المناجاة قوت القلوب

العزلة حمية البدن والمناجاة قوت القلب، ومن أنس بمولاه استوحش من سواه.
يا منتهى وحشتِي وأُنْسي
كُنْ لي إذا لم أكن لنفسي
أوهمني في غد نجاتي
حلمك عن سيئات أمسي
خُلِقَ القلبُ طاهرا في الأصل، فلما خالطته شهوات الحسّ تكدّر، وفي العزلة يرسُب الكدر. المخلوقات المميزة على ثلاثة أقسام: فالملائكة خُلِقَتْ من صفاء لا كدر فيه، والشياطين من كدر لا صفاء فيه، والبشر مركّب من الضّدّين، فالعجب أن تقوى عنده التقوى.
إن للحرب رجالا خُلِقوا، لهم أنينُ المذنبين، وخلوفُ الصائمين، وحرقةُ المحبين. حملوا عبء الأمانة يوم
(إنا عرضنا الأمانة)(1) ، توقفت الملائكة على الساحل، ونهضت عزيمة الآدمي لسلوك سبيل الخطر. بلى، لأقدام المحب إقدام.
يغلبنُي شوقي فأطوِي السُّرَى(2)
ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
لا نحتاج أن نناظر الملائكة بالأنبياء، بل نقول: هاتوا لنا مثل عمر رضي الله عنه، كل الصحابة هاجروا سرا وعمر رضي الله عنه هاجر جهرا، وقال للمشركين قبل خروجه: ها أنا على عزم الهجرة، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي.
مذ عزم عمر رضي الله عنه على طلاق الهوى أَحَدََّ (3) أهلَه عن زينة الدنيا.
وعزمة بعثتها همّة رجل
من تحتها بمكان الترب من زحل
لما وُلِّيَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خَيَّر النساء فقال: من شاءت فلتقم، ومن شاءت فلتذهب، فإنه قد جاء أمر شغلني عنكن.
أقسمَ بالعفةِ لاتَيَّمَهُ
(5)ظبيٌ رَنَا (4) أو غصنٌ تَأَوَّدَا
وكلما قيل له: قِفْ تسْتَرِحْ
جُزْتَ المدَى قال: وَهَلْ نِلْتُ المَدَى؟
للعزائم رجال ليسوا في ثيابنا، وطَّنوا أنفسهم على الموت فحصلت لهم الحياة.
إذا ما جررتُ الرمحَ لم يثنني أبٌ
مُلِحٌّ ولا أمٌّ تصيحُ ورائي
وشيَّعني قلب إذ ما أمَرْتُه
أطاع بعزم لا يرُوغ (6) ورائي
يا مختار القدر! اعرف قدر قدرك، فإنما خلقت الأكوان كلها لأجلك، يا خزانة الودائع! يا وعاء البدائع! يا من غُذِّي بلبان البر، وقلّب بأيدي الأيادي! يا زرعا تَهْمِي (7) عليه سحب الألطاف! كل الأشياءِ شجرةٌ وأنت الثمرة، وصورٌ وأنت المعنى، وصَدَفٌ وأنت الدّرّ، ومَخْضَةٌ وأنت الزَّبَدُ، مكتوب اختيارنا لك، واضح خلطك غير أن استخراجك ضعيف، متى رمت طلبي فاطلبني عندك.
ساكن في القلب يعمره
لست أنساه فأذكره
غاب عن سمعي وعن بصري
فسويدا القلب تبصره
ويحك! لو عرفتَ قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، إنما أبعدنا إبليس لأجلك لأنه لم يسجد لك، فالعجب منك كيف صالحته وهجرتنا!؟
رعى الله من نهوى وإن كان ما رعى
حفظنا له الودّ القديم فضيّعا
وواصلتَ قوما كنتُ أنهاك عنهم
وحَقِّكَ ما أبقيتَ للصُّلح موضعا
يا جوهرة بمضيعة! يا لُقَطَةً (8) تُداس! كم في السموات من ملك يسبح ما لهم مرتبة (تتجافى)! لا يعرفون طعم طعام وما لهم مقام، ولَخَلُوفُ (9) أنين المذنبين عندنا أوفى من تسبيحهم. سبحان من اختارك على الكل، وجادل عنك الملائكة قبل وجودك (إني أعلم)! (10) خلق سبعة أبحر واستقرض منك دمعة، له ملك السموات والأرض واستقرض منك حبّة.
الماء عندك مبذول لوارده
وليس يرويك إلا مدمع الباكي
لاح وعقد الليل مسلوب
برق بنار الشرق مشبوب
أسأله عنكم وفي طيِّه
سطر من الأحباب مكتوب
لو كان في قلبك محبة لبان أثرُها على جسدك. "عَجِبَ ربنا من رجل ثار عن وِطَائه ولِحَافه إلى صلاته"، تلمّحْ معنى ثار ولم يقل قام؛ لأن القيام قد يقع بفتور، فأما الثوران فلا يكون إلا بالإسراع حذرا من فائت.
إذا هزَّنا الشوق اضطربْنا لهزه
على شعب الرحل اضطراب الأرَاقِمِ(11)
فمن صبوات تستقيم بمائل
ومن أريحيات تهب بنائم
إخواني، من نَاقَرَهُ (12) الوجد نافره النوم. قال سفيان الثوري رحمه الله: بِتُّ عند الحجاج ابن الفرافصة إحدى عشرة ليلة، فما أكل وما شرب ولا نام.
أسأل عيني كيف طعم الكرى
علالة وهو سؤال محال وكيف بالنوم على الهجر لي
والنوم من شرط ليالي الوصال
هوامش:
1 الأحزاب، الآية 72
2 السّرى: السير ليلا
3 أحدّ: جعل أهله يتركون الزينة، أَحَدَّتِ المرأة: إذا تركت الزينة بعد وفاة زوجها
4 رَنَا إليه: أدام النظر في سكون
5 تأوّدا: اعوجَّ وانحنى
6 يروغ: يخادع، راغ الرجل عن الطريق: حاد عنه وذهب هكذا وهكذا مكرا وخديعة
7 تهمي: تسقط وتصب عليه
8 لقطة:الشيء تجده ملقى فتأخذه
9 أخرج البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "... والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك...".
10 سورة البقرة، الآية 30. إشارة إلى قول الله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون(
11 الأراقم: الأرْقَم: الحية التي فيها سواد وبياض
12ناقره: نازعه

من كتاب المدهش لابن الجوزي رحمه الله

_______
المصدر: http://www.aljamaa.info/ar/detail_kh...=4261&idRub=21
_________
تحية قلبية
محمد بن أحمد باسيدي