آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 5 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 84

الموضوع: مع الروائي محمد جبريل

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي مع الروائي محمد جبريل

    الروائي محمد جبريل: نبذة عن حياته

    إعداد: شوقي بدر يوسف
    .............................

    * ولد بحى بحرى بمدينة الإسكندرية فى 17 فبراير عام 1938
    * كان أبوه محاسبا ومترجما فى نفس الوقت وله مكتبته الخاصة وقد أفاد جبريل من مكتبة أبيه فى قراءاته الأولى ويعتبرها سببا أساسيا فى حبه للأدب .
    * بدأ حياته العملية عام 1959 محررا بجريدة الجمهورية مع الراحل رشدى صالح ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء .
    * عمل فى الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة " الأصلاح الأجتماعى " الشهرية وكانت تعنى بالقضايا الثقافية
    * عمل خبيرا بالمركز العربى للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير .
    * عمل رئيسا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان ( تسع سنوات ) .
    * يعمل الآن رئيسا للقسم الثقافى بجريدة المساء .
    * حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عن كتابه "مصر فى قصص كتابها المعاصرين".
    * حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1976 .
    * درست أعماله فى جامعات السربون ولبنان والجزائر
    * متزوج من الكاتبة والناقدة زينب العسال وله ابنان أمل ووليد
    مؤلفاته
    * الأسوار ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1973
    * أمام آخر الزمان ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1984
    * من أوراق ابى الطيب المتنبى ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1988
    * قاضى البهار ينزل إلى البحر ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
    * تلك اللحظة من حياة العالم ( قصص ) ،
    * الصهبة ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1990
    * قلعة الجبل ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
    * النظر إلى أسفل ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991
    * أعترافات سيد القرية ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ،
    * الصباح ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995
    * الشاطئ الآخر ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1996 وقد ترجمت هذه الرواية إلى الأنجليزية .
    * حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1996
    * سوق العيد ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
    * إنفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
    * أبو العباس ( رواية .. الجزء الأول من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
    * ياقوت العرش ( الجزء الثانى من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
    * البوصيرى ( الجزء الثالث من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
    * على تمراز ( الجزء الرابع من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
    * مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998
    * زهرة الصباح ( رواية ) ،
    * حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1998
    * الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
    * حارة اليهود ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1999
    * المينا الشرقية ( رواية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
    * رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2000
    * بوح الأسرار ( رواية ) ، روايات الهلال ، القاهرة ، 2000
    * مد الموج ( تبقيعات نثرية مستمدة من سيرة ذاتية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
    * نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2001
    * زمان الوصل ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2002
    * ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بآمر الله ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 2003
    **حكايات الفصول الأربعة (رواية)، دار البستانى للنشر والتوزيع 2004
    ***
    عنوان القصة مكان النشر العدد تاريخ النشر
    الرائحة الهلال يناير 1983
    الطوفان إبداع 2 س 4 فبراير1986
    حكايات وهوامش إبداع 6 س 4 يونيو 1986
    المستحيل إبداع 8 س 4 أغسطس 1986
    انتظار الموقف العربى 77 سبتمبر 1986
    فلما صحونا إبداع 6 س 5 يونيو 1987
    الرفاعى والثعبان إبداع 5/6 س 7 مايو/يونيو1989
    مكان من الزمن القديم إبداع 11 س 7 نوفمبر 1989
    فى الشتاء نصف الدنيا 8 8/4/1990
    حالة أدب ونقد 58 يونيو 1990
    النبؤة الشاهد 59/60 يوليو/أغسطس 1990
    تشابكات نصف الدنيا 83 15/9/1991
    النبى عمران أدب ونقد 85 سبتمبر 1992
    الفندق الهلال مارس 1993
    الوقف القصة 85 يوليو/اغسطس/سبتمبر95
    الشجرة الأهرام العربى 74 22/8/1998
    مدينة الأسرار الأهرام 27/11/1998
    مد الموج الرافد 40 ديسمبر 2000
    البيرق الرافد 66 فبراير 2003
    الكتب التى صدرت عنه
    * الفن القصصي عند محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1984
    * دراسات فى أدب محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1986
    * صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل، د . حسين على محمد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الأسكندرية ، 1999
    * فسيفساء نقدية : تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
    * محمد جبريل .. موال سكندرى ، فريد معوض وآخرون ، كتاب سمول ، 1999
    * استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ، د . سعيد الطواب ، دار السندباد للنشر ، 1999
    * تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل، د. حسين على محمد، كلية اللغة العربية، المنصورة ، 2001
    * فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ، نعيمة فرطاس ، أصوات معاصرة ، 2001
    * روائى من بحرى ، حسنى سيد لبيب ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001
    الدراسات التى نشرت عن ابداعه فى فصول من الكتب
    * ( محمد جبريل ) ، أحاديث حول الأدب والفن والثقافة ، عبد العال الحمامصى ، دار المعارف ، القاهرة ، 1978
    * ( قراءة فى قصص محمد جبريل ) ، قراءة فى القصة القصيرة ، محمد قطب ، المكتبة الثقافية .. الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1981
    * ( ملامح البيئة المصرية فى " إنعكاسات الأيام العصيبة " ) ، مقالات وبحوث فى الأدب العربى المعاصر ، د . صابر عبد الدايم ، دار المعارف ، القاهرة ، 1983
    * ( البناء الفنى فى رواية " آخر الزمان " ) ، در اسات نقدية فى الأدبين العربى والأسبانى ، د . حامد يوسف أبو أحمد ، الفكر العربى ، القاهرة ، 1987
    * ( قاضى البهار ينزل إلى البحر وأسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية ) ، رواية قاضى البهار ينزل إلى البحر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
    * ( استلهام الأحداث والشخصيات التاريخية فى قصص محمد جبريل ) ، الظواهر الفنية فى القصة القصيرة المعاصرة فى مصر 1967 – 1984 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
    * ( الأسوار .. لحظات مصرية ) ، إنطباعات غير نقدية ، عبد العال الحمامصى ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، د . ت
    * ( تعدد مستويات الخطاب الروائى : د . ماهر شفيق فريد ) ، رواية قلعة الجبل ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
    * ( رواية محمد جبريل " من أوراق أبى الطيب المتنبى .. العلاقة الجدلية بين الأدب والتاريخ ) ، دراسات نقدية فى الأدب المعاصر ، د . أحمد زلط ، دار المعارف ، القاهرة ، القاهرة ، 1991
    * ( " إمام آخر الزمان " و " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ) ، العناصر التراثية فى الرواية العربية فى مصر .. دراسة نقدية 1914 – 1986 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، دار المعارف ، القاهرة ، 1991
    * ( محمد جبريل والبحث عن الحلم الضائع ) ، الرواية التاريخية فى أدبنا الحديث ، د . حلمى محمد قاعود ، دار الإعتصام ، القاهرة ، 1990
    * ( محمد جبريل قصاصا ) ، فى القصة العربية ، د . يوسف نوفل ، كتابات نقدية .. الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1992
    * ( تأملات فى روايتى " هنرى الرابع " لهانريش مان و " قلعة الجبل " لمحمد جبريل : د . عبد الله محمد أبو هشة ) ، المؤتمر الدولى للدراسات الجرمانية ج 6 ، القاهرة ، 1991
    * ( العنف السياسى فى رواية " الأسوار " ) ، الرؤية السياسية فى الرواية الواقعية فى مصر 1965 – 1975 ، د . حمدى حسين ، مكتبة الآداب بالجماميز ، القاهرة، 1994
    * ( " الأسوار " و " النظر إلى أسفل " ) ، الرؤى والأحلام .. قراءة فى نصوص روائية ، محمد قطب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995م
    (يتبع)


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    * ( محمد جبريل روائيا .. أزمة جيل من الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ) ، الرواية السياسية ، د . طه وادى ، دار النشر للجامعات المصرية ، القاهرة ، 1996 ص 165
    * ( محاور التجربة القصصية فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ) ، جماليات القصة القصيرة .. دراسة نصية ، د . حسين على محمد ، الشركة العربية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1996
    * ( " زهرة الصباح " البحث عن الأمل والحلم بالنجاة ) ، حوار الرواية المعاصرة فى مصر وسورية ، د . حلمى محمد القاعود ، دار إشبيلية ، دمشق ، 1998
    * ( المقاومة أو الوطن إلى الجنون " حول قصص محمد جبريل " ) ، اجيال من الإبداع ، زينب العسال ، جماعة التأصيل الأدبى والفكرى ، القاهرة ، 1998 ص 78
    * ( محمد جبريل .. " قاضى البهار ينزل إلى البحر " إستخدام اسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية : النظر إلى أسفل والبطل المأزوم والتعبير عن أزمة المجتمع ) ، مسيرة الرواية فى مصر .. قراءة لنماذج مختارة ، د . حامد أبو احمد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2000 ص 55 ص 73
    * ( غرباء على الخليج .. الخليج ) ، تقاسيم نقدية ، زينب العسال ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2001 ص 49
    * ( قصدية المقاومة فى مجموعة حارة اليهود ) ، المقاومة والأدب ، د . السيد نجم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001 ص 62
    * ( رباعية بحرى ) ، الحياة فى الرواية .. قراءة فى الرواية العربية والمترجمة ، أحمد فضل شبلول ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2001 ص 30
    * ( فضاء " المكان الحلم " فى مجموعة " حكايات وهوامش من حياة المبتلى " لمحمد جبريل ، بناء " فضاء المكان " فى القصة العربية القصيرة .. نقد ، محمد السيد اسماعيل ، دائرة الثقافة والأعلام ، الشارقة ، 2002 ص 151
    * ( كل إلى بيته يعود .. أو إلى " الشاطئ الآخر " ) ، اللغة والتراث فى القصة والرواية ، ربيع الصبروت ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2003
    الدراسات التي نشرت عن إبداعه فى الدوريات
    * قراءة فى أدب كاتب شاب .. حول محمد جبريل ، محمد قطب ، المجلة ، القاهرة ، ع 178 ، أكتوبر 1971 صص 84
    * أى فن يبتعد عن الإنسان يجعل الحياة تفقد قيمتها ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 17/10/1971
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، محمد صدقى ، الجمهورية ، القاهرة ، 13/4/1972
    * دراسة أكاديمية أم رواية أدبية .. حول رواية " الأسوار " ، فتحى الإبيارى ، الأخبار ، القاهرة ، 14/4/1972
    * لقاء مع محمد جبريل ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 30/4/1972
    * الشعب والحرب والحياة ، كمال النجمى ، المصور ، القاهرة ، 23/6/1972
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1973
    * مصر بين جمود المؤرخ وتسطيح الأديب ، د . رفعت السعيد ، الطليعة ، القاهرة ، اكتوبر 1973
    * عرض لرواية " الأسوار " ، عبد العال الحمامصى ، الزهور ، القاهرة ، أبريل 1974
    * الأسوار ( رواية ) ، د . نبيل راغب ، الثقافة ، القاهرة ، أبريل 1974
    * محمد جبريل فى الأسوار .. الفنان من خلال عمله، محمد الراوي، الثقافة ، القاهرة ، ع 45 ، 30/8/1974
    * الناس فوق الأزمنة الممتدة .. قراءة فى رواية الأسوار ، الداخلى طه ، الزهور ، القاهرة ، ديسمبر 1974
    * محمد جبريل الزمان والمكان ( حوار ) ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 1937 ، جمادى الآخر 1394
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، طه محمد كسبه ، الثقافة ، القاهرة ، 15/3/1974
    * قطر الندى .. عن كتاب مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، عبد المنعم الصاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 29/12/1975
    * الإنسان وإيقاع العصر الراكض .. حول مجموع " تلك اللحظة من حياة العالم " ، حسن الجوخ ، الثقافة العربية ، طرابلس ، ع 1 س 4 ، يناير 1977 ص 40
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( تأليف محمد جبريل ) ، نبيل راغب ، الجديد ، القاهرة ، ع 135 ، 1/1/1978 ص 35
    * رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الراية ، الدوحة ، 25/2/1981
    * رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الوطن ، عمان ، 30/3/1981
    * الفارس فوق ساحة الأزمنة .. قراءة فى رواية " الأسوار"، الداخلي طه، ج الوطن ، مسقط ، 1/6/1981
    * جبريل يواصل العطاء ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 254 ، 6/9/1981
    * الأسوار ( رواية محمد جبريل ) محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، القصة ، القاهرة ، أكتوبر 1981
    * النظر إلى اسفل ، د . حسن فتح الباب ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 5/1/1983
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1983
    * محمد جبريل والعودة إلى النصف الآخر ، العقد ، 14/6/1984
    * من هو " إمام آخر الزمان " ؟ ، شفيق أحمد على ، روز اليوسف ، القاهرة ، 12/11/1984
    * إمام آخر الزمان .. جبرة الأنسان بين الدونية الممقوتة والكمال المطلق ، الداخلى طه ، إبداع ، القاهرة ، ع 3 س 3 ، مارس 1985
    * محمد جبريل يتحدث إلى صوت الشرقية، زينب العسال، صوت الشرقية، الزقازيق، مارس 1985
    * الروائى المصرى محمد جبريل ، المحرر ، مرآة الأمة ، الكويت ، 27/7/1985
    * انعكاسات الأيام العصيبة .. مجموعة قصصية ، عبد الوهاب الأسوانى ، الأذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2639 ، 12/10/1985 ص 37
    * إمام آخر الزمان ( رواية محمد جبريل ) ، المحرر ، الحياة ، لندن ، 20/10/1985
    * إمام آخر الزمان ، المحرر ، إبداع ، القاهرة ، يناير 1986
    * مصر فى قصص كتابها المعاصرين، حسن محسب، الإذاعة والتليفزيون، القاهرة، 10/1/1986
    * البناء الفنى فى رواية " إمام آخر الزمان " ، د . حامد أبو احمد ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 782 / 784 ،
    * قراءة نقدية فى رواية " الأسوار " ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، 30/4/1986
    * مغامرة الشكل الروائى .. المزج بين الحوار المسرحى والفلاش باك ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 743 ، 7/5/1986
    * الكاتب الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، محمد يوسف ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 745 ، 21/5/1986
    * هل عادت الرواية إلى الرومانسية .. " حول روايات محمد جبريل " ، فتحى سلامة ، الأهرام ، القاهرة ، 29/6/1986
    * هوامش محمد جبريل .. حول رواية " إمام آخر الزمان " ، جمال نجيب التلاوى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2685 ، 30/8/1986
    * جبريل : تجربة الغربة انعكست على كثير من كتاباتى .. " إمام آخر الزمان " تناقش هما عربيا موحدا ، على عبد الفتاح ، 7/9/1986
    * هل يعترف ادباؤنا بالزممن مقارنة بين " يوم قتل الزعيم " و " النظر إلى أسفل " محمود المنسى ، م النصر ، القاهرة ، فبراير 1987
    * رواية " إمام آخر الزمان"، د . حلمى محمد القاعود ، عالم الكتاب ، القاهرة ، ع 13 ، يناير/فبراير/مارس 1987
    * من اوراق أبى المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1987
    * السؤال الحائر فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 97 ، 15/7/1989 ص 104
    * الأديب محمد جبريل وعالمه الإبداعى ( حوار ) ، على عبد الفتاح ، البيان ، الكويت ، أغسطس 1987
    * من أوراق ابى الطيب ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/2/1988
    * محمد جبريل و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 21/2/1988
    * محمد جبريل والتعبير ، أيمن حسن محمد ، الرافعى ، طنطا ، ع 8 ، 1988
    * من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/3/1988
    * من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1988
    * الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، شرف الدين عبد الحميد ، صوت سوهاج ، سوهاج ، يوليو 1988
    * الرغبة والتحقيق فى أوراق أبى الطيب المتنبى ، د . محمد نجيب التلاوى ، الجنوبى ، المنيا ، اكتوبر 1988
    * الرغبة والتحقيق فى " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، جمال نجيب التلاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 4/10/1988
    * من أوراق أبى الطيب المتنبى ، الدخلى طه ، القاهرة ، القاهرة ، ع 88 ، 15/10/1988
    * النقاد يناقشون رواية " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، المحرر ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 1/1/1989
    * ندوة حول محمد جبريل وروايته " اوراق أبى الطيب المتنبى " ، على عبد الفتاح ، الرأى العام ، الكويت ، 16/1/1989
    * محمد جبريل صاحب " أوراق المتنبى " ( حوار ) ، شادى صلاح الدين ، ج الوطن ، عمان ، 26/1/1989
    * الروائى المصرى محمد جبريل: أهاجر إلى التاريخ لأكتب من الواقع ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 27/1/1989
    * البناء الفنى فى رواية "إمام آخر الزمان"، د . حامد ابو احمد ، إبداع ، القاهرة ، فبراير 1989
    * هذه الرواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، 26/3/1989
    * الواقعية الرمزية فى رواية محمد جبريل الجديدة " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، ج الرياض ، الرياض ، 6/4/1989
    * محمد جبريل لكى نتساجل لا بد من إثارة قضية أولا ، المحرر ، ج الشرق الأوسط ، لندن ، 23/4/1989
    * قاضى البهار ينزل البحر ، فتحى الأبيارى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 2/7/1989
    * محمد جبريل بين شد الصحافة وجذب الأدب ( حوار ) ، هبة الله يوسف ، م العرب ، 10/7/1989
    * رواية " قاضى البهار ينزل إلى البحر " ، د . حامد أبو أحمد ، ج الرأى العام ، الكويت ، 17/8/1989
    * محمد جبريل : لجنة نوبل لا تقرأ الأعمال واتجاهاتها سياسية (حوار)، د . محمد نجيب التلاوى ، صوت المنيا ، المنيا ، 14/9/1989
    * العناصر التراثية فى الرواية المصرية .. حول روايات محمد نجيب ، د . جمال التلاوى ، القاهرة ، القاهرة ، نوفمبر 1989
    * حوار مع الأديب محمد جبريل ، الفيروز ، يناير 1990
    * قاضى البهار ينزل إلى البحار ، فتحى هاشم ، الكواكب ، القاهرة ، 20/2/1990
    * صهبة محمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، م أكتوبر ، القاهرة ، 11/4/1990
    * محمد جبريل ينزل إلى البحر، د. محمد زكريا عنانى ، الأيام ، القاهرة ، 8 – 15/4/1990
    * صهبة محمد جبريل ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 703 ، 15/4/1990
    * نقطة فوق حرف ساخن .. حول رواية " الصهبة " ، رأفت الخياط ، المساء ، القاهرة ، 11/5/1990
    * بنيات السرد الموضوعى .. حول رواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، د . جمال نجيب التلاوى ، إبداع ، القاهرة ، مايو/يونيو 1990
    * حوار مع الروائي محمد جبريل ، د. حسين على محمد ، القصة ، القاهرة ، يوليو 1990
    * الأيام تحاور الأديب محمد جبريل ، مجدى عبد النبى ، الأيام ، القاهرة ، 22/7/1990
    * رواية " الصهبة " لمحمد جبريل وصورة الإنسان متمردا مقدسا وهائما محسوسا ، شمس الدين موسى ، القدس العربى ، لندن ، 31/7/1990
    * حالة الصهبة التى يغشى فيها ، د. مصطفى عبد الغنى ، الأهرام ، القاهرة ، 12/8/1990
    * محمد جبريل الأسطورة والأنسان ، خير سليم ، م قنا الأدبية ، قنا ، ع 1 .
    * الشخصيات الروائية فى " قاضى البهار ينزل البحر " ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 107 ، 15/8/1990
    * حركة النص التراثى فى القصة المصرية .. حول محمد جبريل ، د . مراد مبروك ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، مارس 1991
    * عائشة فى مواجهة سلطان القلعة، عبد الفتاح رزق، روز اليوسف ، القاهرة ، 11/3/1991
    * قلعة الجبل بين القناع التاريخ والرواية السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، 16/8/1991
    * البطل المأزوم بين عجز الذات والخلاص المرير .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، سمير الفيل ، إبداع ، القاهرة ، سبتمبر/اكتوبر 1990
    * الصهبة لمحمد جبريل .. قصة طويلة يسعى البطل بنفسه إلى أن يكون ضحية الأستبداد ، محسن خضر ، الحياة ، لندن ، 22/10/1990
    * عندما اختلف النقاد الأربعة حول رواية " الصهبة " ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 42 س 1 ، 2/12/1990 ص 50
    * الروائى محمد جبريل ، محمد الفقى ، الأنباء ، الكويت ، 23/1/1991
    * مدن النسيان .. حول رواية " قلعة الجبل " ، محمد على فرحات ، الحياة ، لندن ، 5/3/1991
    * قلعة الجبل بالفرنسية ، ثناء أبو الحمد ، الأخبار ، القاهرة ، 22/5/1991
    * الإطار والصورة فى " الصهبة " ، د . عبد البديع عبد الله ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 27/2/1991
    * محمد جبريل وقلعة الجبل ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 7/4/1991
    * صهبة محمد جبريل لحظة صدق شفافة ومتجردة ، سعيد سالم ، الشاهد ، نيقوسيا ، ع 69 ، مايو 1991
    * " قلعة الجبل " استلهام التايخ .. إسقاط على الحاضر ، سعد القرش ، الأنباء ، الكويت ، 17/5/1991
    * تجليات المكان وتطور الوعى .. دراسة فى رواية " قلعة الجبل " لمحمد جبريل ، محمد أحمد الحمامصى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، يونيو 1991
    * قلعة الجبل ( رواية ) ، عماد الغزالى ، الوفد ، القاهرة ، 6/6/1991
    * قلعة الجبل الضلع الرابع فى الرواية التاريخية ، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 7/7/1991
    * إبداع الدلالة عند محمد جبريل .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، عبد الله السمطى ، ج الرياض ، الرياض ، 30/7/1991
    * قلعة الجبل لمحمد جبريل .. الرواية بين القناع التاريخ والرؤيا السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، اغسطس 1991
    * إبداع للدلالة فى رواية " الصهبة " ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 19/9/1991
    * الإبداع هو الأصل والفنان يولد ولا يصنع ( حوار ) ، المحرر ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 25/9/1991
    * ندوة حول " الصهبة " لمحمد جبريل ، نبيل خالد ، الرأى العام ، عمّان ، 12/11/1991
    * الإخوة المواطنون والنظر إلى أسفل، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 12/1/1992
    * النظر إلى اسفل والصعود إلى الهاوية ، جمال بركات ، الشرق الأوسط ، لندن ، 22/1/1992
    * ندوة نقدية حول رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، المحرر ، الرأى العام ، عمّان ، 23/2/1992
    * محمد جبريل والنظر إلى اسفل ، شمس الدين موسى ، الحياة ، لندن ، مارس 1992
    * أربعة وجوه فى الرواية التاريخية فى مصر ، د . ماهر شفيق فريد ، صوت الكويت الدولى ، الكويت ، 9/3/1992
    * روائى يؤرخ لحياتنا المعاصرة ، يسرى حسان ، الدولية ، باريس ، 27/4/1992 ص 40
    * الروائى محمد جبريل يتحدث (حوار)، د . حسين على محمد ، المسائية ، الرياض ، 11/5/1992
    * الأديب محمد جبريل ليس هناك أزمة إبداع بل صعوبة فى النشر ، المحرر ، ج الرأى العام ، الكويت ، 2/6/1992
    * النظر إلى أسفل ، محمد قطب ، الأهرام ، القاهرة ، 14/6/1992
    * التاريخ ملهى الإمام ومدينته الفاضلة، سعد القرش، الأهرام المسائى، القاهرة، 23/6/1992
    * قراءة نقدية فى رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، د . حامد أبو احمد ، العربى ، الكويت ، ع 405 ، أغسطس 1992
    * المعنى فى بطن الشاعر .. حول أدب محمد جبريل ، عبد الله باجبير ، الشرق الأوسط ، لندن ، 2/8/1992
    * ( ملف خاص عن محمد جبريل ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 49 ، أكتوبر 1992 )
    * محمد جبريل روائيا .. قضية جيل بين الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ، د .طه وادى
    * انشطار الذات فى رواية " النظر إلى اسفل " ، محمد قطب .
    * رواية .. " إمام آخر الزمان " عبد الله محمد أبو هشة .
    * قاضى البهار ينزل إلى البحر ، مصطفى كامل .
    * قضيرة المصير العربى شاغلى الأساسى ( حوار ) ، محمد أحمد الحمامصى .
    * التداعى والنظام فى رواية " النظر إلى اسفل " ، مجدى أحمد توفيق .
    * قلعة الجبل رواية محمد جبريل ، محمد عبد الله عبد الهادى ، القصة ، القاهرة ، يوليو/أكتوبر 1992
    * تاريخنا السياسى والنظر إلى اسفل ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 1/10/1992
    * لغز عائشة فى " قلعة الجبل " ، محمد عبد الحافظ ناصف ، الحياة ، القاهرة ، 11/10/1992
    * محمد جبريل : مبدعو الستينيات أكثر الأجيال تحملا لهموم المجتمع ( حوار ) ، المحرر ، صوت الكويت ، الكويت ، ع 14/10/1992
    * السراب المنشود فى " إمام آخر الزمان " ، ناصر سلطان ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 8/12/1992
    * هل يشهد عقد التسعينيات ازدهار الفن الروائى فى مصر ، د . حامد أبو احمد ، ج الرياض ، الرياض ، 10/12/1992
    * نجيب محفوظ وأحدث جيلين ، أحمد الحوتى ، ج الأنباء ، الكويت ، 12/5/1993
    * المقاومة أو الطريق إلى الوطن .. حول قصص محمد جبريل ، زينب العسال ، القاهرة ، القاهرة ، مارس 1994
    * " اعترافات سيد القرية " ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 3/6/1994
    * محمد جبريل الزمان والمكان ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 937 ، 1/6/1994
    * كلام عن الحرية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 4 م 12 ، شتاء 1994 ص 335
    * سردية الرواية بين حواف الذاكرة وحواف المخيلة .. ( تحقيق ) ، عبد الله السمطى ، الحرس الوطنى ، الرياض ، ع 161 س 17 ، يناير 1996
    * من تجاربهم .. ماذا يريد الكاتب ( شهادة ) ، الفيصل ، الرياض ، ع 233 س 20 ، مارس/إبريل 1996 ص 76
    * القاهرة .. الأيام الأولى ( شهادة ) ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 3192 ، 18/5/1996
    * الشاطئ الآخر بين جبريل وكفافيس .. حول رواية الشاطئ الآخر ، د . جمال عبد الناصر ، الأهرام ، القاهرة ، 25/8/1996
    * الهروب نحو الشاطئ الآخر ، المحرر ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، أكتوبر 1996 ص 12
    * محمد جبريل فى " الشاطئ الآخر " رواية الاتزان الجميل ، المحرر ، الأهرام ، القاهرة ، 1/12/1996 ص 22
    * قراءة فى رواية " الشاطئ الآخر " للروائى محمد جبريل ، صلاح عطية ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 192 ، 16/3/1997 ص 15
    * قراءة نقدية فى رواية " زهرة الصباح " ، يوسف الشارونى ، العربى ، الكويت ، ع 462 ، مايو 1997 ص 51
    * زهرة الصباح وعبيرها السياسى ، د. عبد الحميد القط، القاهرة، القاهرة ، ع 173/174/175 ، ابريل/مايو/يونيو 1997 ص 147
    * حكايات وهوامش من حياة المبتلى .. عفاف عبد المعطى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 109 ، أكتوبر 1997 ص 18
    * الشاطئ الآخر .. رواية محمد جبريل ، نجلاء علام ، القصة ، القاهرة ، ع 92 ، ابريل/مايو/يونيو 1998 ص 62
    * كتبت ما تريده الرواية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 1 م 17 ، صيف 1998 ص 330
    * عن رباعية بحرى لمحمد جبريل ، محمد رجب ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 129 ، يونيو 1999 ص 32
    * رباعية بحرى ، د . ماهر شفيق فريد ، القصة ، القاهرة ، ع 96 ، أبريل/مايو/يونيو 1999 ص 36
    * ماهر شفيق فريد يتأمل العالم الروائى لمحمد جبريل .. فسيفساء نقدية ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 512 ، 5/12/1999 ص 73
    * حارة اليهود ( مجموعة محمد جبريل ) ، مديحة أبو زيد ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 143 ، أغسطس 2000 ص 107
    * المينا الشرقية ( رواية محمد جبريل ) ، أحمد حسين الطماوى ، القصة ، القاهرة ، ع 102 ، أكتوبر/نوفمبر/ديسمبر 2000 ص 71
    * آلية التعبير فى أدب محمد جبريل .. حول مجموعة " رسالة السهم الذى لا يخطئ " ، د . حسن البندارى ، الأهرام ، القاهرة ، 2/2/2001 ص 36
    * البحث عن المكان المراوغ فى " رباعية بحرى " ، مهدى بندق ، الكلمة المعاصرة ، الإسكندرية ، ع 19 ، مايو 2001
    * " نجم وحيد فى الأفق " رواية جديدة لمحمد جبريل ، المحرر ، الحياة ، لندن ، ع 14174 ، 8/1/2002 ص 16
    * الرمز فى " حارة اليهود " لمحمد جبريل، د . حسين على محمد، الرافد ، الشارقة ، ع 57 ، مايو 2002 ص 67
    * القراءة الراهنية للتاريخ .. " قلعة الجبل نموذجا " ، د . عبد الله أبو هيف ، الرافد ، الشارقة ، ع 66 ، فبراير 2003 ص 45
    * نجم وحيد فى الأفق .. رواية محمد جبريل ، حسنى لبيب ، الهلال ، القاهرة ، مارس 2003 ص 169
    * سيرة الموت فى " ما ذكره رواة الأخبار"، محمد عبد الحافظ ناصف ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 542 ، 30/11/2003 ص 32
    * الدلالات السردية فى رواية " الحياة ثانية"، د . صبيحة عودة ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 163 ، ديسمبر 2003 ص 33
    * ( محمد جبريل .. ملامح شخصية " ملف خاص " ، الرافد ، الشارقة ، ع 76 ، ديسمبر 2003 )
    * محمد جبريل ملامح شخصية وسيرة إبداعية ، حسنى سيد لبيب ص 34
    * محمد جبريل: نهر الجنون لتوفيق الحكيم يستطيع أن يكتبها طالب ثانوي ( حوار ) ، عبد الفتاح صبري ص 36
    * الرؤية والتشكيل فى حارة اليهود، د . خليل أبو ذياب ص 42
    * أسئلة الرواية فى " زمان الوصل" ، شوقي بدر يوسف ص 49
    * قراءة فى رواية " نجم فى أفق جديد " ، حسنى سيد لبيب ص 55


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    محمد جبريل.. ومعنى الحرية

    بقلم: زينب العسال
    ..........................

