيلم آت من بوركينا.
غير أنه لوحظ أثناء النقاش حول الفيلم وأثناء اللقاء بين المشاهدين والسينمائيين وجود فيلمين آخرين لمخرجين شابين، يعالجان أيضاً مسألة التقاليد، وقد حظيا باهتمام العامة حول هذه الخرافة أو القصة الخرافية التي تعني ثقل رمز الشرف الذي يثقل كاهل الجميع بموجب التقاليد. وهذا يجعلنا ندرك على نحو أفضل الواقع اليوم ، بما فيه من إخفاقات وقيود، والذي يسبر السينمائيون أغوار ماضيه. وانطلاقاً من الفصل أو الانقطاع الحاصل بين الطبقات وهذا شيء مؤكد لأن هناك فرق بين الطبقات المتزعمة والعالم الريفي، فيريد السينمائيون إعادة دراسة هذا التنظيم وآلية سير العمل لدى هذا الجزء من المجتمع الذي كان قديماً هو القوة الحية المنتجة.
في فيلم "تادونا" (أي "حريق!") وهو أول فيلم طويل للمخرج آداما درابو من مالي، وهو مهندس مياه وغابات، نرى البطل "سيدي" يخرج في مهمة: وسيضع معارفه في خدمة مجتمع ريفي يعيش أيضاً في التقاليد . بيد أن الشاب الجامعي يتجنب كل غطرسة ولا يتمكن من أن يصبح صاحب الأمر والنهي. ويكتشف أن القرويين لديهم أيضاً معارفهم، وقبل أن ينقلوها إليه كانوا يختبرونها . وقد تقبل هذه المشاركة منهم. وفي المدينة ، حيث يقطن أصحاب السلطان والشأن ـ السياسيون والإداريون والاقتصاديون ـ فإن الانتهازية والفساد هما اللذان يفرضان القانون ويصيبان العالم الريفي ، لكن مقاومته هي التي تمنحه التماسك.
ظهر فيلم "تادونا" كنوع من الجولات التشاركية ، حيث يظهر فيه أن من تلقى التعليم ليس وحده الكبير العظيم : فكل واحد يمكن إغناء معرفته من معارف الآخرين إن لم يضن على الآخرين بمعارفه الخاصة. وهذا الفيلم الممتع ـ الذي يتيح فهماً أفضل للأحداث الأخيرة ـ تم إخراجه وكأنه لوحة فنية. فهو يسمو في كل ضربة ريشة على التوالي: فهناك الصور والمشاهد ، التي تبدو دون رابط يربط بينها في الظاهر ، لكن يؤول بها المطاف إلى أن تشكل رسماً بالغ الدقة للبيئة الجغرافية والاجتماعية والفكرية التي يتطور الماليون عبرها اليوم.
ثمة فيلم أول آخر، يبوح بشيء آخر وهو العادات والتقاليد من إخراج دريسا توريه (من بوركينا). فهناك أيضاً قرية احتفظت بنظامها التقليدي. وهناك ثلاثة أصدقاء من السن نفسه سينفصلون عن بعضهم للمرة الأولى. فبعد جدل صاخب، حصل اثنان منهم على ترخيص القدامى لهما بالرحيل إلى المدينة ليكتسبا فيها معارف أخرى قد تفيد الجميع، ولموافقة الجميع على الرحيل، فإن هذا المجتمع القروي يشعر في أعماقه بالحاجة إلى التطور. أما الصديق الثالث فبقي ليتلقى تعليمه على والده ، وهو أستاذ في المعرفة التقليدية.
لم يجد الصديقان في المدينة ضالتهما المنشودة : فلم يسلما من الجنوح، وعودتهما زرعت الاضطراب في النظام القروي. فقد واصل أحدهما انحرافه بينما سيحاول الثاني ، مدعوماً من الشبان الآخرين، احتلال مكانته مجدداً في المجموعة. وتم أخذ التجربة الفردية في الحسبان من قبل المجتمع القروي، الذي أظهر قدرة على استخلاص الدروس منها.
يصف هذان الفيلمان عالماً ريفياً مخلصاً لشكل تنظيمه الذي يبنى منه المجتمع الإفريقي خلال قرون. والمعرفة والسلطة تختلطان فيه اختلاطاً حميماً ، والسلطات الأكثر اتساعاً ملقاة طبعاً على عاتق من يصلون إلى أرفع درجة من المعرفة. لكن هذه المعرفة التي تنتقل من أستاذ إلى متدربه ، لا يباح بها إلا لمن اختبرت خاصيته البشرية والخلقية الأدبية. وفي مثل هذا العالم ، لكل مكانته وكل واحد يعرف دوره.