    فى شهادته المنشورة فى مجلة "فصول" يقول محمد جبريل: "أنا مبدع مهموم سياسيا.. إنها سدى اهتماماتى الشخصية والإبداعية فى الوقت نفسه."
    جبريل المهموم سياسيا والمعنى بتحقيق الحرية السياسية التى هى حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة.. يوسع من مفهوم الحرية، فالأهم عنده من الكتابة عن الحرية.. هو "أن أكتب فى حرية، وأن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى..
    هذا الهم السياسى يبين عن نفسه فى غالبية كتابات جبريل الإبداعية منذ كتابه الأول "الملاك" والذى نشره ولم يتجاوز سن الكاتب آنذاك خمسة عشر عاما بعبارة.. "أشياء ثلاثة كرست حياتى للدفاع عنها: الحق والخير والحرية.. وأرى أن التمتع بالحرية كفيل بأن يحقق الخير والحق.. هل يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته إلا إذا كان حرا!.. وهل يمكن للإنسان أن يتمتع بالحرية إذا لم يتمتع بها الآخرون؟! إن مبدأ الحرية يلازمه بالضرورة علاقة الفرد الإنسان بالسلطة أيا كانت هذه السلطة.. سواء أكانت سلطة الحاكم أو سلطة الجماعة/المجتمع أو السلطة الأبوية.. البعض لا يرى وجود تعريف محدد للسلطة فإعطاء مفهوم للسلطة سيكون الأمر أكثر سلطوية.. فالسلطة متعددة الوجوه خافية وظاهرة.. من الممكن أن تكون سلطة مركبة.. متعددة.. ومتغيرة الوجوه.. "يمكن أن تعرف نفسها بكونها ذات أسماء عديدة، وتوجد فى كل الأمكنة والخطابات من الأسرة إلى الدولة، من التابو إلى الليبيدو، من العلم إلى الإيديولوجيا، من المستشفى إلى السجن، من العقل إلى الجنون، ومن المدرسة إلى الكنيسة.(1)
    السلطة إجمالا قائمة فى كل خطاب نقوم به حتى ولو كان يصدر من موقع خارج السلطة وهى لها آلياتها المتعددة.
    كان الحديث عن السلطة فى عصور ماضية لا يتم إلا عن طريق الرمز.. فيكون الخطاب على لسان الطير أو الحيوان أو يلجأ الكاتب إلى استخدام البلاغة. إن السلطة هنا تتعلق بالسياسة، لا تتعلق بمن يحكم بقدر تعلقها بكيف يحكم؟ (2)0
    هذا المفهوم تشير إليه روايات "الأسوار" و"إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبى الطيب المتنبى" و"قاضى البهار ينزل البحر" و"الصهبة" و"قلعة الجبل" و"الخليج" و"المينا الشرقية".
    من الخطأ البالغ أن نقول إن العلاقة بين المصرى والسلطة سارت دائما فى خط واحد ثابت.. القهر من جانب السلطة والخنوع المطلق من جانب المصرى.. فقد حدثت على مدار التاريخ عدة ثورات شعبية فى مواجهة السلطة الغاشمة..
    أعلن الإمام فى "إمام آخر الزمان" أن الإمامة منصب إلهى كالنبوة، فالأئمة عليهم نفس مسئوليات الأنبياء، وإن كان لا يوحى إليهم.. محمد جبريل يرصد بذكاء فكر الإمام الطاغية، فهو يصادر كل صوت سيعلو بالرفض لسياسته بأن هذه السياسة هى إلهام من عند الله فلا يحق للمسلم رفضه أو حتى مناقشته!.. تطلع الشعب إلى ظهور الإمام الحق "المهدى المنتظر" فكان أول ما فعله هو القضاء على المباذل "أغلقت دور السينما والملاهى الليلية أبوابها.. اقتصرت مواد الإذاعة والتليفزيون على البرامج الدينية والجادة وتلاوات القرآن الكريم.. أوقفت البنوك معاملاتها بالفائدة، ألغيت المدارس المختلطة، شجع على إنشاء الأسبلة والكتاتيب والمساجد.. خصص للعده يومين كل أسبوع فى مجلس عام.." هكذا كانت البداية وهى فى الغالب هكذا.. فإذا أمعنا النظر وجدنا أن بذور السلطة والتفرد بالحكم بادية لكل لبيب.. فهو الذي يقرر بالإغلاق وتحويل مسار البرامج.. التوجه للدعاية الدينية للنظام.. أى اصطباغ النظام بصيغة دينية واضحة. إعادة نظام قديم للتعليم أمام غلق المدارس المختلطة إيذانا بأن على المرأة أن تختفى ويتراجع دورها فى صنع المجتمع، ومن ثم لم نفاجأ بأنه يعيد النساء إلى بيوتهن وإلزامهن بالتزيى بالزى الإسلامى.. وفى خطوة أخرى للتفرد بالسلطة وإحكام قبضة النظام على مقاليد الأمور "اتخذ رجال أمن الإمام أماكنهم بين المصلين، فلا يصلون ولا يغادرون المسجد إلا وهو يغلق أبوابه.." فقد صار الوطن سجنا كبيرا للجميع. سلطة كهذه نجدها تهمل شئون الناس وأمور حياتهم.. يتفاقم الوضع على قسوة الحاكم الذى يهدد شعبه بالتنكيل والقتل لكل من يفكر فى المقاومة.. ورغم ذلك ترددت الألسنة وتساءل الناس: لماذا لا نقاوم؟!
    يدين محمد جبريل أصحاب الرأى الذين يكتفون بالمناقشة ومتابعة أفعال الإمام بالاستهجان والاستنكار.. ولكن لا يتحول الموقف إلى فعل إيجابى ممثلا فى الثورة.. فهم ينتظرون أن يأتى إمام جديد بالحل.. ثم ترجع ريما لعادتها القديمة.. فيعم الفساد والمظالم.
    ظهرت فكرة جماعية القيادة التى طالب بها صفوة العلماء والفقهاء المفكرين.. لم تحظ بقبول..
    -أية جماعية وأية قيادة؟ النبوة ليست بالشورى.. فلماذا نطلب ذلك فى الإمامة، لقد أعطونى طاعتهم حين أعطونى إيمانهم بى.
    انتقل الإمام من خلوته إلى قهوة السيالة.. مكانا شعبيا يلتقى فيه بعامة الناس.. لا يتحدث عن الدين والآخرة –فقط- بل يتحدث عن حياة الناس ومعاشهم.
    ولكن هذا الرجل الذى أمل الناس فى إمامته يقتل ذات يوم.. ليظل السؤال قائما. هل لابد من الفرد الذى يقود الجماعة؟! ولماذا لا يحكم الناس أنفسهم؟!
    يظل الشعب يعانى وتبدأ الثورة بالهمس.. ثم تعلو النبرة، ليعلو صوت الثورة هادرا فى كافة العواصم العربية والإسلامية، لقد دفع الحفناوى حياته ثمنا لتحرك الناس نحو حريتهم، كان موته هو المحرك الأول لتأخذ الجماعة المبادرة وتتحرك لاختيار من يقودها بينهم.
    فى رواية قلعة الجبل تأخذ الجماعة دورها فى الوقوف ضد بطش وقهر السلطان خليل الحاج أحمد.. فالسلطان الذى اختلف النص فى الحديث عنه.. وتعددت الأصوات، وإن ظل الكاتب متعاطفا مع عائشة القفاص، متحدثا عن قضيتها بنوع من التعاطف الذى جمع أهل حدرة الحنة والمناطق المحيطة بها لتقف فى ثورة عارمة أمام بطش السلطان.. ما الحكاية إذن؟
    -تعجب السلطان من امرأة مصرية من عامة الشعب.. يشرد زوجها أو يتخلص منه ومن والدها وخالها وكل من يتعاطف مع عائشة.. تبدو المسألة أنها خلافات بين الرواة فيما ذكروه فى شأن السلطان وحكايته مع عائشة.
    "فاعلم أن السلطان خليل بن الحاج أحمد كان متدينا وعالما وفاضلا، عنى برفع التهارج، ورد الثوابت، وقمع المظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وكان له فى عقاب المفسدين اختراعات مهلكات وإن استمد أحكامه من مصادر التشريع الإسلامى..
    هل يختلف السلطان خليل عن أى إمام ورع صالح.. غير أن حقيقة الأمر تضعنا أمام صورة أخرى رسمها الكاتب لهذا الرجل.. فقهره لم يعلن عنه مباشرة.. فقد استخدم سلطته فى اجتذاب عائشة للصعود إلى القلعة.. ثم التأثير على زوجها خالد عمار.. ووالدها.. فشلت المحاولة.. فكان البطش.. والتخلص من الخصوم بتلفيق التهم.. والتفنن فى العقاب الرادع!
    لم يقف الأمر عند أهل عائشة بل امتد إلى كل شخص حاول أن يقف بجوارها أو لجأت إليه.. بدأ القمع بأناس عاديين واتجه إلى رموز فى السلطة ذاتها.. الخليفة لفقت له تهمة الخيانة، تحدث السلطان عن رسائل بعث بها الخليفة إلى أمراء البلاد يدعوهم فيها إلى مخالفة السلطان.. ثم تخلص من زوجته الأولى.. خرج الناس فى الأسواق والشوارع والعطوف ومضوا إلى قلعة الجبل، تجمعوا حول القلعة يدعون ويطالبون بعودة عائشة ونزولها من القلعة..
    استجاب السلطان لثورة الشعب، عادت عائشة إلى منزلها فى حدرة الحنة، وفتح التجار حوانيتهم، وفتحت أبواب جامع الأزهر.. سكنت الفتنة..
    إن المهادنة هى الطريق الذى سلكه السلطان خليل أمام ثورة الشعب.. لقد أوهم الرعية بأنه يستجيب لطلبهم.. تقرب إليهم.. خرج إليهم حيث كانوا.. يسأل عن أحوالهم ومعاشهم.. يتفقد المساجد ودور العلم ويتأمل بعناية تسوية الشوارع ونظافتها.
    أختلف مع د.ماهر شفيق فريد فيما وصل إليه من أن هناك صوتين متجاورين فى رسم شخصية السلطان.. وقد أدى هذا إلى التباس القارئ.. والحقيقة أن القارئ مع مضيه فى قراءة الرواية سوف يكتشف بل يرسم صورة صادقة للسلطان خليل، وهى الصورة التى أرادها محمد جبريل وبث ملامحها، وهى صورة الحاكم الطاغية، فما صوت الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا تأكيدا على تلك الملامح التى رسمها جبريل لهذا الحاكم الطاغية. فيقول الراوى "أشفقت على سيرته من تشويه الموتورين لها، ومؤاخذتهم المعيبة عليها، وإلباسها ثوب الفجاجة.. فبدا الكذب حقيقة" فسيرة الرجل بداية مليئة بالمظالم والأخطاء، وما كان على الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا أن ينفى هذه الصورة. إن وظيفته تشير إلى وظيفة وسائل الإعلام التى تقوم بتجميل صور الحكام الطغاة.. فتقدمهم فى صورة مخالفة لما يعرفه الناس عنهم.
    يصف إريك نبتلى الكاتب –أى كاتب- بأنه "متسائل، منشق، خارجى،متحرر، صانع للمشكلات فى حرب على زمنه، مأخوذ بذلك دائما، يقف إلى جانب الأفضل فى عصره، مساعدا إياه على فهم ذاته.
    ويقول جبريل: "إن لى موقفا –أتصوره واضحا- من القضايا الإنسانية والاجتماعية، وهذا الموقف يبين ن نفسه فى أكثر من عمل قصصى وروائى، ثمة وشيجة تربط روايتى "الأسوار" مثلا بقضية التحقيق برواية "قاضى البهار ينزل البحر"، ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته فى أكثر من عمل."
    يحمل إبداع محمد جبريل ملامح المفكر القلق الذى يبحث دوما عن كل ما هو حقيقى وإنسانى فى هذا العالم، وهذه التيمة التى تفرض نفسها فرضا، فالأدب مهما اختلف النقاد فى تعريفه، هو إفراز فنى للأفكار التى تعتمل داخل أحشاء المجتمع المعاصر"! (3)
    فى روايته "الأسوار".. يفتدى البطل الملقب بالأستاذ هؤلاء المعتقلين والذين نسيتهم السلطة، أو تناستهم التعبير الأدق. فالأسوار من بعيد –مدينة أسطورية.. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجى، أبراج الحراسة من الأركان الأربعة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس، تشمل كل شئ: الأفلام، والأوراق والصحف والراديو والمناقشات. فهى بقعة فى جزيرة رملية يحدها.. الأفق.. لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية.
    الأستاذ هو رجل انغمس بالتطورات السياسية فى بلده.. وهو يتمتع بذات مناضلة تحيا واقع الجماعة وتخلص لقضاياها.. أحبه الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية فمنهم الوفدى والسعدى والإخوانى والشيوعى، والنشال والقواد وطالب الثأر والقاتل وبائع المخدرات".(4)
    فى المعتقل ثمة مواجهة مباشرة للسلطة وآليات قهرها يتعرض لها كل المعتقلين.. قامت الثورة وأسفرت عن إرسال تلغرافين للحكومة لم يرض الأستاذ ولا الجماعة بتحسن الأوضاع، فالحرية لا تتجزأ (5)
    شعرت إدارة المعتقل/ السلطة بأن هناك عقلا مدبراً يقود المعتقلين، عملت على التخلص منه، جندت العملاء من ذوى النفوس الضعيفة.. وجدوا فى حلمى عزت ضالتهم المنشودة، هددوه بافتضاح أمره.. نقل حلمى عزت الفكرة إلى الجماعة "بدت الفكرة اقتراحا مجنونا فى بادئ الأمر، لكن الليل البارد والأسوار والصحراء التى لا يحدها الأفق ولدغات العقارب والعذاب والغربة والحراس والوحشة والشوق والملل، ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون –فى أقل من يوم- حلا مقبولا".(6)
    إن القائد هنا هو واحد من الجماعة.. قدم نفسه فداء لأفكاره ومعتقداته، إنه يعلم بالمؤامرة منذ البداية، فقد دبر أمر الأوراق التى طويت على اسم واحد هو اسمه.. كان على الأستاذ منذ البداية أن يبث الوعى فى نفوس المعتقلين بأهمية الثورة.. والإعلان عن رفض واقعهم المهين داخل المعتقل.. ضحى الأستاذ بنفسه فى سبيل تحقيق مبادئه بالدفاع عن المظلومين حتى لو كانوا من القتلة والقوادين وتجار المخدرات.
    إن المواجهة مع السلطة كانت شرسة وعنيدة دفع ثمنها المعتقلون، فإحرق الأستاذ المحرك الفعلى لهم فى مناهضة الظلم والقهر، وكان دافعا لهم لمواصلة النضال ورفضهم الاستسلام لإدارة المعتقل.. سمع صوتهم لأول مرة فكان انتصارهم وهزيمة السلطة أمام عزمهم.. إن الإشارات الدالة التى بثها محمد جبريل فى نسيج روايته وعلى لسان أبطاله، وعبر اقتباسات متعددة تؤكد على قيمة الفداء والتضحية وهى صلب علاقة المثقف بجماعته ومجتمعه.. "ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11/50).
    كانت العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة يشوبها –دائما- التوتر، بدأت السلطة تعى مع العقد الثالث من القرن العشرين دور المثقف فى المجتمع، يكفى أن نشير إلى ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة للحريات مثل قوانين المطبوعات، التشريعات المقيدة لحقوق الاجتماع والتجمهر والتظاهر، بل وتقييد التقاضى أحيانا واستحداث أنواع من القضاء الاستثنائى، بالإضافة إلى اللجوء –بصفة شبه مستمرة- إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية".(7)
    إذا كان الحال هكذا مع المثقف، هل ينتمى محمد إبراهيم مصطفى العطار إلى "قافلة المثقفين الذين عانوا من صلف السلطة، أمثال: على عبد الرازق وبيرم التونسى وسيد قطب وشهدى عطية.. ومجموعة المثقفين التى تم اعتقالها فى خريف1980.. بالطبع لا.. "فقاضى البهار" إنسان بسيط يعمل فى إدارة التخليص الجمركى لا يتعاطى السياسة وليس له أى نشاطات سياسية من أى نوع!.. فلماذا تطارده السلطة؟ وتوجه إليه التهم وحين تفشل فى إثبات تلك التهم تدس عليه "بقلوظة" الراقصة لتلفق له التهم وتراقب جيرانه وأصدقاءه وتسأل عن جميع من يحيطون به فى هجمة شرسة لتبحث عما يشينه ويدينه".(
    تتكدس التقارير ونتائج الملاحقات، وتقوم أجهزة الشرطة بمطاردة كل من له صلة بقاضى البهار سواء فى الماضى أم الحاضر، فهل وجدت السلطة فى صمت أو لنقل تجاهل الإنسان المصرى العادى حيال آليات قهرها وملاحقتها للفرد فى صور شتى من العنف والاضطهاد نوعا من المقاومة؟ هل انتهت السلطة من ملاحقة كل من له نشاط سياسى وقهره بزجه داخل السجون والمعتقلات فلم تجد أمامها إلا الإنسان البسيط المهموم بلقمة عيشه تكيل له كل الاتهامات وتوقع به فى حبائلها..
    كان لقاضى البهار سمعة طيبة بين جيرانه وأهله، هل حنق أجهزة الأمن ضده جاء من حرصه على اقتناء الكتب السياسية والدينية والتاريخية، فقد تحسبت أن يقوم بدور ما.. أليس فى نظرها مثقفاً؟!
    الحقيقة أن سيرة محمد قاضى البهار لا تشى بالمرة بوجود ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين السلطة التى بطشت به وبأسرته ومعارفه وجيرانه.. تحولت حياة قاضى البهار بسبب ملاحقة أجهزة الأمن له إلى جحيم لا يطاق!
    تنتهى الرواية بلغز اختفاء قاضى البهار.. لا يعنى الاختفاء الموت.. هل اختفاء محمد قاضى البهار يساوى اختفاء الإمام المنتظر إلى حين ظهوره؟ هل كان اختفاء قاضى البهار احتجاجا على كل هذا العنت ممثلا فى المطاردات وإدانة أجهزة الأمن للأبرياء أو المعارضين لها؟
    إذا كان قاضى البهار لم يشعر بالدهشة لما يعانيه من مضايقات أجهزة الأمن له ولكل المقربين إليه.. فإن عادل مهدى يفاجأ باعتراف مساعد فى مباحث أمن الدولة أنه راقب الندوة لمدة ثلاث سنوات.. هذا ما حدث الضبط فى رواية "المينا الشرقية" التى تتناول خفايا الحياة الثقافية عبر الحديث عن ندوة أدبية يعانى من يتردد عليها من مشكلات متعددة، حيث تتشابك العلاقات وتتعقد فيما بينهم وبين أفراد المجتمع.
    كان السؤال الهاجس الذى ظل يردده عادل مهدى.. ما دخل الندوة بالمباحث؟ وماذا فيها لتراقب؟ عانى عادل مهدى من الإحساس بالخوف، ظل يبحث عن هوية هذا المجهول الذى ظل سنوات ينقل التقارير عما يدور فى الندوة، وهل كانت التقارير صادقة، أم أضاف إليها.. من هذا "الشبح الذى ظل يرصد الكلمات والأفعال والإيماءات، لقد زرع الشك داخل نفس الرجل، فشرع فى تمزيق أوراقه وصوره.. وأجندة التليفونات!
    لم تبطش السلطة/المباحث بالندوة، وإن ظل الهاجس قائما، من يكون المدسوس عليها؟
    -إن ما قاله الرجل عمل روتينى.. فهذه مهمة المباحث أنها تراقب الكلمة والنص، فعلاقة السلطة بالكلام وثيقة جدا، ولذلك كانت السلطة تسعى دوما إلى حماية الكلمة بشتى الطرق، وفرض السكوت إما بالقمع المادى الذى يكشف عن عجز هذا الخطاب على التلاؤم مع النص.. ومن ثم تأتى المراقبة والعرقلة والمصادرة، والحبس وترديد مفهومات مضادة لخطاب النص تقوم بعملية التشويش والتضليل!(9)
    هل كان ما تعرض له محمد الأبيض من معاناة سببا فى تعاونه مع أجهزة الأمن؟
    -"تقدم الرجلان، ثنيا ذراعيه وراء ظهره، وسدد الثالث الواقف أمامه لكمات متوالية فى بطنه.. علق قدميه فى حبل مبروم متدل من السقف ورأسه فى أسفل.. توالت الضربات على القدمين المعلقتين. لم يشعر محمد الأبيض باليأس ولم يعن بتلك الممارسات وألوان التعذيب كى يعترف على جريمة لم يرتكبها..
    -أعترف محمد الأبيض لعادل بأن القراءة وراء عدم شعوره باليأس حتى عندما منعوه من القراءة.. "كنت أستعيد ما أحفظه من قصائد وكنت أغنى أحيانا"!
    ظل محمد الأبيض مطاردا.. يشعر بهذه المطاردة.. فكل تصرف مرصود.. هل يرصد تحركات كل من يعرفه.. هل كان محمد الأبيض الشخص الذى جاءوا بسببه إلى الندوة؟
    اعترف محمد الأبيض أن الحادثة القديمة تشكل جثة هامدة يجرها.. "عاد محمد الأبيض إلى المينا الشرقية، والندوة والعمل والبيت، لكنه لم يعد إلى الحياة، حياته"!(10)
    تظل للسلطة هيمنتها على حياة من اصطدم بها.. وعانى من آلياتها المتفننة فى الاستجواب والتحقيق والتعذيب.. فالإنسان قبل الملاحقة ومواجهة السلطة وقهرها يختلف حتى بعد مواجهتها.. يظل هناك شئ ما انكسر فى نفس هذا الإنسان الذى يحاول جاهدا لملمة شتات نفسه وخاصة إذا كان بريئا لا يعرف ما ارتكب من تهم أو جرائم.. لكن السلطة أبدا لا تعترف بخطئها وعجزها.. تظل تلاحقه إلى أن يعترف بما تريد له أن يعترف به.
    فى نهاية رواية "المينا الشرقية" يوصى عادل مهدى أمه بنفسها.. ثم ينزل إلى هؤلاء الذين سألوا عنه منذ ساعتين! عادل هو واحد ممن تعرضوا لاضطهاد السلطة أيا كانت هذه السلطة، فهو يقف بجوار الأستاذ وبكر رضوان فى "الأسوار" ومحمد الأبيض فى "المينا الشرقية" وعائشة القفاص وخالد عمار زوجها فى "قلعة الجبل"، وقاضى البهار فى "قاضى البهار ينزل البحر".
    هوامش:
    1- راجع بارت
    2- راجع عمر أوكان.. مدخل لدراسة النص والسلطة.. الناشر أفريقيا الشرق
    3- د.نبيل راغب، مصر فى قصص كتابها المعاصرين، كتاب أصوات العدد24 إعداد د.حسين على محمد
    4- رواية الأسوار
    5- من حديث إذاعى أجرى مع الكاتب 15/1/1974
    6- رواية الأسوار
    7- راجع على فهمى، المصرى والسلطة، مجلة فكر فبراير 1985
    8- د.حسين على محمد، صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل، دار الوفاء ـ 1999.
    9- راجع جولد شيلفر، نحو سيمياء الخطاب السلطوى، ترجمة مصطفى كمال، العدد الخامس، السنة الثانية، دار البيضاء 1987
    10- رواية المينا الشرقية.


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    حوار مع روائي الإسكندرية محمد جبريل

    حاوره: د. احمد زياد محبك - سورية
    ..........................


    محمد جبريل روائي وقاص إسكندراني, عاشق للإسكندرية, منها يستمد معظم مواد رواياته, وعنها يكتب, كأنه نذر لها قلمه وحياته. هي في رواياته بريئة شفافة جميلة, أبطالها فيها يتحركون, وعبق بحرها ينتشر في كل الأنحاء. وهو كاتب صحفي, يشرف على القسم الأدبي في جريدة المساء, وله فيها زاوية يحررها كل يوم. وهو أخ كبير يلتقي مساء كل خميس مع ثلة من الأدباء الشباب في ركن جميل من مبنى نقابة الصحفيين بشارع عبد الخالق ثروة في قلب القاهرة, يستمع إليهم ويرعاهم ويشجعهم, وفي بيته العامر يستقبل الصحب والأصدقاء. وهو في كل آن وفي كل مكان سمح وكريم وطيب وبريء, يمزح كطفل, ويتكلم عن خبرة وثقافة وسعة اطلاع, ويتحدث بذكاء وبحس نقدي حصيف, تحس وأنت معه أنك أمام إنسان تعرفه منذ ألف عام, وأنه يعرفك ويحبك.
    كنت التقيت الروائي محمد جبريل في ندوة عن الرواية عقدت في طرابلس بليبيا قبل ستة أعوام, ولم يكن لقاء عابراً, وأول قدومي إلى القاهرة صيف عام 2002 اتصلت به فأسرع إلى زيارتي في شقتي المستأجرة بالقاهرة هو وزوجته الأديبة الناقدة السيدة زينب العسال.
    وفي صيف القاهرة الجميل كان هذا اللقاء...
    * في السؤال الأول صدمة وإدهاش, وسيتقبله مني الأستاذ محمد جبريل بحب, والسؤال: أنت متهم بغزارة الإنتاج, فهل هذا صحيح, وما معنى الغزارة عندك? وكيف تحققت? وهل فيها تنوع في المواقف والرؤى والأساليب والأنواع?
    - الغريب أن الذين يوجهون هذا الاتهام هم من أبناء جيلي. وجه الغرابة أن ما أصدرته المطابع لهم يفوق - من حيث الكم - كل ما أصدرته لي. والحق أني اعتبر القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي, بصرف النظر عن غزارته أم قلته. فقد صدر للصديق صنع الله إبراهيم من الروايات - على سبيل المثال - ما لا يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. بينما صدر لأستاذنا نجيب محفوظ ما يزيد على الأربعين رواية.. لكن إبداع كل من صنع الله ومحفوظ يلتقي في القيمة الفنية المؤكدة. ولا أريد أن اضرب أمثلة أخرى حتى لا اتهم بالمجاملة أو بالتجني, وان سهل علينا التعرف على عشرات الأمثلة.
    إن محاسبة أي مبدع يجب أن تتجه لقيمة ما يكتبه وليس لكم ما يكتبه. وأصارحك بأن ما يشغلني من إبداعات أتوق لكتابتها يفوق كل ما صدر لي حتى الآن, فضلاً عن أن جهاز الحاسوب عندي - وليواصل أصحاب الاتهام عجبهم! - يضم تسع روايات أنهيتها وتنتظر الموعد المناسب لنشرها, إلى جانب الكثير من القصص القصيرة والمقالات التي يسميها البعض نقداً, واسميها قراءة إيجابية.
    وبالنسبة لبقية السؤال فإني أكتفي بالإشارة إلى بعض ملامح مشروعي الإبداعي مثل عفوية الكتابة الإبداعية, ووجوب أن يعبر مجموع المبدع عن رؤية شاملة, أو فلسفة حياتية, تتضمن مواقفه في المجتمع والسياسة والميتافيزيقا وعلم الجمال, وكل ما يستند إلى موهبة الأديب, وثقافته وخبراته وتجاربه.
    ولعله يجدر بي أن أشير إلى عامل مهم, لا يفطن إليه رواد مقاهي وسط البلد وهواة الثرثرة ودعاة قتل الوقت, في حين أن الوقت هو الذي يقتلنا...
    إني أؤمن بجدوى النظام. انه يكفل مضاعفة الوقت, وإنجاز ما يصعب إنجازه في الفوضى والتكاسل, وإرجاء ما ينبغي التوفر على إتمامه.
    *أنت صحفي, عملت في الصحافة طوال عمرك, وقد أخذت منك ثماني سنوات ونصف من التفرغ لها في عُمان, حيث أشرفت على صحيفة «الوطن», فكيف وفقت بين الصحافة والإبداع? وما أثر الصحافة في كتابتك وحياتك?
    - سئل ارسكين كالدويل: هل العمل في الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة?... أجاب: لا أعرف شخصاً واحداً اضرّ به التمرين على الكتابة من أي نوع. إن الصحافة, فضلاً على أنها تفيد في التمرين الدائب على الكتابة, فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم. إن انتظار الوحي عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرسوا بالصحافة. وحتى الآن, فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل في الصحافة, ذلك لأن الصحافة - في تقديره - تحميه, وتحرسه, وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقي. كانت الخبرات الصحفية - باعتراف ماركيث - وراء العديد من أعماله الروائية, مثل قصة غريق, حكاية موت معلن, نبأ اختطاف. بل إن رائعته «خريف البطريرك» استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكي لاتيني اتهم في جرائم حرب...
    لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة, باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية, وان احصل منها على مورد يتيح لي تلبية احتياجات العيش, فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة, لكنها قد تصرفني عن القراءة والكتابة, وأن ألزم نفسي بنظام - مثلي فيه أستاذنا نجيب محفوظ - يحرص على الجهد والوقت. وأخيراً, أن يكون لي بيت زوجية, فلا تواجه مشاعري العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن اسميه بالتسيب.
    أذكر أني مارست في العمل الصحفي جميع أنواع الكتابة, كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة. أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية, باعتبار القارئ الذي أتجه إليه في ما أكتب. وبالتأكيد, فإن كاتب التحقيق الصحفي يختلف عن كاتب المقال الأدبي, واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة. يسرت لي الصحافة سبل اقتناء الكتب التي تعجز مواردي عن شرائها جميعاً. فأنا اكتب في صفحة أدبية. في هذه الصفحة باب للكتب, فأنا اكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه - أو ناشره - للجريدة, ثم أحتفظ به لنفسي, وأتاحت لي الصحافة مجالات ربما لم اكن أستطيع أن اقترب منها في الوظيفة العادية. سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها, والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى قمته, وبثقافات متباينة, وان لم يتح لي عملي في الصحافة امتيازاً من أي نوع. كانت جيرتي للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق, ولوزير سابق لا اذكر اسمه, مبعث اعتزازي بأني أجاور ناساً مهمين في غياب أصدقاء من السلطة. وحتى لا أبدو في موضع سيئ الحظ, فإني اعترف بحرصي على الوقوف في الطابور, فضلاً عن عدم ميلي إلى مصادقة السلطة, حتى لو تمثلت في اكتفائي باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة في السلطة. وكان عملي الصحفي, الحياة في الصحافة, الأحداث والشخصيات التي تعرفت - بواسطتها - إليها, وراء العديد من أعمالي الروائية, بداية من الأسوار - روايتي الأولى - وانتهاء بأحدث ما كتبت شمس مسقط الباردة, مروراً بالنظر إلى أسفل، وبوح الأسرار، والخليج ... وغيرها. بل إن الصحفي هو الشخصية الرئيسة في هذه الأعمال.
    ولكن من المهم أن أشير إلى أن الصحافة قد ترضى بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً في بعض الأحيان, لكنها تريده صحفياً في كل الأحيان. إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر الخ.. مما يتفق وطبيعة العمل الصحفي الذي يعد الأدب - في تقدير القيادات الصحفية - جزءاً هامشياً فيه. أُصارحك بأني نشرت روايتي "قلعة الجبل" في الجريدة التي أعمل بها. نقلت المسودات على الآلة الكاتبة, وصورتها, ونشرتها في جريدتي, فلم أتقاض في ذلك كله مليماً واحداً, في حين أن الزميل الذي يسبق الآخرين بخبر في بضعة اسطر, يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات!.. وهذا كله يعد انعكاساً واضحاً, ومفزعاً, للنظرة إلى العمل الأدبي, وقيمته ضمن مواد العمل الصحفي.
    الفن - الرواية والقصة على وجه التحديد - عالمي الذي أوثره بكل الود. أتمنى أن اخلص لهما - تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع - دون أن تشغلني اهتمامات مغايرة. لكن الإبداع في بلادنا لا يؤكل عيشاً. ربما أتاحت رواية وحيدة في الغرب لكاتبها أن يقضي بقية حياته "مستوراً", أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد, وما يضمره من احتمالات, لكن المقابل المحدد والمحدود الذي يتقاضاه المبدع في بلادنا ثمنا لعمله الأدبي يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة!!.. من هنا كان اختياري - الأدق: لجوئي - إلى الصحافة, فهي الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته, وهمومه أيضاً.
    ولعلي اذكر قول المازني لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته: "ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم, وانه ترك زمرة الأدباء, وانضم إلى زمرة الصحفيين, وانه يكتب في كل مكان, ويكتب في كل شيء, حتى اصبح تاجر مقالات, تهمّه ملاحقة السوق اكثر مما تهمّه جودة البضاعة.. أليس كذلك? ولكن لا تنس أن الأديب في بلدكم جبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده, وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان".
    لذلك منيت النفس وأنا ارحب - متحسراً - بالسفر إلى سلطنة عُمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية - تحولت إلى يومية فيما بعد - بأن أدّخر في الغربة ما يعينني على الإخلاص للفن وحده, لكن الأمنية ظلت في إطارها, لا تجاوزه. وكان لا بد أن اكتب في موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه. وحتى لا افقد ذاتي في سراديب مجهولة النهاية, فقد فضلت أن تكون محاولاتي أقرب إلى ما يشغلني في الفن, وفي الحياة عموماً. وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر - الموطن واللحظة والماضي والمستقبل - هي الشخصية الأهم في كل محاولاتي الإبداعية. ذلك ما احرص عليه, وما لاحظه حتى القارئ العادي. تعمدت أن تكون مصر: تاريخها, وطبيعتها, وناسها, ومعاناتها, وطموحاتها, نبض كتاباتي جميعاً. ما اتصل منها بالصحافة, وما لم يتصل, ما اقترب من الأدب وما لم يقترب. وكانت حصيلة ذلك كله - كما تعرف - عشرات الدراسات والمقالات التي تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" مروراً بـ"مصر من يريدها بسوء" و"قراءة في شخصيات مصرية" و"مصر المكان" إلخ... وانتهاء بما قد يسعفني العمر بإنجازه.
    * أنت مثقف واسع الاطلاع, تشهد على ذلك مؤلفاتك النقدية, فقد كتبت عن مصر في قصص كتابها المعاصرين, ونلت عن هذا المؤلف جائزة الدولة التشجيعية عام 1975 كما وضعت كتاباً عن نجيب محفوظ, فما دافعك إلى الكتابة النقدية? وما جدواها بالنسبة إليك وأنت الكاتب الروائي? وما أثرها في إبداعك الروائي?
    - ثمة حقيقة يجب أن نتفق عليها, هي أن النقد الذي يقيس الزوايا والأبعاد, ثم يصدر أحكاماً, ويدلل عليها, ليس محتوى كتاباتي التي تختلف عن إبداعاتي في الرواية والقصة القصيرة ولا غايتها. أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها في أثناء حرثها للأرض. إن الآراء التي أتوصل إليها, هي من قبيل الاجتهادات الشخصية التي ربما كانت أخطاء محضة.
    القراءة حرفتي وهوايتي. وأنا اعتمد في قراءتي للكتاب أن أثبت أهم المعلومات التي يشتمل عليها, وآرائي في موضوعاته, وأضيف إليها حصيلة مناقشات مع صاحب الكتاب نفسه, سواء في موضوع الكتاب, أم في موضوعات يطرحها النقاش, ويتكون من ذلك بطاقات تكفي لإعداد كتاب, أقبل على تأليفه بروح المبدع وليس الناقد. ومنذ سنوات بعيدة, تحدد عالمي في جدران مكتبي. افرغ للقراءة بامتداد ساعات الصحو, والكتابة الإبداعية يصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن تكون نبض عمل أيام متتالية. إنها تهد الحيل, تجعلك في لحظات الإبداع, وربما قبلها أو بعدها, كأنك لست أنت, كأنك أثقلت بما لا تقوى على حمله.
    * ما رؤيتك للرواية? وما مشروعك الروائي? هل ثمة تصور لديك عن العالم? أو فلسفة ما تدافع عنها أو تدعو إليها? وما صلة ذلك بحياتك الشخصية?
    - ما يغيب عن معظم إبداعنا العربي, وأتصور أنه لا بد أن يكون بعداً أساسياً في أي عمل روائي أو قصصي, هو فلسفة الحياة. والفلسفة التي أعنيها هي الرؤية الشاملة وليست الميتافيزيقيا وحدها. الميتافيزيقا بعد مهم, لكنها جزء من أبعاد الحياة الإنسانية جميعاً. تقول سيمون دي بوفوار "إن الرواية الفلسفية إذا ما قرئت بشرف, وكتبت بشرف, أتت بكشف للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلاً له. إنها هي وحدها التي تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا والمدون في الزمن والأبدية في آن واحد, بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهري" ومع ذلك فإن الرواية التي أعنيها هي التي تعبر عن فلسفة الحياة, وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي.
    إن الأدب غير الفلسفة, لكنه - في الوقت نفسه - تصور للعالم, يرتكز إلى درجة من الوعي وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس.. طريقة الفيلسوف هي التنظير والتحليل والإقناع والصدور عن العقل, والاتجاه كذلك إلى العقل. أما طريقة الأديب فهي العاطفة والخيال والحواس, والصدور عن ذلك كله إلى المقابل في الآخرين من خلال أدوات يمتلكها الأديب, وتتعدد مسمياتها, كالتكنيك والتنامي الدرامي والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال, إلخ...
    والحق انه ما من إبداع حقيقي يمكن أن يخلو - بدرجة ما - من فلسفة ما, وإن عاد الأمر - في الدرجة الأولى - إلى مدى قدرة المبدع في بث الحياة عبر شرايين الفكرة الفلسفية المجردة. وكما يقول شكسبير فليس المهم هو الأشياء, المهم وجهة نظرنا عن الأشياء. وأذكر بقول تين في كتابة الأشهر "تاريخ الأدب الإنجليزي": «إن وراء كل أدب فلسفة».
    وطبيعي أن نظرة الكاتب إلى الهموم التي تشغله, موقفه الكامل منها, يصعب أن تعبر عنه قصة واحدة أو قصتان, لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان في مجموع أعماله, وفي كتاباته وحواراته التي تناقش تلك الأعمال. أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة, لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تبين عن ملامحها في ثنايا أعماله. التجربة الإبداعية - على تنوعها - تخضع لوجهة نظر شاملة, لفلسفة حياة تحاول التكامل, وإن استخدمت في كل عمل ما يناسبه من تقنية, والقارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع, في مجموع ما كتب.
    إن الأدب هو الأسبق دائماً في النظرة, في محاولة استشراف آفاق المستقبل. إنه يسبق في ذلك حتى العلم نفسه. وكما يقول كافكا: "فإن رسالة الكاتب هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. ان يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام. إن رسالة الكاتب نبوية". كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوي هي الترديد المستمر للأفكار العامة, للنظرة الشاملة, لفلسفة الحياة, في مجموع تلك الأعمال. وكان ذلك هو الذي أعطى أعمال تولستوي - كما يقول ادينكوف - تكاملاً وتماسكاً داخلياً. وكما يقول تولستوي, فإن الكاتب الذي لا يمتلك نظرة واضحة, محددة وجديدة للعالم, ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة, لن يستطيع تقديم عمل فني حقيقي. أما همنجواي فقد تمحورت رؤيته الحياتية في أن العالم قادر على تحطيم أي إنسان, لكن كثيرين يستعيدون قواهم, وينهضون. والإنسان - في فلسفة كامي الحياتية - يكتشف عبثية الحياة, لا معقوليتها, وليس بوسعه إلا أن يتحدى كل شيء في هذا العالم. وباختصار, فإنه لكي يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقي على شعور العبث في داخله كي يستمد منه طاقة التحدي اللازمة. والأمثلة كثيرة.
    * للإسكندرية مكانة في نفسك وفي رواياتك, فما سر هذا العشق للمكان والإنسان في الإسكندرية? ما رأيك بالإسكندرية نفسها ماضياً وحاضراً? هل هي لديك ماض أو حاضر أو مستقبل.
    - حي بحري بالإسكندرية - السيالة والانفوشي ورأس التين - هو الموطن الذي شهد طفولتي ونشأتي, وهو المكان الذي تمنيت أن اكتب عنه, بكل ما يشتمل عليه من تمايز في خصائص الحياة وسلوكياتها.
    إن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في الإسكندرية لا تختلف كثيراً عن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في القاهرة والمدن المصرية الأخرى .. لكن السمة الأهم لصورة الحياة في بحري هي الصلة بين اليابسة والبحر.. البحر بكل ما يمثله من حكايات البحر والصيادين والنوات والسفر إلى الموانئ القريبة والبعيدة.. واليابسة بكل ما تمثله من اعتماد على الحياة في البحر, بداية من حلقة السمك, وتواصلاً مع غلبة الروحانية, والإيمان ببركات الأولياء, والحياة من رزق البحر سواء ببيع السمك, أو العمل على السفن الصغيرة والبواخر الضخمة.
    على اليابسة مجتمع بحر بكل ما تعنيه الكلمة. ثمة صيادون وعمال في الميناء وبحارة وموظفون وشركات للملاحة والتصدير والاستيراد.
    حي بحري هو اصل الإسكندرية. هو راقودة, وفاروس, والمساحة من الأرض التي تشكلت منها - قبل التاريخ المكتوب - مدينة الإسكندرية الحالية.
    وإذا كان الاسكندر المقدوني قد أطلق اسمه على المدينة القديمة, فإن ذلك لا يعني غياب الحياة عن المدينة قبل أن يصل إليها, ويأمر مهندسه دينوقراطيس بالقول: أريد أن ابني عاصمة ملكي هنا! أراد أن يبني عاصمة ملكه في موقع مدينة كانت قائمة بالفعل, وإن أتاح لها التخطيط أن تتسع, وتتطور, وتصبح عاصمة العالم القديم.
    أزور بحري بين كل فترة قصيرة وأخرى: المرسي أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وحلقة السمك وورش المراكب ومرسى الميناء الشرقية وقلعة قايتباي والميادين والشوارع والأزقة التي تصنع جواً يفيض بالروحانية, من خلال الجوامع الكثيرة, ومظاهر الحياة الدينية بعامة.. ويفيض كذلك بالحس الشعبي الذي ظل على تماسكه, وعلى معتقداته وتقاليده, وبالذات في العقود التي دانت فيها المدينة لسطوة الأجانب, فتحولت إلى مدينة كوزموبوليتية بمئات الألوف من الأجانب, بينما افتقد العنصر الوطني انتماءه إلى مدينته.
    * لك موقعك المتميز في خريطة الرواية العربية, وأنت تعرفه من غير شك, فما رؤيتك للواقع الروائي في مصر وفي الوطن العربي? وما تصورك لمستقبل الرواية? وكيف يمكن أن تتجه وإلى أين يمكن أن تسير? ولا سيما في ضوء الروايات الجديدة كالرواية التاريخية ورواية الحداثة وما بعد الحداثة?
    -أشكرك على رأيك في شخصي الضعيف, ورأيي أن الرواية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي. ولا أكون مغالياً لو قلت إن المكانة التي تحتلها الآن رواية أمريكا اللاتينية تستحقها الرواية العربية كذلك. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس. وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل فهو لم يكن - كما ادعت مستشرقة إسبانية - واحة في صحراء مجدبة, إنما هو مبدع كبير ضمن حركة إبداعية خصبة ومثمرة, متصلة الحلقات والأجيال, تجد بدايتها في قصة الأخوين الفرعونية - أول قصة في التاريخ - تتواصل مع عشرات المعطيات في التراث العربي, وحتى زمننا الحالي الذي يطلق عليه البعض تسمية زمن الرواية. وظني أن هذا الازدهار الذي تحياه الرواية سيظل صورة المستقبل. دليلي أن الرواية هي الجنس الأوفر حظاً في إبداعات الأجيال الحالية المختلفة. وقد طالعتنا - في الأعوام الأخيرة - أعمال روائية كتبها شعراء ونقاد وفنانون تشكيليون.
    أكرر: إن إبداعنا الحديث يتوازى في القيمة مع إبداعات أمريكا اللاتينية, وهي الإبداعات التي تحتل الآن موضع الصدارة في الأدب العالمي. المشكلة ليست في القيمة, لكنها في الثقة بالذات, وفي الاستراتيجية التي تحرص على تصدير - ومعذرة لرداءة التعبير - الأفضل والأصلح, وليس إبداع التربيطات والمجاملات والشللية.
    * لقد حققت الرواية العربية حضوراً واضحاً, في معظم أقطار الوطن العربي, وقدمت تقنيات فنية متطورة, كما واكبت تطور الواقع العربي, فهل يمكن أن تصل الرواية العربية إلى مستوى العالمية? وأين يمكن أن تضع الرواية العربية في خريطة الرواية العالمية?
    - بالمناسبة: متى, وكيف, يكون للإنتاج الثقافي العربي موقعه المتميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي? للأسف, نحن نقصر الإبداع العالمي على ما تنتجه أوروبا والولايات المتحدة. والصورة الحقيقية تختلف عن ذلك تماماً. إن الإبداع العالمي في أعلى مستوياته نتابعه في إبداعات أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, وفي شرقنا العربي.. لكننا - كما أشرت - ندين بأحادية النظرة. ما يأتي من الغرب وحده هو الذي يسر القلب. وقد استطاعت أمريكا اللاتينية أن تتخلص من طغيان المنتج الثقافي الأمريكي, ليس في الرواية والقصة القصيرة فحسب, وإنما في السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من الأجناس الأدبية.
    البعض يؤثر الاتكال على منجزات الثقافة الغربية باعتبارها التعبير الصحيح عن الثقافة العالمية بعامة. في إهمال - عفوي أو متعمد - لثقافات أكثر تفوقاً, وأكثر تعبيراً عن الهم الإنساني في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, فضلاً عن ثقافة المنطقة العربية بل ما يميزها من خصائص, وهي تؤثر في الثقافات الأخرى وتتأثر بها, ليشكل مجموع الثقافات ما يمكن تسميته بالثقافة العالمية. واعتبار الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية خطأ معيب, نملك تصويبه بالترجمة عن آداب العالم دون لغة وسيطة, والتعرف على فنون العالم وفكره وإبداعاته, فلا يقتصر ذلك على لغة بالذات, ولا مناطق في العالم بعينها. وفي المقابل, فإن منتجنا الثقافي يجب أن يتجه إلى كل العالم باعتباره تعبيراً عن ثقافة مميزة, هي جزء من الثقافة العالمية ككل.
    الثقة بالذات, والإبداع الذي يصدر عن الذات والذي يستند إلى التراث, ويفيد من تيارات العصر, هو تجربتنا المطلوبة, الوحيدة.
    وان يكون للإنتاج الثقافي العربي موقع متميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي, فهذا هو ما يطمح إليه كل المبدعين والمثقفين العرب. وهو طموح ينطلق من مشروعية مؤكدة.
    والحق أن موضع الإبداعات العربية على خريطة الثقافة العالمية لا يجاوز بالنسبة للمبدعين العرب - حتى الآن - الطموح أو الأمنية. أما الموضع الفعلي, المكانة التي يستحقها بالفعل, فذلك ما يخضع لاعتبارات عديدة, في مقدمتها الاعتبارات السياسية, بحيث يمكن القول - ببساطة - أن الخريطة الإبداعية العالمية تحتاج إلى مراجعة شديدة, تحرص على التأمل والمناقشة, ومحاولة التوصل إلى الصورة الصادقة.
    * الرواية العربية هي بشكل ما تعبير عن الواقع العربي, وهو واقع مؤلم, يعاني من إحباطات كبيرة وكثيرة, ومن توقعات إجهاض حضاري ومعرفي, فما رؤيتك للواقع العربي وللمستقبل العربي, وأنت من مثقفي العصر وشاهد عليه? هل تحلم مثلاً بكتابة رواية تعبر عن هذه الرؤية المستقبلية?
    - من الأعمال التي أتممت كتابتها رواية عن أعوام الوحدة بين مصر وسورية من خلال بنسيون يسكن فيه طلبة من أقطار عربية مختلفة. لقد حاولت فيها أن أُعبِّـر عن رؤيتي لأحوال امتنا العربية, من خلال رؤية لا تنظر إلى الكوب نصف الممتلئ, ولا الكوب نصف الفارغ, إنما هي رؤية تستند إلى معايشة حقيقية ومتابعة. والمقولة التي ربما تعبر عنها هذه الرواية أن مشكلة الوطن العربي هي عدم المشاركة السياسية من مواطنيه, ومثقفيه بخاصة, مما يفضي إلى غياب الانتماء والمثل الأعلى والمشاركة, وغلبة الإحساس الفردي أو الإحساس القبلي الذي لا يطمئن إلى القومية, وتحول الديمقراطية إلى أمنية نتحدث عن تطلعنا إليها, لكن الطريق الحقيقية إليها مسدودة بالعديد من العوائق, وجميعها من صنع الحكام, ولا أزيد حتى لا يدفع السائل ثمن صراحتي.
    إن مشاركة المواطن في صياغة واقع وطنه ومستقبله, سيبدل الصورة تماماً, بحيث يصبح المواطن مواطناً وليس رعية!
    * ما رأيك في المعوقات التي يواجهها الكتاب العربي, ووسائل انتقاله بين أقطار الوطن العربي المختلفة?
    - المعوقات كثيرة, أهمها غياب الديمقراطية والحرية وغيرها من الأبعاد التي تعد ضرورة للإبداع. ثم الخلط بين الثقافة والإعلام, وربما الإعلان, والنظرة المتدنية إلى الكلمة قياساً إلى الوسائل الأدائية الأخرى. ولعلي أشير إلى اللا مقابل الذي يتقاضاه المثقف المتحدث في وسائل الإعلام, يتقاضى هو هذا المقابل. فضلاً عن وجوب تحرير قوانين النشر والاستيراد والتصدير من كل المعوقات التي تواجهها صناعة الثقافة, بينما يتقاضى معلق كرة القدم في مباراة واحدة بضعة آلاف من الجنيهات. كذلك فإن النظرة إلى الكتّاب يجب أن تتبدل تماماً, بحيث تنعكس تلك النظرة على قوانين النشر والتصدير, فلا يدفع المبدع مقابلاً لنشر كتبه, بدلاً من أن يتقاضى ثمن الكتاب.
    * للمرأة مكانة متميزة في رواياتك, وفي حياتك, ونخص بالذكر الزوجة الوفية السيدة زينب العسال, وهي أديبة وناقدة وباحثة, لها حضورها في الساحة الأدبية, فما دور السيدة زينب العسال في حياتك وفي أدبك? وما دورك أيضاً في أدبها وحياتها?
    - لزينب العسال في حياتي أدوار متعددة, فهي صديقة وزوجة وناقدة لأعمالي قبل أن ادفع بها إلى المطبعة, ولأنها أخذت نفسها بصرامة من حيث الدراسة والممارسة, فنالت العديد من الدبلومات, كما حصلت على درجة الماجستير, وتعد الآن رسالة الدكتوراه, ونشرت العديد من الدراسات في الصحف والدوريات. لذلك كله فإني لم أعد أتابع زينب في المؤتمرات والندوات التي تشارك فيها. غاب قلق الأعوام الأولى, وتحريضي لها على أن تصبح واحدة من أهم ناقداتنا, فذلك ما حدث بالفعل.
    إن دوري في حياة زينب العسال الآن يقتصر على قراءة ما تكتبه, وإبداء الملاحظات التي لا ألح في أن تعمل بها, فمن المهم أن تكون لها وجهة نظر, وأن تعبر عنها, وأن تحتمل - في الوقت نفسه - نتائج ما تكتب!
    * في نهاية هذا الحوار أود أن أسألك: وماذا تقول للشباب? جل المستقبل وحاملي الأمانة, والأمل?
    - ماذا أقول للشباب? أترك لك الرد على هذا السؤال, فقد رأيت ندوتي الأسبوعية في مقر نقابة الصحفيين, وشاركت فيها, ولك فيها رأي.
    (يسعدني أن أقدم شهادتي في ندوتك, فقد رأيتك ترعى الأدباء الشباب وتشجعهم وتصغي إليهم باهتمام كبير, وتترك لهم حرية التعبير والنقد, ضمن معايير الاحترام والتهذيب والتقدير, ورأيت لديهم حساً نقدياً متطوراً فهم يدركون مسؤولية الأديب عن التجديد ومواكبة العصر في التقنية والبناء وفي الهموم والمشكلات, ويرفضون الاجترار والتقليد, وأنت تشجعهم وتؤديهم, ولا تصادر آراءهم, ولمست لديهم عطاء إبداعياً يرقى في كثير من الحالات إلى مستوى رفيع جدير بالاهتمام, ومما لا شك فيه أن أسماء لامعة لأدباء سوف تظهر من خلال ندوتك, إن لم يكن بعضها قد ظهر فعلاً وحقق حضوره الأدبي المتميز, ولا شك في أنك تقول للشباب أهلاً بكم وأنا معكم والمستقبل لكم, ولكنك أذهلتني, فقد حولتني في النهاية من سائل إلى مجيب, ومن محاور إلى متحدث).
    عناوين فرعية
    القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي بصرف النظر عن غزارته أو قلته
    لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية
    أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها أثناء حرثها للأرض
    الرواية العربية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي.. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    محمد جبريل: إننا نحن المثقفين من يصنع الطاغية فهو لا ينشأ من فراغ

    الكاتب المصري لـ«الشرق الأوسط»: حياتنا الثقافية تحكمها المصالح والشللية، ولا يهمني أن أصنف في فلك جيل ما


    القاهرة: محمد أبو زيد
    ..........................



    تشكل الاسكندرية هاجسا رئيسيا في جميع أعمال الكاتب المصري محمد جبريل بشوارعها وناسها وعاداتها.
    وفي هذا الحوار يتحدث الروائي محمد جبريل عن هذه المدينة، وعن علاقته بنجيب محفوظ التي يؤكدها فيما ينفيها الآخرون وعن جيل الستينيات الذي ينتمي اليه فيما يستبعده البعض من هذا الجيل، وعن 42 عملا ادبيا له تتنوع بين القصة والرواية والنقد والسيرة الذاتية أهمها «رباعية بجري، الحياة ثانية، زمان الوصل، الشاطئ الآخر، ما ذكره رواة الأخيارعن سيرة الحاكم بأمر الله هل قاضي البهار ينزل البحر، حارة اليهود، الخليج، زوينة» وغير ذلك:
    * تبدو الاسكندرية هي الهاجس الرئيسي في كتاباتك فهل كتبت عنها بحكم المولد، أم لدافع آخر؟
    ـ بعيدا عن أى مصطلحات أو أي تعبيرات أدبية وبلاغية فأنا أكتب عن الاسكندرية لأني أجد نفسي أكتب عن الأسكندرية، أنا تركت الاسكندرية من أكثر من أربعين عاما، وأتردد عليها في زيارات متقاربة ومتباعدة وأشعر في كل الأحوال بأني حين أفارقها لا تفارقني، انها تسكنني، وهذا هو التعبير الدقيق من دون أدنى مبالغة، ثمة احداث لرواياتي تدور بعيدا عن الاسكندرية لكن الاسكندرية تخضعني لمشيئتها لمكانها، فيتحول المكان من دون أن أدري الى الاسكندرية.
    * كتب الكثيرون من المصريين عن الاسكندرية مثل ادوار الخراط، وابراهيم عبدالمجيد، سعيد سالم وجمال القصاص، وكان لكل واحد منهم منطقة تخصه، باعتقادك ما هي المنطقة التي تخصك بعيدا عن هؤلاء؟
    ـ منطقة بحري لأنها منطقة الطفولة والنشأة، وان كان ثمة مغايرة ولا أقول تميزا فهي اني كتبت عن ارتباط اليابسة بالبحر، فشخصيات اعمالي الابداعية من الصيادين وباعة السمك; وعمال الميناء والعاملين بالتصدير والاستيراد وجنود السياحل وكل ما له علاقة بالبحر وكل من يتعاملون مع البحر ويقيمون في اليابسة.
    * لكن هناك آخرين كتبوا عن هذا أيضا ؟
    ـ ربما، ولكن المسألة ليست أساسية بالنسبة لهم مثلي، فانعكاس البحر على اليابسة وانعكاس اليابسة على البحر يبدو واضحا لدي لسبب بسيط هو اني نشأت في هذه البيئة التي تربط الاثنين، فبمجرد ان أصعد على سطح بيتنا أشاهد البحر من ثلاث جهات تشكل قوسا مع المينا الشرقية، والانفوشي والمينا الغربية، بالاضافة الى طبيعة الحياة نفسها مثل حلقة السمك وكل ما يتعلق بالبحر، وبازعاجاته والنوات وغيرها فضلا عن خاصية أخرى لا يمكنني أن أغفلها وهي الجو الروحي الذي يمثله تعدد المساجد والزوايا والحياة الدينية في الحياة.
    * يبدو الهاجس السياسي واعتماد الخلفية السياسية في جميع اعمالك واضحا.. لماذا؟
    ـ لأني مهموم سياسيا.
    * وهل معنى هذا أن تكتب سياسة في الابداع؟
    ـ أنا لا أكتب في السياسة ولا ألحظ هذا، وانما أكتبه بعفوية وهناك مجموعة عوامل ساعدت على هذا، منها انني تعلمت القراءة من الصحف وبالضرورة في الصحف سياسة، وهذا اثر علي فيما بعد، ثم عملي بالصحافة لاحقاً. وقد أتيح لي على فترات متقاربة ومتباعدة أن أصادق واتعرف على أصحاب اهتمامات سياسية يمثلون كل التيارات الدينية وقنواتي المفضلة في التلفزيون هي قنوات الاخبار، وقد سأل سقراط أحد الأشخاص ماذا تفعل، فقال أعيش، فقال سقراط، والبهائم تعيش، وأنا لا أريد أن أعيش كالبهائم، أريد أن يكون لي موقف، ولو لم استطع التعبير عنه من خلال عمل ابداعي أكتبه كمقال في الصحف.
    * يتهمك البعض بأنك لم تزل تكتب الرواية الواقعية الكلاسيكية ولم تتجه الى استخدام تقنيات الكتابة الحديثة مثلما فعل باقي جيلك، ما ردك؟
    ـ من الصعب ان أقول هذا، وكل عمل أكتبه يختلف عن الأعمال التي سبقته وأنا من المؤمنين ان العمل يكتب نفسه، ولا ألوي ذراعه، وعادة أبدأ العمل الابداعي من دون ملامح واضحة، ومؤكدة وهو يكتب ملامحه أثناء تخلق الكتابة، حتى التكنيك يتخلف منذ البداية، فأنا لا أصطنع شكلا.
    * لك روايات عن الاسكندرية وروايات تاريخية، ورويات صوفية، وفرعونية وسياسية، أقصد انك تكتب في كل اتجاه، من دون خط محدد، ما رأيك؟
    ـ يحركني عاملان أثناء الكتابة: الحنين الى المكان، والحنين الى الزمان. الحنين الى المكان بشكل حي بحري بالاسكندرية بالأساس، فمعظم قصصي التي تتناول هموما انية تدور في حي بحري، ولكن احيانا لأني سافرت أماكن كثيرة يحركني الحنين عن أماكن خارجية من خلال عمل ابداعي فأكتبه. والعامل الثاني هو الحنين الى الزمان. عندما أحب ان أكتب عن فترة ما، أظل اقرأ فيها حتى أتوحد معها، ثم أكتب عنها لأني مؤمن انه لا بد للكاتب المعاصر من أن يصل نفسه بالتراث ولا يتصور ان الحداثة هي اجتثاث للتراث من أصوله.
    * هذا يجعلني أسأل، هل تكتب رواياتك التاريخية نتيجة لقراءتك التاريخية؟
    ـ الأساس الفكرة طبعا. عندما أشعر بأن شخصية ما تستفزني، أبدأ القراءة عنها، وعندما أبدأ الكتابة أكون قد مشيت في شوارع الفترة التي أكتب عنها، بين بناياتها، وأتحدث بلغتها، واستخدام مفردات معيشتها، بالاضافة الى أني أحاول في التكنيك أن استخدم المفرده بصياغة حديثة وأحاول أن أقيد من اسلوب السيرة والطرفة والنادرة وكل ما ينتمي الى التراث.
    *إلام ترد الهاجس الصوفي وانتشار الأولياء والمتصوفة في رواياتك؟
    ـ أكتب عن الصوفية لأن الحياة التي عشتها في الإسكندرية فرضت علي ذلك: الأولياء، والطرق الصوفية، والمساجد والمعتقدات الشعبية، فهذا البعد موجود في الحياة السكندرية، ومن المهم جدا أن أعبر عنه، وهو شكل من أشكال الواقعية السحرية كما يسمونها في اميركا اللاتينتية، وأنا أحب قراءة أدب اميركا اللاتينية، وما أكتبه قد يتفق معه، لكنه غير مصنف فالكتابة عن الصوفية، وخصائصها كالمشي على الماء والطيران واللجوء الى الأولياء الذين ماتوا منذ سنين يمكن أن يصنف على انه واقعية سحرية.
    * رغم انك تنتمي الى جيل الستينيات، الا أن اسمك غير مطروح بقوة مع اسماء هذا الجيل، هل ترى انك مستبعد؟
    ـ لست مشغولا بهذا الأمر ولم يصدر قرار جمهوري ولا أمر سماوي يحدد أسماء هذا الجيل. هم الذين اعتبروا انفسهم يشكلون هذا الجيل وهم الذين يوجه اليهم هذا السؤال. أنا أكثر كتاب الستينيات توزيعا، وأغزر الكتابات النقدية كتبت عني، وأكثر الرسائل الجامعية كانت عني. وأحد الاصدقاء راجع ما كتب عني، ذكر لي أن ما كتب عني أكثر ما كتب عن نجيب محفوظ حين كان في سني. وأنا لم أحرض أحدا على أن يدرسني أو يكتب عني، وأزعم انني متحقق على مستوى القارىء العادي، والاكاديمي والنقدي، وأما أن البعض يحاول التغييب أو التجاهل أو التعامل بمنطق الشللية فهذا لا يعنيني.
    * يصدر لك كل عام كتابان الى أربعة، ألا ترى أن هذا كثير في ظل اتهامك بغزارة الانتاج؟
    ـ المسألة هي اني قد أكتب رواية واحدة رديئة، وعشرة روايات جيدة، ويجب ان يعامل الأدب بالكيف وليس بالكم، ويجب قبل أن تحكم على أعمالي أن تناقشها، بالاضافة الى أن غيري من أبناء جيلي من يفوقني كما، ومشكلتي ان أعمالي ظهرت في أوقات متقاربة، لأن هناك تسع سنوات قضيتها خارج مصر، كتبت فيها ولم أنشر الا بعد عودتي، فضلا عن مقاطعتي للحياة الاجتماعية، رغم اني صحافي ولكني لا أمارس الحياة الصحافية بمعناها الحقيقي حتى ولو خرجت فاني آخذ في حقيبتي ما يقرأ، أندهش ممن يتكلم عن الغزارة وهو يقضي وقته في »الجريون« أو »زهرة البستان« أو فيما يسمى بالمستودع من الصباح حتى آخر الليل وأسأله، متى تقرأ ومتى تكتب!
    * صدرت روايتك »الحاكم بأمر الله« في الوقت الذي سقط فيه نظام صدام حسين في العراق، وربط البعض بينهما ما رأيك؟
    ـ الترابط في موعد النشر فقط، وأرفض الربط لأنني عندما أكتب عن شخصية معاصرة وأحاكيها، أتناولها كما يشاهدها هذا العصر. لست مؤرخا ولا عالم اجتماع، وأنما أحاول الابداع، وهو يشترط البعد الانساني الذي يعطي له الاستمرار والديمومة.
    * قدمت تيمة الحاكم الظالم بنفس تفاصيلها في أكثر من عمل لك مثل »إمام آخر الزمان« و»سيرة الامام الحاكم بأمر الله« و»اعترافات سيد القرية« والعديد من قصصك القصيرة.
    ـ أحاول أن تكون لي فلسفة حياة. هذه الفلسفة تتبدي في اعمالي كتنويعات على ألحان محددة منها على سبيل المثال:الانسان المطارد، والصراع العربي الاسرائيلي، وما لا استطيع التعبير عنه في اعمال الأدبية، أعبر عنه في مقالاتي الصحافية، وأنا أرى أننا نحن المثقفين من يصنع الطاغية، فالطاغية لا ينشأ من فراغ، المثقفون هم الذين يقومون بتأليه الحكام والباسهم هالات البطولة والزعامة، وفي رأيي أن الطاغية لا ينتهي بالصورة التي بدأ عليها، ولكن من يفيدون منه يحرصون على أن يصبح طاغية، وما أريد أن أصل اليه، أنني قد أكرر نفسي، ولكن الأمر بالنسبة لي فلسفة حياة، فضلا عن اختلاف التناول واللغة، والتكنيك من عمل لآخر.
    * كتب سالم بنحميش أوخرون عن الحاكم بأمر الله، وكتبت أيضا. فيما أختلفت عنهم. وما رأيك في المقارنة التي اقامها أحد النقاد العرب بينك وبين بنحميش في هذا الصدد؟
    ـ لم أقرأ الآخرين، وعرفت بعد أن انهيت روايتي أن سالم بنحميش حصل على جائزة عن هذه الرواية، وعندما قرأتها وجدت انها تأخذ خطا مغايرا، أنا أكتب عن فلسفة حياة. والمضحك ان هذا الناقد الذي أشرت اليه أقام موازنة بين بنحميش وبيني، وقال ان رواية بنحميش أفضل وأكثر فنية لأن عناونيها أكثر شاعرية، وبهذا المنطق يمكنني اعتبار محمد حسنين هيكل أفضل كاتب أدبي لأن عناوينه أكثر شاعرية مثل خريف الغضب وغيره، وهذا منطق يطفح سذاجة.
    * علاقتك بنجيب محفوظ تؤكدها وينفيها الآخرون، أين الحقيقة؟
    ـ أصدرت كتاب »نجيب محفوظ. صداقة جيلين« أوضحت فيه هذه العلاقة وفي عز صحة نجيب الجسدية، وقرأه، ولم يعترض على كلمة واحدة مما جاء فيه، بل أنني أشرت في مقدمته أنني كنت واسطة التعارف بينه وبين من يدعون أبوة نجيب محفوظ الآن. ومع كل احترامي لمحفوظ، فقيمة الأديب بما يكتبه، وليس بمحاولة الاتكاء على شخصيات أو كتابات أخرى، مهما كانت قيمتها. اوجه هذا الكلام للذين يقحمون أنفسهم عليه في الوقت الذي يحتاج فيه الراحة، والاستجمام ويطرحون مسائل غريبة مثل الأبوة والوراثة، مع أن الأدب لا يورث. لقد كنت لصيقا بمحفوظ حتى سافرت الى الخارج، وذكرت كل هذا في كتابي وأنا أكبر من مثل هذه الصغائر وأنا أعتز بما أكتب، ولا أبحث عن وسائل أخرى للشهرة مثلهم.
    * لكنك عندما كتبت مقدمة لمجموعتين قصصيتين هما «صدى النسيان» و«فتوة العطوف» لنجيب محفوظ من أعماله الأولى هاجمك البعض في المجلات العربية ووصفوك «بكاتب مغموريقدم لمحفوظ»؟
    ـ ما كتب وقتها كان بتحريض من هؤلاء الأشخاص ونجيب محفوظ هو الذي كتب ورقة بخط يده يزكي فيها ان أكتب هذه المقدمة، وسأفشيك سرا فقد كلفني محفوظ نفسه بمراجعة روايته الأخيرة »اصداء السيرة الذاتية». بعد ان ظل لفترة طويلة متخوفا من نشرها وبها أخطاء، رغم وجود هؤلاء. وعندما هوجمت بسبب المقدمة التي كتبتها لمحفوظ في مجلة «الصدى» جاء محرر المجلة الى، واتصلنا بمحفوظ أمامه وقال انه يعتز بصداقتي وانه وافق على هذا النشر.
    أنا اعتزلت نجيب محفوظ حفاظا على صحته، وعندما قابلني محفوظ وسألني لماذا لا تأتي، قلت له عندما ينفض المولد الذي حولك، لكن يبدو انه لا يريد أن ينفض.
    * تتسلل سيرتك الذاتية في ثنايا اعمالك، اضافة الى انك اصدرت اربعة كتب عن سيرتك الذاتية هل تعتمد على حياتك الشخصية في الكتابة؟
    ـ لا يوجد تعمد لاستعمال سيرتي الذاتية، وأنا أترك العمل الابداعي يكتب نفسه، والكتب التي تحدثت عنها ليست سيرة ذاتية مطلقة، وغير ذلك فأنا أكتب فنا، والسيرة الذاتية الآن جنس أدبي ينتمي الى جنس الرواية.
    * أن تفوز بجائزة الدولة التشجيعية في النقد، ألا يبدو هذا محزنا لك كمبدع؟
    ـ أنا فزت بالجائزة ولم أكن قد حققت ذاتي الأدبية بعد، فلم يكن وقتها قد صدر لي سوى مجموعة واحدة، وهذه المجموعة رأيي فيها الآن انها أقرب إلى مشاريع للقصص التالية، وعموما فأنا أصغر واحد في جيلي حاز جائرة الدولة على الاطلاق.
    * بعد كل هذا هل تشعر بأنك مظلوم؟
    ـ أبدا، ولو شعرت بهذا لن أكتب.
    ...........................................
    *الشرق الأوسط ـ في 30/7/2004م.


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    محمد جبريل: أرفض الخيال المحض في مضامين أعمالي:

    حاوره: د. حسين علي محمد
    ..........................


    غاب محمد جبريل عن الوطن ثماني سنوات (1976-1984) في سلطنة عمان، حيث كان في مهمة جادة لإصدار جريدة "الوطن" التي جعل منها واحدة من الجرائد القوية في منطقة الخليج، كما أصدر ملحقها الأدبي المتميز الذي يجعلنا نتمنى أن تُصدر الصحف الأدبية المصرية مُلحقا مثله.
    وبعد عودته من عمان كان هذا اللقاء معه:
    *ثماني سنوات من التجربة وأنت بعيد عن وطنك مصر الأثير إلى نفسك، ماذا قدمت لك التجربة؟ وكيف تنظر إليها الآن؟
    -حين اتصل بي المرحوم الشيخ سليمان الطائي وألحَّ في أن أُنقذ جريدة "الوطن" من مأزق حقيقي تبدّى في عدم انتظام صدورها، وانقطاعها ـ أحياناً ـ لفترات تمتد إلى الأشهر، وافتقادها للمقومات الأساسية للعمل الصحفي، إلى حد مُصارحة الزميل حسين أحمد مرسي ـ الذي كان يتولى مسؤولية الإعلان والتوزيع ـ إليَّ أن محررها الأوحد ـ قبلي ـ كان العمل الذي يُجيده هو الطباعة على الآلة الكاتبة! يكتفي بتسجيل الأنباء المحلية من إذاعة عمان، ويبعث بها إلى المطبعة التي تتولى طباعة الوطن في بيروت أو القاهرة أو الكويت، فتستكملها بمواد أخرى منقولة بتصوير الأوفست من الصحف المختلفة. وهكذا كانت تصدر "الوطن"، بل وهكذا كانت تصدر كل الصحف العمانية، فيما عدا "عُمان" بالطبع، التي حاولت أن تعتمد على جهود العاملين فيها، وإن لجأت آنذاك ـ كثيراً كثيراُ ـ إلى أسلوب القص واللصق الذي يُعد الوجه الآخر ـ السلبي ـ لطريقة الطباعة بالأوفست.
    أقول: حين عرض عليَّ الشيخ سليمان الطائي مسؤولية إنقاذ "الوطن" من مصير واضح كان يتهددها ترددتُ كثيراً، وألحّ دون يأس. فلم أوافق إلا بضغط مباشر من أستاذي عبد المنعم الصاوي الذي وسّطه الشيخ الطائي حتى يُحاول إقناعي .. ذلك لأن عام 1975 الذي قدّم فيه الشيخ الطائي عرضه كان هو عام فوزي بجائزة الدولة في الأدب، وكذلك كان عام سفري إلى العديد من الأقطار العربية لإلقاء محاضرات في فنية العمل الصحفي بتكليف من المركز العربي للدراسات الإعلامية في السكان والتعمير، بالإضافة إلى أني كنت مشغولاً في كتابة روايتي "حكايات عن جزيرة فاروس"، وكتابي "ملامح مصرية" والجزءين الثاني والثالث من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين". وكان التخلي عن ذلك كله صعباً وقاسياً. لكنني ـ في النهاية ـ لملمت أوراقي، واحتفظت بها في الأدراج ثماني سنوات كاملة، كنت خلالها مشغولاً بتحقيق المعجزة ـ وليس في التعبير أدنى مبالغة ـ أن تُصدر جريدة أسبوعية بمجهود فردي .. ثم أن أُصدر هذه الجريدة ـ فيما بعد ـ يومية بمجهود شبه فردي.
    لكن الجانب الإيجابي المقابل في هذه التجربة، تمثل في استفادتي المؤكدة من الممارسة التطبيقية في كل مجالات العمل الصحفي بدءاً من إدارة التحرير وانتهاءً بالسكرتارية التنفيذية، مروراً بالكتابة الصحفية: كتابة العمود السياسي، والخاطرة اليومية، والتحقيق، والدراسة، والخبر. حتى التصحيح كان من بين مهام المحرر الوحيد الذي كنته! وثمة تعرفي إلى اهتمامات، وأسماء ومناطق أخرى ربما لم أكن أتعرف عليها لولا سفري إلى السلطنة .. بالإضافة إلى أن إقامتي في السلطنة كانت هي الباعث لأن أكتب روايتي "إمام آخر الزمان".
    *هل كنت تُواكب أدباء جيلك وأنت بعيد عنهم؟
    -لم أكن بعيداً على الإطلاق عن أدباء كل الأجيال السابقة؛ فالسلطنة تأذن بدخول كل المطبوعات، بل لقد أُتيح لي في السلطنة أن أتعرّف إلى أدباء في الوطن العربي لم يُسمع صوتهم في القاهرة بعد. ومن بين كتاباتي الحالية دراسة مطولة عن الأديب عز الدين المدني ـ الغائب تماماً عن اهتمامات المثقفين المصريين ـ ومحاولاته التجريبية التي أجد أنها تتفق تماماً مع نظرتي إلى معنى التجريب.
    أما بالنسبة لغيابي الجسدي عن القاهرة، فلم يكن حقيقيا، ذلك لأني كنتُ حريصاً على العودة إلى مصر بين فترة قصيرة وأخرى، وجواز سفري مزدحم بعشرات الأختام التي تبين عن أسفاري المتواصلة بين مسقط والقاهرة.
    لم أكن بعيداً عن أدباء جيلي إذن، بل ولم أكن بعيداً عن الحياة الثقافية إطلاقاً! ولعل "الملحق الثقافي" لجريدة "الوطن" ـ وهو خير الإسهامات التي أعتز بها في تجربتي الصحفية بالسلطنة ـ يكشف عن مدى علاقاتي المتصلة بالمثقفين المصريين من كافة الأجيال. ولقد تعرّف القارئ العماني ـ من خلاله ـ إلى نبض الواقع في الحياة الثقافية المصرية، وإلى معظم الأسماء التي تُشكِّل هوية الثقافة المصرية، وإني إعتز بأن الوطن حظيت بكتابات نخبة ممتازة من الأقلام المصرية، كان بوسعهم أن ينشروا ما يكتبونه في صحف عربية أخرى بمقابل مادي حقيقي، وليس بالمقابل الرمزي الذي كانت تدفعه "الوطن" لهم.
    *نعود إلى عالمك الفني الأثير لديك: كيف ترى إبداعاتك بين أبناء جيلك؟
    -يصعب على أي كاتب أن يتصوّر موضع مؤلفاته بين الإسهامات الأخرى التي قدّمها أبناء جيله. مع ذلك فإن تأملي لقائمة مؤلفاتي التي تضمنتها الصفحة الأخيرة من آخر رواياتي يُبيِّن عن اهتمام ملح بقضايا بلدي (مصر)، سواء بالإبداع أو بالدراسة الأدبية.
    أما أولى مجموعاتي "تلك اللحظة من حياة العالم" فإني أعترف بالخطأ لعدم قبول نصيحة أستاذنا نجيب محفوظ بالاكتفاء بعبارة "تلك اللحظة" دون بقية الكلمات، فضلاً عن أنها تبدو لي ـ بعد أعوام طويلة من إصدارها ـ أشبه باسكتشات قصصية تُعبِّر عن الرغبة في التجريب أكثر من تعبيرها عن اكتمال مقوِّمات هذا التجريب. بعكس روايتي "الأسوار" التي تبدو لي خطوة أكثر تفوقاً في تحقيق ما أراه من وجوب استفادة القصة بالأدوات الفنية الأخرى مثلما تستفيد تلك الأدوات من فن القصة. فثمة الفلاش باك، والهارموني، والتبقيع، والحوار الدرامي … إلخ. ولقد سعدت ـ في الحقيقة ـ بحفاوة النفاد بهذه الرواية، وحرصهم على مناقشتها وإبراز دلالتها الفنية والمضمونية في آن معاً.
    أما كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" فهو ـ كما أشرت في المقدمة ـ محاولة فنان لقراءة تاريخ بلاده، وتسجيل هذه المحاولة فيما يمكن تسميته بالقراءة الإيجابية. ولقد أسعدني ـ بالطبع ـ أن يفوز هذا الكتاب بجائزة الدولة في النقد الأدبي، وإن كانت سعادتي ستتضاعف لو أني نلت الجائزة في المجال الذي أوثره وهو القصة.
    *بدأت محاولاتك مع الفن من خلال القصة القصيرة، هل تحدثنا عن تجربتها معك؟ وهل أثَّرت قراءاتك وتجاربك الشخصية في بداياتك؟ أم أنك بدأت مُغامراً من خلال ما يُمكن أن نسميه قصص الخيال المحض؟
    -لعلي أزعم أني لم أبدأ في كتابة قصتي القصيرة الأولى، إلا بعد أن كان في حوزتي حصيلة لا بأس بها من القراءات والتجارب الشخصية وتلك التي عاشها الآخرون. وأضيف: أني رفضت الخيال المحض في مضامين أعمالي الفنية. لقد عملت في مهن متعددة، وقرأت في ثقافات مرتفعة وهابطة، وعايشت أجواء متناقضة، وقضيت أعواماً مقيماً وزائراً في بلاد شتى.
    لقد حاولت ـ ولعل ذلك ما أحرص عليه حتى الآن ـ أن أستفيد من كل لحظة قراءة، وكل لحظة تجربة، وكل لحظة تعرُّف ومشاهدة، بحيث يتناثر ذلك كله في محاولاتي دون أن يبين عن مصدره.
    *هذا يدفعنا إلى السؤال عن موقفك من "نقل الواقع أو النسخ الحرفي للحياة" من خلال الفن، وهل هذا أمر ممكن؟
    -لعلي أوافق أرنولد بينيت على أن النسخ الحرفي أمر مستحيل"، فالرواية ـ بدرجة ما قد تتفوق أو تتأخر ـ لوحة فنية تنبض بالتفصيلات ، وتداخلات الألوان والظلال ، والفكرة والشكل والتلوين .. تلك هي الأشياء التي لابد أن تتوافر في العمل الروائي حتى يستحق هذه التسمية. وكما قلت فإن التصوير في حد ذاته يُعدُّ فنا من حيث اختيار الزوايا والإضاءة والمساحات. ولكن حين يُصبح هو الاختيار الوحيد في رواية ما، فإنها بالقطع لن تكون كذلك.
    *إذن ما رأيك في التفسيرات التي يطرحها النقاد على الأعمال الفنية خاصة القصة من منظور الرمز أو المعادلات؟
    -المعادلات في معالجة الأعمال الفنية قضية غاية في الخطورة. ذلك لأن القصة ـ كعمل فني ـ يجب أن تحقق المتعة بذاتها. وقد صارحني نجيب محفوظ ـ يوماً ـ أنه يعتبر القصة الفلسفية غاية الفن، ولكنه رفض البحث عن الرمز المقابل لكل شيء، فسيحتاج الأمر إلى لوغاريتمات، وليس إلى فن حقيقي. ساعتها ربما يحتاج القارئ إلى جدول يُطابق من خلاله الواقع على ما يُقابله من رمز. الفنان عندما يبدأ كتابة عمل ما، فإنه لا يعرف كيف أو ماذا يكتب. الفكرة العامة تحيا في ذهنه، لكنها تخضع عند الكتابة لاعتبارات أخرى عديدة، الفنان يكتشف نفسه أثناء الكتابة.
    *كخطوة نحو القصة الفلسفية التي يريدها نجيب محفوظ: هل ترى أن الرواية المعاصرة تُقدِّم "فلسفة" للحياة من خلال نظرة مبدعيها؟
    -إن الرواية المعاصرة يجب أن تقدِّم فلسفة الحياة الواضحة المتكاملة التي تُعبِّر عن نظرة الأديب الخاصة ومواقفه، لا أعني أن تُقحَم الأفكار الفلسفية المجرّدة داخل إطار العمل الفني. إنها في هذه الحالة تُشكِّل نتوءاً واضحاً في العمل الفني، يقلل من قيمته، إن لم يُبدِّد تلك القيمة تماماً. إن الفنان الذي يصدر عن رؤية فلسفية متكاملة هو الذي يتمكّن من تذويب أفكاره في أحداث عمله الفني، بحيث لا تبدو نشازاً ولا مُقحمة.
    وكما يقول "ميرلو بونتي" فإن الفلسفة ليست انعكاساً لبعض الحقائق الجاهزة الموجودة من قبل، ولكنها مثل الفن تمثل التجسيم المباشر للحقيقة. إن الفلسفة الصادقة هي التي تُعلِّمُنا من جديد كيف ننظر إلى العالم. وإن رواية ما ممتازة، يُمكن أن تُصوِّر لنا "بانوراما" العالم، ربما بأدق وأشمل مما تصوّرها الرسالة الفلسفية.
    *شاعت في العقد الأخير بعض موجات الحداثة التي تُغفل دور الحدث أو "الحدوتة"، فهل تتعاطف مع هذه الموجات؟
    -بالعكس، فإني أرى "الحدوتة" هي النطفة التي يتخلّق منها العمل الفني، وبرغم اختلافي مع "أرنولد بينيت" بأن أساس الرواية الجيدة هو "خلق الشخصيات ولا شيء سوى ذلك"، فلعلي أتفق تماماً على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في بناء الرواية الذي يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى، أقواها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة ـ نقاداً أو أدباء ـ أن الرواية ليست في حاجة إليها، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات تضع الحدوتة في مرتبة تالية، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً. ولقد كانت الحدوتة (الحكاية، الفكرة، سمِّها ما شئت) هي الباعث الحقيقي لأن تتحوّل روايتي "الأسوار" في ذهني ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث ومواقف وشخصيات، ثم تخلّقت في أشكال هلامية عدة، قبل أن تأخذ ـ في طريقها إلى المطبعة ـ سماتها النهائية.
    *هل يعني هذا عندك أن الحدوتة هي الدعامة الأولى في الفن الروائي؟
    -نعم، الحدوتة هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل فني. ثم تأتي بقية الدعامات الأخرى، وهي ـ في الرواية الجديدة ـ محاولاتها للاستفادة من العناصر والمقومات في وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك في السينما، والتقطيع في السينما أيضا، والتبقيع في الفن التشكيلي، والهارموني في الموسيقا، والحوار في المسرحية .. إلخ.
    *المتابع لإبداعاتك القصصية والروائية يجدك تُلح فنيا على ضرورة استفادتهما من معطيات وتكنيكات الوسائل الفنية الأخرى التي أشرت إليها الآن مثل القصيدة والمسرحية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية ـ فما هي بواعث هذه الرؤية؟
    -لماذا لا يُثري الفنان قصته أو روايته بإسهامات الفنون الأخرى وبما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتكنيكية، فتتحقق للفن الروائي أبعاد جديدة، وتتحقق أبعاد جديدة للفنون الأخرى، مما يجعل رأي "أدوين موير" بأن بعض الفنون ـ مثل النحت والرسم والموسيقا ـ تتحقق في بُعد واحد فقط، أقرب إلى تسمية الشمس بأنها تقوم كل يوم بدورة من الشرق إلى الغرب، وإغفال "أبعادها" الهامة الأخرى! ولعلي بذلك أُناقض دعوى بعض الروائيين الجدد ـ ناتالي ساروت مثلا ـ بأن المقولة في الفن خطأ يجب تجنبه، وأن الالتزام الوحيد في الفن هو الفن نفسه. برغم أن إبداعات هؤلاء الروائيين ـ وأيديولوجياتهم أيضا ـ ترفض تلك الدعوى، فمهمة الروائي ـ في تقديرهم ـ هي إعادة العلاقة بين الإنسان والعالم.
    *في قصصك زخم الواقع والحياة ـ وإن كانت مُغايرة للواقع ـ كيف ترى إمكانية تحقق التغايُر والتماثل في آن مع رفضك للنسخ الحرفي للحياة من خلال الفن؟
    -الواقعية ليست هي الواقع، والفن ليس هو الحياة بحذافيرها، الواقع مُصادفة وفوضى والفن اختيار. الفنان يُضيف إلى العمل الفني مهما بلغت درجة اقترابه من الحياة، من قراءاته وخبراته ورؤاه .. إلخ، ومن هنا فإن "ابن نفيسة" (بطل روايتي "متتابعات لا تعرف الانسجام") في الحياة ليس هو "ابن نفيسة" في الرواية، برغم أن الرواية تستند إلى الواقع، وأيضاً شخصيات رواياتي وقصص قصيرة كثيرة مما كتبت.
    *ألا ترى أن الصحافة تؤثر تأثيراً سلبيا على الأديب المبدع؟
    -لقد أدرك أرنست همنجواي أنه من الصعب أن يكون صحفيا وأديباً في آن معاً، وبالتالي فقد رفض كل العروض الصحفية التي كان يمكن أن تُجنبه المآزق المادية التي واجهها في بداية حياته الأدبية. وفضلاً عن القيمة السامقة لإبداعات همنجواي بالقياس إلى مُحاولاتي، فإن الحقيقة التي تذهب في بلادنا مذهب المثل: أن الأدب لا يُؤكِّل صاحبه عيشاً، ومن ثم فإن الوظيفة مطلب حتمي، ولأن الصحافة هي الأقرب إلى الأدب، فقد كان من البديهي أن أتجه إليها. وحتى ذلك لم يكن مُتاحاً في البداية. واجهتُ صِعاباً قاسية حتى أُتيح لي أن أجلس وراء مكتب في صحيفة "المساء" وألتقي بالآخرين بصفتي مُحرراً، وإن كان الأدب هو شاغلي الأول.
    *بعد غيبة ثماني سنوات ونيف بعيداً عن مصر، مُتابعاً لما يدور في تربتها من تخلُّق وتحولات، كيف ترى مصر ـ حبك المقيم وهاجسك الدائم ـ؟ وما هي طموحاتك الأدبية؟
    -مع أن "روبرت فروس" يقول في قصيدة له: "إن الوطن هو المكان الذي يكون مستعدا لاستقبالك عندما تذهب إليه" فإن مصر كانت هي وطني الوحيد والدائم برغم الضغوط الاقتصادية والنفسية التي ألجأتني إلى قبول المنفى الاختياري. ثم إن ثماني سنوات من العمل في "الوطن" وتحويلها من صحيفة مُتعثرة تصدر بين الحين والآخر إلى صحيفة يومية جادة أشعرني ببعض الراحة وجعلني أتخذ قرار العودة.
    وما فعلته ببساطة ليلة عودتي إلى القاهرة ـ نعم، ليلة العودة تحديداً ـ أني فتحت الأدراج، وبدأت في مواجهة ما كنت قد أرجأته قبل ثماني سنوات.
    والحق أن إصراري على تقديم استقالتي من «الوطن» بعد أن حققت أحد أهم أحلامي بإصدارها يومية، كان العودة إلى عالمي الذي أوثره عن كل ما عداه وهو الأدب.


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الموروث الشعبى فى كتاباتى الروائية

    بقلم: محمد جبريل
    ..........................