توجهت أصابع الاتهام إلى هذا النظام بعنف ، عندما فرض المستعمر نظامه الاجتماعي الخاص. وعندما جاء الاستقلال ، أعادت الأطر الإفريقية نفسها طرح النظم القديمة ، التي كانت تعد متخلفة ومدنسة بالسحر والتنجيم (أما المقدسات فكانت تحتل مكانة حاسمة ، وتبقي على العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة والعناصر).
منذ ذلك الحين ، فإن الطراز الريفي الذي رأى نفسه يفرض بأشكال متعددة منسوخة بدرجات متفاوتة عن الطرز الخارجية التي تجهل كل شيء عن الواقع المحلي، أبدى (أي الطراز الريفي) جموداً ملحوظاً تجاه كل شعار جديد، مهما يكن. ولحشد الطاقات من جديد ، يحتاج السكان إلى الإيمان بمستقبلهم الخاص؛ ويجب أن يضعوا التصورات لديناميكية اجتماعية تتيح لهم ضم مخططات جديدة وتقنيات "حديثة" دون أن يفقدوا هويتهم وأصالتهم.
هذا الجدل حول التوازن اللازم إقامته بين التقليد والجديد والأصالة والمعاصرة يبدو بوضوح في العديد من الأفلام الأخرى. وهكذا نجد فيلم "سانغو مالو" (أي سيد المقاطعة) ، للمخرج باسك با كوبيو (من الكاميرون) وهو يعرض مدير إحدى المدارس المخلصة للمبادئ التعليمية القديمة السائدة منذ زمن الاستعمار وتصادمه مع أستاذ شاب أكثر اهتماماً بالجعل من تلامذته شباناً يافعين متكيفين مع بيئتهم من جعلهم أبطالاً على مستوى الكتابة والإملاء.
فيلم "لاعافي" (أي كل شيء حسن) ، لمخرجه بيير ياموغو (من بوركينا)، يعالج ميول الطلبة : ففي معظم الأحيان تتحكم المنح الدراسية المتوافرة في هذا القطاع أو ذاك في "خيارات" الحاصلين على شهادة البكالوريا وتحدد توجهاتهم، وليس الحاجة إلى الاختصاصات أو الوظائف. إنه موضوع جديد. وهو بداية ممتازة؛ لكنه للأسف في منتصف الطريق وسيناريو الفيلم مشتت وضائع نوعاً ما .
المخرج دافيد ـ بيير فيلا (من الكونغو) أخرج فيلم " آخر البابينغاس" (وهو فيلم وثائقي طوله 26 دقيقة) وتدور أحداث الفيلم في منطقة يجري تدمير بيئتها كلياً ، وتقع على حدود جمهورية إفريقية الوسطى والكونغو. ويظهر الفيلم الغابة قبل أن تستغل استغلالاً جائراً ثم تتناقص في كل يوم الأراضي المخصصة لحياة البداوة والترحال. ويبدو في الفيلم أحد الأقزام من قبيلة البابينغاس وهو يميط اللثام عن ذاكرته وثقافته . وبكلمات مؤثرة ، يقول موجهاً كلامه إلى الرجل الأبيض الذي برمج لهذه الكارثة البيئية ، إن موت شعبه بصمت ، هو من أقدم الميتات في العالم.
في تسجيل آخر سجلته السينما ، نشير إلى فيلم "الله تانتو" (أي بفضل الله) وهو من إخراج الغيني دافيد أشقر، وهو يشير إلى أول فيلم شخصي جداً ، وهو شهادة على حياة والده وموته، وهو معروف أشقر، الذي كان سفيراً لسيكوتوري وممثلاً لغينيا في الأمم المتحدة قبل أن يسجن في سجن بوارو للأشغال الشاقة. لقد كانت بنية هذا الفيلم الشخصي بنية مذهلة ، تمكن منها المخرج بشكل رائع تماماً، واستخدم فيها الوثائق الأرشيفية والرسائل والأشياء المكتوبة والمدونة والأفلام التي صورها معروف أشقر بنفسه كهاو للتصوير ومشاهد أعادت بناء حياة سجين في زنزانته.
أعاد المخرج سمبن عثمان (من السنغال) حمل آلة تصويره. فقد صور اللقطات الأولى من فيلمه "غويلوار" ، وهو أيضاً قصة العودة إلى القرية ـ لكن العودة هذه المرة تعني "الجيل الثاني" ، وهم أبناء المدينة الذين ذهبوا إلى أوروبا وإلى الجامعة. وسمبن الذي كان الرائد والسباق سيقدم مساهمته في إعمال الفكر حول المواجهة الدائرة بين إفريقية التقليدية وإفريقية الحديثة التي التزمها بقوة السينمائيون الأفارقة الشباب.


*************************************************