    نشأت فى بيئة تحض على عشق الموروث الشعبى . حى بحرى شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . إلى اليمين الميناء الشرقى ، أو المينا الشرقية فى تسمية السكندريين . وإلى اليسار الميناء الغربى ، أو المينا الغربية ، وفى المواجهة خليج الأنفوشى ، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الأنفوشى إلى سراى رأس التين ..
    هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة ، فالبنية السكانية تتألف من العاملين فى مهنة الصيد وما يتصل بها ، ومن العاملين فى الميناء وصغار الموظفين وأعداد من الحرفيين والمترددين على الجوامع والزوايا والأضرحة ، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الدينى بالمسافرخانة ..
    وإذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها ، انعكاسها فى العديد من أعمالى الإبداعية ، فإن البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك فى تلك الأعمال ..
    ثمة جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيرى ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز ، وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم . وثمة الموالد وليالى الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح ، وليالى رمضان وتياترو فوزى منيب وسرادق أحمد المسيرى وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح فى سراى رأس التين والتواحيش ، واحتفالات الأعياد : سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول ، وتلاقى الأذان من المآذن المتقاربة ، والبخور والمجاذيب والمساليب ، والباحثين عن النصفة والبرء من العلل والمدد ، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التى تمثل ـ فى مجموعها ـ موروثاً يحفل بالخصوصية والتميز ..
    حين أراجع أعمالى الإبداعية بدءاً من قصتى القصيرة الأولى [ إلى الآن حوالى 90 قصة قصيرة و18 رواية ] فإن تأثير ذلك كله يبين فى العديد من المواقف والشخصيات ، وفى تنامى الأحداث ..
    ***
    رباعية بحرى ، عمل روائى من أربعة أجزاء : أبو العباس ، ياقوت العرش ، البوصيرى ، على تمراز . تعرض للحياة فى بحرى ، منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطالع ثورة يوليو 1952 . لوحات منفصلة من حيث تكامل اللحظة القصصية ، ومتصلة من حيث اتصال الأحداث ، وتناغم المواقف ، وتكرار الشخصيات ..
    أنسية التى طالعتنا فى بداية الجزء الأول من الرباعية ، هى أنسية التى انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير . وما بين البداية والنهاية نتعرف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة ، فضلاَ عن الحياة فى المعهد الدينى بالمسافرخانة ، وحلقة السمك ، وحياة الفتوات ، والعوالم ، وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز ، بقدر اختلاف البيئة وتميزها ..
    على سبيل المثال ، فإن الحياة فى البحر ، وصلة البحر واليابسة ، والمؤمنين بطهارة الماء ، وقدرة البحر على أعمال السحر ، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الأعماق ، والخرافة ، والأسطورة ، والزى التقليدى ، والمواويل ، والأغنيات ، والأمثال ، والحكايات ، وخاتم سليمان ، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة ، وأسرار الغوص فى أعماق البحر ، وغزل الشباك ، وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيرها ، وركوب البحر ، وبيع الجملة فى حلقة السمك ، وبائعى الشروات .. ذلك كله يتوضح فى الشخصيات التى كانت الحياة فى البحر مورد الرزق الأهم ـ أو الوحيد ـ لها ..
    أما الروحية التى تمثل بعداً مهما فى حى بحرى ، فهى تبين عن ملامحها فى كثرة الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة ، ورفع أولياء الله عن الغلابة والمنكسرين ما يحيق بهم من ظلم ، وكرامات الأولياء من اطلاع على الكائنات ، وطى الأرض ، والسير على الماء ، والطيران فى الهواء ، وإتيان بالثمار فى غير أوانها ، وتحويل ماء البحر إلى ماء عذب ، وتواصل الكرامات حتى بعد أن يرحل الولى ، والمكاشفة التى تحققت على يد أبى الدرداء حين أنقذ الإسكندرية من طوربيد ألمانى فى غارات الحرب العالمية الثانية ، والخضر الذى يظهر للمراكب حين يهددها خطر النوات ، فينقذها ، وتجليات الصوفية فى الإشارات والأسرار والرموز ، وارتقاء الدرجات من المريد إلى المقدم فالنقيب فالخليفة خاتمة الدرجات الروحية ، ودروس المغرب ، وتصورات مشاهد الجنة والنار ، والخوف من الجن والمردة والعفاريت ، وإيقاد الشموع على أضرحة الأولياء ، وتقديم النذور ، وكنس النساء للأرض بالملاءات ، أو التمرغ عليها ، يطلبن الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدد ، والوصفات الشعبية ، وأعمال السحر ، والتربيط ، والأعمال السفلية ، والوسائل التى بلا حصر لعلاج الإجهاض ، أى سقوط الجنين قبل أن يكتمل نموه : وَصْفات غريبة ، وقاسية ، وتجارب لابد أن تخوضها المرأة الحامل لتحتفظ بالجنين ، ودلالات ظواهر الطبيعة من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف ونوات ومناطق وفرة ـ وجدب ـ السمك . الشمس تجاوز صفتها الظاهرة ، فتتحول إلى صديق للجد السخاوى ، يعرض عليها مشكلاته ، ويأخذ منها ويعطى ، وحين يحس بدنو الأجل فإنه يتطلع إليها ويخاطبها بما لم يتبينه أحد ..
    ***
    روايتى القصيرة الصهبة تتناول طقساً شعبياً ، تغلب عليه الأسطورة . المرأة المنقبة التى تخضع لمزاد وهمى ، من يرسو عليه ، يرفع عن وجهها النقاب ، فيتجدد أملها فى الإنجاب . ويختلط الواقع بالحلم فى أحداث الرواية ، فتغيب الملامح . لا يدرى إن زارته فى الصحو أو فى المنام ، ولا يبين ناس الصهبة عن هويتهم حتى يهمس صوت الأم وهى ترى ابنها ينزل درجات البيت إلى حيث يتجمعون : هل انجذب ؟!
    ***
    أما روايتى زهرة الصباح فهى محاولة لتوظيف حكايات ألف ليلة وليلة فى عمل أدبى حديث . زهرة الصباح هى الفتاة التى تلى شهرزاد فى قائمة الفتيات اللائى ينتظرهن سيف " مسرور " . كانت تحيا فى ظل الخوف من أن يمل شهريار ، أو تخفق شهرزاد فى الحكى ، فيحل دورها . وحاول أبوها ـ وهو من المقربين إلى شهريار ـ أن يفيد من تلك الفترة فى رواية الكثير من الحكايات والطرائف والنوادر والأخبار والعبر والنوادر والسير والمواويل ، تنصت إليها زهرة الصباح ، وتحفظها . تحيلها مخزوناً حكائياً ليعينها على مواصلة الحكى ..
    كانت قدرة شهرزاد على استدعاء الحكايات ، أو اختراعها ، وروايتها ، هى وسيلتها للإبقاء على حياتها ، فهى إما أن تصل الحكايات ، كل حكاية بأخرى ، أو تموت . فإذا نفد ما بحوزتها من الحكايات ، أو فقدت القدرة على الإدهاش ، وفقد شهريار بالتالى فعل المتابعة والدهشة ، واصل السياف مسرور حلقات سلسلة الإعدام .. ذلك كله كان يعلمه عبد النبى المتبولى ، فشغل معظم وقته بتحويل ذاكرة زهرة الصباح إلى خزانة تستوعب كل ما استطاع حفظه فيها من الحكايات والحواديت والعظات والعبر ..
    تضمن السرد الروائى الكثير من جوانب الموروث الإبداعى العربى . ضُفّر فى نسيج العمل الروائى ، لا لانتساب الرواية إلى عالم ألف ليلة وليلة باعتبارها تراثاً إبداعياً فحسب ، وإنما لأن أحداث الرواية تدور فى أجواء شعبية ، ففيما عدا الشخصيات الرئيسة القليلة ، فإن غالبية الشخصيات من الطبقات الأدنى والمهمشين ..
    ***
    ونحن نستطيع التعرف إلى البدايات الأولى للموروث الشعبى فى حياتنا الآنية ، من خلال توالى الإجابة عن الأسئلة الاثنين والأربعين التى أعادت تقديم سيرة حياة المواطن زاو مخو فى صورتها الصحيحة ، فى روايتى اعترافات سيد القرية . الإيمان بالخلود ، تقديم النذور والقرابين ، الأدعية والرقى والتعاويذ ، العلاقات الأسرية ، السيرة ، الأسطورة ، الخرافة ، الحكاية الشعبية ، الخطابة ، الطرفة ، الطب التقليدى ، التيقن من القدرات العلاجية لشجرة الجميز ، الصفات الشعبية التى تشعل الشبق فى جسد الرجل ، وتسرى بالخصوبة فى جسد المرأة ، الموسيقا الوطنية ، إلخ ..
    ***
    روايتى بوح الأسرار تحاول ـ من خلال معالجة فنية ـ أن تجيب عن السؤال : لماذا اختار الوجدان الشعبى هذه الشخصية أو تلك ، ليضفى عليها من هالات القداسة والعظمة ما يجعل منها أحد أبطاله الشعبيين ؟
    حاولت أن أجيب عن هذا السؤال ـ بصورة مطولة ، تقترب من العلمية ما أمكن ـ فى كتاب لى صدر مؤخراً بعنوان " البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ، ناقشت فيه جوانب البطولة فى عدد من الشخصيات التى وضعها الوجدان الشعبى فى ذلك الإطار : لماذا اختار عنترة من بين مئات الشعراء فى الجاهلية ؟ ولماذا اختار الظاهر بيبرس من بين حكام المماليك ؟ ولماذا اختار السيد البدوى من بين الكثير من أولياء الصوفية الذين نسبت إليهم مساجد وأضرحة ؟ ولماذا اختار على الزيبق وابن عروس وياسين ومتولى وأدهم الشرقاوى وغيرهم ؟..
    التقيت بالمجرم محمد أبو عبده ، أو ابن بمبة فى قرية السمارة الواقعة على حدود الشرقية والدقهلية . بدا فى أحاديث الجميع شخصية أسطورية . كان أبناء القرية يتحدثون عنه بتوقير وحب ، فى حين حذرنى مأمور مركز السنبلاوين وعمدة القرية من محاولة التعرف إلى الرجل ، وأظهروا خشيتهم من أن يرفض لقائى ، أو لا يحسن استقبالى . لكن الرجل استقبلنى بحميمية مصرية ، ودعانى إلى تناول الغداء . وتأملت توسطه لحل مشكلات أبناء القرية ، ومساعدته لهم فى كل ما يطرأ على حياتهم . حتى الحريق الذى أشعلته شرارة حطب ظهر يوم الصيف الذى تصادف أنى زرته فيه ، أذهلنى تصدّيه لإطفائه رغم أعوام عمره المتقدمة ..
    بدا لى الرجل وأنا أغادر القرية ، تجسيداً للبطل فى الوجدان الشعبى ـ فى بالى الكثير مما استمعت إليه من الحكايات فى أعوام النشأة ـ : كيف يكتسب صفاته ، فيصبح ـ فى توالى الروايات والحكايات والمواويل والسير ـ ذلك البطل الذى تنسب إليه الأفعال الخارقة والمعجزات [ روى الصديق رفعت السعيد فى ذكرياته ـ فيما بعد ـ عن تعرفه إلى ابن بمبة فى رحلة الاعتقال والسجن . بدا معجباً بالرجل ، وأشار إلى أنه ـ الرجل ـ قتل تسعة أشخاص ، لكن الرجل أكد لى أنه لم يجاوز التخويف ، ولم يقتل أحداً ] . تصورت ابن بمبة ذلك البطل فى عملية التحول داخل الوجدان الشعبى . ولجأت إلى تقنية تعدد الأصوات التى اختلفت رواياتها فى تصاعد درامى ، تتحول فيه شخصية فرج عبده زهران ، أو ابن شفيقة ، من شاب يحترف الإجرام إلى ولى له بركاته وكراماته ومكاشفاته ، وضريحه الذى يقصده الناس لالتماس المدد ، والمولد السنوى ، وحفلات الذكر .. ما بواعث التحول ؟ وكيف ؟ وما نتائجه ؟..
    تباينت الروايات فى طفولة ابن شفيقة ، ونشأته ، والظروف التى أفضت إلى تحوله إلى بطل شعبى . بالتحديد إلى ولى صوفى . لكن الروايات لم تختلف فى أن فرج خليل قد أصبح له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومريدون ، يؤمنون بكراماته ، ويذكرون الله تعالى ..
    وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى فى دراسته لبوح الأسرار ، إنه إذا كانت أسطورة فرج قد مرت بمراحل ثلاث : مرحلة المظلوم ، ومرحلة الدافع للظلم الواقع على الناس ، إلى مرحلة المقدس ، فإنه ـ فى المراحل الثلاث ـ كان مطارداً . مطارداً من عمدة ظالم ، ثم من قوة الإدارة المتحكمة فى الجماعة ، ثم محاولة هذه القوة مطاردة أسطورته ، وحتى بعد موته ، فإن استخدام تعدد الأصوات جعل الأصوات المطاردة خافتة ، لترتفع الأصوات الواقفة مع فرج ساعة تكوّن أسطورته . إن الأسطورة هنا تمثل الواقع الاجتماعى للجماعة " .
    ***
    وفى قصصى القصار ، تتناثر لمحات من الموروث الشعبى ، متمثلة فى العديد من سلوكيات الحياة ، والمفردات ، والتعبيرات ، وغيرها مما يعبّر عن التميز الذى تتسم به منطقة بحرى فى حدودها الجغرافية ، المحددة ، والمحدودة : الزى الوطنى ، الطب الشعبى ، ألعاب الأطفال وأغنياتهم ، نداءات الباعة ، الكناية ، النكتة ، المعايرة ، القَسَم ، الطرفة ، المثل ، الحلم ، وغيرها ..
    ***
    والحق أنى حين أراجع إبداعاتى التى وظفت ـ أو استلهمت ـ الموروث الشعبى ، أجد أنها وليدة العفوية ومحاولة التعبير عن الواقع . هذا هو ما أفرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف إلى الخبرات . لم أتعمد الإفادة من الموروث الشعبى ، بل هو الذى فرض معطياته فى مجموع ما كتبت .


  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    النظرة للإبداع يجب أن تتغير لأن مبدعينا ينحدرون للهاوية
    حوار: فاطمة يوسف العلي
    لم يكن بمقدوري الكتابة إلا عن البحر
    حتى نجيب محفوظ توزيع رواياته انخفض إلى حد كبير
    يضطر الكاتب لدفع مايزيد على القيمة الفعلية لطباعة كتابه

    ..........................


    رغم أن الكاتب محمد جبريل متنوع في كتاباته, يوزع قلمه بين الصحافة والتأليف والنقد الأدبي, فإن الشهادة الحقيقية على ما قام به من جهد تكمن في إبداعه الروائي. ولا يعني التركيز على هذا الجانب ترك بقية ملامح الصورة. ولكن هذا الجانب, الذي يعتز به كثيرا,ً يبقى الجانب الأكبر والأكثر حميمية من ذاته. إنه كاتب غزير الإنتاج. فله أكثر من عشرين رواية أشهرها (رباعية بحرى) التي تتألف من أربع روايات متصلة منفصلة هي (أبو العباس) و(ياقوت العرش) و(البوصيري) (وعلي تمراز). وهي الرباعية التي يحلو للنقاد عقد مقارنة بينها وبين رباعية داريل الشهيرة عن الإسكندرية. كما أن إسهام محمد جبريل في القصة القصيرة كبير أيضا فله حوالي عشر مجموعات قصصية, أولها (تلك اللحظة) وآخرها (رسالة السهم الذي لا يخطئ) وله في مجال النقد أكثر من كتاب. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية عن كتاب (مصر في عيون كتابها المعاصرين) عام 1975.

    ولد محمد جبريل في مدينة الإسكندرية عام 1938, وتقلد أكثر من منصب صحفي مهم في مصر والعالم العربي.

    وقد أجرى الحوار معه القاصة الكويتية فاطمة يوسف العلي وهي من الأديبات النشيطات على مستوى العمل العام ولها ثمانية كتب تتوزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث الأدبي وأشهرها: (وجوه في الزحام) 1971, (وجهها وطن) 1995, و(تاء مربوطة) 2001 وهي مجموعة قصصية صدرت من القاهرة.

    يبدو البحر شخصية رئيسة في معظم إبداعاتك, وهو أشد ما يكون تجسيداً في روايتك الضخمة (رباعية بحري)... ما تفسير ذلك?
    - بداية, أنا لم أكتب عن البحر, ولا عن الصلة بين البحر واليابسة, وهو ما يبين في الكثير من إبداعاتي الروائية والقصصية, لم أكتب لطرافة الموضوع, وإنما لأنه لم يكن بمقدوري سوى الكتابة عن البحر. البحر يحضن الإسكندرية من معظم جوانبها, ويحيط بحى بحري من ثلاث جهات, كان هو المكان الذي تطل عليه شرفة بيتنا, ويطل السطح على امتداد آفاقه. كنت أسير على شاطئه, وأتابع التعامل اليومي معه في صيد الصنارة والطراحة والجرافة, وعمليات الشحن في الميناء الغربية, وركوب البحر نفسه في قوارب صغيرة تعبر المسافة من باب واحد إلى باب رقم ستة, أو في لانشات تمضي إلى قرب البوغاز, حتى في الظلام, كنت أستمع إلى البحر, وإن كنت لا أراه. أتذكر قول رامبو: (إنه البحر وقد رحل مع الشمس). البحر ليس موضعاً طارئاً في حياتي. إنه الحياة نفسها. وعلى الرغم من انقضاء عشرات الأعوام على ابتعادي - بصورة عملية - عن الإسكندرية, فإني أفضل - حتى الآن - أن تدور أحداث أعمالي في بحري, لأني أشعر أن الحي تحت تصرفي, أعرف تاريخه وأسواقه وشوارعه ومساجده وبناياته وسلوكيات حياته اليومية, أعرف المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد, حتى مسميات الأشياء واللهجة هي وسيلة التعبير عندي, حتى مستطيلات البازلت التي تتفق فيها مع المدن الساحلية الأخرى.

    حي بحري بالإسكندرية هو الأرضية لمعظم ما كتبت من إبداعات. وقد أردت في رباعية بحري بأجزائها: أبو العباس - ياقوت العرش - البوصيري - على تمراز, أن أكتب فصولاً مستقلة, تتكامل في تصوير حي بحري الذي أحببته, وامتداده الطبيعي إلى المكس, أو إلى الرمل.

    صورة الإسكندرية

    ما أوجه الاتفاق - والاختلاف - بين رباعية الإسكندرية ورباعية بحري?
    - ليست هذه هي المرة الأولى التي يوجه لي فيها هذا السؤال. وقد صدمني السؤال في البداية, وربما تضايقت منه, ثم ألفته بالمعاودة. أصارحك أني تعمدت ألاّ أقرأ رباعية الإسكندرية حتى لا أقع في شبهة تأثر, قراري بكتابة رباعية بحري يعود إلى مطالع حياتي الأدبية, وبالذات في ضوء الحفاوة النقدية الواضحة, والتي اعتبرت رباعية داريل من أعظم إبداعات القرن العشرين.

    ثم حاولت - بعد أن صدرت رباعية بحري - أن أفتش عن جوانب الاتفاق والاختلاف, لا كناقد, فقد مللت تأكيد أنه حتى فوزي بجائزة الدولة في النقد لا يلغي تفهّمي لقدراتي النقدية, وأني سأظل دوماً خارج أسوار النقد!

    رأيي أنه إذا كانت صلة شخصيات ميرامار نجيب محفوظ بالإسكندرية هي صلة هامشية, حيث اختاروا الإقامة في الإسكندرية كمنفى, لا تشغلهم حياة ناسها اليومية, ولا مشكلاتهم, فإنه من الصعب إهمال التأثيرات الأجنبية في حياة الإسكندرية. وعلى سبيل المثال, فإن يوم الأحد في الإسكندرية يختلف عن اليوم نفسه في بقية المدن المصرية. الشوارع خالية نسبياً, والكثير من المتاجر يغلق أبوابه, ذلك لأن التأثيرات الأجنبية التي تحققت من خلال (مواطنة) أعداد هائلة من الجاليات الأوربية لم تندثر من المدينة بصورة كاملة بعد. لكن الصورة التي رسمها داريل في رباعية الإسكندرية - على حد تعبير صلاح عبدالصبور - تنتمي إلى داريل أكثر مما تنتمي إلى الإسكندرية.

    والحق أنه من الصعب أن أجري شخصيا مقارنة بين ما كتبته وما كتبه مبدعون آخرون, لكن الذي أستطيع تأكيده أن الكتابة عن الإسكندرية - وبحري تحديداً - حلمي القديم, الجميل, الذي يرافق محاولاتي الإبداعية منذ بداياتها. السؤال: لماذا, لم أناقشه - بيني وبين نفسي - على الإطلاق? فقد كانت الكتابة عن حي الطفولة والنشأة والسمات المميزة والبيئة التي تختلف عن مثيلاتها في أحياء الإسكندرية الأخرى, كانت شيئا أشبه بالقدر... لكنني أملك - فيما أقدّر - طرح بعض الآراء التي تناولت رباعية داريل, ثم أترك للقارئ - قارئ أجزاء الرباعية وقارئ هذه المواجهة - أن يتعرف إلى ما ينشده من أوجه الاتفاق والاختلاف.

    الذاكرة أفضل

    هل تختلف صورة بحري الذي عبرت عنه في أعمالك عن صورته الحالية?
    - أصارحك بأن الحزن يلفني عندما أزور الإسكندرية, حي بحري بالذات, هذه الأيام, لقد تغيرت الصورة تماما, فأنا أفضل أن أعتمد على صور الذاكرة.

    حي الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيته ومساجده وزواياه وحرفييه, هو التعبير عن القاهرة المعزية بكل زخمها التاريخي والمعماري والإنساني. ذلك ما يصدق - إلى حد كبير - على حي بحري, وإن انتسب الكثير من أبنائه إلى المهن المتصلة بركوب البحر.

    أفلح الانفتاح في أن ينفذ - بمظاهره السيئة - إلى الموطن الذي نشأت فيه, وأحببته. بحري الذي عشت فيه يختلف عن ذلك المبنى الخرساني الهائل الذي احتل ميدان أبي العباس, فذوت الروحانية وحميمية البشر. افتقد الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين تتاح خضرتها للجميع, ويتلى فيها القرآن في ليالي رمضان. شاطئ الأنفوشي احتلته الكبائن وورش المراكب, فضاعت فرص أبناء الحي الشعبي في الإفادة من البحر الذي ولدوا على شاطئه.

    غياب المرأة

    بعض الآراء تجد في رحيل الأم في سن باكرة سبباً في غياب المرأة عن معظم إبداعاتك... ما رأيك?
    - أوافقك على أن المرأة كانت غائبة, أو أنها عانت شحوباً في أعمالي الأولى, لكن الملامح تغيرت تماماً في الأعمال التالية. ثمة نادية حمدي في (النظر إلى أسفل) التي تمثل شرياناً رئيساً في جسد الرواية, والزوجة في (اعترافات سيد القرية) تهبنا مواقف إيجابية مناقضة لما كان يمثله الرجل, وأنسية في (رباعية بحري) تحملت ما لا يحتمله بشر في محاولة تخطى ظروفها القاسية. وثمة ياسمين في (الشاطئ الآخر), وعائشة عبدالرحمن القفاص في (قلعة الجبل), وزهرة الصباح في الرواية المسماة بالاسم نفسه, وبهية الحلواني في (بوح الأسرار) وغيرها من الشخصيات التي تقدم المرأة في أبعاد مختلفة. قد تواجه ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية, لكنها واصلت السعي في اتجاه رفض الظروف المعاكسة, والإصرار على تخطيها.كان لغياب أمي عن حياتي في سن باكرة تأثيره بالنسبة لي على المستويين الشخصي والإبداعي, وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير - فيما بعد - في مجموع أعمالي, بحيث تبين المرأة - كما أتصور - عن ملامح يصعب إهمالها.

    ما رأيك في مقولة إننا نحيا زمن الرواية?
    - مع افتتاننا بالتعبيرات التي تختزل ظاهرة أدبية, فإن أحد النقاد أعلن - ذات يوم - وفاة القصة القصيرة, وأعلن نقاد آخرون أن الزمن ليس زمن الشعر, وأكد البعض أن المستقبل للكتابة الدرامية, وأنها هي رواية المستقبل. ويصدم أسماعنا وأعيننا - بين فترة قصيرة وأخرى - تعبير ينعى وفاة جنس أدبي, أو يؤكد سيادته على بقية الأجناس.

    وإذا كان تعبير زمن الرواية هو ما تلوكه أفواهنا وأقلامنا في الأعوام الأخيرة, فإن المأزق الذي يواجهه هذا التعبير, وربما أفقده مصداقيته, ما يحرص الناشرون - على تأكيده بأن زمن النشر الروائي انتهى!... بمعنى حفاوة الناشرين بالروايات, والإقدام على نشرها, دخل - منذ سنوات - في دائرة المستحيل.

    قراء الرواية يتناقصون, مقابلاً لزيادة قراء السياسة والمذكرات والدين والمشكلات العاطفية والحسية, بالإضافة إلى الأزمة التي يعانيها الكتاب الورقي بتأثير الوسائل الطباعية المستحدثة, وأهمها - بالطبع - الكتاب الإلكتروني.ثمة وسيلتان لنشر الأعمال الروائية, أولاهما هيئات وزارة الثقافة: هيئة قصور الثقافة, وهيئة الكتاب, والمجلس الأعلى للثقافة. أما الوسيلة الثانية فهي اللجوء لدور النشر الخاصة التي تحصل من مؤلف الرواية على أكثر مما تتكلفه طباعة العمل, فتضمن الربح مسبقا, بينما يحصل المؤلف على نسخ قليلة... هدايا للأصدقاء!

    أما الناشرون الذين يعرفون لعملية النشر قدرها واحترامها, فإنهم يرفضون الكتابات الروائية باعتبارها بضاعة كاسدة. وتقتصر اختياراتهم على البضاعة المضمونة الرواج, وبالذات الكتاب الجامعي الذي يمثل - كما نعلم - بضاعة مفروضة من الأساتذة على الطلاب!...

    الحديث عن زمن الرواية يبدو بلا معنى أو مستغربا أمام إحجام الناشرين عن قبول الأعمال الروائية.

    وإذا كان الزمن هو بالفعل زمن الرواية, فلماذا لا يزدهر سوق الرواية? لماذا يرفض الناشرون قبولها? ولماذا تتدنى أرقام التوزيع?

    المثل الأشد غرابة أن نجيب محفوظ بكل ما حققه من مكانة في حياتنا الثقافية, وفي الثقافة العالمية بعامة, هبطت أرقام توزيع رواياته من عشرة آلاف نسخة في العام, إلى ثلاثة آلاف نسخة كل بضعة أعوام.

    مَن يعيننا على حل اللغز?!

    سوق النشر

    كنت نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر, كيف تنظر إلى مشكلة النشر التي تحولت إلى ظاهرة سلبية لم تفلح في علاجها كل المحاولات سواء على المستويات الإقليمية أو القومية?
    - المتأمل لأحوال النشر في بلادنا, يستطيع أن يقسم الناشرين إلى ثلاثة أنواع: ناشر يعطى المؤلف مكافأة على ما يكتبه بضع مئات من الجنيهات. وناشر يكتفي بتقديم نسخ قليلة للأديب مقابلا لنشر إبداعه, من قبيل التشجيع, أو المجاملة! أما النوع الثالث فهو يحصّل من المؤلف ما يزيد على تكاليف طباعة كتابه, أي أن الأديب يعطي ولا يأخذ, كل ما يأخذه بضعة آحاد أو عشرات من النسخ!

    والحق أن المقابل المتواضع الذي يتلقاه بعض الكتاب, والاكتفاء بمجرد النشر لكتّاب آخرين, واضطرار كتاب لدفع ما يزيد على التكاليف الفعلية لطباعة كتبهم, ذلك كله يعكس نظرة دور النشر بعامة إلى مهنة الكتابة, وأن الهدف في كل الأحوال هو مجرد تشجيع الأديب على توثيق إبداعه, وليس تسويقه, فبعض الكتب لا يصدر منها أكثر من مائتي نسخة أو ثلاثمائة على, وبالذات إصدارات دور النشر التي تقوم بعملية احتيال معلنة حين تحصل على ما يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه مقابلاً لطباعة بضع عشرات من النسخ, مجرد توثيق فلا يجد الكتاب سبيله إلى أرفف المكتبات, ولا عند باعة الصحف.

    إن النظرة إلى قيمة الإبداع يجب أن تتغير. ما يكتبه الأديب في معظم بلاد العالم يدر عليه دخلا يتيح له التفرغ لإبداعه. أما النظرة إلى مبدعينا فهي تتحدد في دائرة الهواية. حتى المقابل الذي ربما تقاضاه لا يصل - بالقطع - إلى قيمة الكتب التي قرأها, ولا الوقت الذي أنفقه, ولا أجر الكمبيوتر, وبالمناسبة, فإن دور النشر تشترط الآن أن يسلم الأديب أصول كتابه مطبوعة على الكمبيوتر!

    إن تخلفنا - في كل المجالات - سيظل حقيقة يصعب إغفالها, ما لم تحصل الكلمة ومبدعها على المكانة اللائقة, والقيمة المستحقة!

    ثقافة العناوين

    في تقديرك, ما أخطر السلبيات التي تعانيها الثقافة العربية?
    - سأحدثك عن ثقافة العناوين, أو السندوتش, أو التيك أواي. سمها ما شئت, لكنها تحولت في حياتنا إلى ما يشبه الظاهرة.

    ثمة من يجلسون إلى المثقفين, يستمعون إلى آرائهم فيما قرأوا, ويلتقطون عناوين كتب, وأسماء أعلام, وملخصات أفلام ومسرحيات ونظريات فلسفية, ثم ينقلون ذلك كله - أو بعضه - إلى مجالس أخرى. يتحدث أحدهم عن ديستويفسكي بما ينقل إلى محدثيه شعورا أنه قد قرأ كل أعماله, ويتحدث آخر عن المذاهب الفلسفية والفنية بلهجة الدارس الذي أجهد نفسه في المتابعة والمناقشة والتحليل, وتتناثر في كلمات آخرين أسماء أعلام وكتب واتجاهات, بما يعكس ثقافة واسعة.

    ظني أنه قد ساعد هذه الظاهرة أسلوب الملخصات الذي تصدر من خلاله بعض دور النشر أعمالاً عالمية مهمة. ولعلي أشير إلى سلاسل تقدم عشرة كتب عالمية في كتيب محدود الصفحات, أو تختصر التراث الإنساني بكامله في بضعة مجلدات... والهدف المرجو - أو المعلن - أن تكون مؤشرا للأعمال الأصلية, لكن القارئ يكتفي بما قرأ, ويعتبره غاية المراد من رب العباد, ويتحدث عما قرأ من ملخصات وكأنه قرأ الأعمال الكاملة!

    وقد أخذت الظاهرة بعداً آخر, غريباً, في اعتبار البعض ما شاهده من أفلام أو مسرحيات مأخوذة من أعمال أدبية, نقلا جيدا عن تلك الأعمال يغني عن قراءتها, ويسمح بالتحدث فيها, توهما أنهم قد عرفوا عنها بما يكفي!.... وكم أذهلني تناول كاتب كبير لرواية أستاذنا نجيب محفوظ (خان الخليلي). ناقش الرجل فنية الرواية, وحلل الأحداث والشخصيات, ثم أنهى ما كتبه بالإشارة إلى أنه لم يقرأ الرواية, وإنما اكتفى بمشاهدة المسرحية المأخوذة منها!

    وتبلغ الظاهرة حد المأساة عندما يلجأ ناقد إلى تلخيص للعمل الأدبي كتبه ناقد آخر, فيبني عليه مناقشته للعمل, وهو ما نطالعه - مع الأسف - في العديد من الكتب النقدية المعاصرة. يفلح ناقد في إخفاء سطوه على جهد الآخرين, بينما لا يجد ناقد آخر ما يدعو إلى إخفاء ما فعل. ولعل المثل الذي يحضرني, ذلك الكتاب الضخم عن توفيق الحكيم. ناقش مؤلفه - فيما ناقش - رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل, ثم ذكر في الهامش أنه قد اعتمد في كل ما كتب على كتاب علي الراعي (دراسات في الرواية المصرية), أي أنه - ببساطة - لم يقرأ الرواية التي قتلها نقداً!

    المبدع قائد ثقافي

    ثمة مؤاخذات على أن الكثير من المبدعين لا يعنون في إبداعاتهم بأخطر قضايا عالمنا العربي, وهي قضية الصراع العربي - الصهيوني, فما رأيك?
    - نظرة بعض المثقفين إلى الأديب أو الشاعر أنه لا يعنى بغير الإبداع. فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه في شيء.إنه يؤثر الحياة في جزيرة صنعها لنفسه, يكتفي فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه, أو ينصرف إلى تأملات في فضاء هذا الإبداع, أو ينشغل بالكتابة الإبداعية.. هذا هو عالمه المحدد والمحدود, أشبه بسياج البيت في أيام طه حسين الذي كان الصبي يتصوره نهاية العالم.

    تلك - بالتأكيد - نظرة خاطئة.. فالأديب له اهتمامات كل المثقفين, فضلاً عن هؤلاء الذين قد لا تعنيهم قضايا الثقافة, وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية مثل التردد على المسارح ودور السينما, أو متابعة برامج التلفزيون, أو مجرد الجلوس على المقاهي.

    يتابع المبدع - على سبيل المثال - مناقشة حول مباراة في كرة القدم. يحاول المشاركة برأي.. لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم!

    الأقسى عندما يبدي المبدع رأيه في بعض قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن السباحة فيه!

    والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.أثق أن النضال المقاوم الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية هو الشاغل الأهم لكل المبدعين, انطلاقاً من الوعي بالقضية, بواعثها وظروفها وواقعها ونتائجها المحتملة.

    الصراع العربي - الصهيوني في فلسطين يعني المواجهة بين الحضارة العربية والهمجية الصهيونية, بين إرادة الحياة على هذه الأرض مقابلاً لإرادة الغزو والاحتلال والاستيطان, التعامل مع تطورات الأحداث بمنطق نكون أو يكونون, والقيام بدور المحفز والمحضر, ومحاولة التوصل إلى آراء إيجابية ربما أسهمت في توضيح ما يفيد منه أصحاب القرار. والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.

    ذلك هو موقف كل المبدعين. المبدع قائد ثقافي في مجتمعه, وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر, ولا التغني بقطر الندى. لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر. والخطر الذي نحياه - كما قلت - لا يقتصر على قطر بذاته, لكنه يشمل كل المنطقة العربية. إنهم يصرون على اجتثاث الوجود العربي من أرض فلسطين, بداية لتحقيق استراتيجية دامية, تمتد إلى بقية الأقطار العربية.

    إعلام الذات

    ما ملاحظاتك على الاستراتيجية التي يعمل الإعلام العربي في ضوئها?
    - تتنقل متابعتي بين أكثر من قناة فضائية عربية. القضية الأهم ما يجري الآن في فلسطين المحتلة, صور تعكس بشاعة الممارسات الصهيونية وإدانات معلنة وبرامج ومناقشات وتحليلات موضوعية ومتحمسة, وإن التقت جميعها في وجوب استعادة الشعب الفلسطيني أرضه وإرادته وحريته, مقابلاً لإدانة جرائم عصابة شارون وشركائه!

    أنتقل إلى قناة أوربية, نشرتها الإخبارية تقدم فقرات عن أحداث الأرض المحتلة.. لكن الصور والتعليقات تختلف تماماً عن تلك التي أجمعت القنوات العربية على تقديمها, ثمة العشرات من اليهود يشاركون في دفن جندي إسرائيلي قتله الفلسطينيون رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة.

    انتظرت بقية الفقرات, ربما تقدم الجانب الآخر من الصورة, وهو الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.. لكن الأيدي الصهيونية بدت واضحة من وراء تتابع الصور والتعليقات.

    المشكلة - باختصار وبساطة - أننا نتوجه بإعلامنا إلى أنفسنا, إلى نحن. نعرّف أصحاب القضية بعدالة قضيتهم! أما الإعلام الصهيوني فهو ينطلق بالأكاذيب والدعاوى الأسطورية إلى الرأي العام العالمي من خلال سيطرة إعلامية مؤكدة, تشمل الكتاب والصحيفة والفيلم والمسرحية والبرنامج الإذاعي والتلفزيوني. يضع نفسه دوماً في موضع البريء, الجزيرة المسالمة المحاطة بالأعداء.. ولأنه بلا تاريخ حقيقي ولا تراث ولا هوية, فهو يسطو على تاريخ شعب المنطقة وينسبه إلى نفسه. فإن لم يفلح نسب ما عجز عن سرقته إلى غير حضارته, فزعم أنه تراث شرق أوسطي!

    والأمثلة كثيرة, تطالعنا بها - صباح مساء - وسائل الإعلام الأجنبية, والعربية أحياناً..

    الرأي العام العالمي بعد مهم في أي قضية دولية, ومخاطبته تحتاج إلى استراتيجية تحسن العرض والمناقشة والتحليل, وتدحض الأكاذيب بالحقائق الموضوعية. لا يكفي شعورنا بأننا على حق وعدونا على باطل. المهم أن نؤكد حقنا - أمام الرأي العالمي - ونعري محاولات العدو.

    حكومة المافيا الإسرائيلية جعلت قتل الفلسطيني روتيناً يومياً, لكنها تخاطب العالم عن العنف الفلسطيني.. والصورة في الغرب - باعتراف البعثات الدبلوماسية العربية - ليست هي الحقيقة, بل إنها النقيض تماماً.المسألة ليست في مجرد إجادة مخاطبة الرأي العام العالمي, لكن ما يتمخض عن ذلك من تأثيرات إيجابية بالنسبة للحق العربي, وسلبية بالنسبة للأكاذيب الصهيونية. أذكّر بإقدام العشرات من دول العالم - من بينها دول أوربية - على إدانة إسرائيل وقطع العلاقات معها عقب عدوان 1967. لم يفلح الإعلام الصهيوني - رغم هزيمة العرب حينذاك - في تغيير الحقائق.

    ماذا عن المستقبل?
    - أتمى أن أظل أكتب, وأكتب, بينما نظراتي تتجه إلى البحر.

    _________________
    * مجلة "العربي" الكويتية، العدد (542)، يونيو 2004م.


  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الغربة فى الوطن والوطن فى الغربة

    بقلم: د.عبد المجيد زراقط
    ..........................


    يثير عنوان رواية "زمان الوصل" فى ذهن القارئ ثنائية الحضور/ الغياب، ففى حضور "زمان الوصل" يستدعى الذهن غيابا تمثله موشحة "جادك الغيث.." و"زمان الوصل" فى الأندلس الذى تغنى هذه الموشحة حكايته يمثل تجربة فى التاريخ الإنسانى، ففيها تم الاتصال بالآخر لآونة من عمر التاريخ الإنسانى بدت كأنها حلم مر فى البال، أو أيام وصل اختلست ولم تعد، ولذا فكل من عاشها، كما لسان الدين بن الخطيب، أو عرفها، يرجو أن يسقيها الغيث لتتجدد.. وبخاصة فى هذا الزمن الذى تحكمه "أباتشى" الديمقراطية و"تيماهوكها"!
    وإذ يستحضر الغياب، ويمثل، يسأل القارئ: هل من زمان وصل متجدد؟ هل نقرأ فى هذه الرواية قصته؟ أين تجدد؟ وكيف؟ ومتى؟ وفى هذا المناخ من الرغبة فى المعرفة تقلب الصفحات الأولى من هذه الرواية، وتبدأ القراءة..
    تصدر الرواية بدعاء للفرعونى "سنوحى" تبرز فيه ثنائية طرفها الأول مكان الهرب –الغربة، وطرفها الثانى المكان الذى يسكن فيه القلب.. وإن يكن المكان الأول قد وفر الحماية، فقد بقى مكان الغربة، وإن يكن المكان الثانى قد دفع إلى الخروج منه هربا، فإن يبقى لاحيما ويعيده ثانية إليه ليدفن جثته فى الأرض التى ولد فيها وبقرب من أحب.
    وإذ تبدو ثنائية هذين المكانين يطرح السؤال: فى أيهما كان زمان الوصل؟ فى مكان تم الخروج إليه هربا، فوفر الحماية، لكنه بقى غربة؟ أم فى مكان فقدت فيه الحماية، فتم الخروج منه هربا، لكنه بقى الوطن الذى يسكنه القلب، والذى ترجى العودة إليه ليكون أرض الموت كما كان أرض الولادة؟
    يثير هذا السؤال إشكالية الغربة/الوطن التى يعيشها الإنسان العربى فى هذا الزمن، فهو يخرج هربا من مكان لا يتيح له فرص التحقق إلى مكان تتوافر فيه هذه الفرص، وفى هذا المكان يحيا تجربة اللقاء بالآخر والاتصال به والعيش وإياه.. ويحاول إقامة جسور بين مكانيه: شرق وغرب، شمال وجنوب، وتواجهه أسئلة كثيرة: إلى أيهما ينتمى؟ وفى أيهما يريد أن يبقى؟ وهل كانت نتيجة تجربته الوصل أو القطع؟
    فى دعاء سنوحى إجابة تتحدث عن غربة حتمية فى المكان الآخر، وإن وفر الحماية، واختيار نص فرعونى دال على تاريخية الإجابة وليس على جغرافيتها فحسب.
    وإن تكن هذه هى إجابة التصدير/القول التاريخى-الجغرافى، فماذا تقول الرواية التى نقرأ؟
    تقول الرواية إن هاشم عاد من غربته فى اليونان بعد أن أمضى هناك ثمانية عشر عاما، فأمضى عشرة أيام فى مدينته الإسكندرية التى خرج منها هاربا من قسوة أبيه ومن عدم توافر مكان له يحقق فيه وجوده الفاعل.
    فى هذه الأيام العشرة تدور أحداث الرواية، لكن مسار هذه الأحداث لا يمضى خطيا، بل يتخذ منحى متكسرا متقطعا يبطئه الاسترجاع من الماضيين القريب والبعيد، والاستباق، والتعرف إلى المكان من جديد بلغة مركزة دالة تخلق المعنى، فنعرف من هذا المعنى الذى توحيه، وعلى سبيل المثال، ما فقده هاشم، وسعى إلى تحقيقه.
    يقول هاشم فى بداية الرواية:"الشارع أتذكره، أميل إليه من صفر باشا، أمضى فى الأرض الترابية، على اليمين دكانان، أحدهما مغلق، والثانى ترزى، عرض بذلة وحيدة فى الفاترينة الزجاجية.." فهذا السرد التصويرى المؤدى بجمل قصيرة يدل على فقر هذا المكان، وعلى عدم وجود فرص عمل، علاوة على دلالات أخرى تتبدى إن أكملنا القراءة، منها علامات تشكل خصوصية الفضاء الروائى، فالأرض ترابية فيها دكانان أحدهما مغلق والثانى ترزى علق بذلة واحدة فى "فاترينته"، ويضيف هاشم فى وصف البيت مستخدما السرد التصويرى الناطق بالمعنى:"..الجدران أكلها ملح البحر، والجدران المشققة تنز بالرطوبة، وقضبان النوافذ الحديدية علاها الصدأ.." نلمس فى هذه الجمل الفقر والبؤس والإهمال، ونلمس فى جمل أخرى التقاطا لتفاصيل ناطقة بالدلالة عندما نقرأ:"..على المكتب الصغير أوراق جريدة قديمة، حال لونها، وتقصفت حوافها: الحاكم العسكرى يفرض حظر التجول.. جنود الأمن المركزى دمروا المنشآت فى شارع الهرم.." والدلالة هنا واضحة، ففى الوطن قمع وقهر وسلطان ظالم مدمر.
    وهكذا يتبين لنا من قراءة السرد التصويرى، ومن دون قول مباشر "الفقد" الذى أدركه وعاشه هاشم، ووهو الفقر وعدم وجود فرص عمل والتسيب والإهمال والقمع، والذى خرج ليعوضه فى مكان آخر من هذا العالم، لكن اللافت أن هاشم نفسه يعود إلى هذا المكان ليبقى فيه، وإن كان قد ازداد ترديا.
    يعود هاشم إلى بيت الأسرة القديمة، وإلى شقة غاب عنها آخر ساكنيها منذ أربع سنوات أو خمس، بعد أن مات الأبوان والأخ المعوق، وذهب الأخوة الآخرون كل فى دربه. تطالعه رائحة التراب، يشمها ويسأل: هل هى رائحة الزمن؟
    فى مناخ تسهم هذه الرائحة فى تشكيله، يمضى القص، ويلاحظ فيه، أولاً، تداخل الأزمنة: الحاضر، الماضى القريب، الماضى البعيد، المستقبل، فتمضى الأحداث فى الحاضر، وتسترجع أحداث من الماضيين، ويستشرف المستقبل، فيشعر القارئ كأن ديمومة زمنية تمضى أمام عينيه. وثانياً، أن هاشم يتعرف، وهو يحيا هذه الديمومة، إلى المكان الذى غادره ثم عاد إليه، بعينين جديدتين، كأنه يرى الأمكنة والأشياء للمرة الأولى، ويدرك أن الغربة فصلته عن زمن مختلف. وثالثاً، تغير زتوية الرؤية ووجهة النظر الرئيسية فى الرواية: هاشم بضمير المتكلم، ثم لا يلبث أن يخلى موقعه إلى الراوى بضمير الغائب، وهذا التبدل واضح الدلالة، وفى ما يأتى نقدم أنموذجا يوضح ذلك.
    تروى الشخصية المشاركة الوحدات: العودة، البيت: تذكره، ما هو عليه الآن، ما كان عليه، الشقة.. وتقدمها من منظورها، بوصفها العنصر الروائى الأكثر قدرة على أداء هذا الدور: أداء السرد التصويرى الدال على إدراك الفقد المفضى إلى اتخاذ قرار الخروج من نحو أول، والتعرف إلى ما أحدثه الزمن من تغير إبان غيابه، واتخاذ قرار البقاء على الرغم من أن الواقع غدا أكثر ترديا من نحو ثان، وتشكل هذه الثنائية يطرح سؤالا عن أسباب العودة والبقاء، وهذا ما يوكل أداؤه إلى راو أكثر معرفة، وهو الراوى العليم، بوصفه العنصر الروائى الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور، لأنه يعرف كل شئ، ويؤديه بموضوعية، من نحو أول وقادر على استخدام التقنيات ووسائط المعرفة من نحو ثان، لذا فهو يدير حوارا بين هاشم وأخيه محمود، فنتبين منه وجهة نظر كل منهما وعنف الأب، ثم يقص ويصف ويسترجع، وبقدم معلومات فى نهاية اليوم الأول، فى صيغة استفهامية تثير رغبة القارئ فى متابعة القراءة وشدته إلى معرفة ما حدث لهاشم الذى غادر راكبا البحر إلى دنيا جديدة يحبها، يسأل الراوى فى نهاية اليوم الأول: وهل انتهت حياة البحر بالعمل فى دكان ميخاليدس والزواج من كريستينا؟ فيسأل القارئ وهو يقلب الصفحة بعجل: من هو ميخاليدس؟ من هى كريستينا؟ أين وكيف ومتى عرفهما؟
    وهكذا يمضى القص فى تناوب بين تتبع لاكتشاف الحاضر واسترجاع الماضى واستشراف المستقبل، وفى تناوب بين راويين، زاويتى رؤيا، يؤدى كل منهما دوره.
    تنطق لغة القص التى يؤديها هاشم بخياره من دون أن يقول ذلك مباشرة، نقرأ على سبيل المثال قوله:"أعانى لحظات اختلاط الإحساس بالحياة فى بيريه والعودة إلى البيت" فالمكان الذى خرج إليه وعاد منه هو "بيريه" فحسب، أما المكان الذى خرج منه وعاد إليه فهو "البيت"، وهذه الثنائية: بيريه/البيت تدل على أن الطرف الأول مكان عام، أما الطرف الثانى فهو مكانه هو الذى يأوى إليه، ويحميه، إلى ما هنالك، مما يرمز إليه البيت.
    والسؤال الذى يطرح هنا هو: لم اتخذ هاشم هذا الخيار؟ ماذا جرى فى الدنيا الجديدة التى رغب فى الخروج إليها والعيش فيها؟
    رحل هاشم، وغدت الباخرة بيته إلى أن حط الرحال فى الميناء اليونانى بيريه، فعمل فى مقهى ميخاليدس، وهو يونانى ولد فى حى العطارين فى الإسكندرية فى ايام سعد باشا، وتركها فى أيام عبد الناصر، ثم تزوج حفيدته كريستينا التى يحبها وتحبه.
    وتمضى الأيام "زمان وصل" لكن عوامل القطع تظل حاضرة فيه، فثنائية أنا/أنت أو هو تبقى قائمة بوصفها ثنائية اختلاف، تقول كريستينا عن حى العطارين فى الإسكندرية: أتصور من وصف جدى أنه أجمل أحياء الدنيا، لكن الجد تركه وعاد إلى بيريه، وتسأل زوجها: وأنت هل تحب بحرى؟ وهو الحى الذى عاش فيه فى الإسكندرية، فيجيب: طبعا، فتقول: وأنا أحب بيريه..
    فى هذه النماذج نلمس ثنائية: أنا/ أنت، أحب/ تحب.. لكن الخصوصية تبقى داخل النفس، أما فى خارجها فيطمس حبه لكريستينا ذكريات كثيرة، ويهبه الزواج منها الحق فى أن يقيم بلا خوف، ويقرب له إمكانية الحصول على الجنسية اليونانية، ويغيب إحساسه بالغربة، فيقول لزوجته فى اليوم الثالث لانتقاله إلى بيت ميخاليدس: "مصر وطن عنيت فيه الغربة، واليونان غربة وجدت فيها الوطن" تقول: "هذا شعر" يقول:"ما أقوله هو الحقيقة.. بيريه الآن وطنى وسكنى.. وهى بك حبى أيضا" ويعمل ويطمئن ويخالط الناس، ويجلس على المقاهى، ويقنعه توالى الأعوام بأن بيريه هى الحاضر والمستقبل.
    لكن عندما ذهبت كريستينا للصلاة فى الكنيسة غلبه الضيق، ولما طلبت منه أن يرافقها توتر، وترك البيت إلى قلب المدينة، ولم يدر كيف يتصرف عندما اكتفى أبواها منه بنظرة محايدة، وأعفياه من الجلوس إليهما، ما يعنى قطعا معه إن لم يكن رفضا..
    وإن كان لم يعد يعانى تأثيرات الغربة: اللغة، سحب الإقامة، مداهمات الشرطة، النظرات الرافضة أو المستريبة، علاوة على التشابه الجغرافى الذى يكاد يكون تاما بين ميناءى بيريه والإسكندرية، فإن حواراته مع اليونانيين كانت تنتهى ب"القطع" وليس ب"الوصل"، ومنها حوار مع رجل يونانى جعله يكتشف أن اختلاطه بالمجتمع الذى وفد إليه هو اختلاط الزيت بالماء، ويتبين أن هجرته التى طالت لم تزحزحه عن موضعه فى الهامش، قال الرجل: مصيبة لو أن القرعة ألزمتنا باللعب مع تركيا، قال هو:أرى أن نبتعد بالرياضة عن القضايا السياسية. قال الرجل: هذه مسألة نعرفها نحن أبناء اليونان. أجاب: أنا الآن يونانى. قال الرجل: نحن يونانيون، وأنت تستوطن اليونان.
    واقتحمه شعور بأن كل ما حوله يعاديه، وأن عليه أن يبادله العداء نفسه، وبدأ يؤرقه السؤال: هل يظل أجنبيا إلى الممات؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذى أرق ميخاليدس من قبل فى الإسكندرية. قال العجوز: كانت الإسكندرية مدينتى لولا أن الظروف تغيرت. والظروف تغيرت فى أيام عبد الناصر، أى فى أيام نهوض الشعور/المشروع القومى الذى واجه الآخر/المستعمر الغربى، فادار صراعا حادا على مختلف المستويات، هدفه القضاء عليه، ما جعل ميخاليدس، وهو غربى، يشعر بتغير أدى إلى اتخاذه قرار العودة إلى بيريه.
    وإذ يقرر هاشم العودة إلى الإسكندرية يقول لكريستينا عندما تسأله عن السبب: "الطير يتجه نحو الجنوب وراء علامات لا يراها غيره" فقالت: "لا أتصور أنى أبتعد عن بيريه.. سأنتظرك حتى تعود. قال: قد لا أعود. وفى بساطة حاسمة قالت: وأنا لن أغادر بيريه".
    وهكذا حسم الخيار، وعاد هاشم ليفتح باب شقة تجاور مقام سيدى منصور، أغلق منذ خمس سنوات، ذهب الأهل، وبقى هو يحاول أن يرتب الكلمات المتشابكة، المتقاطعة.. وتتصاعد من المقام زغرودة طويلة يحدس أنها لامرأة أوفت نذرها، فهل هذه العلامة هى إحدى العلامات التى لا يعرفها سوى الطير العائد إلى الجنوب؟ وهل حدسه هذا يجعله يشعر بأنه ينتمى إلى المكان وليس أجنبيا؟
    وإذ تنتهى من قراءة الرواية يخطر لك غير سؤال، فهل من الحتمى أن يكون اختلاط أنا وأنت أو هو اختلاط الزيت بالماء؟ وهل أن شعور الأنا الممض بأنه أجنبى فى بلاد الأنت يدفعه إلى الخروج منه والعودة إلى حيث يشعر بالانتماء؟
    فى الرواية ما يشير إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة هى نعم، لكن فى الرواية ما يقول: إن الأنا حين يعانى الغربة فى الوطن، أى عندما يشعر بالفقد، يخرج ليعوضه، ويسعى ليبحث عن الوطن فى الغربة، وقد يجده، وعندما يجده يشعر بفقد آخر، فيعود ليعوضه، وهكذا فى حلقة تدور، وليس فيها من زمان وصل دائم، ما يطرح سؤالا حضاريا كبيرا: لم لا يكون فى هذا العالم مكان يدوم فيه زمان الوصل؟ أى لم لا يكون فى هذه الدنيا وطن لا يشعر فيه الإنسان أيا يكن بالغربة؟ وان استحضرنا الغياب الذى بدأنا الكلام به نسأل: هل جاد التاريخ، ذات عصر، بهذا المكان فى أندلس، حيث أزهر زمان غنى الشاعر حكايته التى مرت كما حلم فى كرى أو خلسة المختلس، فطلب للغيث أن يجود ويسقى.. فلعل هذا الزمان يعود يوما؟ ولكن أليس هذا حلم آخر فى زمن "زيوس" العالم الجديد؟


  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    «الشاطئ الآخر»

    بقلم الدكتور: أحمد زياد محبك
    ..........................


    _ 1 _
    رواية رقيقة رشيقة ، لطيفة ناعمة ، شديدة التكثيف ، مثل مروحة صينية صغيرة ، مطوية في يد سيدة رشيقة ، تبدو صغيرة ذات بعد واحد ، تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد ، تحمل رسوماً وألواناً جميلة للحب والشباب والتاريخ والسياسة ، تلك هي رواية الشاطئ الآخر للكاتب الروائي والقاص محمد جبريل ، وقد صدرت عام 1995 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، في القاهرة ، وتقع في 126 صفحة من القطع المتوسط ، ولا تزيد عدد كلماتها على 24 ألف كلمة ، تنثال في ليونة من غير أن تقسم إلى مقاطع أو فقرات أو وحدات .
    والرواية تقدم خبرة شاب يطرده أخوه من البيت بعد وفاة الأب ، فيلجأ إلى الأجنبي ، ليتفتح وعيه في "الشاطئ الآخر" ، ويعرف الحب ، ويمتلك المعرفة ، ثم يعود إلى بيت الأب ولقاء الأخ ، بعد أن عرف العالم ، ويرتبط ذلك كله بالواقع الخارجى ، بما فيه من متغيرات ، بخيوط حريرية ناعمة ، فيمكن عندئذ قراءة الرواية قراءة أخرى ، لتغدو بشكل ما تعبيراً عن حياة أمة ، لا مجرد حياة فرد .
    والرواية تحكي عن شاب جامعي ، يدعى حاتم ، يعمل نادلاً في مطعم ، يموت أبوه رضوان ، وقبل ثلاث سنوات كانت أمه قد ماتت ، ويفجؤه أخوه طارق ، وهو ضابط في الجيش ، بطرده من شقة الوالد ، ليستأثر بها ، بدعوى الزواج ، حتى إنه ليستأثر بالأثاث ، ولا يعطيه شيئاً منه ، ويلجأ حاتم إلى سمسار ، فيؤجره غرفة في شقة لدى سيدة يونانية ، ترحب به ، في الوقت الذي لا يرحب به بيروس زوج ابنتها فيرجينيا ، وكان حاتم من قبل قد تعرف إلى شاب يوناني ، يدعى ديمتريوس ، ويعرفه هذا الشاب إلى عالم واسع من الثقافة الغربية ، كما يعرفه إلى أخته لأبيه ياسمين ، وسرعان ما يقع حاتم في حبها .
    ويرافق ذلك كله كما تذكر الرواية إقالة محمد نجيب في نوفمبر 1954 وميل عبد الناصر في سياسته الخارجية إلى الكتلة الشرقية بشرائه السلاح من تشيكوسلوفاكيا, ثم امتناع الولايات المتحدة عن تمويل بناء السد العالي وتمويل الاتحاد السوفيتي له, وما تلا من تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس, وما أعقبها من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956وزيادة التقارب بين مصر و الاتحاد السوفيتي.
    _ 2 _
    ويبدو الحب في الرواية العنصر الأكثر بروزاً, فهو حاجه أساسية, ولا سيما بالنسبة إلى حاتم بطل الرواية, ويظهر الحب متأثراً بقوى الواقع وظروفه, ولا يظهر قوة فاعلة مؤثرة, ويرجع ذلك إلى شخصية حاتم, فهو بحاجة إلى الحب, ولكنه لا يعرف المنفذ إليه أو السبيل, أو لعله يعرف ولكنه لا يستطيع أن يبادر- بحكم تكوينه- فهو شاب مثقف, يميل إلى المطالعة والقراءة (ص23) ولعله يشبه هاملت الذي يطيل التأمل والتفكير, بخلاف روميو الذي يميل إلى المبادرة والفعل.
    وللحب في حياة حاتم جانبان اثنان, الأول ذهني ثقافي مجرد, والثاني عملي واقعي تجريبي, وفي الجانب الأول, وهو الطاغي يتعرف حاتم إلى الحب من خلال كتب التراث, من كتابات ابن الجوزي (ص61) والمفضل بن سلمة (ص64) وابن حزم (ص68) و(ص73) والماوردي (ص 70) وابن قيم الجوزية (103) وداود الأنطاكي (ص112), فهو يقرأ فيها, ويختار مقبوسات منها, تتعلق بأوصاف الحب والحبيب, وحالات الحب وأشكاله ودرجاته, وهي مقبوسات كثيرة, تدل على ثقافة حاتم وتمسكه بالتراث ولجوئه إليه بعد موت أمه وأبيه وطرد أخيه له من الشقة كما تدل على شعوره بالخلاص من الغربة التي يعانيها في حياته مع ديمتريوس وفي شقة السيدة اليونانية, كما تدل تلك المقبوسات على شخصية مثالية ذهنية تتعلق بما هو كلي مجرد, وبما هو نظري, وهي شخصية تنطلق من الأخلاق والفكر والثقافة إلى الواقع لتتعرف إليه, وتبدو المقبوسات على كثرتها رشيقة, لا تخلو من ذكاء, وحسن انتقاء, وهي تسد فراغاً كبيراً في حياة حاتم, وتدل على شخصيته دلالة قوية, ولا غنى عنها, كما تبدو ملتحمة بالبناء الكلي للرواية, وقد جاء كل منها في موقعه من الرواية وفي الجانب الثاني, وهو الواقع, تبدو تجربة الحب لدى حاتم محدودة جداً, قوامها الحياء والخجل, لذلك كانت عفيفة, بعيدة كلياً عن الممارسة الجسدية, ولم تتجاوز في أقصى أبعادها قبلة واحدة, جاءت عفواً على سبيل المصادفة, وإن كانت تجربة الحب قد مرت لدى حاتم بمراحل وحالات قاربت فيها المحظور, ولكنها ابتعدت عنه بقدرة غريبة كأنما كتب لحاتم أن يحافظ على عفته وبراءته, وهذا ينسجم في الواقع مع شخصيته, فهو مثقف مهذب, تلقى تربية صارمة, ونشأ في أسرة محافظة متماسكة.
    وتبدأ تجربة الحب لدى حاتم في الواقع بعشقه الطفولي البريء لابنه الجيران مديحة, وكتابة قصة عنها ثم تمزيقها وهو في الثانية عشرة (ص53-54) وتنمو معرفته عن الحب بما يسمعه من زميل له في الصف عن علاقاته بالبنات ويحاول أن يرسم صورة لها في ذهنه فلا يفلح (ص54) وقد حاول مرة ممارسة الجنس مع باغية ولكنه اضطرب وعف وخرج من غير أن يفعل شيئاً، مما يدل على حشمة فيه وحياء (ص56-57).
    لقد احتفظت الرواية لحاتم ببراءته وطهره ونقائه ليكون تفتح الحب لديه في أرض طهور لا يعرف فيها قبل الحب شيئاً, وليكون استقباله له عذباً بريئاً (ص57).
    ويعلل حاتم عدم معرفته الحب في الواقع بعدم مصادفته له, أو انتظاره أن تبادر الفتاة (ص55) ولكن ذلك وحده غير كاف, فقد أتيحت له أكثر من فرصة, ولكنه عف, وتردد, ومرجع ذلك في الواقع إلى تكوينه, فهو شاب مثقف متأمل يميل إلى المطالعة والبعد عن الواقع, لقد كانت صفاء ابنة عمه تغلق عليه باب الحجرة, وتحدثه عن الحديقة والأشجار ولقاء الشباب والصبايا, وتقعد قبالته في وسط السرير, وتزيح روبها الوردي عن جسدها, وتسأله إن كانت له صديقة, وهو لا يستجيب لها, فتمل منه (ص85-88)ويحدث أن تنطلق صفارة الإنذار معلنة عن غارة, وتفزع إليه السيدة اليونانية, فتلجأ إليه, وتتمسك بيديه, وتثور في نفسه رغبة غامضة, وينتظر أن تبادر هي, ولكن سرعان ما تنطفئ تلك الرغبة, عندما تنطلق الصفارة الثانية معلنة عن الأمان (ص107-108), ولا ينظر حاتم إلى فرجينيا نظرة اشتهاء البتة, على الرغم من أنه يلتقيها كثيراً في منزل السيدة اليونانية, بل إنه لا ينظر إليها إلا على أنها زوجة لبيروس وأم لوليدها الذي تعني به كثيراً, ولا يفكر في التعرف إلى جسد المرأة من خلالها.
    هذه العفة لدى حاتم هي التي جعلت مشاعره تتجه نحو ياسمين أخت ديمتريوس, وهي من أم يونانية وأب مصري, وقد تفتح حبه لها وفق إضاءات مشرقة من قراءاته في كتب التراث عن الحب, مما يؤكد سمو مشاعره ورقيها ، ومما يدل على استناد هذا الحب إلى جذر معرفي تراثي ، ليؤكد البعد الحضاري والإنساني للحب . إن حب حاتم لياسمين هو حب عذري بريء يستند إلى العفة والطهر والنقاء ، ويقوم على الخجل والحياء ، ويرجع إلى ثقافة حاتم وتفكيره وسمو روحه ، وذات يوم تعرض عليه ياسمين ألبوم صورها ، وتغطي بيدها صورة لها وهي بالمايوه ، ويفكر في أن يدفع يدها ليرى الصورة (ص 69 ) ولكنه يكتفي بالتفكير ولا يفعل شيئاً ، ولعل هذه العفة هي التي جعلت مشاعره تنمو وتنضج ، وتسير بهدوء مع حركة الواقع ووفق إرادة الحياة ، لا إرادته هو ، إلى أن كان يوم زار فيه حاتم صديقه ديمتريوس ، فاستقبلته ياسمين وأخوها غائب ، وحدث أن أطلقت صفارة الإنذار معلنة عن غارة على الإسكندرية ، فتفزع إليه ياسمين ، ويضمها إلى صدره ويقبلها ( ص 101 ) وهي القبلة الوحيدة ، وقد جاءت تتويجاً لنضج المشاعر، كما جاءت نتاج المصادفة ، وبدافع من الواقع .
    إن هم حاتم هو البراءة والنقاء والطهر ، وبما أن قبلته لها هي أول قبلة في حياته ، دليل طهره وبراءته ، لذلك يسأل نفسه : " هل كان ما حدث أول قبلة لرجل في حياتها ؟ مثلما هي أول قبلة في حياتي ؟ " ( ص 101 ) بل إنه لا يتردد في سؤالها : " هل أحببت إنساناً آخر قبلي ؟ " ( ص 110 ) والسؤال فيه من السذاجة والعفوية بقدر ما فيه من دليل على البراءة والطهر ، ويؤكد ذلك تصوره لياسمين زوجة له في المستقبل ( ص 111 _ 112 ) دليل صدقه أيضاً وبراءته .
    ولكن ، إلام سينتهي هذا الحب العذري الصادق الجميل ؟ إن الأسباب التي قادت إلى هذا الحب ، هي التي نفسها ستقود إلى نهايته ، وهذا هو الطبيعي ، إن حاتم لم يملك في الواقع حرية الحب ، ولم يملك في يوم إرادة الفعل، أو القدرة على المبادرة ، هو لطيف ، رقيق ناعم وهو مثقف وقارئ جيد ، وهو نبيل وصادق ، وهو عاطفي وسريع الاستجابة وقوي التأثر ، ولعله يعي ذلك كله ( ص 120 ) ، ولكنه لا يملك القدرة على المبادرة .
    إن طرد أخيه له من الشقة ، وتعرفه إلى ديمتريوس ، وزيارته له في منزله ، وحرب السويس ، والغارات على الإسكندرية ، وفزع ياسمين ، ومعانقتها له ، هي جميعاً الظروف التي كونت حبه وصاغته ، وعندما تتغير هذه الظروف سينتهي حبه ، فلقد انتهت الحرب ، وطرد عبد الناصر الإنكليز والفرنسيين ، وتحمس اليونانيون لمغادرة مصر ، بمن فيهم ديمتريوس وأمه ، وطارق الذي طرد أخاه من شقة أبيه يدعوه إلى العودة إليها .
    وهكذا تغيرت الظروف التي قادت إلى الحب ، فينتهي الحب ، لذلك يظن حاتم أن العالم كله متآمر عليه، وقد نسي أن هذا العالم هو نفسه الذي وضع ياسمين بين يديه ، يقول حاتم : " لماذا يتآمر العالم على سعادتي؟ ما صلة ياسمين وصلتي بالسد العالي وتأميم القناة والحرب وخروج الأجانب ؟ " ( ص 123 ) .
    _ 3 _
    وبمقابل حب حاتم لياسمين ، يظهر حب آخر ، شاذ ، غير سليم ، هو حب ديمتريوس لحاتم . لقد ظهر ديمتريوس الملاذ لحاتم ، فهو الصديق الذي استضافه في منزله ، واتخذ منه صديقاً ، ومنحه شعور الصداقة، وعرفه إلى أخته ياسمين ، كما عرفه إلى الثقافة الغربية ، فكان يقرأ له عيون الأدب العالمي ، من هوميروس إلى كافافيس ، مروراً باسخيلوس ودانتي وشكسبير وكازنتزاكي وغيرهم كثير ، وكان حاتم بأشد الحاجة إليه ، في الوقت الذي خذله فيه أخوه وطرده من شقة الوالد ، وحرمه من الأثاث والتراث .
    ولكن ، ذات يوم اقتحم ديمتريوس عالم حاتم ، وقبله في فمه ، فصفعه حاتم عدة صفعات ، ووضع حداً لاندفاعاته ( ص 83 ) فأكد له ديمتريوس أنه لا يزوره إلا لغاية في نفسه ، فزجره وكاد يلكمه ، فاعترف بأن الخياط الأرمني في أسفل البناء المقابل قد نال منه ( ص 84 ) . وكان حرياً بديمتريوس أن ينقاد إلى الحب كالحب الذي انقاد إليه حاتم ، فهو مثقف مثله ، فما الذي قاده إلى هذا الشذوذ ؟ لقد دخل ديمتريوس ذات يوم على حاتم ، ليقرأ له صفحات من رواية لكافافيس عن صديقين تقودهما الصداقة إلى ممارسة علاقة شاذة ( ص 81 ) ثم يسأله إن كان قد قرأ " صورة دوريان غراي " لأوسكار وايلد ، فيرد عليه حاتم :
    " لا أحب الأصدقاء غير الأسوياء " ( ص 81 ) ويرد عليه ديمتريوس : " أن يكون المرء قاتلاً فذلك لا يدعو لإدانة ما يكتبه ، كما أن الفضائل العائلية ليست أساساً حقيقياً للفن " ( ص 81 ) وهذا الكلام لأوسكار وايلد نفسه ، وهكذا تقف الثقافة الغربية بما فيها من شذوذ وراء شذوذ ديمتريوس ، كما تقف الثقافة العربية بما فيها من حب عذري عفيف وراء عفة حاتم وطهره .
    ولكن ، مما لا شك فيه ، أن الثقافة وحدها ليست العامل الوحيد المؤثر في كل من حاتم وديمتريوس ، ولابد من وجود أسباب أخرى . ويمكن أن نرى ذلك واضحاً في أسرة كل منهما، فحاتم نشأ في أسرة متماسكة ، والده رصين متوازن ، له حياة هادئة مستقرة ، لا يغادر المنزل إلا إلى المقهى المجاور ، وهو يحافظ على الصلاة في المسجد ، وعندما ماتت زوجته حزن عليها أشد الحزن ، ولزم بيته ، وطرد عدة خادمات ترددن على المنزل وفاء منه لزوجته ، ثم " دخل في شرنقة من الهدوء السادر " ( ص 13 ) وفقد ذاكرته ، ولم ينطق بعد ذلك بغير كلمة واحدة : " البكاء لن يعيدها " ( ص 13 ) مما يدل على وفائه لزوجته وحبه لها حباً قوياً صادقاً ، وقد توفي بعدها بثلاث سنوات ، وكان قارئاً نهماً ، وقد حول النملية إلى مكتبة كدست فيها الكتب والمجلات وعلى الجدار سبحة كبيرة الحبات ( ص 23 ) ، وكانت الأم حريصة على تأمين حياة هادئة آمنة لولديها حاتم وطارق ، وكانت تريدهما أن ينصرفا إلى الدراسة ولا يشغلا عنها بشيء.
    وبالمقابل نشأ ديمتريوس في أسرة تحوي كل التناقضات ، فهو يحيا مع أمه اليونانية وزوجها المصري ، ومعهما ياسمين أخته من أمه ( ص 20 ) وهو يعد نفسه أوروبياً يحيا في مصر ، فهو يعيش في أوربة من خلال الأفلام والكتب والإذاعات والأغاني ( ص 27 ) ويرى الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومرسيليا ونابولي ( ص 27 ) ، وهو يعيش مع أمه المسيحية وزوجها المسلم ويدرك أن الدين لا وجود له في البيت ( ص 59 ) .
    وتنتهي الصداقة بين حاتم وديمتريوس بانتهاء حرب السويس ، وعودة ديمتريوس مع أمه إلى اليونان ، وينتهي الحب أيضاً بين حاتم وياسمين ، كما تنتهي إقامة حاتم في منزل السيدة اليونانية ، إذ تقرر هذه الرحيل أيضاً إلى اليونان ، ويرجع حاتم إلى بيت والده بدعوة صادقة من أخيه طارق .
    _ 4 _
    ولقد عنيت الرواية بتقديم صور دقيقة وواضحة للشخصيات ، ولاسيما للوجوه والملامح والقامات سواء في ذلك الشخصيات الرئيسية أم الثانوية , وهي مرسومة من زاوية حاتم , الراوي والبطل , ومنها صورة لوجه ديمتريوس ( ص 17 ) وصاحب الوكالة ( ص 18 ) والعم شقيق رضوان ( ص29 ) وسمسار العقارات (ص31 ) والسيدة اليونانية ( ص34 ) وابنتها فيرجينيا ( ص 38 ) وزوجها بيروس ( ص 38 ) وياسمين (ص 48 ) .
    يقول حاتم في تصوير ياسمين : " كانت في حوالي الخامسة عشرة , امتزجت في وجهها الملامح الأوربية والعربية , بما لا تخطئه العين , الشعر أسود ينسدل إلى الظهر ، و الوجه مستدير ، تعلوه عينان واسعتان بنيتان ،تسكن إليهما ، تحيا فيهما ، تتوق لأن تظلا تنظران إليك ، ولا تخفض عينيك عنهما ، تظللها أهداب طويلة ، والأنف صغير ، والشفتان ممتلئتان ، والبشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة ، ارتدت جلابية من " الفوال " المنقط ، تحتها قميص أبيض ، وانتعلت حذاء مفتوحاً ، تطل منه أصابع مطلية بالمانيكير " (ص48).
    والوصف يشمل الوجه والقوام ، والحركة والسكون ، ولا يخلو من تدقيق في بعض التفاصيل الدالة والمعبرة ، ولعل أجمل ما فيه الجمل الأربع الدالة على أثر نظرتها في النفس.
    وربما بدا وصف سمسار العقارات أكثر تميّزاً ، وحاتم يصفه على النحو التالي " كان الرجل وراء المكتب الخشبي الصغير مشغولاً بشد أنفاس شيشته ، في حوالي الخمسين ، له أنف ضخم ، وشارب رفيع كالخط المتداخل البياض والسواد ، فوق شفتين زاد من امتلائهما بروز في السنتين الأماميتين ، يركز نظرته على عيني محدثه ، كمن يريد أن ينفذ إلى داخله ويحرص على تحريك يده ، وهو يتكلم ، ليرى محدثه الساعة الذهبية في يده ، وكان يرتدي جلباباً صوفياً ، ويضع على رأسه طاقية من الصوف ، ويغطي عنقه بتلفيعة تدلت حتى الصدر " ( ص 31 ) .
    والوصف لا يخلو من بطء وهدوء ، وهو يستغرق في تفاصيل دقيقة ، ولكنها ذات دلالات نفسية واجتماعية واضحة ، ومثل هذا الوصف للوجوه والملامح والقامات أضفى على الرواية تميزاً وخصوصية ، ومنحها قدراً غير قليل من ملامح البيئة .
    _ 5 _
    وتدور حوادث الرواية كلها في الإسكندرية ، ولا تكاد تستغرق أكثر من عامين ، وغالباً ما تدور في ثلاثة أماكن رئيسية ، هي بيت الأب رضوان ، وبيت السيدة اليونانية ، وبيت ديمتريوس ، والرواية تصور البيوت الثلاثة وهي تمور بالحياة والحركة ، وتصور الحياة من حولها ، وما تطل عليه من بيوت وأزقة ، وحارات وأسواق ، ومساجد وكنائس .
    والرواية تصف كل بيت من البيوت الثلاثة من الداخل والخارج ومن ذلك وصف بيت ديمتريوس من الخارج كما يراه حاتم حيث يقول : " البيت في شارع الكنيسة الأمريكانية ، ملاصق للكنيسة الإنجيلية ، وبالقرب من نقطة شريف ، من ثلاثة طوابق ، يطل في الجانبين على شارع سيدي المتولي وشارع توفيق، الوجوه التي تطل من النوافذ والشرفات معظمها لأجانب ، يتطلعون إلى الطريق ويقرؤون الصحف ، ويتبادلون الأحاديث ، وكانت البالوعات على جانبي الشارع قد ابتلعت مياه الأمطار ، لم يعد إلا التماعات متناثرة " ( ص 19 ) .
    وتصف الرواية غرفة ديمتريوس كما يراها حاتم . حيث يقول : "في مواجهة الباب بوفيه ذو مرآة بيضاوية مطوية في بعض جوانبها ، وعليه قطعة رخام تكسرت حوافها ، تتوسطها فازة زرقاء يتصاعد منها ثلاث ريشات طاووس ، إلى اليمين فوتيل بامتداد معظم الحائط ، يقابله كرسيان ، تغطت جميعها بكرتيون أبيض ، فصل عليها ، وفي المنتصف ترابيزة خشبية مستطيلة ، عليها مفرش من الدانتيل الأبيض، وتدلت من السقف نجفة عنقودية الشكل ، انطفأ معظم لمباتها ، وعلقت على الجدار _ أعلى الفوتيل _ لوحة زيتية لبنات بملابس شفافة " ( ص 20 )
    والوصف لبيت ديمتريوس من الداخل والخارج لا يخلو من التتبع للجزئيات والتفاصيل ، والغاية من أكثرها الدلالة على نمط من الحياة فيه قليل من الغنى وكثير من الاختلاف عن البيت المصري ، أي أن الغاية من هذا الوصف هي القول إنه بيت أجنبي من الداخل والخارج ، وفي نمط الحياة ، ويبدو الوصف هادئاً فيه قدر غير قليل من البطء ، بسبب تتبع التفاصيل ، وربما كان أكثر منه إغراقاً في التفاصيل وصف منزل السيدة اليونانية كما يراه حاتم ، حيث يقول : " على يسار المدخل كونصول قديم ، مشغول بالأرابسك ، تعلوه مرآة بيضاوية الشكل ، ومن أعلى الطرقة تتدلى نجفة ذات أربعة أذرع ، يفضي المدخل إلى صالة واسعة ، يشغلها أنتريه أسيوطي ، وترابيزة سفرة مستطيلة ، عليها منفضة خالية من أعقاب السجاير ، وحولها ستة كراسي ، وتتوسطها علبة من الصدف مغلقة ، وعلى الجدران صور عائلية ، ولوحات مقلدة لأعمال فنانين عالميين ، ومشاهد خمنت أنها لمدن يونانية تطل على الساحل ، وأعلى باب الشقة من الداخل علق صليب خشبي ، عليه نحت للمسيح وهو يضع إكليل الشوك ، وعلى يمين الباب ممر ضيق نسبياً ، توقعت أنه يفضي إلى المطبخ والحمام وغرفة النوم " ( ص 34 ) .
    والتدقيق في الوصف واضح ، والغاية منه تأكيد بعض الصفات منها هدوء الحياة في البيت وسكونها ، وقدم الأثاث ، وطابعه الأجنبي ، مما يؤكد محافظة أهله على حياتهم الأجنبية بالإضافة إلى دلالته على ديانة سكانه ، وهي المسيحية .
    وعلى الرغم من غنى الدلالات وأهميتها ، يظل الوصف هادئاً ساكناً ، لا يخلو من بطء ، يضعف من إيقاع السرد ، بسبب الاعتماد على الوصف المحض ، بعيداً عن ربطه بحياة الناس وحركتهم داخل المكان وعيشهم فيه .
    وتصور الرواية الحياة الموارة داخل بيت الأب رضوان ، من غير أن تصف أي ركن فيه أو جزء أو مكوّن من مكوناته ، ويأتي التصوير دالاً موحياً ، وحافلاً بالحياة ، على نحو ما يروي حاتم حيث يقول : "أبي يعود عقب صلاة العشاء ، يجلس في الصالة أو الشرفة المطلة على شارع الميدان ، يستمع إلى الأغنيات في فونوغراف القهوة ، أسفل البيت ، إلى موعد نشرة الأخبار ، يدير الراديو حتى يسمع السلام الوطني ، فيغلق الراديو ويدخل حجرة نومه المطلة على الشارع الخلفي " ( ص 9 ) .
    وواضح أن قيمة المكان لا تكمن في وصف جزئياته وتتبع تفصيلاته ، إنما تكمن في تصوير الناس وهم يملئون المكان بالحياة .
    وبصورة عامة تبدو الإسكندرية في الرواية جميلة متألقة ، تمور بحياة الناس البسطاء العاديين ، حيث تنتشر فيها المساجد والمآذن والمقاهي والمطاعم ، وتتخللها بيوت اليونانيين ، لتزيد من بهائها وجمالها . ولكن حاتم يراها في النهاية وقد فقد حبه ، سوداء معتمة ، ملوثة كريهة ، وقد أسقط عليها كل خيبته ومرارته حيث يقول : " فسدت الحياة ، أفرغت ناقلات البترول ما بجوفها ، فتحول سطح البحر الذي أحبه إلى بحيرة واسعة من السواد الميت المتعفن ، تلاحقت سنوات واكتسح المد الضاري كل الأماني والأحلام والتصورات المنطلقة, علت الأمواج السوداء, فابتلعت ما بداخل البحر, وما على الشاطئ, انتزعت الصخور الأسمنتية, قذفت بها إلى آخر المدى, حتى ناس الطريق, كانوا شائهي الملامح, تطفح أعينهم توجساً وكراهية وحقداً" (ص125).
    -6-
    ويبدو الناس على "الشاطئ الآخر" على قدر غير قليل من العدائية والنفور والشذوذ, فكلهم يقررون مغادرة أرض مصر, لدى ظهور بوادر التغيير, إذ تقرر فجأة السيدة اليونانية مغادرة القاهرة, بعد انتهاء العدوان الثلاثي, من غير وجود أي مبرر لذلك, فقد أمر عبد الناصر الفرنسيين والإنكليز بالمغادرة, لأن إنكلترة وفرنسا شاركتا في العدوان الثلاثي على مصر, ولم يمس أحد اليونانين بسوء, وكذلك تقرر ابنتها المغادرة مع زوجها, كما يغادر ديمتريوس مع أمه.
    وقرار المغادرة ليس غريباً, لأنهم كانوا يعيشون على أرض مصر بأجسادهم, في حين كانوا يعيشون في أوربة بأرواحهم, فهم يعيشون في الغرب بثقافتهم وقراءاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وعاداتهم وأغانيهم ونمط حياتهم, ولا يرون في الإسكندرية إلا واحدة من موانئ المتوسط يقول ديمتريوس لحاتم: " الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومارسليا ونابولي " (ص27), بل إنه يقول لحاتم: " هل تعرف أن اليونانين هم الذين أنشئوا الإسكندرية " (ص24) ثم يصرخ قائلاً: " أنا أوربي يحيا في مصر " (ص25).
    وكانت فرجينيا وزوجها بيروس أكثر عدائية لحاتم, إذ لم يقرّا السيدة اليونانية على تأجيرها غرفة له في شقتها, وكانا طوال إقامته عندها صامتين تجاهه, لا يبادلانه الفكر ولا الشعور ولا الحوار, بل ينظران إليه بنفور شديد, وكانا على عداء واضح لعبد الناصر وثورة يوليو 1952 وكانا أول المتحمسين لمغادرة مصر.
    إن نظرة الناس على الشاطئ الآخر إلى مصر والمصريين هي على الأقل نظرة نفور, ولا تكاد تخلو من نظرة عرقية, إذ ينكر ديمتريوس على حاتم أن يكون أشقر الشعر فهو يتصور أن كل المصريين سود الشعر (ص51) .
    -7-
    ومن هنا تبدو الصداقة بين حاتم وديمتريوس اليوناني صداقة عابرة كما يبدو لجوء حاتم إلى منزل السيدة اليونانية مجرد لجوء مؤقت, لم يوفر لحاتم الاستقرار، حتى حب حاتم لياسمين يبدو أشبه بمرح الأطفال، هو تفتح القلب على أول حب, اكتسب منه حاتم بعض الخبرة, ونضجت مشاعره, واكتوى ببعض الألم، ولكن الأجمل من ذلك كله أنه ظل محافظاً على نقائه وطهره وصفائه وبراءته, مستنداً إلى تراث عريق وأسرة متماسكة, ربته فأحسنت تربيته.
    إن غربة حاتم خارج منزل أبيه لمدة عامين تقريباً من أواخر 1954 تاريخ إقالة محمد نجيب إلى انتهاء حرب السويس أواخر عام 1956, غربة أنضجت شخصية حاتم, وأفادته خبرة, ولكنها لم تلغ شخصيته, ولم تشوهها, بدليل حفظه على طهره وبراءته ونقائه, ولقد عاد إلى منزل الأب ولقاء الأخ.
    إن غربة البطل, ولاسيما الشاب القليل الخبرة و خارج وطنه, ثم عودته إليه بعد كثير من المغامرات, فكرة رئيسية عالجتها كثير من الحكايات الشعبية و الروايات .
    ومن هنا يبدو العنوان : " الشاطئ الآخر" واضحاً و شفافاً و دالاً ، وقد جاء معرفاً بأل وموصوفاً، فهو ليس الشاطئ الذي يقف عليه المرء ، إنما هو الشاطئ الآخر، وغالباً ما يبدو الشاطئ الآخر أجمل و أكثر إغراء، وهذا ما ينطق به المثل القائل: "الضفة الأخرى من النهر أجمل"، وهذا بعض ما يوحي به العنوان، وبعض ما تحققه الرواية أيضاً، فقد وجد حاتم فى الشاطئ الآخر المأوى و الصداقة والحب، في حين طرده أخوه من الشاطئ الذي هو واقف عليه .
    ولكن بقدر ما يبدو الشاطئ الآخر سوياً وجميلاً ودافئاً بقدر ما يتبين أنه غريب وعابر ومؤقت , مما يترك في النفس شجناً وحزناً و أسى ، وهو حقيقة شاطئ غريب ولكن ما يطمئن النفس ويريحها ، هو العودة إلى البيت ، وهي عودة سليمة ، سلم فيها الجسد وسلمت فيها الروح .
    ولذلك كله يبدو العنوان أليفاً ولطيفاً وشفيفاً ، لا غموض فيه ولا إبهام ، كذلك لا ابتذال فيه ولا مجانية ، وقد أبت الرواية ألا أن تشير إلى دلالة العنوان قبل النهاية, حيث يقول حاتم:" نقلني ديمتريوس إلى الشاطئ الآخر, أسماء لم أكن أعرف غالبيتها, ولا قرأت لها, وإن ظللت أجذف بقاربي في بحر الكتب العربية " (ص122), ويبدو توضيح حاتم أقل مما توحي به الرواية في بنائها الكلي, ولذلك تبدو الرواية بغنى عن توضيح حاتم.
    ولحاتم نفسه من اسمه نصيب كبير من الدلالات والإيحاءات فهو بثقافته وشهامته وعفة نفسه وطهره وحبه, يذكر بحاتم الطائي بما امتاز به من كرم وجود وشهامة، وربما كان لأخيه طارق نصيب من اسمه أيضاً, فهو ضابط عسكري, وهو على قدر غير قليل من الغموض, والتفرد بالرأي والتسلط, وهو يذكر بطارق بن زياد القائد العسكري الذي لا يعرف المرء سوى الخطبة المنسوبة إليه, مع إنه كان بربرياً لا يجيد العربية, وربما في كون طارق ضابطاً عسكرياً ما يوحي بالمرحلة التاريخية التي تشير إليها الرواية إشارات متناثرة هنا وهناك, ولعلها توحي بما شهدته مصر بعد ثورة يوليو من معاناة المثقفين من سلطة رجال الثورة العسكريين.

    - 8 -
    وتتجاور الحوادث داخل الرواية وتتوازى مع الحوادث خارجها ، وفى بعض الحالات تتعانق ، بقدر كبير من إغراء المقارنة والبحث عن رمز ما أو كناية أو إشارة ، فالضابط طارق يطرد أخاه حاتم من المنزل بعد وفاة الأب، في الوقت نفسه الذي يقيل فيه رجال الثورة الرئيس محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954، ويلجأ عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية فيشترى السلاح من تشيكوسلوفاكيا ، ويأخذ قرضا من الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي، في الوقت الذي يلجأ حاتم إلي منزل السيدة اليونانية ليستأجر غرفة لديها ، وفي الوقت نفسه يقيم صداقه مع ديمتريوس و يحب أخته ياسمين، ومثلما قادت الغارات الجوية على الإسكندرية إلي العناق بين حاتم وياسمين ، كذلك قاد العدوان الثلاثي الذي شنته انكلترة وفرنسا وإسرائيل على مصر إلى تقارب شديد مع الاتحاد السوفيتي الذي أرسل إنذاراً إلى الدول الثلاث يطلب فيه إنهاء العدوان ، وإذا كانت علاقة الحب بين ياسمين وحاتم قد انتهت ، مثلما انتهت علاقة الصداقة بين حاتم و ديمتريوس مع انتهاء الحرب ، فإن علاقة الود بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتى قد ضعفت كثيرا بعد انتهاء الحرب ، ومال عبد الناصر إلى أمريكا .
    حوادث ومواقف كثيرة ،متوازية ومتجاورة ، داخل الرواية وخارجها ، بإشارات ذكية من الرواية نفسها ، ولكن ربما كان من الأجمل قراءة الرواية بمستوييها الداخلي والخارجي ، ومنح كل من الزمنين حريته، وشخصيته الاعتبارية ،وقد حققت الرواية لهما ذلك ، بعيداً عن القول بالرمز أو التأويل .
    -9-
    والرواية مسرودة بضمير المتكلم على لسان البطل حاتم ، وضمير المتكلم لا يتيح بصورة عامة للرواية من الحرية ما يتيحها له ضمير الغائب إذ يضطر الراوي إلى السرد من زاوية واحدة ، ولكن هذا يجنبه مزالق الراوي العالم بكل شيء ، ويمنحه بالمقابل بدائل منها وعى الذات ، وصدق الخبر ، ومعاينته الشخصية والتأمل ، وتحليل المواقف ، وحرارة اللغة وشاعريتها .
    ومع أن الراوي واحد هو حاتم ، فقد جاءت لغته ذات مستويات متعددة ، فيها الوصف الهادئ المدقق ، وفيها التصوير الحي ، وتمتاز دائماً بالإيجاز والتكثيف، وقصر الجملة ، كما تظهر فيها حرارة الانفعال، والقدرة على التعبير عن أدق الخلجات والمشاعر .
    ففي كثير من الحالات يعي حاتم ذاته ، ويعلل مواقفه ، ويفسر نفسيته ، ويتحدث عن نفسه عن ماضيه ، وعن أحلام المستقبل. يذكر حاتم غياب خبرته في عالم المرأة ، ويرد هذا الغياب إلى سبب خارجي يحدده بقوله : " كنت أنتظر وأتوقع البنت التي توارب أمامي الباب فتساعدني الجرأة على اقتحامه ، وأبوح بمشاعري " ( ص 55 ).
    وهذا السبب الذي يعيه هو سبب واضح مباشر، يخفى في الحقيقة وراءه أسباباً أخرى قد لا يعيها حاتم ، منها تربيته وثقافته .
    ويصف حاتم نفسيته، فيصور ما هو عليه من عاطفية وقوة تخيل واستحضار ، فيقول: "عاطفتي قوية ، أتابع مواكب الجنازات في طريقها إلى جامع الشيخ ، فتدمع عيناي لصوات النساء ، أبكى للمشاهد المؤثرة في الأفلام ...أهتز لبكاء طفل.. حتى التسابيح التي تسبق أذان الفجر من جامع الشوربجي تحرك في داخلي مشاعر حزينة " (ص 120 ) .
    ويعبر حاتم عن حبه لياسمين وشوقه إلى لقائها ، فتأتى اللغة حارة رشيقة، حيث يقول:
    " ياسمين ! الصورة تملأ خيالي ،لا تفارقني ، وأنا أصحو ، وأنا أنام ، وأنا أقعد ، وأنا أفكر وأنا أعمل ، وأنا أجالس الآخرين، تطايرت السدادة من القمقم في وقت لم أكن أعددت نفسي له ، انبعثت الحمم من البركان ، فاكتسحت حتى التصورات " ( ص 89 ).
    ويعبر حاتم عن أدق الخلجات والمشاعر والحالات ، حيث يقول: " أدركت أن حياتي قد ارتبطت بهذه الفتاه الجالسة أمامي ، لا أتصور عالماً يخلو منها ، كان حبي لها يختلف عن حبي لأبى ولأمي، من قبل كنت أحب أبي دون أن أتدبر بواعث ذلك الحب ولا حالاته, لا يشغلني حبي لأبي فهو قائم ومستقر وملتصق بلحمي ويخالط ترددات أنفاسي, أنا لا أعنى بمتابعة دقات قلبي, ولا قياس ضغطي, ولا التأكد من قوة إبصاري, فهي حالات قديمة وممتدة, حالات من صميم حياتي, نشأت معها وترافقني, أما حبي لياسمين فهو حالة استثنائية, تبدل من حياتي, ينتشر نورها فيغمر نفسي " (ص69).
    ويظهر التصوير في صنع معادل موضوعي خارجي لعالم داخلي, فلقد أدرك حاتم أن حبه انتهى, فعبر عن هذا الشعور بمقطع قوامه صورة شعرية متكاملة يقول فيها: " جاءت بلا توقع لحظة الفراق, كنت أسير في النهار المتألق بالضياء, عندما أظلمت الدنيا فجأة, ظلمة كثيفة متراكمة, لا تريك حتى داخلك, لا ترى شيئاً على الإطلاق, بدا لي الكون ضيقاً وموحشاً وقاسياً انزاحت في داخلي موجات متتالية من القهر والإحباط والعجز, تحسست لزوجة الدم في أنفي, والسن المكسورة في فمي, والشج في أوسط رأسي, وتخاذلت للضربات الموجعة, تاه قاربي, ولم يكن معي ما أطمئن به إلى الطريق الصحيحة, لا خريطة, ولا بوصلة, ولا مرئيات في الأفق, والسماء من فوقي ملبدة بالغيوم, فلا نجم أهتدي به, أعاني الظلام والغربة والضياء, اختلط طريقي, وفقدت الاتجاه" (ص124-125) .
    إن السرد بضمير المتكلم من زاوية حاتم ساعد على إغناء الرواية بمقاطع من التحليل والتصوير بلغة لا تخلو من شاعرية, تناسب الحالة والموقف والانفعال , وتنقل ذلك كله بحرارة , من غير أن تفسد متعة السرد أو بناء الرواية .

    -10-
    ولم يكن حاتم بطل الرواية والراوي فيها فحسب , بل كان العنصر الأساسي المكون لها , والمحور الذي تنشد إليه عناصرها كافة , تتحد به , ويتحد بها وهذا ما يمنح الرواية وحدتها وتماسكها .
    ولعل أبرز ما يميز حاتم هو طابع الثنائية , فحاتم يعيش الحب على مستويين , الثقافة والواقع , وحاتم يعاني من الغربة وهو في الوطن , فلديه بيت الأب ولكنه مطرود منه ولذلك يلجأ الي بيت السيدة اليونانية , وحاتم يصادق ديمتريوس ويحب أخته ياسمين , وحاتم يهرب من الواقع , والواقع يؤثر فيه .
    ويظهر طابع الثنائية في عناصر الرواية كافة , فطارق يطرد أخاه من منزل الأب ثم يدعوه إلى العودة إليه , والأول ضابط عسكرية والثاني جامعي مثقف , وديمتريوس مسيحي وأخته ياسمين مسلمة , وهما يعيشان معاً في منزل واحد , الأب فيه مسلم والأم مسيحية , والسيدة اليونانية تعطف على حاتم , وينفر منه بيروس وزوجته فيرجينيا , وعلى أرض مصر في الإسكندرية يعيش ديمتريوس والسيدة اليونانية وابنتها وزوجها ولكن أرواحهم جميعا معلقة بأوربة , ولا ينسى المرء ثنائية الثقافة العربية التراثية والثقافة الغربية الأوربية من هوميروس إلى كافافيس ومن ابن حزم إلى داود الأنطاكي , وكذلك ثنائية الشاطىء والشاطىء الآخر .
    والثنائية المشتركة بين عناصر الرواية هي ثنائية اختلاف ولقاء واتفاق , لا ثنائية صراع وصدام وخصام , والحركة تسير وسط هذه الثنائيات هادئة لينة رخيّة , من خروج حاتم من منزل الأب مطرودا مفارقا لأخيه , ليجري مع ديمتريوس وياسمين والسيدة اليونانية وليسير هؤلاء معه جميعاً في وفاق , ثم لينفضوا عنه , ويرجع ثانية إلى منزل الأب بدعوة من الأخ , وليس في هذه المسيرة صدام أو صراع أو خصام , إنما ثمة الوفاق والوئام .
    وتبدو الحركة سائرة من اليمين حيث الأخ إلى الشمال حيث ديمتريوس اليوناني وأخته ياسمين والسيدة اليونانية , وفي هذا الاتجاه الذي هو نحو الغرب في الحقيقة يسير حاتم بصحبة ديمتريوس وأخته , ثم تنقلب الحركة في آخر الرواية , حيث يتخلى ديمتريوس والسيدة اليونانية عن حاتم بسفرهم إلى اليونان ويرجع حاتم وحده إلى منزل الأب بدعوة من أخيه فينقلب اتجاه الحركة ليصبح من الشمال إلى اليمين .
    يقول حاتم في نهاية الرواية : "مسحت الميدان بعينين قلقتين ..مبنى الاتحاد القومي , وتمثال محمد علي, والكنيسة الإنجيلية وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوربي ..غالبت الحيرة والتردد , ثم لزمت الرصيف الأيمن , في طريقي إلي شارع الميدان " . ( ص 126 ).
    وبمثل هذه الحركة داخل الرواية كانت الحركة تسير خارجها , إذ مال عبد الناصر إلى المعسكر الاشتراكي فاشترى منه السلاح وأخذ القرض لبناء السد العالي , وبعد العدوان الثلاثي علي مصر عاد فمال إلى الغرب الأمريكي .
    وهنا تظهر ثنائية الذهاب والإياب, وثنائية الداخل والخارج, وثنائية اليمين والشمال , وهذا ما يؤكد طبيعة الثنائية التي تحكم بناء الرواية , وتمنحها التماسك والوحدة .
    *
    وتظل رواية " الشاطئ الآخر " لمحمد جبريل قابلة لقدر كبير من المقارنة والدرس والبحث ، وليس من الغريب تشبيهها بمروحة صينية صغيرة، مطوية في يد سيدة أنيقة ، تبدو المروحة في البدء صغيرة ناعمة ذات بعد واحد ، وهي مغلقة ، ولكن تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد وطبقات تمتد وتمتد لترسم ألواناً وصوراً كثيرة .


  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    رواية "النظر إلى أسفل" لمحمد جبريل

    بقلم: حامد أبو أحمد
    ......................


    "النظر إلى أسفل "، ليس مجرد اسم لرواية بل هو هنا ملمح في شخصية، ومع ثبات الملمح يتجاوز هذا السلوك دوره كمجرد تعريف بالشخصية ليصبح رمزاً لمعنى متجدد في الواقع كما في الأدب وهذا ما يتطرق إليه هذا المقال.
    هذه ثاني رواية يصدرها الكاتب الروائي محمد جبريل خلال عام 1991، حيث صدرت له رواية "قلعة الجبل" عن دار الهلال بالقاهرة في بداية العام المذكور. وبذلك تضاف هاتان الروايتان إلى أعماله الروائية الأخرى التي نشرت خلال عقد الثمانينيات ومن أهمها "إمام آخر الزمان" و "من أوراق أبي الطيب المتنبي" و "قاضي البهار ينزل البحر". ويحاول محمد جبريل في بعض رواياته أن يستلهم التراث، لكنه في بعضها الآخر يركز على الهموم الخاصة والعامة للإنسان المعاصر بكل ما تحمل من آمال وآلام وإحباطات.
    وهذه الرواية الأخيرة محاولة للكشف عن مسيرة الإنسان في مصر في فترة زمنية تبدأ من قيام ثورة يوليو 1952 تقريبيا وتنتهي بمقتل الرئيس السابق أنور السادات. ومن ثم تبدو هذه الرواية وكأنها سيرة ذاتية لبطلها شاكر المغربي. ولذلك تمضي هذه السيرة الروائية في خطين متوازيين: أولهما خط أحداث الحياة العادية لشاكر المغربي، وهي شخصية مأزومة كما سوف نرى فيما بعد، وثانيهما خط التعليق على الأحداث الجارية من قيام ثورة يوليو إلى الوحدة مع سوريا إلى نكسة 1967، إلى حرب 1973.. إلخ، فضلاء عن التحولات والأحداث التي تمت على امتداد ثلاثين عاما من عمر الثورة المصرية. وهذا الخط الثاني يلتزم فيه الكاتب عادة بالوقائع التاريخية على نحو ما نقرأ- مثلا- عن المؤتمر الذي عقده الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قبل حرب 1967، يقول شاكر المغربي (ص 72): "عقد عبد الناصر مؤتمرا قال فيه: لدينا أعظم قوة ضاربة في الشرق، وفي قدرتنا محاربة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل. أعجبني رده على سؤال: صحتي جيدة، ولست "خرعا" كزعيمكم... ".
    شاكر المغربي البطل المأزوم
    هذه هي الشخصية المحورية في الرواية، وهي في الواقع الشخصية التي ركز عليها الكاتب تركيزا شديدا، حتى غدت كل الشخصيات الأخرى مجرد استكمال للأبعاد الدلالية لهذه الشخصية المحورية نفسها. فعماد عبدالحميد، وحسونه النقراشي، وعبدالباقي خليل، ومنصور السخيلي، وكلهم من أصدقاء شاكر المغربي، ماهم إلا شخصيات تدور في فلك الشخصية المحورية، حيث ترد للمناقشة أو للتعليق على الأحداث أو لتوضيح بعد من أبعاد شخصية شاكر المغربي، لكنها لا تدخل في بؤرة الصراع، ومن ثم فإنها تعد شخصيات هامشية. وينطبق هذا الكلام نفسه على الشخصيات النسائية. ولهذا سوف ينصب تحليلنا بالأساس على شخصية شاكر المغربي.
    والحق أن محمد جبريل استطاع في هذه الرواية أن يبدع الشخصية المحورية التي تنطوي على الكثير من الأبعاد والدلالات، التي يمكن أن نوجز بعضها الآن في كلمات ثم نتوقف بعد ذلك عند عدد منها: فشاكر المغربي بطل مأزوم نفسيا وجنسيا، وهو شخص معزول ومحروم، وقد عانى من الفقر الشديد في بداية حياته ثم تحول إلى الثراء الفاحش، لكنه صعد ماليا ولم يصعد إنسانيا، وهذا بعد من أهم الأبعاد في شخصية شاكر المغربي لأنه ينطوي على مفارقة حادة، ثم إنه شخص منغمس في ذاته إلى أقصى حد، وفضلا عن ذلك فإن كل مواقفه تدل على السلبية واللامبالاة التي تميز بها قطاع عريض من المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة.
    وتعود أزمة شاكر المغربي النفسية إلى نشأته في محيط أسري قلق ومتوتر وصل بأبويه إلى نهاية مأساوية يصفها لنا في بداية الرواية على النحو التالي: "غاب الاثنان عن حياتي في ظهر لا أنساه. كان الجو شديد الحرارة، وأمي تعتب على أبي أشياء لم أتبينها. علا صوتها فعلا صوته، وانهال عليها بفتاحة كتب في يده، حتى هدأت، وهدأ". وبالطبع كان مصير الوالد السجن، فعاش شاكر المغربي طفولته وحيدا ومعزولأ ليس له من الأقارب إلا خالته، التي رأت أن تنقله ليقيم مع أسرتها، لكنه قرر أن يظل بمفرده في شقة والديه في الإسكندرية.
    ومن هذه اللحظة تبدأ حياة طفل يصارع أمواج الحياة العاتية بمفرده. ساعدته خالته ماليا حتى شب عن الطوق ثم قالت له: "لقد كبرت ياشاكر.. فحاول أن تعتمد على نفسك" (ص 7). فكان أول شيء فكر في بيعه هو مكتبة أبيه بعد أن كان قد قرأ معظم ما ضمته من كتب. ثم بدأت معرفته بصديقه عماد عبدالحميد الذي كان يأتي إليه من شقتهم في الطابق الأعلى بوجبة الغداء. وتمضي الحياة بشاكر المغربي حتى التحق بمعهد ليلي يطل على ميدان سانت كاترين، وفي الوقت نفسه أخذ يعمل في ثلاثة أماكن: مخازن البنداري في السكة الجديدة، المعلم سيد الزنكلوني تاجر المانيفاتورة، مركز الشباب بمدرسة ابراهيم الأول الثانوية (ص 12). وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه أ يكن شخصا خاملا، وأنه استطاع أن يتغلب على الكثير من الصعوبات والمعوقات حتى صار من كبار الأثرياء، لكنه بالرغم من كل ذلك ظل في أزمة نفسية أوصلته كذلك إلى أزمة جنسية جعلته يدمن الاستمناء. وهذا أيضا شيء مفارق ويتناقض مع شخصيته: ذلك لأنه لم يكن عاجزا عن إقامة أية علاقة مع المرأة، ونلحظ ذلك من سرعة تعرفه على سوزان النجار في المعهد الليلي، ثم علاقاته النسائية الكثيرة فيما بعد.
    النظر إلى أسفل وعنصر المفارقة
    في رأى أن هذا الجانب يعد من أكثر جوانب الرواية تعبيرا عما يريد الكاتب أن ينقله إلينا. فشاكر المغربي على الرغم من نشأته المعدمة يحلم بالثراء، ويجتهد من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وحين يتحقق له الثراء فعلا يظل ينظر إلى أسفل. وهذا النظر إلى أسفل (وهو عنوان الرواية) له مستويات متعددة منها المستوى الواقعي حيث تظل أفعاله وتصرفاته كما هي لم تتغير قيد أنملة: يندفع في الحوار والمناوشة مع زوجته نادية حمدي لأقل إثارة على النحو الذي كان يفعله أبوه مع أمه، يمارس عادته القبيحة "الاستمناء"، تظل علاقاته وصداقاته القديمة كما هي، على الرغم من أن تحولات الثروة تحدث في العادة تحولات في العلاقات البشرية، أما على المستوى الرمزي فإن شاكر المغربي يظل على عادته القديمة في النظر إلى قدمي المرأة وهي عادة تأصلت عنده لأسباب واقعية يذكرها على النحو التالي: "حرص أمي على نظافة قدمي. تطالبني- عقب كل مشوار- بضرورة غسلهما. أم جابر الغسالة، يلذ لها أن تداعب بطني وأنا نائم بقدمها. مدرسي في العطارين الإبتدائية كان يأمر التلاميذ أن يخلعوا أحذيتهم وجواربهم ويضعوا أقدامهم على الأدراج. وبقطعة خشب منتزعة من أرضية الحجرة ينهال على أقدامنا. يتعالى الصراخ والبكاء وعبارات الاسترحام. وكان شعوري يختلف تماما. الضرب على قدمي يؤلمني. مع ذلك يشوب الألم لذة، يرتجف لها جسدي وأحبسها" (ص 23). وعلى الرغم من هذا الأصل الواقعي هذه العادة إلا أنها ظلت تتنامى حتى أخذت في الرواية بعدا رمزيا له أيضا دلالاته النفسية المفارقة، كذلك فإن هذه اللذة التي كان يحس بها في طفولته عمد ضرب قدميه سوف تصبح واقعا نفسيا يعيشه باستمرار تجاه المرأة. من هنا تتلاقى الأبعاد الواقعية والرمزية والنفسية كي تشكل في النهاية مجموعة من الدلالات الغنية المليئة بالإيحاءات: فالنظر إلى أسفل هو رمز السقوط المتواصل، وهو رمز الإحباط النفسي على الرغم من النجاح المادي، وهذا الرمز يمكن أن ينتقل كذلك من الخاص إلى العام ليشكل رمزا لإحباط المسيرة بشكل عام منذ بداية الثورة في يوليه 1952 حتى الآن. ثم هناك في هذا الجانب ما يمكن أن نسميه بالأمثولة Alegoria وهو لجوء الكاتب إلى عنصر تمثيلي لإبراز فكرته: فالقدمان والنظر إليهما تمثيل واقعي لفكرة الهبوط أو النظر إلى أسفل بصورة مستمرة. والتوازي بين الشخصية والأحداث العامة يصنع أيضا توازيا على مستوى الدلالة: فلا يحدث للشخصية يتوازى مع ما يحدث في الحياة العامة. ومن ثم نقرأ في الرواية تعليقات محددة على أوضاع بعينها جرت خلال المرحلة التي تعلق عليها الرواية أولها امتدادات حالية. يقول شاكر المغربي عن طبيعة العمل في شركات القطاع العام: "شركة القطاع العام تتنازل عن عملياتها لشركات الأفراد، الهدايا والعمولات الشخصية تضاف إلى العمولات الرسمية التي تتقاضاها الشركة، متعهد الأنفار يأخذ الفارق دون عناء، واستخدام مقدم المقاولة في مشروعات أخرى، في مناطق غير التي تعاقدت على التنفيذ فيها" (ص 41).
    مواجهة.. أم هروب دموي؟
    وتصل درجة المفارقة إلى ذروتها في المشهد الأخير من الرواية وهو إقدام شاكر المغربي على قتل زوجته نادية حمدي في لحظة تشبه إلى حد كبير اللحظة التي قتل فيها أبوه أمه. وهي لحظة ذكرتني بمشاهد القتل المجانية التي نجدها في رواية "عائلة باسكوال دوارتي" للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (نوبل في الآداب 1989) حيث كان يبدو القتل في كثير من الأحيان وكأنه غير مبرر أو كأنه نوع من التحقق الموضوعي للأزمات النفسية والإحباطات على مستوى الواقع. وهذا ما أميل إليه أكثر خاصة في هذا المشهد الأخير بين شاكر المغربي ونادية حمدي: فالحوار بينهما الذي أنتهى بقتل الأخيرة لم يزد على كلمات ندت عنها بدت فيها تعيره بعجزه الجنسي (بسبب عاداته التي لم يكف عنها حتى بعد الزواج) وقلة أصله فما كان منه إلا أن تناول المسدس وأطلق عليها رصاصة ثم أغمض عينيه وتنهد مرتاحا، ثم كانت نهايته في السجن مثل نهاية والده. إن هذا المشهد يذكرني أيضا بالتراجيديا اليونانية التي يكون فيها الموت قتلا بمثابة قدر محتوم يمتد من الآباء إلى الأبناء. وأرى أننا لكي نفهم هذا المشهد جيدا لابد أن نعود إلى السطور الأولى في الرواية؟ لأنها تقدم لنا المبرر الصريح لما حدث. تقول: "وقف كلانا في نقطة الصفر، وطرح القرار نفسه: أن يغيب أحدنا من مواجهة صاحبه.. لم تكن نادية حمدي ممن يتنحون عن الطريق بسهولة. البراءة الظاهرة تضمر عنادا، بوسعك أن تتعرف إليه إذا حدقت في وحشية عينيها. كان الجنون نهاية أتوقعها، وأخشاها، إذا لم تصل الأمور إلى ما انتهت إليه. لم أكن بلا أصل- الصفة التي أطلقتها نادية حمدي- فحدث ما حدث".
    كان مقتل نادية حمدي إذن بسبب جملتين: جملة تعيره فيها بعجزه الجنسي، وجملة أخرى تعد. فيها بأصله. وكما هو واضح فإن الدلالات المبثوثة على امتداد الرواية تتركز وتتكثف في هذا المشهد وكلها تقوم على المفارقة الشديدة: فالمفروض أن شاكر المغربي الآن في حالة استقرار مادي يحسد عليه، الكن بداياته مازالت تطارده وأزماته النفسية والجنسية والحياة القاسية التي مرت به، كل هذه الأشياء تقف حجر عثرة أمام تحقيق سعادتها. إنه لم يصعد إلا في الجانب المادي فقط أما الجوانب الأخرى فقد ظلت على حالها بلى تحولت إلى أشباح تطارده وتقض مضجعه. وقد نجح محمد جبريل نجاحا كبيراً في تجسيد كل هذه الجوانب وقدم لنا نموذجا للشخصية المتأزمة المحبطة الناظرة دائما إلى أسفل على الرغم من مظهرها الخارجي الذي ينم عن العافية والثراء والفتوة. فهل يريد محمد جبريل أن يقول إن كل مظاهر الثراء غير العادي التي نشهدها الآن مجرد مظاهر خادعة لا تدل على تقدم ولا تصنع تقدما؟ ربما، فالرواية في الواقع تحتمل الكثير من القراءات والتأويلات.
    شخصيات ودلالات فنية
    وإذا كانت شخصية شاكر المغربي تمثل الشخصية المحورية- كما ذكرنا- فإن الشخصيات الأخرى بالرغم من هامشيتها تأخذ حيزا معقولا فنادية حمدي، على نحو ما رأينا، هي الشاهد الذي يذكره دائما بعجزه وتدنيه وإحباطه، وعماد عبدالحميد، وحسونة النقراشي، ومنصور السخيلي وآخرون يعيشون في عالمه، ويشاركونه أتراحه وأفراحه ويقدمون رؤاهم للأحداث المحيطة بهم جميعا. ولكني أرى أن شخصة عبدالباقي خليل هي أكثر هذه الشخصيات جميعا خصوصية وتميزاً فإذا كانت كل الشخصيات، بمن فيها شاكر المغربي، غارقة في همومها الخاصة، وبعضها، على نحو ما رأينا في الشخصية المحورية، يعاني من أمراض نفسية وجنسية، فإن عبدالباقي خليل هو الشخصية الوحيدة ذات الملامح الواضحة، التي تسعى إلى هدف واضح. فقد تعرف عليه شاكر المغربي في مسجد العطارين ووحد منه تشجيعا له على أداء الصلوات ومذاكرة آيات القرآن الكريم والأحاديث وتعاليم الدين. وهو- أي عبدالباقي- يرتدي جلابية بيضاء، ويغطي رأسه بطاقية، ويدس قدميه في بلغة. ويعجب بحسن البنا، والهضيبي، وعودة، وسيد سابق . . إلخ (ص 91). إنه نموذج للشخصية الأصولية التي عرفتها مصر والمنطقة العربية طوال العقدين الماضيين ومازالت أحلام أفرادهم وطموحاتهم تتجاوز الواقع الخاص وتنزع إلى إقامة الدولة الإسلامية على طول المناطق العربية والإسلامية. ويلاحظ كذلك أن هذه الشخصية، بالرغم من أهميتها، لا تدخل في حياة شاكر المغربي إلا بمقدار ما تكون توضيحا لجانب من جوانبه، وإلقاء للضوء على بعد من أبعاد شخصيته الغنية بالدلالات.
    جوانب تقنية
    إن محمد جبريل روائي متمرس، وهو يعلم أن الفن الروائي الآن لم يعد يعتمد على السرد الزمني المتلاحق للأحداث، بل يميل إلى ضرب من التعقيد والتشابك وتوظيف مجموعة من الوسائل التي تساعد في إبراز الحدث وتطويره بصورة تتواءم مع ما شهده هذا الفن من تطور منذ نهايات القرن التاسع عشر (في أوربا) حتى الآن. ومن ثم نجد محمد جبريل يلجأ إلى تقطيع الزمن وتفتيته ونقله نقلات سريعة. وليس أدل على ذلك مما ذكرناه من أنك لكي تفهم المشهد الأخير حق الفهم لابد أن تعود إلى قراءة الصفحة الأولى من الرواية. لقد لجأ الكاتب إلى بناء دائري، وربما زمن دائري للرواية، يبدأ من نقطة الذروة أو الخاتمة ثم يمضيى في خطين متعاكسين يعود كل منهما من جديد إلى النقطة الأولى.
    كذلك فإن الكاتب استخدم تقنية الاسترجاع بشكل موسع، ووضعها في غالب الأحيان، في خط أكبر من الخط (أو البنط) الذي كتبت به الرواية. وإن كان هذا الجانب الشكلي لم يضبط بالصورة المطلوبة ومن ثم حدث فيه بعض الخلل.
    ولعل أهم نجاح أصابه المؤلف في هذا الجانب هو أنه استطاع أن يحافظ على هذا الخط الشكلي في تقطيع الزمن ونقله نقلات سريعة والعودة مرة أخرى إلى الوراء على الرغم من أن الرواية تمضي أيضا في خط تاريخي، يبدأ- كما أسلفنا- من ثورة 23 يوليو وينتهي بموت الرئيس السادات. فهذا الخط التاريخي ربما كان يفرض على المؤلف أن يلتزم تسلسلا زمنيا صاعدا يبدأ من نقطة معينة وينتهي عند نقطة معينة، لكنه، والحق يقال، استطاع أن يتغلب على هذه المشكلة، وقدم رواية تتحدد نقاط السرد فيها بحدود وظيفية تتجاوز أهداف السرد التقليدي للأحداث.
    وفي النهاية ينبغي أن نتوقف وقفة قصيرة عند لغة محمد جبريل التي لا تختلف كثيرا عما ألفناه في رواياته السابقة: فهي لغة موجزة، مكثفة، تحاول أن تصل إلى المعنى من أقرب الطرق، تتجنب التفاصيل والهوامش المخلة، توحي بأكثر مما تعين. وكان من نتيجة ذلك أننا لم نعثر على مشهد جنسي واحد يمكن أن يوصف بالإثارة أو المباشرة على الرغم من كثرة المشاهد الجنسية في الرواية. وكما أسلفنا فإن البطل مأزوم جنسيا، وربما يكون الجنس هو الدافع الأول في قتله لزوجته، لكن محمد جبريل عرف كيف يجعلنا نلمس الأثر ولا نلمس المؤثر. إنه يضع أيدينا بلغة مرهفة إيحائية على الآثار التي أحدثتها الأزمة الجنسية في شخصية البطل حتى جعلته ينظر إلى أسفل بصورة مستمرة. وربما يكون هذا الجانب أيضا من أهم الجوانب في عدم استمتاعه بحياته الثرية المترفة.
    إن شخصية شاكر المغربي غنية بالإيحاءات والدلالات، وهي وإن كانت تعد تعبيراً عن أزمة خاصة فإنها كذلك تعبر عن الأزمة العامة التي تترصد المجتمع كله. ونحن نعتقد أن الكاتب مطالب الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأن يتتبع مسار هذه الشخصية في حقبة الثمانينيات وحتى الآن، ومن المؤكد أنه سوف يقف عند أبعاد ودلالات أخرى كثيرة.


  12. #12
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    مع الروائي محمد جبريل

    حاورته: الحرس الوطني
    ......................


    روائي مسكون بعشق الموروث الشعبي.. يحمل في عمق الوجدان ذكريات: الاحتفالات الدينية، الأراجواز، الأراجيح، النشان، صندوق الدنيا..
    تعددت أعمال الروائى محمد جبريل فله أكثر من اثنتى عشرة رواية، منها: الأسوار، إمام آخر الزمان، اعترافات سيد القرية، زهرة الصباح، من أوراق أبي الطيب المتنبي، رباعيات بحري..
    وله أكثر من خمس مجموعات قصصية منها: تلك اللحظة، حكايات وهوامش من حياة المبتلى، سوق العيد.
    وله سبع دراسات أدبية، منها: نجيب محفوظ صداقة جيلين، السحار رحلة إلى السيرة النبوية، مصر في قصص كتابها المعاصرين (الفائز بجائزة الدولة).
    نغوص في أعماق المبدع الكبير محمد جبريل في حوارٍ متنوع المحاور، متعدد المرامي، نستكشفه عن قرب، نطالع فكره، ونقرأ مشاعره، ونلامس تجاربه.. في حوار خاص جداً لمجلة خاصة جداً.. مجلة الحرس الوطني
    @ فِعْلُ الكتابة.. ماذا يعني للروائي محمد جبريل حين يهمُّ بكتابة أعماله الروائية أو القصصية.. وكذلك في تصوير الشخصيات والأبطال؟
    @ فِعْلُ الكتابة اكتشاف..لا أتصور أن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماماً صورتها النهائية.. القصة تكتسب ملامحها أثناء ولادتها.. أحيناً أبدأ في تصوير الشخصية ولها في مخيلتي ملامح بذاتها.. ثم تذوي هذه الملامح ـ أثناء عملية الكتابة ـ لتحل بدلاً منها ملامح أخرى.. القصة تكتب نفسها.. أذكرلك أنني قد بدأت روايتي "من أوراق أبي الطيب المتنبي" باعتبارها قصة قصيرة.. لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسع من "بانورامية" الصورة.. فتضاعفت الصفحات القليلة إلى مايزيد على المائة والخمسين صفحة..
    وعموماً فأنا أكتفي برسم الملامح التي تهب الشخصية.. بلا ثرثرة.. ولا زيادات مقحمة.. أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية..وليس لمجرد تصوير الشخصية في ذاتها..وأحياناً وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية أو النفسية.. أو يصبح رمزاً.. أو معادلاً لما يمور به داخل من الشخصية انفعالات.
    @ قلت عن الصحافة: إنها تقتل موهبة الأديب إذا نسى نفسه وارتمى في أمواجها.
    لماذا ـ إذن ـ كان اختيارك للعمل الصحفي؟
    @ لأنه الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته.. وهمومه أيضاً.. وقد وجدت في حياتي الصحفية ـ أحياناًـ مايغري بكتابة عمل أدبي.. أقدمت على العمل الصحفي وفي خاطري مقولة "أرنست هيمنجواى":"إن العمل الصحفي لن يؤذي الكاتب إذا استطاع أن يتخلص منه في الوقت المناسب". .. لقد عاهدت نفسي مثلما فعل "كالدويل" على أن أي عمل أشتغل به غير الكتابة، سوف يكون مؤقتاً.. لا لشيء إلاَّ من أجل الاستمرار في العيش.. والاحتفاظ بسقف فوق رأسى.. وبكساء فوق جسدي!!
    @ في مؤلفك "آباء الستينيات" تقول إنك حظيت بشرف البنوة والصداقة لجيل الأربعينيات، أما جيل الخمسينيات فلم يتح لك أن تكتسب صداقة كل أفراده.. مزيداً من إلقاء الضوء حول هذه المعادلة التي قد تبدو غريبة بعض الشيء؟
    @ نعم.. أنا أدين بالفضل لجيل الأربعينيات.. بالرغم من أني أنتمى لجيل الستينيات لأن الجيل الذي سبقني.. جيل الخمسينيات.. جيل يوسف إدريس وعبداللَّه الطوخى وصالح مرسي وصبري موسى وفتحي غانم وغيرهم.. كانوا جيلاً مشغولاً بأنفسهم.. ولهم العذر.. كانوا يريدون أن يحققوا ذواتهم في ظل شخصية خطيرة اسمها يوسف إدريس.. كانوا يبغون مكاناً إلى جواره.. هذا الجيل لم يتح لي أن أكتسب صداقات كل أبنائه.. وإن نشأت بيني وبين غالبيتهم صداقات أعتز بها.. قد يكون السبب انشغال من استعصت صداقاتهم بتأكيد الذات.. برفع أيديهم إلى أعلى.. ليأخذ بها من هم فوق.. لا يخفضونها إلى أسفل ليساعدوا من يعانون خفوت الصوت..إنما جيل الأربعينيات كان جيلاً مستقراً.. حققوا ذواتهم.. فلم يعد من المرهق عندهم أن يمدوا أيديهم لي ولغيري.. وهذا الذي وجدته من "السحار" و"نجيب محفوظ" و"عبدالحليم عبدالله" و"علي أحمد باكثير" و"إبراهيم المصري" و"المازني" وغيرهم.. أنا أعتبرهم ـ فعلاً ـ آبائي الحقيقيين.. كانو يشعروننا بأهميتنا.. يقرأون أعمالنا ويقيمونها.. أحاول الآن أن أقوم بهذا الدور استمراراً للدور الذي قاموا به نحوي.. الحقيقة أنهم كانوا جيلاً يحمل كل خصائص الأبوة.
    @ أكدت بعض الدراسات السيكولوجية حول بعض الأدباء أمثال "الفريد دوفيني" أنه كان انطوائياً، ولقد كتب عن نفسه يقول: "إنني في حديث مع نفسي لا ينقطع".. هل ترى أن المبدع لابد أن يكون انطوائياً كي يبدع؟
    @ باختصار أقول لك إن الطفولة تركت بصماتها على سلوكياتي فيما بعد.. كميلى الشديد إلى الجلوس في البيت..ففي طفولتي اعتدتُ أن أظل فيه ولا أبرحه إلاَّ حينما أذهب إلى المدرسة.. فلم أمارس طفولتي.. هل تتصور أنني اسكندري ولم أنزل البحرـ مع أني كتبتُ عنه ؟ كل الذي فعلته أنني خضت في المياه حتى ركبتيَّ ولكنني لم أعم!!..
    أذكر أنني قدت السيارة قبل أن أقود الدراجة!!.. كانت الدراجة هي الكتاب.. وبحري هو الكتابة.. لذلك فأنا لا ألتقي بالآخرين إلاَّ لضرورة.. ولا أتردد على المقاهي وأماكن التجمعات بما يُعجل بنفاد مخزون التجارب التي تصلح كياناً لأعمالي.. وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً.. ومع تأكيدى على أهمية التجربة.. فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل "فلوبير" حين أراد التعبير عن انتحار "مدام بوفارى".. ليرى مدى تأثير الزرنيخ في النفس والجسد!!
    @ جائزة نوبل في الأدب هي الباب الملكي لتخطي المحلية والعبور نحو آفاق العالمية.. ما تعليق الروائي محمد جبريل؟
    @ أولاً أنا لستُ ضد جائزة نوبل.. وإن جاءتني فلن أرفضها.. وهي بالطبع لن تأتيني!! ثم أنا ضد أن أعتبر الجوائز غاية المراد من ربّ العِباد.. هناك أدباء عظام لم يفوزوا بجائزة نوبل.."جراهام جرين" مات ولم يأخذها ولم يقلل هذا من قدرته.. "ألبرتو مورافيا" وغيرهما.. جائزة نوبل لا أعتبرها الصنم أو حائط المبكى.. لا أقلل من قيمتها ولكنها في النهاية جائزة غربية نالها من اليهود سبعة على الأقل.. وكان منهم يهودي يكتب أدبه بلغةٍ يقرأها ألفا شخص!! بمن فيهم من أطفالٍ وشيوخ.. وعلى افتراض أنه ليس من بينهم أمي واحد!! أنت بالقطع تدرى أن هذه الجائزة لا تخلو من أمور سياسية.. فعندما يأخذها "مناحم بيجن" في السلام.. يكون هذا بالفعل قمة المأساة !! هناك الآلاف ممَّن يدفعون أرواحهم دفاعاً عن السلام ولا أحد يسأل عنهم.. دعني أقول.. إن الأديب الجيد هو أديب جيد في كل الأحوال.
    @ ظهرت على الساحة الأدبية بعض القصص والروايات الغارقة في الغموض والرمزية المكثفة.. هل هذه الأساليب تشكل جدوى في تقدم الرواية أو القصص؟ أم ذلك من الأمور التي تدعو لها حركة الحداثة؟
    @ دعني أختصر لك المسألة بدلاً من أن نخوض في تيارات ودوامات وأقول إنه يكفيني في العمل الفني أن أشعر أن كاتبه يحمل الصدق.. الصدق الفني.. أُحس أن هذا العمل هو عمل فني بالفعل.. (الفن إضمار).. هذه ليست مقولة من ابتكارى.. والعمل الفني لابد أن يكون به نوع من الإضمار والغموض.. التراث القصصى الروائي مضى عليه بالنسبة لأوربا ثلاثة قرون.. ومضى عليه بالنسبة لنا ما يقرب من القرن.. أصبح لدينا تراثاً ضخماً.. لم يعد هناك "المنفلوطي" الذي يعطي الهدف من القصة في النهاية.. كانت القصة عند "موباسان" على سبيل المثال، قصة ذات نهاية واضحة ومحددة.. تلك التي أسماها الدكتور "رشاد رشدي" لحظة التنوير.. بمعنى لحظة إعطاء الدلالة الواضحة: البداية والذروة ولحظة التنوير.. حتى جاء "تشيكوف" هذا العبقري فترك النهاية مفتوحة.. أي أن القصة يمكن أن تحتمل عشرات الدلالات.. أمَّا من يتعمدون الغموض فهو يرحع ـ بالتأكيد ـ إلى عجزٍ صارخ في مواهبهم الإبداعية.
    @ القدس تمثل دفقة وجدانية خاصة لدى كل إنسان عربي، الآن تتضح خيوط المؤامرة.. تعنت إسرائيلي لاحتلال المدينة المقدسة وحفظ تهويدها وتغيير معالمها.. هذا الموقف الحزين يخلق عدة تساؤلات.. الأدب العربي أين هو من هذا الواقع البشع؟
    @ القدس لم تعد عربية!!.. المسجد الأقصى مُحاصر بمنازل ومستوطنات ومستعمرات ولا أحد يسكن فيها.. لأنها مستعمرات فاقت أعداد اليهود.. الآن المواطن الفلسطيني الذي يقيم في القدس ليس مواطناً.. وإنما هو مجرَّد مُقيم يأخذ إذن إقامة.. وإذا خرج من القدس لمدة ستة أشهر مثلاً يحتاج إلى تجديد في إذن الإقامة.. مازال اليهود سائرين في مخططاتهم.. ونحن لا نملك حتى رد الفعل.. لا سبيل أمامنا سوى أن نفيق.. بيننا وبين اليهود معركة تحدٍ حضارية.. هؤلاء الناس يلعبون معنا لعبة الزمن.. كلما تتفاقم الأمور يقولون تعالوا ندخل في مفاوضات.. وعندما تهدأ الأمور يعودون ليفعلوا ما يشاءون وهكذا.. لو عدنا لعام 1948 تأمل ماذا أخذنا؟ وماذا هم أخذوا؟.. أنا لا أنادى بحرب.. إنما أنا أنادى بأنه لا بد أن نتقدم مدنياً وحضارياً.. انظر لليابان عندما تقدمت مدنياً وحضارياً أصبحت تأخذ ماتشاء.. الآن هي مطلوبة أن تدخل مجلس الأمن كعضوٍ دائم.. نحن كعرب نملك مقومات التقدم لو أننا أدركنا ذلك.. الشعب العربي يمتلك مقومات يستطيع بها أن يُغيِّر مسار جغرافية المنطقة تماماً.. انظر ماذا فعل "صدام حسين" عندما أعطاه اللَّه بعض القوة.. بدلاً من أن يهاجم إسرائيل.. هاجم الكويت الشقيق!! سذاجات.. نحن لسنا قطع شطرنج.. لابد أن يكون لنا إرادة.. العالم اليوم لايعترف إلاَّ بمنطق القوي.. ومنطق الفعل.. أمَّا منطق ردود الأفعال الساذجة هذه.. فيجب أن تنتهي.
    @ بماذا يرى الروائي محمد جبريل واقع القصة والرواية في مصر والعالم العربي!؟
    @ بالتأكيد هو واقع متفوق.. توجد كثرة سيئة.. ولكن يوجد في المقابل كثرة جيدة.. كعادة الأمور دائماً.. لكن نحن بالقياس إلى الآداب العالمية أؤكد أننا قفزنا قفزات رائعة.. على الرغم من مصادرة الآخر لنا ـ أمريكا وأوربا ـ فهم لا يزالوا يتعاملون معنا كأننا تراث.. أو كأننا استشراق!!
    @ هل يقترن إبداعكم بنوع من الطقوسية؟ أم يقترن بنوعٍ من السلوكيات التي تنشأ بفعل العادة والممارسة؟
    @ أنا ليس لديّ طقوس على الإطلاق.. الصحافة علمتني أن أكتب في أي وقت وأكتب في أي مناخ فلا موسيقى هادئة ولا جو وردي.. باختصار شديد أنا غالباً في بيتي.. أخرج أياماً قليلة جداً.. وأنا شديد التنظيم فأوقاتي موزعة ما بين القراءة والكتابة. حاولت أن تكون لي عادات مصاحبة للكتابة مثل احتساء القهوة والتحكم في مساحات الضوء فلم أوفق.. تكفينى المعادلة السهلة: فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم.. لايشغلني بعد ذلك أي شيء.
    ................................................
    * مجلة "الحرس الوطني" العدد (221) ـ في 1/11/2000م.
    *الرابط: http://www.ngm.gov.sa/Detail.asp?InNewsItemID=10834


  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    هذه اللحظات العادية

    بقلم: محمد جبريل
    ......................


    إذا كانت القصة القصيرة الجيدة -فى تقدير يحيى حقى- هى ذات البداية المحذوفة، فإن القصة القصيرة -فى تقدير تشيكوف- هى التى تحذف منها البداية والنهاية، فلا يبقى إلا الوسط، الذى ينبغى تركه باعتباره قصة قصيرة..
    ولعل السمة الأهم فى هذه المجموعة القصصية -الثالثة- لوائل وجدى، هى الإيجاز والتكثيف، فصفحاتها تتراوح بين أقل من صفحة إلى ثلاث صفحات، وتبين عن العديد من الملامح والقسمات التى تشكل -فى مجموعها- عاملاً إبداعياً يشغله التخلّق فى صورته الصحيحة. الفنان يلتقط اللحظة العادية جداً، البسيطة جداً، يعبرها القارئ فلا تستوقفه. هى لحظات من حياتنا اليومية، لكنه يجيد التقاطها، فتصبح فى قلمه كالمقتطع فى ريشة الفنان التشكيلى، أو الزوم فى عدسة المصور الفوتوغرافى، يهب لنا كل ما تشتمل عليه من ملامح وتفصيلات دقيقة، فتسرى فيها حياة جديدة، متجددة.
    صورة نراها، فنعبرها، لا تستوقفنا، ولا تثير فينا التأمل، لكنها تختلف -فى تناول الفنان- عن تلك الصورة التى اعتدناها فى حياتنا العادية. إنها ليست مجرد لحظة استاتيكية، لحظة متكررة، لكنها تختلف -من خلال التناول- عن بقية اللحظات فى حياة ضخصياتها، وفى حياتنا بعامة.
    ***
    لعلى أوافق جوته على أن كل كاتب يصور بعضاً من سيرته الذاتية فى أعماله، حتى ولو لم يكن يقصد ذلك. وغالبية قصـص هـذه المجموعـة تبدو كأنها تجربة شخصية للفنان -وربما لا تكون كذلك- فهى تتناول تلك المرحلة من العمر التى تتحدد فيها النظرة إلى الأمور بين الطموح والتطلع والتجاوز، ثم يفرض الإحباط نفسه عندما يبين الواقع عن ملامحه القاسية. الظروف المادية والاجتماعية التى تئد ما تحمله النفس من آمال. عناء الوظيفة يبين عن نفسه فى بحث المحامى عن المحكمة التأديبية، ليفاجأ بعد دخوله أن موعد قضيته فى "الرول" المسائى. ويتجول المحامى/ الراوى حول المكان، ويمتد الوقت دون أن يحل موعد نظر القضية..
    ولعلنا ننسب إلى حياة الوظيفة قصة "الدوائر المستحيلة".. الدوامات المتلاحقة، المتمثلة فى طلبات الزوجة والأولاد وأعباء الحياة، وقيود الوظيفة، دوائر مستحيلة لا تنتهى.
    وثمة مشكلة البطالة التى تتناولها قصة "بصيص" من خلال معاناة شاب حديث التخرج، أعد مسوغات تعيينه، وحشر جسده فى زحام ركاب الأتوبيس، حتى وصل إلى موقع الشركة التى طلبت موظفين. وراعه مئات الشباب يقفون أمام الباب، وعلى السلم. ثم فاجأه قول الرجل: أخذنا طلبات كثيرة، تزيد على الثلاثمائة، سنختار منها أربعة فقط !.. وبعفوية أخرج مسوغات التعيين من الحقيبة ومزقها. ورغم النهاية الاحتجاجية للقصة، فإنه مما يحسب للكاتب أنه اكتفى بتصوير الفعل دون أن يقرنه بتعليق، أو بفرض صوت الكاتب.
    ***
    وإذا كان الانشغال بقضايانا السياسية ملمح واضح فى إبداعات الشباب، فإن وائل وجدى يعبر عن هذا الانشغال فى مجموعته. قصة "تباشير" التى يهديها الفنان إلى الانتفاضة الفلسطينية، تبين عن وعى سياسى، يبشر بصرخة الوليد فى لحظة الشهادة، وأصابعه قابضة على الجمر، فالانتفاضة هى الرد على العدوان، والأمل، وصياغة المستقبل. والانتفاضة هى محور قصة "طفل". الطفل الذى ظل يضرب جنود الصهاينة بالحجارة، فلا يهدأ إلا بعد أن يسكن جسده بتأثير رصاصة قاتلة. الرصاصة مقابلاً لقطعة الحجر. وقصة "فداء" عن الفتاة الصغيرة التى أرادت أن تنتقم لاستشهاد أعزائها، فتعلمت فنون القتال حتى أتقنتها، ثم أقدمت على عملية انتحارية صدمت فيها بسيارة محملة بالمتفجرات سيارة عسكرية للعدو، وتناثرت أشلاء الجسد الصغير على أرض الوطن إعلاناً للثأر، وللشهادة.
    والحق أن الوعى بالقضية الفلسطينية، بالصراع العربى الصهيونى، سمة تلف الكثير من إبداعات الشباب. وهى ظاهرة لافتة ومهمة، فالإبداع -فى المحصلة النهائية- تعبير عن بشر ومجتمع وقضية، ليس الإبداع تجديفاً فى المطلق، لكنه يلتحم ببيئته بصدق، بالقضايا التى تحاصره ويعانيها، ويعبر عن ذلك بالصدق نفسه، شريطة أن يدرك الفنان مقومات الإبداع الفنى إطلاقاً، وأن تكون الهموم التى يتناولها -على نحو أو آخر- هى هموم الإنسان فى كل مكان. وكما يقول تشومسكى فإن الأدب سيظل قادراً إلى النهاية على تقديم معطيات تهبنا -بعمق- ما نسميه الشخصية الإنسانية بكل تناقضاتها، ربما بصورة أفضل مما يسمح العلم المجرد بتقديمه..
    ***
    الحلم بالمجاوزة، والتخلص من قسوة الواقع، وملامسة الدفء الإنسانى، أبعاد واضحة فى العديد من قصص المجموعة..
    قصة "انفجار" تذكرنا بقصة نجيب محفوظ "المسطول والقنبلة" -الأمر نفسه طالعنا فى قصة لكاتب آخر سبق لى تقديمها فى هذه السلسلة-. الراوى الذى يستغرقه الإحساس بأنه قد ثأر لكرامته ممن يحاول أذيته. ثم يكتشف -عند الصحو- أن ما عاشه لم يكن سوى حلم، هو الحلم نفسه -وإن اختلفت الظروف- مع رجل نجيب محفوظ الذى فوجئ بأن الشرطة بدّلت معاملتها له. ثم افاق على صفعة تنبه بها إلى أن الأمر لم يكن سوى حلم يقظة، أو لحظات استغراق فى غيبوبة المخدرات..
    أما قصة "الهدية" فتنبض بلحظات إنسانية، تبين فيها المشاعر عن الود والحميمية.
    وأما "النجم المسافر" فهى مرثية سردية للشاعر عبد الله السيد شرف الذى كان وائل وجدى من أخلص تلاميذه وأصدقائه.. وهو ما ينبض به كذلك ما كتبه الفنان باسم "رحيل"..
    ونحن نتعرف فى قصة "دبيب الروح مرة أخرى" إلى معاناة من نوع آخر: رحلة الأديب الشاب بين وسائل النشر المختلفة، بحثاً عن كوة ينفذ منها إبداعه. وحين يحاصره اليأس يطبع ما كتب على نفقته، ويجد العزاء فى تصرف طفولى، لكنه يدين المأساة التى تحياها أجيال المبدعين الشباب، وربما الكبار أيضاً، فهى أزمة يعانى تأثيراتها الجميع..
    وقصة "لقاء" تدين بعض الكبار فى حياتنا الثقافية حين يكتفون بإبداء النصيحة دون أن يعنوا بالقراءة. يتحدثون عن خصائص فن القصة، وصعوبة كتابتها، دون أن تشى آراؤهم أنها صدرت عن قراءة متأملة، بل إن الأديب الكبير يقرر فى بساطة: لم أستطع أن أقرأ أعمالك القصصية !..
    ***
    والحنين سمة واضحة فى العديد من قصص المجموعة، حنين إلى الزمان والمكان والطفولة ومواطن النشأة..
    الطفولة فى "رائحة الأيام" استرجاعية، بمعنى أنها تعتمد على الحنين والتذكر. ترفض الظلال والمناطق الداكنة، وتحرص على ألوان الطيف. فى لحظات مكثفة كضربات الفرشاة، يصور الفنان الحنين إلى الموطن والطفولة والنشأة. يبحث عن الأمس، عن الزمان الذى مهما كان مراً -على حد تعبير يحيى حقى- فهو حلو. الخضرة المفروشة فى امتداد الأفق، والترعة، وجنى القطن، ولعب السيجا، والكوخ الصغير، والكوبرى الخشبى الواصل بين المركز والقرية.. ذلك كله تغيّر، أو تغيّر الإحساس به، غابت عنه بكارة -أو طزاجة- الزمن الجميل. ولعلنى أجد نهاية القصة فى قول الراوى:"أحرك رأسى يمنة ويسرة، لعلى أجد المفقود". السطر التالية زيادة لا مبرر لها..
    وفى قصة "تحد" نتعرف إلى لاعب الكرة الذى يحن إلى اللعبة التى أجادها، وحقق فيها مكانته. فلما أصيب فى ساقيه اكتفى بالجلوس على الكرسى المتحرك، واستعادة الذكريات..
    ويعلو إيقاع الحنين فى وقفة الراوى أمام مدرسته الابتدائية: البوابة الخضراء، والفناء الذى امتلأ بالبنايات الخرسانية، والنخلة السامقة، والبواب ذى البسمة الودود (قصة: ساعات).
    أما قصة "النجم المسافر"، فيهديها الكاتب إلى روح الشاعر الراحل عبد الله السيد شرف. تحكى عن مراسلات الأيام الأخيرة بينه وبين عبد الله شرف. كان ينتظر آخر قصائده، لكن الجريدة طالعته بنبأ رحيله، وعاد من سرادق العزاء إلى بيته ليجد الرسالة التى ينتظرها وبها القصيدة. ولعل الكلمات المسماة "رحيل" تتمة رثائية لذلك الحدث، فهى أقرب إلى الرثاء السردى للشاعر الذى رحل..
    ***
    أما الجزء الثالث من قصص هذه المجموعة، فهو ومضات فلاشية، أو تبقيعات نثرية، كما فى لوحات الفن التشكيلى، أو مد الموج، كما اخترت التسمية عنواناً لرواية لى..
    ثمة -على سبيل المثال- لحظات الطفولة. لا يحول المدى دون رؤية العصافير فوق الجميزة الهائلة، لا ينشغل الولد بالطين الذى يغرق ثيابه فى نزوله إلى الترعة بحثاً عن السمكة. وثمة لحظات الخطر التى تتخلق فيها اللحظات الإيمانية التى تحمل الخلاص لكل ما قد يواجهه المرء من أخطار. بضعة أسطر تومئ، وتثير التأمل. ربما يكتفى القارئ بالدفقة الشعورية التى لا تهب معنى محدداً، وربما أجهده البحث عن دلالة، مع ملاحظة أن البحث عن تفسير للعمل الإبداعى يختلف عن البحث عن دلالة. الفن إضمار، لكنه أبعد ما يكون عن المعادلات التى تطلب تفسيراً رياضياً يغيب فى أفقه إضمار الفن، ودلالاته بالتالى..
    ***
    اللافت أن الفنان قد أفاد فى قصصه من الوسائط الأدبية المختلفة، مثل التداعى والاسترجاع والتقطيع والكولاج والمونولوج إلخ..
    قصة "رؤى" تثير قضية الفرق بين الإضمار الذى ينبغى أن يكون سمة للفن وبين الغموض الذى ربما حوّل العمل الفنى إلى لغز، معادلة تطلب الحل: ما يفكر فيها الرجل، تعمر بها البلد. وهو يسأل زوجه: ألم تشاهدينها ؟.. تجيب بالسؤال: أمازلت تذكرها ؟.. ويصحو من نوم القيلولة على جلبة، ويطل من خصاص النافذة. يرى الناس يشاهدونها، والجنود يمنعونهم من الاقتراب منها. وينهى الفنان قصته فى الصبح حين يمد الرجل رأسه، يرقبها -ما هى ؟!- فيراها تتسع وتتسع. وأكرر السؤال: ما هى؟.. وأكرر طرح قضية الإضمار فى العمل الفنى. إن المواربة هى الفن. ينبغى ألا يتسلم القارئ بضاعته جاهزة تماماً، إنما عليه أن يشارك فى تصور ماذا ستكون عليه النهاية. كذلك فإنه لابد من هامش يفصل بين الحقيقة والرمز. الوضوح الحاسم يسم العمل الفنى بالتقريرية والمباشرة. الفن ليس هو الواقع، لكنه الإيهام بالواقع. إذا وضع الفنان قارئه فى اعتباره مطلقاً، واجتهد فى التفسير والشرح، فهو يلغى ذكاءه. قيل إن الرمز هو "كل ما يحل محل شئ آخر فى الدلالة عليه، لا بطريق المطابقة التامة، وإنمابالإيحاء، أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها". والرمز يستمد قيمته أو معناه من الناس الذين يستخدمونه، أى أن المجتمع هو الذى يضفى على الرمز معناه. بل إن الرمز يختلف عن التجريد فى أنه يحتفظ للإنسان بإنسانيته. يظل جسداً من لحم ودم وأعصاب، فضلاً عما يمور داخل ذلك الجسد من مشاعر متباينة وذكريات وتطلعات وأمانى وأحلام، وإن كان من البدهى ألا نذهب بعيداً فى الرمز. فالرمز -كما يقول كاتب ياسين بحق- سريع العطب، ويجب ألا نجعله حقيقة نهائية مطلقة، لأنه عند ذلك ينتفى وجود الرمز..
    وكنت أرجو أن يحذف وائل وجدى السطر الأخير فى قصته "تحد" فهو أقرب إلى سيناريو فيلم عربى تغلف بالميلودرامية. أذكرك بما نقلته عن حقى وتشيكوف فى بداية هذه الكلمات. التراث القصصى العربى -والعالمى- يفرض على الكاتب أن يحترم ذكاء المتلقى، فلا يضيف من عندياته ما يتصور أنه يضع نهاية -مطلوبة- للعمل الإبداعى.
    ومن الواضح أن وائل وجدى يعى خصائص القصة القصيرة جيداً. غنها تقدم مشهداً، أو موقفاً إنسانياً، ينقل من خلاله فكرة أو عاطفة مكثفة، تحتل حيزاً ضيقاً، وتستغرق فترة زمنية محدودة. وإذا كان من المطلوب للروائى أن يحذف الحشو والاستطراد والإطناب، فإنه يجب على كاتب القصة أن يفعل ذلك. القصة الجيدة هى التى إذا حذفت كلمة منها، فإن موضعها فى الجملة يظل شاغراً أمام المتلقى، فضلاً عن أنه من التخلف المطلق -والكلام لبريخت- "أن يزعم احد أنه ليس هناك أهمية للشكل، أو لتطور الشكل فى مجال الفن. فبغير إدخال تجديدات شكلية لا يمكن للأدب أن يقدم موضوعات جديدة، أو وجهة نظر جديدة إلى الفئات الجديدة من الجمهور. لكن الإسراف فى الاجتهاد ربما يعطى نتائج مغايرة. وقد أسرف الفنان -أحياناً- فى صياغة عباراته الحوارية، فتكلف، وتبدت الصنعة بما لا يحتمله حوار فنى. كما وضع الكاتب على ألسنة الشخصيات -أحياناً- ما لا يتصور أنه يصدر عنها، فى مرحلتها السنية، أو فى مستواها الثقافى أو الاجتماعى. إن الحوار المحمل بالصدق الفنى هو الذى يتكلم بالأصوات الداخلية للشخصيات، وليس بصوت الفنان. وهو -فى كل الأحوال صوت واحد، يعبّر عن ثقافة محددة، ومزاج نفسى خاص. وإذا كان السرد هو التعبير عن الراوى العليم، أو الراوى الشخصية، فإن الحوار هو التعبير عن اختلاف بيئات الشخصيات وثقافتها ونزعاتها..
    حين نهتم بالكتابة، فلابد من وجود شئ ما نكتبه، فضلاً عن ضرورة أن نمتلك حصيلة لغوية تعيننا على التعبير. وكما يقول ميشيل بوتور فإن "الذى يحسن فن الكتابة هو من يحسن استخدام لغته، فيعطى للكلمات قيمتها الحقيقة، وهو الذى يمتلك ناصية اللغة، فيحيى بأفكاره كل كلمة من كلماته، وكل مجموعة من عباراته" (ت:فريد أنطونيوس). وعلى الرغم من المحاولة المخلصة للفنان فى أن يهب قصصه عفوية فى السرد، فإن تلك العفوية تصطدم -فى بعض المواقف- بما يشبه عازلاً غير مرئى، يفصل بينها وبين التلقى والاستجابة وتوقد الحميمية، ربما لأن الفنان يعى مقولته جيداً، يعى البداية والنهاية والتكنيك والألوان والظلال والإيماءات والمعانى. بدا -أحياناً- كمن يقبض على عنق قصته، لا يتيح له أن تغنى بصوتها. وكلما كان العمل الفنى صوت نفسه، انبثاقاً من داخله وليس وليداً قسرياً بيد كاتبه، كان أقرب إلى العفوية، والوصول -بالعفوية نفسها- إلى وجدان المتلقى. أظلم وائل وجدى لو قلت إن هذه الملاحظة تشمل قصص المجموعة، لكنها تطالعنا فى العديد من الفقرات. ولعلى أصارحك بأنى أفضل أن تبين القصة عن ذاتها فى أثناء عملية الكتابة، تتشكل ملامحها وقسماتها، وآراء شخصياتها، وموقفهم من الحياة. أما الشكل فهو يصدر عن التجربة نفسها. وكما يقول مادوكس، فإن الشكل لا يجسد التجربة، ويضفى عليها الطابع الموضوعى فحسب، بل يقوم أيضاً بوظيفة أخرى أكثر أهمية، وهى وظيفة تقييم التجربة التى يعرض لها الكاتب تقييماً صحيحاً، وإسباغ مستويات من المعنى عليها (ت:لطيفة الزيات). ومن هنا يأتى معنى القول إن المضمون والشكل أشبه بالخيط والإبرة!
    ***
    هذه الملاحظات القليلة لا تقلل من تقديرى لهذه المجموعة. وفى الوقت نفسه، فإنه إذا كان الفهم والتفهم ومحاولة التجاوز سهلاً فى البداية، فإن "التقويم" -فى مراحل تالية- قد يكرر مأساة الشجرة التى حاول صاحبها أن يقومها، بعد ان فقدت ليونة التنشئة، ورسخت جذورها.


  14. #14
    المؤسس الصورة الرمزية عامر العظم
    تاريخ التسجيل
    25/09/2006
    المشاركات
    7,844
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي

    الأخ الشاعر الدكتور حسين علي أحمد،
    تحية عربية طيبة وبعد،
    أرحب بك في جمعيتك العزيزة وأشكرك على تعريف أعضاء الجمعية بالروائي الكبير محمد جبريل الذي يستحق التكريم.
    أكون شاكرا لك إن تفضلت بإرسال بريده الإلكتروني وصورته إن أمكن إلى البريد التالي:
    watagroup@yahoo.com

    ونرحب بأية ترشيحات من قبلك بالسرعة القصوى وأهلا بك عزيزاً،


    رئيس جهاز مكافحة التنبلة
    لدينا قوة هائلة لا يتصورها إنسان ونريد أن نستخدمها في البناء فقط، فلا يستفزنا أحد!
    نقاتل معا، لنعيش معا، ونموت معا!

  15. #15
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اليهود بين الأنفوشي والجماليَّة
    في قصص محمد جبريل

    بقلم : أحمد فضل شبلول
    ـــــــــ


    يدعونا محمد جبريل في مجموعته القصصية "حارة اليهود" الصادرة عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة في سبتمبر 1999، إلى التسلح بالوعي واليقظة والحذر، وإلى المقاومة وعدم الاستسلام، فاليهود يتربصون بنا، يتسللون من بين سكوتنا وخلافاتنا، ينتظرون اللحظة الحاسمة للانقضاض على الوطن والتهامه.
    وفي سبيل ذلك يتوسل الكاتب بوسائل فنية عدة، من أهمها استخدام الرمز الشفيف، مثل السمانة في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي". وهذه القصة على الرغم من قصرها فإنها تحمل معظم خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل، والتي من أهمها: 1 ـ الجملة التلغرافية أو الجملة القصيرة السريعة الموحية. 2 ـ الوصف، وخاصة وصف البيئة السكندرية، واستخدام مفرداتها الحياتية، ومفردات الطبيعة فيها. 3 ـ التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي. 4 ـ توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة.
    ولنتأمل هاتين الجملتين على سبيل المثال: الصاري المرتفع الخالي من العلم، اكتفت (مجموعات السمان) بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها.
    إن الصاري الخالي من العلم يدل دلالة أكيدة على ضياع الهوية. لقد وجدت السمانة أناسا بلا هوية، وبلا زمان محدد أيضا، فوجود العلم فوق سراي رأس التين، ربما كان يسهم في تحديد الفترة الزمنية، وهل هي قبل قيام ثورة 1952 حيث العلم المصري الأخضر يتوسطه الهلال الأبيض أيام الملكية، أم بعد قيام الثورة حيث تغير شكل العلم إلى ثلاثة ألوان: الأحمر والأبيض والأسود.
    ويبدو أن الزمن لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة للسمانة التي جاءت تستطلع المكان، ونفوس البشر، وتختبر عنصر المقاومة لديهم. وقد وجدت السمانة الفرصة مهيأة تماما لاستيطان قومها هذا المكان. فالمباني تآكلت ـ أي لم يعد لديها القدرة على المقاومة، إنها ستنهار مع أول صرخة ريح. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال، دلالة إما على تعطل أصحابها عن العمل، أو انتهائهم من عملهم وانصرافهم إلى لهوهم ومتعهم. والوقت خريف حيث يخلو الشاطئ أو طريق الكورنيش ـ عادة ـ من المارة بعد انقضاء فصل الصيف وعودة المصطافين ـ والمستفيدين من وجودهم ـ إلى سابق أعمالهم، وتصبح المدينة خالية إلا من أهلها.
    إن المكان السكندري، وهو رمز للمكان المصري بعامة ـ له وجوده الحي الملائم لهذه السمانة الرمز أيضا. فمحمد جبريل يحمل في وعيه هذا المكان ليس باعتباره الإسكندرية التي يحبها ويوظفها في معظم أعماله الإبداعية، ولكن يوظف المكان ـ الرمز ـ هنا باعتباره المكان الذي دلف منه الرومان إلى مصر بعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 ق.م، فكان احتلال الإسكندرية ثم مصر عام 30 ق.م، وهو المكان الذي دخل منه الفرنسيون في حملتهم على مصر في أول يوليه عام 1798، وهو أيضا المكان الذي دخل منه الإنجليز عام 1882.
    لم يغب هذا التاريخ عن وعي السمانة، ولا عن وعي الكاتب التاريخي، لذا اختاره ليكون موقع الهجوم القادم لأسراب السمان التي جاءت من أوربا ـ مثلها مثل الغزاة السابقين ـ والتي غطت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت، والشقق والدكاكين، حتى الكبائن المغلقة.
    إن هذا الهجوم والاستيطان سيكون نقطة انطلاق الكاتب إلى قصة أخرى هي "حارة اليهود" التي حملت المجموعة اسمها، حيث نجمة داود المتداخلة في الأبواب والشرفات، مما يدل على دقة التنظيم والانتشار والنظام وحب العمل والكسب التي أشار إليها المؤلف في القصة الأولى. وكأن القصة الثانية التي دارت أحداثها في القاهرة، تأتي مكملة للقصة الأولى، وكأن محمد جعلص بطل القصة الثانية "حارة اليهود" يحقق رغبات الناس ـ في القصة الأولى ـ الذين تبين لهم أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، فمحمد جعلص اكتوى بنار القروض والشيكات المؤجلة وبضائع الأمانة التي أغرقه فيها اليهود، ثم فجأة هطلوا عليه كالسيل دفعة واحدة يطالبون بأموالهم، فأفلسوه في يوم وليلة. لقد انتهز محمد جعلص فرصة ضرب أطفال اليهود لعلي الصغير، وطاح ـ هو ومن معه ـ في سكان حارة اليهود بالشوم والعصي والنبابيت والسكاكين والخناجر. ويأتي سؤال عبد العظيم هريدي في هذه القصة ذا مغزى ودلالة عميقة. فعندما يقول محمد جعلص بعد انتهاء المعركة: "علقة .. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس". يعلق هريدي بقوله: "هل تظن ذلك ؟". إن هذا التعليق أو التساؤل لم يزل في حاجة إلى إجابة، مثله في ذلك التساؤل الذي ورد في القصة الأولى: هل يعد السمان نفسه لإقامة طويلة؟. وهنا تبرز خصيصة من خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل تتمثل ـ كما سبق القول ـ في: التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي.
    ولعل المدقق في القصتين سيجد موقفا غريبا، أشرنا إليه إشارة سريعة في السطور السابقة، ولكن تؤكده قصة "حارة اليهود" تأكيدا باهرا وهو موقف رجال الشرطة من الأحداث. فمن خلال محتوى رمزي يشير المؤلف في القصة الأولى إلى أن أسراب السمان المهاجرة إلى الإسكندرية اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها. ولم يشر المؤلف إلى أنه كانت هناك مقاومة من أي نوع، من جانب مأمور النقطة أو معاونيه، بل أنها أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. وبالتأكيد كل هذا كان يتم تحت أعين رجال الشرطة في المنطقة. أما في القصة الثانية وبعد نجاح أسراب السمان في بناء حياتهم، وانتقال أحداث القص إلى القاهرة، فإن مأمور قسم الجمالية ـ صبحي أفندي منصور ـ لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاههم، بل أنه أسرَّ إلى جعلص بأنهم يلقون عليه الوسخ من النوافذ وهو في بدلته الميري. ولنقتطع جزءا من الحوار الذي دار بين محمد جعلص والمأمور عندما ذهب جعلص يشكو للرجل ما حدث بين صغار اليهود وابنه علي:
    (أذهله صبحي أفندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
    ـ ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
    غالب الدهشة: ـ كيف ؟
    قال المأمور: كنت أختصر الطريق من الموسكي إلى القسم ..
    (جعلص) في عدم تصديق: ربما لم يعرفوا من أنت؟
    قال المأمور: والبدلة الميري ؟
    ـ لعل الوسخ ألقي عفوا أو خطأ ؟
    ـ والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ والجالسين أمام الدكاكين ؟
    (جعلص) وهو يضرب جبهته بقبضة يده: هذه مصيبة !
    دلك المأمور بإصبعيه تحت أنفه: تكررت المصائب كثيرا في الفترة الأخيرة.
    ـ هل تأذن لي في التصرف؟
    قال الرجل وهو يعاني: أنا موظف رسمي .. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات .. أما أنت .. وعلا صوته: تصرف يا جعلص.
    ترى لو تنبه رجال نقطة الأنفوشي إلى وجود السمانة الأولى، وإلى خلو الصاري المرتفع بسراي رأس التين من العلم، هل كان الأمر يصل في الجمالية إلى ما وصل إليه، وأوردناه منذ قليل.
    إن فشل مقاومة الحملة الفرنسية في الإسكندرية، أدى إلى دخول نابليون الأزهر بخيوله، وفشل مقاومة الإنجليز في الإسكندرية، أدى إلى احتلال البلاد لمدة 72 عاما. وعدم طرد أول سمانة ألقت نظرتها المتأملة على مباني سراي رأس التين، شر طردة، أدى إلى إفلاس محمد جعلص (رمز المواطنين) ، وإهانة صبحي أفندي منصور مأمور قسم الجمالية (رمز السلطة المصرية) على هذا النحو الذي صوره محمد جبريل ببراعة في قصة "حارة اليهود".
    وربما يعود السبب في عدم طرد أول سمانة ظهرت في الآفاق وحطت على الصاري المرتفع، إلى ما عرف علميا عن السمان، فهو ـ حسبما جاء بموسوعة الحيوان الإلكترونية / قسم الطيور ـ طائر نادرا ما يراه الناس، وتشبه الأنثى الذكر في الحجم، ويفضل عند الفرار أن يجري وسط المزارع أكثر من الطيران، ويطير لمسافات طويلة جدا أثناء الهجرة، ويعيش في أوربا وآسيا، ويهاجر شتاءً إلى منطقة البحر المتوسط وأفريقيا، ويوجد غالبا في المناطق العشبية والحقول.
    هنا تبرز خصيصة أخرى من خصائص فن القص عند محمد جبريل، سبق أن ألمحنا إليها، وهي: توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة. ومن خلال المعلومات العلمية السابقة عن طائر السمان، نجد أن جبريل يبدأ قصته "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" بقوله: "بعد أن استقرت السمانة فوق الصاري"، وهنا يتحدث عن طائر السمان بأسلوب المؤنث، حيث لا يوجد فرق كبير بين الأنثى والذكر، وخاصة في الحجم، ولأن الصاري مرتفع فلم يبن على وجه اليقين أهو ذكر أم أنثى، وهو من خلال هذا العلو الشاهق لم يتبين منطقة الحنجرة التي تكون في الأنثى وردية اللون، ولعل استخدام الأنثى كمستطلعة في بداية القصة ثم مرشدة، يشير إلى أسلوب من أشهر أساليب اليهود في استخدام أو استعمال الأنثى أو المرأة في تعاملاتهم الحياتية (ومنها الدعارة على سبيل المثال). ثم إن هذه السمانة ألقت نظرة على الحديقة الواسعة برأس التين، وهو ما يتفق علميا مع أماكن وجود السمان في المناطق العشبية والحقول. ثم تفضيله لمنطقة البحر المتوسط في الشتاء، وها نحن الآن ـ أي في زمن القصة ـ في فصل الخريف، والشتاء على الأبواب.
    لقد نجح محمد جبريل في هاتين القصتين في تضفير الواقعي بالرمزي، وفي الانطلاق من الرمزي إلى الواقعي، أو العكس، وهو كذلك في معظم أعماله الإبداعية بحيث يكسب القصة العربية القصيرة طعما مميزا، ووعيا متجذرا بالذات والموضوع. فتتحول الذات المنفعلة (محمد جعلص على سبيل المثال) إلى موضوع يكسبه دلالة واقعية وتاريخية على مر العصور.
    أحمد فضل شبلول
    الإسكندرية 15/6/2000م


  16. #16
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    رسام الضوء

    شعر: د.حسن فتح الباب
    ـــــــــــ

    (إلى الصديق الكاتب الروائي الكبير محمد جبريل)

    هذا الملاح الجواب الآفاق
    لا يرسو فى مرفأ
    ليس يقر على جبل
    أو يسبح فى فلك واحد
    يمضى العمر جموحا
    كجواد أسطورى
    أو طير مبهور بالضوء
    فوق ضفاف الكلمة
    الحرف لديه ينبوع لا ينضب
    نغم من يتوهج
    قلب يتهدج
    يبحث عن سر مكنون
    فى أعماق الكون.. النفس
    الزمن الدوار
    مسكونا بالحب الأول
    عشق الأم
    أول ما فتح العينين عليها
    أم الدنيا
    هى عالمه المفعم بالعشق وبالثورة
    بالبهجة والحزن
    بالحلم وبالمأساة
    يكونها وتكونه
    يتكتم حينا أوجاع القلب
    وحينا ينثرها
    فوق الأمكنة.. الأزمنة
    يوزعها بين الأوجه والأسماء
    أتراه لا يدرى
    منذ تلظى بلهيب الوجد
    أن الإمساك بغصن الوطن متاهة
    ضرب فى المجهول ؟
    أم يدرى أن الغصن شعاع
    مخبوء فى ظلمات الأرض..
    البحر.. الآفاق
    وعليه أن يطلعه
    لتكون الشمس.. تكون الشجرة
    (من أوراق المتنبى)
    و(رباعية بحرى)
    حدث فى (أيام الأنفوشى)
    حيث السمان يعشش سربا سربا
    كالغربان السوداء
    وملايين الأعين والأنفاس تراقبه
    يحتل الدور ويغشى الشرفات
    وعلى حين فجاءة
    ينبثق الوعى الغائب:
    أن الصمت عن الطير الواغل
    يحفر درب الموت
    ومقاومة الشبح الجاثم فوق الأنفاس
    خير طريق للإنسان الصاعد
    فى معراج الغد
    أن يهوذا الأفاق
    يتربص بالآتين
    من أطفال النيل
    من أبناء العرب الأحرار
    أن الصمت عن الوحش الشبح جنون
    ينسج جبريل (الطوفان)
    بأنامل فنان ورعه
    تلمس أعماق الجرح
    عبر حكايات الأجداد
    لتنير دروب العتمة
    و(نبوءة عراف مجهول)
    يرويها قصاص ملهم
    (محفوظ) الستينيات
    أو (ماركيز)
    فى مصر المحروسة
    قيثارة شعر من منثور الروح
    يعزفها فتنة
    ترياقا.. بوحا مشروعا
    يعلن عن حاجته
    أن يولد بين يديه
    وأمام العينين
    كى نتأمل.. بنصر ما يخفى
    مرحى يا رسام الضوء
    حرفك لون الفرحة
    طعم الأيام الجهمه
    والسنوات الخضر
    شرف الإنسان المسكون
    بالحب وبالثورة.


  17. #17
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    عن عالم محمد جبريل الروائي
    قراءة في رواية "حكايات الفصول الأربعة"

    بقلم: إدوار الخراط
    ـــــــ

    من العلامات الفارقة للكاتب الحقيقى الموهوب أن يكون له عالمه الخاص، أن تكون له رؤاه المتفردة لهذا العالم.
    محمد جبريل كاتب حقيقى موهوب.
    عالمه يقع فى اسكندرية الشمال الغربى، اسكندرية بحرى والأنفوشى والسيالة وراس التين وحلقة السمك، اسكندرية الصيادين والمراكبية، ليسوا فقط صيادى السمك، أو مراكبية البحر، هم أيضاً وربما أساساً صيادوا الأقدار المتقلبة، مراكبية الرحلات المضطربة، ساجية أو جياشة، عبر شواطئ العمر وعبر سنوات الغربة والحنين.
    نصوصه دائما نقلة متصلة إلى "الشاطئ الآخر" (وذلك عنوان إحدى روياته الجميلة). لكن الشاطئ الآخر -كما أصبحنا نتوقع- ليس "جغرافياً" فحسب، هو شاطئ روحى آخر، أو شاطئ رؤى أخرى، تصل إليه -أو لا تصل- مراكب الحياة على المدّ والجزر، على القربى العائلية أو قربى المشارب والمنازع والأهواء، وتخوض إليه غمرات الخصومات والخلافات، أو تطفو على مويجات التراحم والحب المترقرقة.
    ومن ثم فإن التيمات -أو الموضوعات الأساسية فى عمله الروائى- تيمة الموت مرتبطا بالشغف بالحياة، وموصولا بمتعاتها، ترقب الموت، وترصده، أو اللامبالاة بانقضاضه، تيمة تسرى فى سردية محمد جبريل، أو تستبطن هذه السردية، سافرة حينا ومضمرة حينا، ولكنها ماثلة باستمرار، تستدعى تيمة لصيقة بها، بل تكاد تكون مترادفة معها، هى تيمة الشيخوخة والوهن وتقاعس البدن المتهاوى الذى تحركه شهوات قديمة مؤرقة.
    يقول بطل "حكايات الفصول الأربعة" بعد أن كتم ضحكة قصيرة: أشعر أنى شاب لكن حركة جسدى لا تساعدنى على هذا الشعور.
    لعل موضوعة الشيخوخة، الموت التدريجى للقدرات نتيجة صراع الجسد ضد الموت الذى يؤذيه بالمجئ، مما يشغل الكاتب فى مجمل عمله الروائى وخاصة فى هذه الرواية، لعل فى عنوانها وحده "حكايات الفصول الأربعة" ما يشير إلى هذه الموضوعة، ليست تلك فقط فصول السنة الأربعة، بل هى أساسا فصول العمر الأربعة. ليست فقط فصولا تمر بها سنوات بطل أو شخص واحد فى غمار الرواية، بل هى أيضاً موزعة على شخوص الرواية بحذق وذكاء سردى ملحوظ، من ربيع الصبا، وعنفوان صيف العمر، إلى خريف التهاوى والإيذان بالسقوط، ومنه إلى الشتاء الموحش القاحل.
    تقلبات هذه الفصول تدور فى اسكندرية محمد جبريل النصية التى تخايل بواقعية تكاد تشفى على الطبوغرافية الدقيقة، لكنها تجيش بحياة تتجاوز مجرد محاكاة الواقع الظاهرى، ذلك أن للكاتب ولعا مشبوبا بالأماكن، وأوصافها، وتحديدها، وابتعاث أجوائها: القهوة التجارية، قهوة فرنسا، مقهى ايليت أو التريانون، اتينيوس، فضلا عن معالم اسكندرية الشمال الغربى، وهو ولع يضفى على هذه الأماكن حياة كأنها مستمدة من حياة أبطال أو شخوص العمل الروائى - ولعلها من وهج الكاتب الروحية نفسها، وليس ذلك بالغريب عند معظم الروائيين الحقيقيين إذ تتناوب عندهم وتكاد تندمج أماكن الروح بأماكن الواقع، وهو عند محمد جبريل شغف يكاد أن يكون فيتيثسياً بتسمية الشوارع والمقاهى والجوامع والزوايا، ويكاد يقتصر على اسكندريته تلك، هى اسكندرية قريبة إلى حد ما من اسكندرية الراحل صالح مرسى، على اختلاف الرؤى والموضوعات بينهما اختلافا جذريا، ومختلفة أيضا جد الاختلاف عن اسكندريتى مثلا، اسكندرية الجنوب وراغب باشا وغيط العنب بالقرب من الملاحة وترعة المحمودية التى لا تأتى سيرتها قط فى عمله كله إن لم يخطئنى الحصر والتقصى، حتى لو كان للبحر حضور ماثل بل مسيطر فى كتابتى، وهى أيضا تختلف بالتأكيد عن كاتبٍ أراه من أكثر كتاب الإسكندرية موهبة هو حافظ رجب، إذ تقع اسكندريته الفانتازية فى سرة المدينة، محطة الرمل حيث يجرى الترام فى رأس الرجل وحيث يشغل اليونانيون مكانا روائيا لا يكاد يعرفه يونانيو محمد جبريل الذين لعلهم ينتمون إلى حقبة زمانية أحدث من الحقبة "الكوزموبوليتانية الشعبية" التى عاش فيها "الاجريج" عند حافظ رجب، هم قريبون بشكل ما من جريج قسطنطين كافافى.
    ولا أحتاج أن أقول إن اسكندرية محمد جبريل أوقع وأقرب إلى صورة الإسكندرية البحرية المثلى من اسكندرية كاتب مثل إبراهيم عبد المجيد، التى تكاد تقتصر -من حيث الموقع المكانى، ومن ثم الموقع الروائى، على صحرائها الغربية المفضية إلى خط سكة حديد العلمين ومرسى مطروح، وهو الجانب "الصحراوى" الأصيل من جوانب الإسكندرية، لم يهتم به -فى حدود علمى- إلا كاتب اسكندرانى آخر هو أونجاريتى الإيطالى الذى عاش فى محرم بك حتى العشرين من عمره (لعلنى أيضا قد عنيت بهذا الجانب الصحراوى من الإسكندرية). ولعل محمد جبريل لم يعن كثيرا -أو إطلاقا- بهذا الجانب، فهل ثم معنى لاختياره "البحر" أى الانفتاح على الآخر، وعلى الشاطئ الآخر؟ أم أن إضفاء دلالة إثنوجرافية، وربما أيديولوجية على البحر باعتباره الأفق الشمالى المفتوح على العالم الأوربى وعلى "الرمال الصحراوية" باعتبارها المعنى البدوى المنبثق من الخصوصية العربية المغلقة على ذاتها، ربما،.. من الشطح التأويلى ما لعله ينأى به عن المصداقية؟
    هذه على أى حال أسئلة خصيبة (فيما أظن) تثيرها رواية "حكايات الفصول الأربعة" من بين ما تثيره من أسئلة.
    تيمة الشيخوخة والموت لا تضفى على عمل محمد جبريل كروائى قتامة أو جهمة عابسة؛ فى مفرداته ورؤاه قدر من الرشاقة والسلاسة ينأى بها عن التشاؤم أو العدمية، على العكس، فإن اهتمام الكاتب بالقضايا ذات الشأن العام، من قبيل المسائل والأحداث والآراء السياسية، أو المشكلات والمجادلات الدينية، يكسب عمله الروائى حيوية ومعاصرة وراهنية مشغولة بالهموم والشئون العامة.
    إن أحد أبطاله يأخذ على المصريين أنهم "يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومة من الخطأ، ومحصنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيا، يفدونهم بالروح والدم، ويحسنون التغنى بمآثرهم والتطبيل لإنجازاتهم، ويحرقون البخور لذكراهم".
    (وبالمناسبة، فإن المصريين لا يجعلون من الساسة والزعماء وحدهم طغاة أو أشباه آلهة، بل هم يحولون من يسمونهم الرموز فى الحياة الثقافية والعلمية أيضا إلى أشباه آلهة معصومين لا يجوز المساس بذواتهم العلية).
    اهتمام النص عند محمد جبريل بالشئون العامة لا يقتصر على المسائل السياسية بل ينصب كذلك على المسائل الدينية: "الإسلام لا يعرف رجال دين. من جعلوا الدين مهنتهم. إنه يعرف العلماء والمجتهدين". قد يبدو هذا الاهتمام جانبيا، أو هامشيا، تتناوله حوارات عابرة، وأقدر أنه اهتمام أساسى، يأتى بحذق ملحوظ على هيئة إشارات سريعة فى الحوار أو فى السرد الروائى سواءً، ضربات خفيفة ولكنها نافذة، موجزة ولكنها قاطعة، فهذه هى -فى تقديرى- تقنية رئيسية فى عمله الروائى.
    من الموضوعات التى يتناولها محمد جبريل مرة بعد مرة فى عمله الروائى موضوعة الفجوة بين الأجيال.
    النزعة نحو الرحيل، ليس فقط من شاطئ إلى شاطئ آخر، ليس فقط من عالم إلى عالم آخر (من الإسكندرية إلى اليونان مثلا) بل هى أيضا وربما أساسا نزعة إلى الرحيل من جيل إلى جيل، ومن هموم مرحلة معينة من العمر إلى هموم مرحلة أخرى -تلك من حكايات الفصول الأربعة- هذه النزعة لا تتحقق فقط بركوب البحر، بل هو ركوب موج السنوات المضطرب المتلاطم.
    ***
    لعل محمد جبريل من أبرع روائي ما بعد نجيب محفوظ، مع فرادة لغته ونعومة انسياب صياغاته، والصياغة بداهة لا تنفصل عن الرؤية ولا عن الموضوعة. ذلك أن لغة محمد جبريل فى إيجازها واقتصادها ونفاذها تتساوق مع رؤيته لعالمه الإسكندرانى والنفسى أو الروحى على السواء، فهى رؤية ناصعة مضيئة ليس فيها تدفق هادر ولا صخب التزاحم، لا نكاد نقع عنده على محاولة للغوص فى أغوار -وأكدار- الحياة الحلمية أو اضطراب ما تحت الوعى، لغته ورؤاه معا صافية صحة سماء الإسكندرية عندما تصحو سماؤها، وهو ما يحدث فى أغلب الأحوال.
    وعندى أن الإيقاع الموسيقى فى هذه اللغة -وهو إيقاع ملموس- ينبع من تناغم وتناسق (لعله تنغيم وتنسيق متدبر مقصود، أو لعله ملهم وعفوى، أو هما معا) فى تسلسل السرد وتبادل الحوار والنأى عن محسنات -أحيانا ضرورات- الاستعارة والكناية وكثافة اللغة، لغته -مثل موضوعاته- صافية واضحة وسائغة السلاسة، بقدر ما هى ممتعة وشائقة.


  18. #18
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الروائي محمد جبريل يكتب عن ظاهرة شاذة في حياتنا الثقافية

    بقلم: محمد جبريل
    ...................

    يغيظني من يبتزون فروسية الآخرين ، ليفرضوا بلطجتهم ومؤامراتهم .. يثقون أن الإهمال هو رد الفعل الذي يستقبل به " الفرسان " تصرفاتهم الشريرة .
    وصفة أحد كبار نقادنا بأنه أقرب – في الطبيعة – إلى مسئول العلاقات العامة منه إلى الفنان ، فهو قد يكتب ساعة ، لينشغل بقية يومه بنسج العلاقات وتمزيقها ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولات الإيقاع والتعتيم ، وهو ما عبر عنه واحد من ثلاثي العداء – معروفون بالاسم !
    في زميلة أسبوعية : عدوك عدو كارك ! .. تحول الإبداع – في تقديرهم – إلى كار ، فروح العداء لا التنافس الجميل هي التي تملي عليهم أفكارهم وتصرفاتهم .
    التقى بي – ذات يوم – في مؤتمر لهيئة قصور الثقافة بالسويس ، أبدى ملاحظة حول انصرافي عنه ، كنت قد عرفت طبيعته ، فآثرت الابتعاد قال في بساطة : العملية الجراحية التي أجريتها غيرتني تماماً .. هو إذن يدرك ما كان يفعل ، ويسعى لتغييره .. وتصورته صادقاً ، ولو للحفاظ على قلبه الذي خضع لعملية ، بعد أن أرهقه بتوالي المؤامرات ومحاولات النيل ، حتى من أقرب الأصدقاء لكن الطبع – كما يقول المثل – يغلب التطبع ، فهو قد تحدث عن التطبع ، لكن الطبع ظل غلاباً !
    اتصل بي أقرب أصدقائه في مؤتمر الرواية الأول حدثني عن تفرد صديقه – من خلال شبكة علاقاته الواسعة – بمعظم أبحاث المؤتمر ، وحرصه أن يخلو المؤتمر من أي بحث عن صديق عمره كما يسميه !
    وحدثني روائي معروف عن الجلسات التي يعقدها – ذلك الذي أجعله مجرد مثل فلا أسميه – مع عدد لا يزيد عن أصابع اليد من الذين ابتليت بهم حياتنا الثقافية .. يراجعون الأسماء ، يلاحظون خفوت اسم ما ، فيقترحون تسليط الضوء عليه ، ويلاحظون ذيوع اسم آخر ، فيلجأون إلى ما وسعهم من التعتيم حتى تظل كل الأصوات تحت سقف يحددونه !
    وحين استقبل النقاد رواية علاء الديب " زهرة الليمون " بحفاوة تستحقها ، كتب صاحبنا وكاتب آخر – هو الآن في ذمة الله – عن رواية شحاته عزيز " الجبل الشرقي " واعتبراها رواية العام ، والتفت إلى ما كتب مثقفان كبيران هما رجاء النقاش وإبراهيم الورداني . قرا الرواية ووجدا فيها ما يستحق الإشادة بالفعل ، وكتب شحاته عزيز جزءاً ثانياً من الرواية ، وسعى لنشره في النشرة التي يتولى صاحبنا رئاسة تحريرها ، لكنه فوجئ بالرفض ، وجاءني الأديب الجنوبي يعرض ما حدث ، ولن الرواية كانت عملاً لافتاً ، فقد نشرت الجزء الثاني في " المساء " كعادة الجريدة مع كل المواهب الحقيقية .
    أخطر ما في الأمر أن صاحبنا لا يكتفي بنفسه ، وإنما يحرص على أن ينقل فيروسات أمراضه إلى الآخرين ، بالتحديد من يعملون تحت إمرته من الشباب ، هو يحرض ويهدد ويفرض رأيه ، وربما كتب – كما عرفت من هؤلاء الشباب أنفسهم – ما يدفعهم إلى وضع توقيعاتهم عليه .
    صارحت صديقاً مشتركاً بأنه كان يستطيع – بما حقق من مكانة – أن يحصل على المكانة نفسها في قلوب المثقفين ، قال الصديق : هل أبلغه ؟ قلت : ليتك تفعل .
    أثق أن حياتنا الثقافية بخير ، والأعلون صوتاً ليسوا هم التعبير عنها ، لأنهم قلة ، وإن كان طنينهم يزعج المبدعين الحقيقيين في انشغالهم بالأجدى والمفيد .
    م . ج
    .................................................. ............................
    * جريدة المساء العدد الأسبوعي – السبت 26من نوفمبر 2005م.


  19. #19
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفن القصصي عند محمد جبريل

    بقلم: د.عبد الله أبو هيف
    ............................

    بدأ محمد جبريل الكتابة السردية قاصاً بإصدار مجموعته الأولى "تلك اللحظة" (1970)، ورسخ إبداعه القصصي بمجموعاته "انعكاسات الأيام العصيبة" (1981)، و"هل" (1987)، و"حكايات وهوامش من حياة المبتلي" (1996)، و"سوق العيد" (1997)، و"انفراجة الباب" (1997)، و"موت قارع الأجراس" (2002)، واختار عدداً من قصصه التي تتناول تنازعات الذات القومية إزاء مخاطر الصهينة والعدوان الأجنبي على العرب، سماها "حارة اليهود" (1999). واقتصر في هذه المقالة بالحديث عن الفن القصصي عند محمد جبريل من خلال مجموعته الأخيرة، ومختاراته القصصية المشار إليها آنفاً.‏
    بنى جبريل قصصه على التقانات السردية والمجازية والاتصالية الحديثة، ولا سيما المفارقة والرمزية والإيحاء المجازي لابتعاث المعاني والدلالات فيما وراء القصّ. وأفصحت قصص "موت قارع الأجراس" عن ثراء التشكلات السردية لدى العناية بالتحفيز التأليفي الذي يوائم بين الفعلية وأغراضها على نحو غير مباشر، وصورّت قصة "الوحدات" مدى حصار الفلسطيني في وطنه، إلماحاً إلى اغتراب الفلسطيني في الأقطار العربية، حتى أنه فكر مرة أن يركب سيارة يقتحم بها الحدود إلى فلسطين من إقامته المروعة في الأردن، و"إن قتلت فسأقتل في وطن.. وطني" (ص12).‏
    وأبان ازدياد آلامه، وهو يعاني عسر تجديد الإقامة في موعدها، وصعوبة الحصول على بطاقة أو هوية، إذ لا يستطيع المواطن أن يحيا" بلا جواز سفر ولا أوراق تثبت شخصيتك" (ص15)، مما عذبته السخرية المرّة عبر المفارقة الموجعة.‏
    "-سأصبح إذن مواطناً عالمياً، فليس معي تأشيرة دخول إلى أي بلد!" (ص15)، وهذا هو حال الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، الذي يقتله الإحباط والخوف، ما دام مربوطاً بمخيم الوحدات المفتقر إلى الثقة والأمان.‏
    ووصفت قصة "موت قارع الأجراس" صلابة المقاومة في فلسطين، فقد لاذوا بمجمع الكنيسة ثم داهمهم المحتلون وقناصتهم في هذا المكان المقدس، وصوبوا إليهم رصاصهم، على الرغم من التضامن الديني بين المسيحيين والمسلمين، ونبههم الأب لوقا ألا يحاولوا التعرف على ما يجري خارج الكنيسة، ولو من النوافذ، لأنهم يطلقون الرصاص على كل شيء يتحرك، (ص29)، وبدا فعل المقاومة قوياً باستخدام الإيحاء المجازي النابض بالوعي الذاتي، إذ "ترد نواقيس الكنائس في امتداد المدن والقرى. يرتفع الآذان – كما حدث في مرات سابقة – من الجوامع وأسطح البيوت. يتنبه من تختفي أو تسحب، في أسماعهم، صيحات الاستغاثة، فينصرفون" (37).‏
    وامتد ترميز الفعل المقاوم إلى البيرق علامة للضبط الداخلي والمتانة في مواجهة العدو، كلما تأذى المؤمنون في قصة "البيرق"، حرصاً على نصرة الإسلام والمسلمين في أيام الخطر، والبيرق هو الأمل المرتجى إن واجهت البلاد الخطر، و"على كل المسلمين الخروج إلى الجهاد وبيع الأرواح بيع السماح" (ص83).‏
    وأفاد المنظور القصصي أن تعضيد فعل المقاومة يستند إلى مجاوزة الاختراقات الداخلية والضعف الداخلي من خلال المفارقة من اللفظ إلى المعنى، عندما "لامست أصابع في موضع البيرق خشونة تسوس العصا والفجوات الصغيرة، تشابك فيها العلم والحبل المهتريء" (ص85).‏
    وأبانت قصة "الكسوف" المفارقة أيضاً من اللفظ إلى المعنى انتقالاً من الكسوف الطبيعي إلى الكسوف المعنوي في وعي الذات، وقامت القصة على النشاط الثقافي اليومي لمجموعة أدباء وكتاب من مصر وسورية بدمشق أثناء يوم بعينه تحدثوا فيه عن كسوف الشمس، وأضاءت الفعلية الكسوف الطبيعي الكلي عندما يقع القمر في دورته من الغرب إلى الشرق حول الأرض، ويقع بين الأرض والشمس، وتكون الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة، وتصبح الأرض في مسقط ظل القمر تماماً، والكسوف الجزئي عندما تقع الأرض في منطقة الظل القمرية. وربط المنظور القصصي في الكسوف بحراك الحياة والتجربة الأدبية العربية ومدى تمثيلها المعرفي العميق بالحياة الإنسانية، ومدى وعي الصراع مع الأعداء عند الاعتراف بأن "إسرائيل واجهة لتقدم الغرب" (ص53)، وهذا هو حال المفارقة التي تنشر الوعي بأحوال الكسوف في الموقف من العدو كلما دعمت عمليات تصليب الذات، فثمة "كلمات تتخلق في أعماقك، تتشكل حروفها وملامحها، وإن بدت غامضة" (ص55).‏
    وتعالى استخدام المفارقة في قصة "العنكبوت" التي تؤشر إلى عنكبوت الموت، حيث مرارة مرض الوالد وعذاب الروح تحت وطأة مؤثرات موت الحياة الكثيرة شأن السؤال المرير: ما معنى أن يستيقظ المرء – ذات صباح – ليجد نفسه ميتاً؟!" (ص67). وجادت ملفوظية العنكبوت في التحفيز التأليفي الجامع بين المادي والمعنوي بمداهمة الموت الذي يخترق الإنسان بصمت: "وثمة عنكبوت – لم تكن قد فطنت إلى وجودها – تغزل خيوطها، فتشكل ما يشبه الغيمة في أعلى السرير" (ص71).‏
    ومال جبريل إلى تكثيف السرد مقاربة للعوالم الميتاقصية (ما وراء القص) في قصص قصيرة جداً، كما هو الحال في "الزيف" و"الخيمة" و"العرّاف" و"القنديل" و"الأميرة والراعي" و"الآذان" و"الرؤية" و"القاضي" و"الخواء" و"ومضات منسية"، وتقع القصة منها في حدود صفحة واحدة إثارة لمعانٍ عميقة استعمالاً للأنسنة، على سبيل المثال، ففي قصة "القنديل" تضفى على الحيوان صفات الإنسان للتأمل في أطروحة النسوية والذكورة، إذ استمرت في الحرص على أن تلدغ ما دامت متأكدة أن هذه الأقدام لرجال، وقد أثارها الاختلاط والتشتت من عناء الكينونة أنثى أو خنثى أو ذكراً، وهذا يغيظها كثيراً، و"لم تعد تشغلني القدم الواقفة على الشاطئ، أراها فألدغها، ألدغها بكلّ قوتي" (ص151).‏
    واستغرقت الأنسنة في التكثيف السردي في القصة القصيرة جداً "الأميرة والراعي"، عند التداخل بين المواقف من حماية الذات إزاء تفاقم الأفعال الشريرة من آخرين، وأوجز الراوي المضمر القص أن الأميرة ستوافق على الزواج من الراعي الذي يقتل الذئب، لأن هذا الذئب قتل جدتها، بينما خاطب الراعي الذئب، إشارة إلى ذئبية بشرية، عند مجاهرة الذئب بأن "لحم الأميرة الشهي من نصيبي" (ص152)، مما دفع الراعي إلى الخلاص من هذه الذئبية البشرية، فهوى بالعصا الغليظة "على رأس الذئب، أثاره العواء وتناثر الدم" (ص153)، وهذا كله ضمانة للتواصل بين الراعي والأميرة عند مواجهة القتلة.‏
    وبلغ التكثيف السردي مستوى الشذرة إيماء إلى مدلولات ما وراء القصّ، كما في القصة القصيرة جداً "الثأر" التي تقع في أسطر، وقام الإيماء على الإشارة إلى قصدية الثأر في مقدور الرجل على الثأر من ظالمه وجائره من خلال وصف "ظل الرجل" وسيرورة الثائر "فوق الظل" الساكن ومواجهة الظالم بحذائه عند "طرف الظل" (ص155).‏
    لقد واءم جبريل بين المجازية والاتصالية في الكتابة القصصية لإثارة أسئلة الوجود وقضايا الحياة، وانغمرت قصصه في البنى الاستعارية منذ مجموعته الأولى اندغاماً في التحفيز التأليفي الذي يهتم بالأغراض القصصية كلّما ثّمر التقانات السردية لجلاء المعاني والدلالات الكامنة في القصّ، وأفصحت مجموعته "حارة اليهود" عن هذا المنجز الإبداعي العميق، عند جمع القصص المعنية برؤى المقاومة في مواجهة الصهيونية والتصهين تهديداً للوجود العربي وهدراً لطاقات الحياة عند العب.‏
    تناولت قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" مواصلة رحلة الأسراب من السمان ومجاوزة فكرة العجز عن المقاومة، ليتبين لهم بعد حوار طويل أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، وتبدى الإيماء إلى هذه الدلالة في رحابة القص المجازي، فقد "بدا للناس – من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كلّ الأمكنة – عجزهم عن المقاومة. مالوا – مؤقتاً- إلى التريث، فرحلة السمان لا تعرف التوقف" (ص10)، وهذا هو حال المقاومة التي تحمي الوجود والمصائر القومية. ولاذ القص في قصة "الطوفان" بالمفارقة المعنوية انتقالاً من فكرة طوفان إلى غرق الحيوية عندما تضعف المقاومة، وتعجز المواطنة عن القضاء على المخلوق الغريب أو الكائنات المحتلة.‏
    وتنابذت أصوات الشجار والمشاكسة في قصة "المستحيل" انتقاداً لدعاة الانعزالية والتجزئة القومية، على أن العزلة تبعدهم عن الخطر، بينما المستحيل نفسه في خروج فئة أو جماعة أو أقوام من مدارات المصائر القومية، والحل دائماً في المشاركة والاندماج مع الناس والانضمام إلى المقاومة.‏
    وأفادت قصة "هل" أن المقاومة هي التي تصون الذات القومية، عند تعالق الذات الخاصة مع الذات العامة من خلال الترميز، وهذا هو الرجل الميت الذي دُفن، ثم جرده التربي من كفنه، والسؤال هو ضرورة المقاومة من المعلوم والمختفي في الوقت نفسه عند كشف العدوان، وعمّق جبريل الرؤية عندما ربط هذه المقاومة أثناء الحياة وبعد الموت. فلو حرّك الميت جسده لظل مستوراً، ولو تنامى الوعي بالدمار والاحتلال والفناء لتوقف العدوان، ولا سبيل لذلك إلا بالمقاومة.‏
    واعتمد جبريل على الترميز في قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلي" تواصلاً مع الأسطرة عند تعالق شخصية صابر وزوجته سلسبيل، لنلاحظ دلالة الأسماء أيضاً، مع أيوب وناعسة في الأسطورة الشعبية، فهو حرص على الابتعاد عن قريته بحثاً عن الدواء، لأنه المرض هدده بالموت، بتأثير الفساد والمفسدين، وصار الأمل أن يمضي إلى الحج، ليشفيه رب العباد، ثم داهمه المجرمون والأشرار، ومنعوه من أداء فريضة الحج، وهذا هو البلاء المستشري ما لم تشتد المقاومة ضد الظلم والعدوان.‏
    واستند إلى الترميز أيضاً في قصة "حكاية فات أوان روايتها" عن الطائر وفقس البيضة ومدى تلاقي الحوار مع وعي الذات وسبل مواجهة تغلغل النفوذ الأجنبي.‏
    وترابطت قصة "حارة اليهود" مع عناصر التمثيل الثقافي في رؤى مقاومة الصهينة والتصهين التي تخترق الوجود العربي من خلال الإيماء إلى التهام الغرغرينا الجسد كلّه، مما يستدعي تعزيز فعل المقاومة. وقد بنى القصة على وقائع وأحداث في مطلع القرن العشرين، من خلال ما تعرض له محمد جعلص وأولاده من اليهود ساكني الحارة حتى تسبب لهم المرض وخلل الحياة الاجتماعية والاقتصادية.‏
    محمد جبريل قاص متفرد بإبداعه لإنتاج فضاءات "ميتا قصية" شديدة الثراء في مجازية القصّ والإيحاء بالمعاني والدلالات العميقة لدى استخدام تقانات قصصية تعتمد على الاستعارة والترميز والأسطرة.‏
    المصادر:‏
    ...........
    1- حارة اليهود، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة 38، القاهرة، سبتمبر 1999.‏
    2- موت قارع الأجراس، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية 329، القاهرة، توفمبر 2002.‏
    .................................................. .......
    *جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.


  20. #20
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    "الجودرية" النص التاريخي ورهانات التحويل الروائي
    "ملاحظات عامة"

    بقلم: د.وفيق سليطين
    ..........................

    تثير رواية "الجودرية لمحمد جبريل أسئلة الاشتباك الروائي بالتاريخ, وتفرض علينا إعادة تأمل العلاقة بين الجانبين من داخل الحدود الخاصة بهذا العمل, الذي يستوي بكيفيات محددة تنهض بها المعالجة الروائية للتاريخ, بحيث يمكن النفاذ من خلالها إلى استخلاص التصورات النظرية والتجريدات الفكرية القانونية المتصلة بهذا المسعى.‏
    أولى الملاحظات تطالعنا بها عبارة الغلاف المثبتة تحت العنوان الأساسي, وهي: "عن تاريخ الجبرتي بتصرف". مما يشير إلى ارتهان الرواية للمرجع, وخضوعها لمادته في إنشاء نفسها عليه. وتأتي كلمة "بتصرف" لتقيّد من حجم ذلك الارتهان, وتخرق منحى المطابقة, في إشارة إلى الجهد الذي ينحو بالعمل ليحقق صفته الروائية. لكنّ "التصرّف" المشار إليه يبقى ضمن الحدود العامة للوثيقة, مراعياً التسلسل الكرنولوجي, وناصّاً على الوقائع الأساسية والمفاصل التاريخية الكبرى لانبثاق الأحداث وتواليها, بما من شأنه أن يشدّ, على نحو لافت, إلى الزمن المرجعي. فالرواية تبدأ بنزول الفرنجة على الشواطىء الشمالية للبلاد في يوم الاثنين الثامن عشر من المحرّم سنة /1213/ من الهجرة النبوية الشريفة الموافق للثالث عشر من يوليو /1798/ من الميلاد, وهم من رجال الإنكليز الذين يترصدون الفرنسيين لقطع الطريق عليهم وإحباط مسعاهم. وانطلاقاً من هذا التحديد الزمني يتوالى السرد الإخباري في تقديم رحلة الجيش الفرنسي, التي بدأت من طولون, وفي طريقها إلى الإسكندرية تمّ الاستيلاء الفرنسي على جزيرة مالطة في الثاني عشر من يونيو /1798/, ثمّ ظهر الجيش الفرنسي أمام سواحل الإسكندرية في أول يوليو من العام نفسه.‏
    وثاني هذه الملاحظات يتصل بشكل الرواية ونهجها في تشييد مبناها, وهو ما يجري اعتماداً على تقسيمها إلى أبواب وفصول, إذ تتم معالجة المادة وفق هذا التقطيع, الذي يوزّع المتن على أحد عشر باباً, يشتمل كلّ منها على عدة فصول, يتفاوت عددها بين باب وآخر, مستجيباً لكتلة الوقائع والأحداث التي تتفاعل وتتنامى وتصل إلى ذروة ما, بحيث تغدو مؤطرة في باب واجد يشتمل على عدد من الفصول. ويبدو الباب, في تقنية التقسيم هذه, علامة على الفصل والوصل في حدوده الزمنية والحديثة التي يُسيِّج بها المادة, ويؤذن بتحولها النوعي في الباب التالي, الذي يُمكن أن ينعطف بها جيئة وذهاباً على النحو الذي يؤمّن قدراً من الاستقلال, في الوقت الذي يؤدي به وظائف التنامي والحبك والتصعيد.‏
    وفي ذلك ما يحيل على عمل المؤرخ في تعمله مع مادته تنظيماً وتقطعياً, وربطاً وتسلسلاً. وعلى هذا المستوى الهيكلي تتبدّى استجابة الرواية لتقنية المصادر القديمة في التأريخ, وللنهج الذي اختطّه المؤرخون القدماء في مدوّناتهم. وهذا الأثر الذي ينسرب إلى هنا, ويلقي بطابعه على جسم الرواية, لا يخلو من دلالة على ترشيح عناصر القوة المهيمنة في المعادلة التي نحن بصددها, وهي التي تأتي حصيلة للتفاعل, وخلاصة للتفاضل في النسب والكيفيات والمقادير من كلا الجانبين, على النحو الذي تترجّح معه الفاعلية النصيّة, التي تترجم حصيلة الاشتباك, وتكشف عن قوى الشدّ أو الاستجابة, وعن مدى المتابعة وإسلاس القياد, أو عن شدّة الأثر وقوة المخض وعمق التحويل.‏
    وحسب هذا التوجّه تكون الملاحظة الثالثة متولّدة عما سبقت الإشارة إليه, ومعها نلمح قدراً من التمايز بين شطري الرواية. ففي القسم الأول منها تحضر المادة التاريخية, وتطفو القرائن المرجعية في نظام تأسيسي يتكفّل بإظهار الوقائع والأجواء والتواريخ والشرائح الطبقية ومظاهر الفسيفساء الاجتماعية في بنيتها المتراتبة وانقساماتها العميقة الحادّة في تلك المرحلة الخاصة من التاريخ الذي تنصبُّ عليه الرواية, وتتخذ منه موضوعاً لها, وهو القسم الذي يهيّئ لما بعده, ويشكّل المهاد الضروري لانطلاقة الفعل الروائي وتضافر عناصره وتفعيل أثره.‏
    وعلى الرغم من أساليب المزاوجة التي تضخ أحد الجانبين في الآخر, وتسهم في تعديل مجراه وكسر حدَّة برزوه, يبقى القسم الأول مجلَّلاً بقوة حضور "التاريخي" وسيطرة مؤشرات المرجع, التي ستتراجع نسبياً في القسم الثاني, تحت الضغط المتصاعد لعناصر البنية الروائية, بخيوطها المتشابكة وحكاياتها الفرعية, التي تشكّل انفراجات سردية, تتنوّع, وتتباعد, وتعود لتندغم في مجرى السرد وإطاره العام. وهنا تتبدّى مقدرة الكاتب على النمذجة, والتمثيل الروائي, وضخّ مظاهر الحيوية في بناء متقن, يزخر بألوان الحياة, ويدفع بنا إلى خضّم المجتمع المصري في ظل الوجود العثماني المتردي, لمعايشة نبضه واحتداماته, ومواجهة صوره وتنوعاته وأجوائه المتوترة وتركيبته الآيلة إلى التحلل, وإلى تفسّخ بنيتها الرثة في ظلّ الحملة الفرنسية التي تنتهي عام /1801/.‏
    وعلى الرغم من ذلك تبقى المساءلة واجبة, روائياً, عن مدى بروز الوثيقة في جوانب العمل على النحو الذي تعيق به إمكانات التحويل الروائي.‏
    ..............
    *جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.


+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 5 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •