Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 5 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 86

الموضوع: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    سأضع بين أيديكم كتاب فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر نشر للدكتور محمد عبد الله الجعيدي الصادر في الدوحة سنة 2006
    سأضع لكم المقدمة وتليها القصائد المترجمة
    إن شاء الله تنال إعجاب الجميع


    فلسطين

    في

    الشعر الهسباني المعاصر

    الدكتور محمد عبد الله الجعيدي
    الاستاذ بجامعة مدريد







    2006



    فلسطين، نداء الجذور ويقظة النحن
    في الشعر الهسباني المعاص
    ر


    من الصعب أن نعرف إن كان الهواء يوجعكم
    عندما يتراكم كصوت نمر
    في حناجركم
    من الصعب أن نعرف إن كان ما في عيونكم هو
    كبريت أم نار، أم مجرد دموع.
    بيكتوريانو كريمير



    فلسطين وكوكبة شعراءٍ من إسبانيا وأمريكا اللاتينية؛ أربعةٌ منهم حملوها في القلب، وثلاثة عشر مثلهم دق القلب فوجدوها داخله.
    محفوظ مصيص وإدواردو متري وماتياس الرافيدي وتيودورو السقا، أقانيم في منافي المحيط الهادئ، شدتهم الأشواق وتجاذبتهم الأعراق فأرسلوا الجذور تسعى، إلى وطن يحتضن رفاة الأجداد في ثرى بيت المقدس ويافا، وبيت لحم وعكا، ونابلس وبيتجالا وجنين، وغزة والخليل.
    كارلوس الباريث وخابير بيان وأنطونيو مورينو وخوليو بيليث وخواكين بينيتو وميغل تشوليَّا وداسو سالديبار وخوليو اُواسي وبدرو تشاكمكيان وخوليو كورتيس وسيرخيو ماثياس وديوميدس دااثا وبدرو غودينيث، مسحاء اصطلت قلوبهم، في مواطنها ومنافيها، بنار العدوان والغزو والهيمنة الأجنبية، فتحسسوها، ليجدوا فلسطين وأكنافها تتجلّى فيها على عرش من التضامن والإكبار.
    أقانيم هم ومسحاء، من إسبانيا وكولمبيا والأرجنتين وتشيلي وبوليفيا وكوبا، وفلسطين، الأرض والقضية والشعب والهوية، هي القاسم الإنساني والأخلاقي والحقوقي المشترك.
    سبعة عشر شاعراً هم، والوجع الإنساني ثامنُهم بعد العشرة؛ واحدٌ هُمْ وتحرير الأوطان والإنسان رسالتُهم.
    قصائد من نياط القلب اقتطعوها منطقاً ورؤيةً، لتغتسل بتناصية فاعلة خلاَّقة، في أجباب الشرق العربي وأنهاره، وتتضمخ بعطوره وبخوره. وتنادم لياليه، بأهِلّتها وبدورها، وسكونها وسحرها.
    أشعار تستدعي، بصدقها وتوهجها، تاريخ شرقنا العربي الإسلامي وحضارته، وترفع بيارق انتصاراته، وتضمد بكبرياء جراحاته.
    سِيَر إنسانية مشرقة تقدَّم، ونصوص مقاومة تُدرس وتُتَرجم، لتحمل لنا نبض الإنسان في عروق الإنسان، مهما تناءى المكان عن المكان.
    وفي عود على بدءٍ قريب، نقول إنَّ أسلافنا المهاجرين الشاميين، من سورية الطبيعية، قد أنشأوا، في أمريكا اللاتينية، منذ النصف الأول من القرن العشرين، أدباً علت صروحه، خلف المحيط الأطلسي، واشتهرت روابطه الأدبية، التي منها "العصبة الأندلسية" ثم "جامعة القلم" في العاصمة البرازيلية، و"الرابطة الأدبية" في الأرجنتين، و"الندوة الأدبية" في تشيلي، وتقاسموا مع المقيمين الأماني والآمال، والآلام والأحزان. وبينما اتجه أدباء المهجر الشمالي، تحت تأثير الثقافة الغربية اتجاهاً إنسانياً فضفاضاً قادهم إلى الاصطدام بالماديات الغربية، في كل مستوياتها وخلفياتها، اصطداماً عنيفاً أثقل على نفوسهم الشرقية فارتدوا عنها لوذاً بثقافات الشرق وقيمه، في أشد صورها إغراقاً في عالم الطبيعة والخيال وانغماساً في ثقافة تناسخ الأرواح، انطلق أدباء المهجر الجنوبي في أمريكا اللاتينية، من معطيات ثقافتهم العربية الإسلامية انطلاقة أكثر واقعية والتزاماً، وأقرب إلى الحياة الروحية الشرقية المتوازنة، وإلى قضاياهم القومية التحررية ومركزها قضية فلسطين : "لقد كان علينا أن نعرّف الشعوب الأمريكية بحقيقة وطننا الأصيل، وبأمتنا العربية التي أنشأت أزهى الحضارات في الأندلس، إسبانيا والبرتغال اللتين يمت إليهما أبناء أميركا اللاتينية بأقوى الوشائج. لقد سمعنا خمسة آلاف لفظة عربية تأصلت جذورها في معاجمهم ودرجت على ألسنتهم، سمعنا الحدو العربي في الغادو البرتغالي والبرازيلي، وتنغيم زرياب في التانغو الأرجنتيني... وأنصتنا لصوت التاريخ يهيب بكلينا ويقول إنكما نسيبان" .


    يتبع

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    ودفعاً للبس والغموض نقول إنه ليس ثمة علاقة مباشرة بين هذا الفصل من فصول أدبنا العربي المُهاجر الذي عاد، بعد سبعين عاماً تقريباً من الإبداع والتجديد، إلى ربوع لغته وبيئته بعودة كتابه إلى الوطن أو برحيلهم عن هذه الدنيا، وبين أدب أمريكا اللاتينية المكتوب بلغته والمستقى من بيئته، ويدخل في إطاره ما كتبه أدباء عرب من أبناء الجيل الثاني أو الجيل الثالث، ولدوا في المَهاجر وتثقفوا بثقافتها وتشربوا لغتها واكتسبوا هويتها وامتزجوا بمجتمعها، وساعدوا على تطوره ثقافياً وعمرانياً، فعلى سبيل المثال، تبرع المهاجر الفلسطيني الذي حط الرحال في بلدة بوينتي ألتو التشيلية سنة 1914، بالمال لإنشاء مرافق عامة لهذه البلدة، منها مسرحها الوطني الكبير الذي كان له أكبر الأثر في إحياء المنطقة وازدهارها. أمَّا الشاعر الناقد وأستاذ اللغة ماتياس الرافيدي فهو، بلا منازع، مورخ الأدب التشيلي المعاصر في مسقط رأسه إقليم ماولي التشيلي.
    ولأنَّ الحكم على الظواهر ومعطياتها في العلوم الإنسانية، ومنها الأدب، يظل نسبياً، فالحديث عن الأجيال ونتاجها الأدبي والفكري يندرج في هذه النسبية، بقدر تفاعل المُهاجِر مع وضعه المهجري أو تشبثه بجذوره الثقافية والقومية. ومن هنا تتقرر هوية الأدب بمقدار ما يحمله من خصائص في ذاته، وهذا ما يعطيه طابعه الإنساني المفتوح على الجغرافيات والقوميات واللغات. وفي هذا السياق تندرج رواية "مذكرات مهاجر" للحمصي التشيلي بينيدكتو تشواكي، مؤسس "صالون أصدقاء الثقافة العربية"، وغيره من المبادرات الفنية والثقافية في تشيلي، وهو من الجيل الأول، في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر ذي الجذور العربية.
    كان للأدباء من أصل عربي، ولا يزال، دورٌ هام في بناء صروح الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر، إذ عاش هؤلاء الأدباء خصوصيتهم القومية والطائفية في سياق عمومية البلدان الحاضنة، بانسجام ووئام. في جمهورية تشيلي وحدها، المعروفة في القارة بجمهورية الآداب، برَّز أعلام منهم المربي والمترجم مويسيس موسى، والشاعر الكاتب متعدد المواهب أندريس سابيلا، والمسرحي البارز والطبيب النفساني روبرتو سرح ؛ والروائيون والدو وغييرمو عطياس، ووالتر غريب، ودياميلا التيت؛ والشعراء محفوظ مصيص وماتياس الرافيدي ونعيم نوميث، وغيرهم كثيرون.
    عشية الذكرى الثامنة والخمسين للنكبة وإقامة "إسرائيل" على أرض فلسطين وتشريد أهلها، وفي هذه الظروف المدلهمة التي تشتد فيها الهجمة الإرسالية الاستعمارية الصهيونية المسلحة، على الأمتين العربية والإسلامية في مختلف بقاع وطنهما بعامة، وفي فلسطين بخاصة، متمثلة في الهجمات اليومية على شعبنا العربي الفلسطيني سواء في فلسطينه المحتلة أم في منفاه الإجباري. في هذه الظروف يظل جوهر القضية تجربة مأساوية عاشها هذا الشعب ويعيشها، نتيجة التخريب المبرمج ونزع المقومات الأساسية للهوية الفلسطينية من خلال استيطان يهودي ذي خلفيات لاهوتية عقيمة، قوامه الاغتصاب ونفي الأغيار، في ظل سياسات استعمارية غربية مؤيدة له أو خاضعة لابتزازه. إنها تجربة تصدي شعب أعزل لمكائد القوى العدوة و"الصديقة" على حد سواء؛ إذ عاش الفلسطيني الذي بقي على تراب وطنه حياة النفي الداخلي والاغتراب، بينما تاه من أُرغم على المنفى في الأحراش القاتلة للسياسات العربية القطرية والتآلب المريب للسياسات الدولية، حتى آل الوضع إلى ما هو عليه من أنهار الدم الفلسطيني.
    فقد جيَّر المشروعُ الصهيوفرنجي القائم على التهجير والاستيطان ونفي الأغيار فلسطين التاريخية المعروفة بحدودها الجغرافية وهويتها الثقافية، او معظمها، في سنة 1948 إلى ما يسمى اليوم ب"إسرائيل" ذات الحدود الغامضة غير المرسومة، القابلة على الدوام للتوسع باتجاه وهم "إسرائيل التوراتية؟!" من النيل إلى الفرات، في حين ظلَّت فلسطين التاريخ والحق، والهوية والصراع، تعيش قوية في ضمير تسعة ملايين فلسطيني نثرتهم المأساة على طول الكرة الأرضية وعرضها، بعد أن انتزعت منهم أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم وغير فرد من أفراد أسرهم انتزاعاً، باعتراف المستعمِر الإحلالي الأوكراني موشي ديان لصحيفة هآرتس في 4/4/1969: "لقد قدمنا إلى هذه البلاد، فلسطين، وكانت مأهولة بالعرب لنقيم دولة يهودية... وليس ثمة مكان على هذه الأرض لم يقطنه في السابق سكان عرب!"، ورغم إدراكها للحقيقة فقد ظلت إسرائيل وكثير من الحكومات الغربية تكابر وتتنكر بخبث وعناد للوجود التاريخي المتواصل والحق الترابي الثابت لتسعة ملايين نفس من المسلمين والمسيحيين العرب الفلسطينيين.
    هكذا حاولت "إسرائيل" الصهيوفرنجية، كلما خطر ببالها، وكلما أُتيحت لها الفرصة، القضاء على الوجود الفلسطيني بمختلف مظاهره البشرية والاجتماعية والثقافية، في فلسطين وخارجها، فقتلت النفس الفلسطينية، وحجرت على التربية والتعليم والثقافة العربية في الوطن المحتل. وراحت في المنافى تغتال رجال الفكر الفلسطينيين، وتعتدي علي المؤسسات العلمية والثقافية الفلسطينية بالصواريخ والطرود الملغومة والقنابل الحارقة وتنهب محتوياتها أو تدمرها، كما حدث لمركز الأبحاث الفلسطينية أثناء اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982.
    وعلى الرغم من إنكار القوى المسؤولة مباشرة عن المأساة (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل) للحقوق الفلسطينية، فقد سار الشعب الفلسطيني بخطى ثابتة نحو تأكيد هويته في مجالات عدة، بصورة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، في وجه سياسات الحصار والتجويع والإذلال والتوطين والإلغاء والإمحاء التي تريد بالتطبيع أو التفريط التدريجي، الاستسلامي حيناً، والمفروض بالقوة أحيانا أخرىً، لعلاقات الأنظمة الوظيفية في الوطن العربي والعالم الإسلامي بإسرائيل، تقوية النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الاستعماري القائم في المنطقة على الفتك بالإنسان الفلسطيني وتشريده وتجاهل حقوقه الوطنية، وتقوية القدرات العدوانية لإسرائيل وتثبيت اغتصابها.


    ]يتبع[/color]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    يتبع إن شاء الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    وليس أدل على ذلك من مسلسل الهيمنة وفرض الاستسلام الذي بدأ بسقوط تلك القمة العربية التي كرَّست السلام خياراً استراتيجياً عربياً حتى وإن لم يلتزم به العدو، مما مهد لاستسلام مهين كانت ذريعته ما سمي زوراً بالقرارالفلسطيني المستقل، الذي غسلت به الأنظمة يدها من مسؤوليتها عن تحرير فلسطين العربية الإسلامية، وألقت العبء كلَّهً على عاتق الشعب الفلسطيني الجريح تحت الاحتلال، ومهدت لسقوط كامب ديفيد القاتل الذي استفحل في إملاءات أوسلو وذيولها التي تنحدر بالحقوق الوطنية الفلسطينية نحو هاوية من كيان مؤقت، هزيل ومُتَشَظٍ، في ثمانية وستين معتزَلاً، لكل معبره، الذي تحصي آلات التصوير فيه على المواطن الفلسطيني أنفاسه ونظراته وهمساته لزوجه وأطفاله، برقابة فرنجية وإشراف صهيوني مباشر، لا يفي بأدنى مقومات أيِّ كيان أو دولة، في أكثر صورها بساطة، من سيادة وأرض وشعب، كما لا يفي بأدنى تطلعات أيَّ فلسطيني، مهما تواضعت تطلعاته الوطنية، أو تفاقمت مصالحه الشخصية، إلى العودة والحرية وتقرير المصير. إنها معتزلات تذكرنا بتلك "الحظائر" التي حشرت فيها محاكم التفتيش الكنسية مسلمي الأندلس Morerias، ويهودها Juderias، كلُّ على حدة إئر سيطرة غلاة الفرنجة على وطنهم.
    ولم تكن هذه الحالة للواقع العربي خافية على الشعراء الهسبان الوافدين على الحضرة الفلسطينية، ومع ذلك فقد عبروا عن تجربتهم باستلهام التاريخ استلهاماً شمولياً متكاملاً، والتعامل مع الحالة الراهنة تعاملاً رصيناً يقوم على التريث في الحكم على الأحوال والأشياء والأشخاص تريثاً مكنهم من تجاوز سلبيات هذا الواقع دون تجاهله تماماً، أو إسقاطه على ما سواه، في مسيرتهم نحو بناء عمل فني مقاوم، يتسم بالمصداقية والنضج والموضوعية التي تتطلبها مهمة إبداعية عظيمة من هذا النوع. وليس سراً نفشيه أنَّ غير شاعر من أصحابنا قد حاول قراءَة شيء عن تاريخ فلسطين، فتبين له أنَّ هذه الأرض المباركة بميلادها ومسراها كانت على مر العصور مقبرة للغزاة ودرعاً واقياً لأمتها العربية والإسلامية، تكسرت عليها حراب المعتدين والطامعين، وما قامت فيها قائمة لمغتصب أو دخيل، وظلت القدس العمرية وعين جالوت البيبرسية وحطين الصلاحية وعكا الخليلية الأحمدية وغزة الياسينية شواهد لا تمحوها الأيام على أنَّ هذه الفلسطين: فلسطيننا، عصية على الباطل، ولا تقبل القسمة على سوانا.
    استوعب النحن عند هؤلاء الأقانيم والمسحاء دروس التاريخ، منذ أن فشل الاستعمار الفرنجي الأبيض في حروبه على بلادنا الشامية، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، مروراً بتحقيقه، في غفوة من الزمن، أطماعه وإشباعه نزواته، بإبادة "أسلافهم" من مسلمي الأندلس وهنود أمريكا الحمر ، إلى أن عاد مغتراً إلى ديارنا الفلسطينية، لتلقّنه بالصمود والمقاومة درساً قديماً جديداً قصرت مداركه حقداً وطيشاً عن استيعابه.
    فالمقاومة عند هؤلاء الشعراء مستلهمي فلسطين فعلُ إبداع وخلق وصبر وعزة، يسعى إلى تنمية القدرات الدفاعية للضحية وإثراء أدوات القوة ومعاني العطاء لديها، مهما كانت متواضعة في صورتها المادية، تمكيناً لها من مراكمة عناصر ردع وترهيب، تصيّر العدوان عبئاً ثقيلاً على كاهل المعتدي، لا طاقة له به، إذ أنَّ المقاومة ردة فعل طبيعية مشروعة على عدوان، يرتبط فعلها زماناً باستمرار مسبباتها، ومكاناً بما تسمح به ظروفها وإمكاناتها القتالية والسياسية، لضرب العدو حيث حلّ، وضرب مصالحه حيث وجدت.
    ينتمي الشعراء الوافدون على الحضرة الفلسطينية إلى مرجعيات سياسية وأيديولوجية، وعرقية وطائفية متنوعة، قاسمُهم المشترك استلهامُهم بلادَنا فلسطين استلهاماً إنسانياً وحقوقياً خالصاً، جعلهم في مسيرتهم النضالية والشخصية يتصادمون أحياناً مع تلك المرجعيات ويستقلون عنها ويتبرأون منها عندما كان يتبين حقهم من باطلها، وفي الكوكبة التي يحتضنها كتابنا هذا غير مثال على ذلك، فكارلوس الباريث تخلى عن انتمائه للحزب الشيوعي في بلاده عندما ضاقت مفاهيم هذا الحزب بآفاق فكر كارلوس الإنساني وإيمانه بالإنسان قيمة مطلقة لا تقبل الجمع أو الطرح أو القسمة إلاَّ على ما كتبه الله لها، وكذلك الحال مع محفوظ مصيص وخابير بيان وداسو سالديبار... وغيرهم. وبهذا لم يجد الشعراء، وبخاصة اليساريون منهم، أيَّ مبرر لاعتراف الاتحاد السوفيتي البائد ودعمه لقيام الكيان الصهيوني الإلغائي الغاصب على أرض فلسطين، واعتبروا ذلك استعماراً مقنعاً بقناع اشتراكية أنتهازية وأممية زائفة، أسميتا الغاصب مهاجرا والمستعمرة كيبوتساًً وتجمع القراصنة دولةً.
    وفي إطار المسلسل الصهيوفرنجي للنيل من أمتنا، كرصيد استراتيجي لشعبنا الفلسطيني، انعقد المؤتمر الصهيوني، بموافقة ودعوة وافتتاح رسمي، في الرباط من 13 ـ 14 مايو 1984 وتلته دورات ما يسمى "بالمؤتمر الاقتصادي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط!"، ثم منتديات الدوحة والمنامة وتونس وشرم الشيخ والبحر الميت "الاقتصادية"، وكلها على صدر هذا الوطن الصابر، حتى غدا الكيان الغاصب، بلا منازع، كفيل حكام في الخارج، وضامن بقاء سلطتهم في الداخل. وبهذا تفعَّلت المقولات الدعائية لبرنامج حزب العمل الصهيوني، مؤسس الكيان الغاصب وراعي توسعه، في: "خاطبوا العالم على أنكم المظلومون... وتجاهلوا تماماً السكان الأصليين!!" حتى وجد اغتصاب فلسطين قبولاً لدى من حاق الحق في صدورهم وكرَّس الغرب في نفوسهم وهمَ الذلة والتفريط والإمّعة، والتحالف مع العدو واستعدائه على الأهل والوطن، كما كرس في نفوسهم أكذوبة عدم جدوى المقاومة، وأنَّ الاستقرار في هذه الديار العربية الإسلامية يقوم على دعامتين: إسرائيل صهيونية ولبنان فرنجي، وما عداهما ليس إلا شرقاً عربياً مسلماً لا أمل يرجى منه ولا خير فيه! وليس أدل على هذا التآلب المبيَّت من تستر الغرب ذي الارث الفرنجي والأيديولوجيا الاستعمارية على مسلسل الإجرام الصهيوني، في الوطن العربي، بل ومشاركته في اقترافه سراً وعلناً.
    فقد حققت الصهيونية وحقق الغرب الفرنجي بالفعل مآربهما في تشويه صورة كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي، حتى في أحلك ظروف اضطهادهما؛ إذ ظلت الإذاعة المرئية البريطانية تتستر على ما وصلها من مواد إعلامية عن مذابح صبرا وشاتيلا، وعندما لم تستطع الاستمرار في تضليلها المشاهدين عرضت شريطاً يحكي قصة عصابة ترتدي الكوفية العربية وتقوم بخطف الأفارقة وبيعهم عبيداً في منطقة الخليج العربي. أما "الباييس"، أكثر صحف إسبانيا اليومية انتشاراً، فبعد أسبوع واحد من المذبحة نفسها نشرت في صفحة تمضية أوقات الفراغ مربعاً للكلمات المتقاطعة يراد البحث فيه عن كلمة مكونة من خمسة حروف ومفتاحها فراغ يقع بين كلمتي "العرب....اليهود"، ليجد اللاعب نفسه أمام كلمة واحدة لا بديل لها: "odian" وتعني "يكرهون"!!
    كل هذا يندرج في إطار التضليل الدعائي الذي يجد طريقه إلى العامة بسبب جهلها الأمور، وإلى غيرها بسبب عداء الغرب المزمن وغير المبرر للعرب والمسلمين وحضارتهم ودينهم، إلى درجة التشكيك في قدراتهم على الإبداع والعطاء، "إذ أن العالم الشرقي، كما يقول إدوارد سعيد في الاستشراق، لا مكان له في الغرب، وأكثر ما يقوم به هناك هو دور المعرب والمخبر، تاركا دور البحث والتحري إلى سيده الغربي".
    ومنذ خطاب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974 لم يعد الحل العسكري وحده هو المقبول، دون غيره، لدى زعامات بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت تخاف على مكتسباتها الشخصية، فدخلت ساحة الصراع السياسي بعد قرن كامل من دخول الصهيونية إليها، مع البون الشاسع بين الفعلين على المستويات جميعها. وتحققت في الحقل السياسي إنجازات شكلية، لم تغير من الواقع الفلسطيني شيئاً، فاعترفت بالمنظمة ممثلاً لكيان غير محدد المعالم، أكثر من مئة دولة وأصبح العالم، بدرجات متفاوتة، أكثر تقبلاً من أي وقت مضى لفكرة استعادة الشعب الفلسطيني شيئاً من حقوقه الوطنية وبدأت شرائح من الرأي العام الغربي تكتشف المغالطة في منطق اعتبار اليهودي الأمريكي الأصل المولود في شيكاغو إسرائيلياً يتمتع بحق المواطنة والعيش في فلسطين، بينما الفلسطيني ابن يافا أو القدس أو عكا لاجئاً لا حق له في العيش على أرض وطنه فلسطين، إلاَّ أنَّ قيادة المنظمة، وقد ترهلت، لم تعن بتطوير إيجابيات المعطيات السياسية الجديدة، وانغلقت على نرجسيتها وفسادها، وشهواتها وعبثيتها، وتهميشها دور الجماهير الفلسطينية وجريها وراء أوهام الوعود التخديرية. ورغم ذلك امتد هذا القدر من التفهم الخجول للحق الفلسطيني إلي بعض رجال الفكر والسياسة والأدب حتى لم يستطع الأرجنتيني يهودي الديانة جاكوبو تيمرمان، بعد مذبحة صبرا وشاتيلا، في كتابه "أطول الحروب" تجاهل حقيقة أن ليس بالإمكان إبادة الشعب الفلسطيني وأن كل آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية بكل جبروتها وقسوتها تظل عاجزة عن تنفيذ هذه المهمة. وأن ليس ثمة بديل عن دولة فلسطينية. وبشيء من التحفظ على حيثيات هذه الدولة، أو هذه المكرمة الغربية، وعلى قدر من معطيات الواقع، يمكننا النظر إلى اندحار الجيش الصهيوني من جنوب لبنان ثم من قطاع غزة، في مدة خمس سنوات، وما تبعها من "تبديد الوهم الصهيوني" في كرم سالم بجنوب فلسطين و"صدق الوعد المقاوم" طويل الباع المنتصر في شمالها، رغم التآمر الدولي والتخلي أو حتى التواطؤ العربي الرسمي، على أنه بداية النهاية للحلم الصهيوفرنجي المتعثر على أرض فلسطين وأكنافها، وبداية عودة الحقوق إلى أصحابها.
    أما غرب النخبة الفرنجي المصاب بالحمى الصهيونية وصانع المأساة الفلسطينية فعلاقته بوطننا قديمة جداً لكنها راحت تشتد دموية وحقداًً منذ الحروب باسم الصليب وعليه، ومن ثمة الغزو الاستعماري الغربي الذي رفع، بغدر سايكسبيكو، وطيس المأساة إلى درجة الغليان، عندما قرر غرز إسرائيل إسفيناً غربياً مسموماً في خاصرة الوطن الفلسطيني، قلب العالم الإسلامي النابض، ولخنق ثورة الشعب الفلسطيني، حشدت إمبراطورية بريطانيا العظمى، التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها، في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، عشرات الآلاف من جنودها؛ بواقع جندي واحد لكل عشرة مواطنين فلسطينيين أو لكل أسرة فلسطينية، حتى يتسنى لها تنفيذ مخططاتها الاستعمارية الفرنجية.
    فالغرب الذي نحن بصدده، وهو مسبب الوجع الفلسطيني والمسئول عن استمراره، هو غرب النخبة الحاكمة المهيمنة ذات الإرث الأيديولوجي الفرنجي والتربية الصهيونية ، مهما حاول التستر على حقيقته غير السوية التي تُضمر للآخر حقداً أصفر ينذر الإنسانية بالإفناء، وهو ذاته الذي سقطت شرعيته السياسية ومصداقيته الأخلاقية تحت أقدام الملايين التي غصّت بها شوارع العواصم العالمية، ومنها الغربية والأوروبية، في ربيع 2003، غضباً واحتجاجاً على غزوه العراق وتدميره ونهبه، بذرائع واهية وكاذبة. وتحت الأقدام المتوقدة غيظاً نفسها سقطت ذرائع غرب تكنولوجيا قنبلة هيروشيما ونابالم فيتنام وجنون البقر وأقنِعتُه، يوم اعتبر 57% من مواطني دول الاتحاد الأروبي، "تحالفاً للقتل كانت أم عجوزاً مقعدة"! بلا خوف أو تردد، رأسَه الولايات المتحدة الأمريكية وصنيعتَه إسرائيل خطراً حقيقياً على السلام العالمي.
    أما الاتصال الفلسطيني بإسبانيا فيعود بجذوره إلى أولئك الكنعانيين الذين أبحروا بسفنهم إلى شواطئ شبه الجزيرة الإيبيرية، وأسسوا عليها حواضر، منها قادش الأندلسية، وعرفهم العالم باسم الفينيقيين. وفي وقت لاحق مثلت فلسطين جزءاً من معايشة عربية إسبانية دامت ثمانية قرون في إسبانيا المسلمة أو الأندلس؛ حيث نزل جند فلسطين الفاتحون بلدة شريش الأندلسية وأعطوها اسم بلادهم. كما ارتبطت إسبانيا المسيحية ارتباطاً روحياً ومصلحياً قوياً بمهد المسيح ورسالته، فتوافدت أفواج الحجيج والرحالة على فلسطين وأكنافها تاركة شواهد حية، في مجلدات ضخمة، تحتفظ بها المكتبات الإسبانية والعالمية، على عروبة هذا القطر وطابعه الإسلامي.
    أما في أمريكا اللاتينية، فبتجاوز رواية وصول المصريين القدماء إلى المكسيك ورواية وصول الفينيقيين إلي سواحل هذه القارة على المحيط الهادئ، ففي القرن السادس عشر الميلادي لم تَطِق محاكم التفتيش الكنسية وجود أكثر من مليون مسلم أندلسي على أرض وطنهم، كما لم يثق التاج الإسباني الكاثوليكي بتنصرهم، فاقتيدوا قسراً إلى أمريكا اللاتينية، وشُغِّلوا هناك بالسخرة في مزارع الامبراطورية ومناجمها، وعلى ظهر أسطولها. وفي رواية تاريخية، اتَّخذ كرستوفر كولون لنفسه مترجمَين من العرب الأندلسيين ليتحدث من خلالهما إلى زعماء هنود العالم الجديد الذين يبدو أنَّ العربية كانت واحدة من اللغات التي يعرفونها.


    يتبع

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    فبالرغم من عراقة الحضور العربي الإسلامي في العالم الجديد، وبدئه بالكشوفات الإسبانية، فإن عنصره الاسلامي لم يظهر في حينه، لأن محاكم التفتيش سارية المفعول حينئذٍ كانت تمنع وصول غير الكاثوليك إلى العالم الجديد، ولم يُسَق المدجنون إلى ذلك العالم إلا بعد أن أرغمتهم تلك المحاكم سيئة الصيت بالقوة، على الارتداد عن إسلامهم وكثلكَتهم، وقادتهم عبيداً وجنوداً في خدمة العلم الإسباني قاهر العالم الجديد، ولهذا كان هؤلاء العرب المسلمون، كما يؤكد ذلك المؤرخون وأهل الفكر في أمريكا اللاتينية، أسرع اندماجاً بأهل البلاد الأصليين من الغزاة الإسبان المنغلقين على كاثوليكية، فصَّلوها على مقاسهم، حتى ضاقت بهم وبها رحاب الحق والخير والتعايش.
    في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، هاجرت الآلاف من أهالي بلاد الشام إلى أمريكا اللاتينية فراراً من سوء الأوضاع السياسية والاجتماعية، وعرفوا هناك بالأتراك . وكانوا محترفين في العمل والكد لكسب لقمة عيش نظيفة، فبدأوا يعملون أجراء، وسرعان ما غدوا باعة متجولين وتجاراً صغاراً بمهنية عالية ومصداقية مشهودة، واندمجوا في السكان الأصليين، فكان أهل قرية سان فرانسيسكو بمحافظة قرطبة الأرجنتينية، على سبيل المثال، ينتظرون السيد موسى حسني في اليوم نفسه من كل شهر في مطلع القرن العشرين، ليس لشراء البضائع التي يحملها في كشّته فحسب، وإنما أيضاً ليقص لهم شعرهم رجالاً ونساءً وأطفالاً في بيوتهم، ويقدم لهم بعض الوصفات الطبية الشعبية، ويروي لهم قصص الشرق وأخباره. وقد تعلم السيد حسني الإسبانية للتعامل مع أهل المدينة، وأجاد لغة القرويين الذين كان يعايشهم، حتى غدا مرجعاً موثوقاً في مشورته لأحفادهم من أهل منطقة بيّا مونتس لغوياً وثقافياً وتاريخياً، وقد حصل هذا لغير مهاجر عربي في المناطق التي عاشوا فيها وتعلموا لغتها المحلية.
    وقد سهَّل اندماجَ هؤلاء المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة تشابهُ ظروف الحياة في البلد الأصلي مع مثيلتها في البلد الحاضن تشابهاً ساعد، رغم عدم تلاق سابق، على تفاهم المهاجر العربي، مع أهل البلاد الأصليين والتعايش معهم والاندماج فيهم مع الاحتفاظ ببعض خصائصه الثقافية. فقد تلاقت أرواح المستضعفين، في قرى سهوب العالم الجديد البعيدة وجباله المعزولة، فتخالطوا ووجد المهاجر العربي نفسه في بيئة شبيهةٍ جداً بتلك التي جاء منها، فسهل التعايش والاندماج وتقاسم الأرزاق. فقد كانت المعاناة بين المهاجرين، وجلهم من الأعزاب، وبين السكان الأصليين قاسماً مشتركاً سهل التكافل والتعاضد فيما بينهم وكمل البعض بعضه الآخر، فاجتمع الشمل الواحد في الوطن الجديد، وهناك أحبوا وتزوجوا نساءً من أهل البلاد الأصليين، أو من بنات المهاجرين الأروبيين في البلاد من إيطاليين وإسبان أو غيرهم، ورزقوا الأبناء وربوهم على حب الانتماء للوطن الحاضن ، مع استمرار توقد الحنين في الصدور لوطنهم الأول.
    فقد وصل المهاجرون الشاميون أمريكا اللاتينية في وقت كانت الامبراطورية الإسبانية تلملم فيه بقايا من أشلاء عظمتها وجبروتها، في العالم الجديد وغيره من أرجاء المعمورة، وذلك بعد هزيمتها الماحقة عند السواحل الكوبية في أواخر القرن التاسع عشر، على يد أسطول الولايات المتحدة الأمريكية. كانت بلدان القارة تمر بمرحلة استثنائية بين فكي امبراطوريتين طامعتين، فسارعت، بلا تردد، إلى إعلان استقلالها عن إسبانيا، قبل وقوعها فريسة بين براثن الولايات المتحدة الأمريكية، وراحت على عجل تبني إداراتها وتبلور كياناتها، وسط نزاعات حدودية إقليمية تركتها القوى الاستعمارية الذاهبة والمقبلة تتفاعل، علها تترك لها موطئ قدم في القارة.
    نعم. في هذه الظروف وصل المهاجرون الشاميون أمريكا اللاتينية، فلم يقحموا أنفسهم في صراعاتها المحلية التي صنعتها اليد الأجنبية، كما لم يحاولوا إحلال أنفسهم محل أهل البلاد الأصليين، في أرض أو مال أو سلطة، أو تميز عنهم بإقامة المستعمرات والتحصينات، أو التحول إلى أداة استعمارية، وإنما احتفظوا بشرطهم الإنساني الذي تفرضه عليهم ثقافتهم العربية الإسلامية من اعتراف بالآخر، كباحثين عن الأمان ولقمة العيش والنجاة في دار الهجرة، وهم الهاربون من الاضطهاد والقهر، وضيق الحياة والفقر، أو الواقعون فرائس في شباك التبشير الاستعماري الخبيث.
    وبهذه السلوكيات التربوية الراقية ترك المهاجرون العرب أثراً طيباً في المجتمع المضيف، خلافاً لذلك الذي تركه المهاجرون الأروبيون المستعمرون، حتى انعكس ذلك بوضوح في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر حضوراً بناءً مسالماً وناجحاً متكافلاً ومندمجاً في حياته الاجتماعية والثقافية، في إطارها الواقعي الأشمل الذي لا يُخرجها عن سياقها الإنساني وخصوصيتها كرافد إغناء وخير للمجتمع الحاضن. وبهذا راحت شخصية المهاجر الشامي في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر تتسم، بوجه عام، بواقعيتها وجدها وصبرها وعطائها وقدرتها على التكيف مع الآخر، كما هي في رواية "وقائع موت معلن عنه" للكولمبي الحائز على جائزة نوبل في الآداب وغيرها من الجوائز العالمية والمحلية، غابرييل غرثية ماركيث ، وهو بجدارة يمكن أن يكون ممثلاً لهذا التيار الأقوى في أدب قارته، خلافاً لتلك القلة الهسبانية التي تسربت إليها أحقاد محاكم التفتيش واحقاد أروبا الاستعمارية على العرب والمسلمين، أو تسطحت نظرتها وجُوِّفّت عقولها بسياسات مفروضة، على أنظمة، هي نفسها، مفروضة على أمتنا وديارنا.
    أما الفلسطينيون الذين أجبرتهم المأساة على اللوذ بتلك الديار القابعة خلف محيط الظلمات نجاةً بالنفس، فيزيد عددهم اليوم على أكثر من نصف مليون نسمة، منهم أكثر من ربع مليون نسمة يعيشون في تشيلي وحدها، حيت لا تكاد تذكر تشيلي أو أيَّ أمر يتعلق بها، في قرى فلسطينية مثل بيت جالا أو بين لحم أو بيت ساحور، دون أن تثير في أهلها الاحساس بالغربة والمنفى. وتتوزع البقية الباقية على أقطار أخري مثل كولمبيا والباراغواي والبيرو والأرجنتين وكوستاريكا وهندوراس... الخ، وكلهم يرنون إلى الوطن السليب أو كما يقول الشاعر الكولمبي ديوميدس داثا:
    شُردوا من وطنهم
    فنذروا أبناءَهم فدائيين فلسطينيين.
    فالواقع الدامي الذي عاشته وتعيشه القارة الصابرة في ظل الاستغلال الاستعماري والتخريب الصهيوني جعلها ترتبط جرحاَ وهدفاَ ببلادنا فلسطين.
    وبالمقابل فحضور إسبانيا المعاصرة في الفكر العربي بعامة، وفي الفكر الفلسطيني بخاصة، ظل على شحوبه وضبابيته، بسبب وصوله وصولاً غير مباشر عبر لغات غير الإسبانية، أقوى من حضور فلسطين المعاصرة في الفكر الإسباني. فقد ظلت صورة إسبانيا في الفكر العربي، والفلسطيني منه بخاصة، باستثناء شذرات من تجارب شخصية، مثل الفصل الذي كتبه نجاتي صدقي في مذكراته عن تجربته الإعلامية في "الحرب الأهلية في إسبانيا"، مضمخة بشذا الأندلس وتضحيات أعلام الأدب والفكر والفن الذين قتلتهم الحرب الأهلية فيها، مثل غرثية لوركا وميغل إرناندث أو سحقهم المنفى مثل رفائيل البيرتي وبابلو بيكاسو وكارلوس الباريث. فهو حضور إيجابي مصدره أنفاس إنسانية تعميمية أو عدم إلمام بواقع إسبانيا المعاصرة، شمل كل ما هو هسباني، بما في ذلك أولئك الذين وقعوا تحت تأثير الصهيونية، وعادوا العرب والمسلمين بالغريزة والتربية، مثل خوسي لويس برخس وكاميلو خوسي ثيلا وسلبادور دالي الذي أساء في لوحاته "امرأة عربية" و"العرب" و"حلم محمد" للعروبة والإسلام.
    وفي هذا السياق تندرج أيضاً تسمية عشرات البلدات والأماكن والمؤسسات والجمعيات في الأمريكتين والفلبين باسم فلسطين، أو باسم إحدى مدنها، أو معالمها التاريخية والثقافية والجغرافية والطبيعية، لأغراض طوباوية طامعة ذات صبغة ومرجعيات تلمودية، اختلقتها، في جلها، كنائس الغرب الكاثوليكية والإنجيلية التبشيرية تكريساً لعدائها للعروبة وحقدها على الإسلام، وهي من رواسب محاكمها التفتيشية وحروبها الفرنجية القروسطية. وفي هذا الإطار تندرج أيضاً الألقاب الملكية، مثل لقب "راعي القدس" أو لقب "حامي الأراضي المقدسة" اللذين خلعهما، على أنفسهم بعض ملوك هذا الغرب حامل الصليب أسفاراً.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    وعلى أي حال، فالوعي بالقضية الفلسطينية أسباباً ومعطيات، بغض النظر عن إيجابية الموقف أو سلبيته منها، في إسبانيا وأمريكا اللاتينية اليوم هو أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى، وهو وعي يقود إلى الاهتمام بالموضوع الفلسطيني المعاصر، وبخاصة ما تعلق منه بالمقاومة، اهتماماً ينبع من:
    1 ـ الوعي بالحقوق الوطنية الفلسطينية، في إطارها القانوني، ومعايشة ظروف القهر والنفي والتسلط المفروضة على الشعب الفلسطيني، في وطنه، تحت الاحتلال الصهيوني، وفي المنافي.
    2 ـ ضيق العالم بجرائم الدولة الصهيونية وعنصريتها، في فلسطين وخارجها، وصحوة الضمير العالمي على الظلم الذي دأب الغرب على فرضه انتهازيةً وحقداً، على العرب والمسلمين، بقنابله العنقودية الذكية، وسياساته الاستعمارية الغبية ذات المعايير المزدوجة.
    3 - إدراك الكثيرين حقيقة أنَّ العدوان على فلسطين هو أصلاً عدوان يانكي غربي إلغائي، أداته الكيان الصهيوني غاصب أرض فلسطين، ويندرج في إطار العدوان الشامل على الأمتين العربية والإسلامية، بتواطؤ مع أنظمة حكم مفروضة على شعوبها، وضالعة في مكيدة تصفية حركات المقاومة، ضد الاحتلال.
    4 - إدراك ضمير أمريكا اللاتينية الجمعي بالتجربة، حقيقةَ انَّ العدو واحد، يتمثل في القوة العظمى الوحيدة في عالمنا، وإنْ اختلفت أطماعها الاستعمارية وأدواتها العدوانية ، وأنَّ الكيان الصهيوني، كواحدة من هذه الأدوات، يقتل إنسانية الإنسان، ويدمر البشر والشجر والحجر، ويذبح الأطفال، ويستنسخ، على أرض فلسطين وجوارها، تجربةَ التطهير العرقي الأنجلوسكسونية ضد الهنود الحمر، على خلفيات توراتية ، لتأخير ما ينتظره من أجل محتوم، لاقته مغامرات استعمارية مماثلة، في الجزائر وجنوب أفريقيا، وفي فلسطين ذاتها وفي أكنافها.
    5 - الإيمان بحق الإنسان في الدفاع عن النفس والعرض والهوية والوطن، بكل الوسائل المتاحة له، باعتبار المقاومة ظاهرة إنسانية نبيلة وردة فعل فطرية وصحية لدفع الظلم عن الذات والنحن، لولاها لما كان ثمة وجود على كوكبنا لدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها‍‍‍!
    6 ـ خصوصية الطابع العربي الإسلامي الشرقي المقدس لفلسطين، وما تعانيه، من عبث الاغتصاب والتجيير والتهويد والتدمير، على أيد قوى استعمارية عنصرية، لا مكان للآخر في قاموس أطماعها.
    ولا يمكننا في إطلالة إهلالية كهذه تجاهل قضية الإبداع والالتزام، باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه حضور فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر. فالالتزام خيار إنساني مكلف لصاحبه، في هذا الزمن الردئ، لكنه يظل في كل الأحوال ديناً وفرضَ عين على الضمير، لا يقبل تأويلاً أو تأجيلاً، وفيه ينحاز الشاعر أو الكاتب للإنسان، بالضمير والفطرة، انحيازاً منطقياً مشروعاً دون تراخٍ أو تزمت.
    وبالمقابل، قد ينطوي شاعر ما أو كاتب على الذات فيكتب منها ولها أو عنها، بمفهومها الضيق، ما لا يتجاوزها في رسالته، أو يكتب لها بمفهومها الشمولي، ضمن بيئة يعيش فيها ويتأثر بمعطياتها، وهذا هو كنه علاقة الأديب بمحيطه، كفعل ونتيجة، على أساس أن التأثيرات المتلقاة من المجتمع، تشكل العناصر الأولية في العمل الأدبي عندما يكون مبدعه حاضراً فيه. وبهذا المعنى ليس من الضروري أن يكون الأدب ملتزماً أو صادقاً، وإنما يكون أدباً تتعامل فيه الأنا مع محيطها بما لا يتجاوز ذاتها. وتقوى علاقة الأدب بمتلقيه كلما ترسخت قدرته على فرز الأحداث وملابساتها في ضوء الصراع القائم بين طرفي معادلة مختلة الموازين، كما تقوى تلك العلاقة بتعيينه طرفي المعادلة، ليسهل تحديد مضامين العمل الإبداعي وأهدافه، ويتحقق بالتالي انحيازه، عن قناعة وتبصر، إلى حق المستضعفين ضد باطل الطغاة. كما تتحقق بذلك المهمة الأدبية بأبعادها الإبداعية والرسولية. فالشعر كما يقول الشاعر السلبادوري خوسي روبرتو ثيا: "ليس هو كتابة الكلام الموزون المقفى، وإنما هو الإحساس بإنسانيتنا، وبالحياة التي نحملها على الأكف، في طريقنا إلى الموت، وما خلا ذلك فهو هراء" .
    لا تتعارض حرية الاختيار مع الالتزام بالثوابت والقيم المجردة، لأن الأديب المتنصل من التزاماته اتجاه الآخر، واتجاه النواميس الإنسانية، يسيء فهم الحرية الإبداعية بانفصاله عن محيطه وانسحابه إلى نفسه أو انطوائه عليها، وبهذا يكون قد مارس حرية الخيار في اتخاذ موقف خاص به، لكنه في نهاية المطاف موقف سلبي وانطوائي، يكون به قد خسر إنسانيته التي لا تتحقق إلا بتمسكه بمقومات، منها التواصل مع الآخر والدفاع عن المظلوم ضد الظلم والظالمين. فابتعاد الأديب عن قضايا الجماهير، وتنصله من الالتزام بالدفاع عن حقوق الإنسان، بمحض إرادته، هو نوع من تطبيق الفلسفة الفردية الانعزالية، وتشويه لمفهوم الحرية، ودعوة لعدم المسؤولية وعدم الانتماء، لأنَّ الإبداع الأدبي يخضع لمؤثرات خارجية وداخلية، وموضوعية وذاتية، تؤدي إلى تفاوت درجة النضج فيه وتنوع المضامين.
    وقد يكتب الكاتب لغاية الكتابة في حد ذاتها، باعتبار العمل الأدبي إبداعاً، من الخطأ إخراجه من سياقه، بموثرات غريبة عنه، أو بتطفل الدخلاء عليه، لأنه، كما يقول دعاة الفن للفن، وسيلة تعبر عن بعض عناصر الغاية، وليس عن الغاية كلها؛ ولغير هذا البعض من عناصر الغاية، نقول عن قناعة راسخة، أثرُه في حياة الناس، وهم مآل هذا الأدب ورأس ماله. وقد قالها الشاعر والناقد الطليطلي خواكين بينيتو دي لوكاس، بلا لبس أو إبهام: "إما أن يكون تاريخنا أدباً أو لا يكون شيئاً آخر على الإطلاق".
    وبهذا يقوم عنصر الالتزام في النصوص الشعرية التي يعالجها هذا الكتاب علي أسس جلية تنبع من موقف حقوقي وإنساني مجرد، ومن إبداع فني خالص، لا يساوم على حق ولا يهادن ظالماً أو معتدياً، ويتناول الأمور بمجملها، في إطارها البيئي الشمولي أسباباً ومعطيات، فلا يجتزئها، أو يُخرجها عن سياقها، وإنما يتوحد بالإلهام والحياة، ويسمي المسميات بأسمائها، ضحية كانت أم جلاداً:
    فما لطَّختُ اليدين بدم فلسطيني
    وما تساوقت مع مطامع الإسكندر
    أنا بحب الأرض مبتعد عن الحقد
    صديق الأرض عدو الحقد.
    ونحن، بهذه الإلمامة النقدية الاستهلالية لاستقبال فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر، لا نزعم، مع إيماننا بأنَّ الخلاف في الرأي لا يُفسد في الود قضية، أننا قد أغلقنا هذا الفصل، بعد أن جمعنا، بين دفتي هذا الكتاب، شتاته وشوارده، أو بعد أن عالجنا قضاياه وظواهره، فهذا أمر لا يمكننا أن ندّعيه، بعد طوافنا الطويل بهذا الموضوع واطلاعنا على أسراره ومجاهله، وبعد جمع نصوصه وملازمة بعض كتّابه، و"ملاحقة" البعض الآخر، عبر المكتبات العامة والخاصة ومؤسسات ثقافية أخرى، في إسبانيا وأروبا وأمريكا اللاتينية، أو عبر وسائل الاتصال المتنوعة، وعلى ذلك قس، فغير شاعر ممن احتضن هذا الكتاب استلهامهم بلادَنا فلسطين، هم مبدعون حقيقيون، ندرك أن ثمة ظواهر في تجاربهم الشعرية لها صلة بذلك، وتستحق دراسة نقدية متأنية متفحصة، تربط الفرضيات بالمعطيات، وتنفذ من الكليات إلى الجزئيات فتستنطقها عن مقاصد العمل الإبداعي، لتمسك برأس الخيط السري الذي أوصل هؤلاء المبدعين إلى الحضرة الفلسطينية البهية، بترابها وأهلها، وتاريخها ومقدساتها، وعروبتها وإسلامها، وصمودها ومقاومتها، حيث تكمن مهمة الشاعر في تبشير الناس بإنسانيتهم، ليتبينوا ما توجبه عليهم فيتبعوه، وما تنهاهم عنه فينبذوه، في زمن مدلهم، قصرت فيه مدارك البعض عن استيعاب حقيقة أنَّ العزة والإباء، والحرية والكرامة هي من مكونات النفس البشرية السوية، وهي مكونات لا تتحقق إلاَّ بحرية الوطن وعزته؛ كما قصرت فيه أيضاً مدارك آخرين جُدد عن حقيقة أنَّ الإنسان هو أخو الإنسان، فتفاقم فيه الظلم والاستبداد، وتفشت فيه الأنانية والعنصرية والخنوع والاستعباد، وغدا الاستقواء والقهر فيه عنواناً للسلطة، حتى أصبح فعل الانصراف إلى الأدب الملتزم، كما يقول الأديب المهجري حبيب مسعود البشرّي، ضرباً من ضروب الاستشهاد.
    وفي هذا السياق، يغدو النفي المركب أو النفي من المنفى في شعر محفوظ مصيص مثلاً، ظاهرة تستحق دراسة نقدية متأنية ومتوازنة، تكشف عن تعالق مراحل المنفى المتوارث، وتناسقها في سياق الوعي الجمعي والحنين "الجيني" في الذاكرة الفلسطينية التي تزداد توقداً وإلحاحاً في "الذات المتجذرة" وفي "النحن المتنادية"، كما في "القصيدة المستنهِضة"، انتظاراً ليوم عودة آتٍ، تسكن فيه الذاكرة سهلَها ومرجَها، وكرملها وغورها، ونقبَها وجليلها، وينتهي كابوس المنافي، بكل أشكالها.
    النفي المركب أو النفي من الوطن الحاضن، بعد النفي الأول من الوطن الأم، تجربة إنسانية وإبداعية غنية ومعقدة، تعيشها النفس الشاعرة بأعمق مشاعرها وبكل جوارحها وتجاربها، في محاولة لتفكيك عناصرها وحل لغزها وتطويع جموحها، فهي تجربة مزدوجة المفاهيم ومركبة المعايير: نفي بعد نفي، ثقيلة الوطء، مرة المذاق، غامضة المعطيات، تتداخل في نسيجها الولاءاتُ والانتماءات والتجاذبات، اعترافاً بفضل ذي فضل، أو حنيناً لمعايشة، أو أُلفةً لمكان، ولكن الحب الأول والأخير، في هذه التجربة الإنسانية العظيمة، مهما تنقل الفؤاد من الهوى، يبقى على الدوام للحبيب الأولِ.
    فاستعراب سيرخيو ماثياس، وأسرار شاعرية خواكين بينيتو، وعمق الانتماء عند إدواردو متري، وبركانية شعر كارلوس الباريث المتوازنة، ووضع أنطونيو مورينو اليد في النار التي يصطلي بها الآخر؛ كما التحدي والمقاومة عند خوليو أُواسي، ومفهوم الوحدة الثقافية والحضارية عند خوليو بيليث، والعفوية الشعرية عند ميغل تشوليَّا، ودروس التاريخ بخلفياتها التربوية عند داسو سالديبار، والطفولة كعنصر إبداع وتحفيز في شاعرية بدرو أوسكار، وعناصر إبداعية أخرى مشابهة، عندهم وعند أمثالهم، تعتبر مدخلاً لدراسة التجربة الشعرية عند شعراء توافدوا، فرادى وجماعات، لمواكبة فلسطين في مسيرتها، نحو الخلاص والانعتاق، من المهاجر خلف البحار، إلى الأهل والديار، بأغنية حب وعطاء يجهل القتلة والغاصبون والمتعاونون أبجديتها ومعانيها: "يا فلسطين التي كدنا لما/ كابدته من أسى ننسى أسانا/ نحن يا أخت على العهد الذي/ قد رضعناه من المهد كلانا/ مكة والقدس منذ احتلما/ كعبتانا وهوى العرب هوانا".
    وإذا كان الشيء بالشيء، في العطاء غير الممنون، يُذكر، وكان جدنا الألمعي صاحب الحسب الرفيع هاشم بن عبد مناف يؤدي بأريحية حق الوفادة لكل الوافدين إلى مكة المكرمة تأدية للواجب الروحي والإنساني، فنحن على خطاه، نؤدي، بقدر المستطاع، وبتواضع، مع إدراكنا نحن الأحفاد أصحاب اليد القصيرة والعين البصيرة، لفروق المقامات والعطاءات، بعضَ ما يتوجب علينا من وفادة هؤلاء الأقانيم والمسحاء على ديارنا الفلسطينية المباركة، إكراماً واعتزازاً بوفادتهم وثناءً على ما يحملون من قيم إنسانية عُليا، وتمسكاً بمآثر جدنا الجليل الذي أكرمنا الله نحن أبناء فلسطين، بلقائه وجهَ ربه في بلادنا، وباحتضان غزتنا جثمانَه الطاهر، لتُعرف من يومها بغزة هاشم .
    وإذ تبقى فلسطين، في القلوب والقناعات، بلاداً وعباداً، أكبر من كل اغتصاب أو نفي، لا يبقى لي أنا، في هذا المقام، بعد أنْ أومأتْ مادة هذا الكتاب بأنَّ كل جنان الأرض لا تغني الفلسطيني عن وطنه ، إلاَّ التذكير بأنني قد اقتصرتُ في جمع هذه المادة ودراستها على النصوص الشعرية المكتوبة باللغة القشتالية المعروفة بالإسبانية، دون غيرها، وأجّلتُ إلى حين، ما كُتب بفنون أدبية أخرى، أو بلغات أخرى في أمريكا اللاتينية مثل البرتغالية والإنجليزية والفرنسية، وفي إسبانيا مثل البشكنسية والقطلونية والجاليقية، لأنه جِد قليل التمثيل في عملنا هذا الذي أردنا به التنبيه على هذا الحضور بما وصلنا إليه من نصوص، هي بالفعل أنموذج لظاهرة موجودة، يمكن تتبعها والتوسع في دراستها؛ هذا مع إدراكنا لصعوبة المهمة، وإدراكنا في الوقت نفسه أيضاً، أنَّ مهمة كهذه، مهما تعقدت واستغلقت، ومهما سُدت مسالكها واستعصت مغالقها، تظل، في مواسم التبشير المسلح وقتل النفس سدىً، فرض عين، نؤديه راضين محتسبين، نحن الذين لم يترك لنا الظلم خياراً، غير الانحياز لضحاياه انحيازاً لا رجعة عنه.

    الدكتور محمد عبد الله الجعيدي
    جامعة مدريد
    في أحد مذبحة قانا الثانية 30/7/2006


    يتبع

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    والآن جاء دور القصائد الرائعة التي كتبها شعراء هسبان لفلسطين ونبذة عن كل شاعر
    ترجمها الدكتور محمد عبد الله الجعيدي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    الشاعر التشيلي محفوظ مصيص
    عبير فلسطين في أمريكا اللاتينية



    1- محفوظ الشاعر المبدع

    الشاعر العصامي الأشهر، أنطونيو مصيص Antonio Massis، الفلسطيني الأصل، التشيلي المولد والجنسية، الإنسان المقاوم لكل ظلم وجبروت في مواقفه وشعره؛ وُلد في مدينة إيكيكي Iquique، في 19 مارس سنة 1916، وبدأ الكتابة في فترة مبكرة من حياته. بعد إصدار عمله الأدبي الأول بعنوان "الساحل الأزرق"، في سنة 1940، استبدل اسمه بالاسم العربي محفوظ Mahfud، وراح شعره كاسمه ينحو هذا النحو المُثري. كان شاعرنا عضواً نشطاً بين الكتاب التشيليين، فشغل مناصب منها أمين جمعية كتاب تشيلي، ورئيس نقابة الكتاب فيها، ومدير المعهد التشيلي العربي للثقافة، وكان ملحقاً ثقافياً لبلاده في كراكاس ورئيساً للمركز الفنزويلي العربي للثقافة فيها، وترأس تحرير مجلة "بوليميكا"، وقد نشر أعمالاً منها: سبعة دواوين شعرية ومجموعة قصصية وعملاً مسرحياً وكتاباً نثرياً ودراستين نقديتين.
    وقد تميز شعر محفوظ بأسلوبه الفريد وباستخدامه الموضوعات غير المألوفة، الأمر الذي جعل الجدل النقدي يدور شديداً وعنيفاً حول كل كتاب يصدر له؛ إذ كان القراء والنقاد ينقسمون بين مؤيد ومتحفظ على هذه الطريقة المحفوظية في الكتابة، إلا أن كلا الفريقين كانا يتفقان في النهاية على أنها ظاهرة أدبية مدهشةً تستحق التحليل والدراسة. وكما جاء في معجم الأدب الأمريكي اللاتيني الصادر في تشيلي سنة 1958، فإنَّ أعمال محفوظ تقدم لنا صورة درامية عنيفة للواقع وللخيال معاً، دون الفصل بينهما، ولكنها تطوعهما للغة وتصوغهما في صور غالباً ما تكون متقابلة، وقد اعترف له النقد الأدبي، في مجمله، بارتياد نهج أدبي جديد وفي الوقت نفسه متشائم وحيوي، يؤكد أنَّ عناصر إبداعية كالموت والمنفى والحياة والوطن والوجع الإنساني بكل تنوعاته الزمانية والمكانية والعرقية، هي محورَ شاعريته المكتربة، حتى أجمع النقد، في وقت مبكر، على أن ديوانه "وحوش الألم" هو أفضل كتاب صدر في تشيلي سنة 1949.
    لقد أجمع نقاد شعره على أنه يعيش الواقع الإنساني المعذب بكل جوارحه، الأمر الذي جعل روح التمزق الإنساني والعذاب البشري المر يظهران بوضوح في شعره. وهو بهذا، إلى جانب بابلو نيرودا يمثل أقوى تيارات الخلق الشعري تحريضاً في تشيلي؛ هذا إلى جانب العمق والأصالة والطريقة الخاصة والكثافة الأسلوبية التي يتميز بها شعره. وهو، كما يقول بدرو بابلو باريديس، كشاعر يزداد كل يوم أصالة في أسلوبه ونغمته، الأمر الذي جعله مفخرة تشيلي.
    والحقيقة أن ازدواجية الانتماء والأصل عند محفوظ، أب فلسطيني وأم لبنانية ومنفى تشيلي، قد أثرت تأثيراً قوياً في شعره؛ فقد جمع بين حضارات الشرق الغابرة، بعلومها ومعتقداتها، وثقافات الأند القديمة بأساطيرها وخيالها؛ وعن هذا الجمع تمخضت فلسفته الشعرية في نظرتها للمفاهيم الحياتية وفلسفتها الأخلاقية كالموت والحياة والحب ... الخ، فجاء شعره عذباً صادقاً ومفعماً بالحيوية كأساطير الأند القديمة، تهب عليه ريح جنائزية من مصر القديمة فتضع الحد الذي يفصل بين الانهيار وبين الأمل في شعره. ومع ذلك تظل الحقيقة الأبرز، كما يؤكد عليها الشاعر نفسه، أنَّه ورث عن أسلافه أمانة أخلاقية لم يكن من السهل على انتمائه الأمريكي اللاتيني تجاوزها. ولهذا عندما ضاقت بشاعرنا دنيا المنافي على اتساعها وتعدُّد غواياتها، شدّ الرحال إلى فلسطين، لا يلوي على غيرها.
    إنها ازدواجية حاضرة حضوراً قوياً في ديوانه "مرثية واراها التراب" 1955، حيث الكلب وهو أكثر البهائم ظهوراً في شعر محفوظ مصيص يتقمص في هذا الديوان صورة الإله "أنوبيس" ذي الرأس الكلبية يزن أرواح الموتى.
    وفي شعر محفوظ نجد أيضا الملائكة حاضرة يستخدمها استخداماً خاصاً؛ وإن كان "بليك" قد قال: "إن كل ملاك مرعب"، فإن شاعرنا، كما تقول خيسوفينا بلا، يحمل حدود الرعب الملائكي إلي أبعد مما يستطيع أي شاعر "ملائكي" متطرف في استخدامه هذا العنصر كدانتي أو بودلير أو بوي مثلاً أن يحملها. وترى الناقدة نفسها أن الموت في شعر محفوظ مصيص هو تجربة حية، مرعبة وغريبة في ظاهرها وتسبق وقتها؛ حيث يصر الشاعر على الفصل بين الموت والحياة فينتهي به الأمرُ إلى تجشم الاثنين معاً، دون أن يخلط بينهما؛ حيث تتلخص هذه التجربة في قول الشاعر نفسه: "بأن كل ما نراه وما نحبه يعيش ويموت ونحن ننظر إليه". باختصار، فإننا نشهد في شعر محفوظ مصيص "ولادة موت جديد".
    وعندما يطل محفوظ على تخوم قارّة العذاب الإنساني، ويقتطع من نياط الفلب قصائده، وبالدمع والدم يكتب مرثية الوجود البشري في حضرة الفدائي الشهيد مجلاً ومخاطباً، يضع في أعناقنا، نحن الذين من أجلنا استشهد هذا الأقنوم، دَيناً كبيراً يثقل ضمائرنا، وبرد الدّين للوطن يستعجلنا: "لو قالوا لك إنني اقتلعت العيون، لو قالوا لك إنَّ ذبابة ضخمة سوداء كزعانف ميت تجوب يمَّ المذبوحين، لو قالوا لك إنَّنا جميعاً نحن المقهورين في هذا العالم نبكيك في هذه الشوارع التي اضمحل فيها القمر، أقسم لك أن ذلك كله صحيح. أقسم على ذلك بيديك المبتورتين اللتين رحلتا من مغسلة بايي غراندي حيث سجّوك كإله من نار وقع في شرك لصوص، أو كمهر أبيض برأس ذهبية أسقطت في البواليع".
    عندما يباغتنا سيل صوره الشعرية الجنائزية الموجعة، على حين غرة، ويعيد محفوظ مصيص الحضور والحياة لأساطير تعفنت، فتفككت جوامعها، وتكدست في قبور أسلاف ذهبت رفاتهم مع ريح الوباء الأسود، وحشرات أخرى يستدعيها في شعره، فإنه يرفع بلغة، هي الأنسب لرؤية عالم محزن كعالمنا، صوتَ الاحتجاج عالياً ضد الركود والأبدية والظلم. وبهذا يسدد "قنّاص" الشعر التشيلي القصيدَ منادياً للمقاومة ومبشراً بالخلاص، من أجل أن يصبح العالم عالماً تسوده المؤاخاة والمساواة والحرية والأمن، ولا يكون فيه الإنسان ذئب الإنسان، ولذلك يحيل القصيد سيف نزال بتار وسوطاً يلهب به ظهور النخاسين والطغاة والغاصبين.
    وشعر محفوظ مصيص على جودته يكسوه ضباب لزج تتلألأ من تحته الاستعارات الساحرة. أما لغته فوصفها النقاد لكثافتها وتماسكها وعمقها "بلغة النفط" أو "لغة السَبَج" التي قلما يتمكن القارئ العادي من سبر أغوارها والكشف عن إبداعيتها.
    وحسب صحيفة أونيبيرسال الكركاسية، فإن محفوظ شاعر ذو قيمة كبيرة لها قدسيتها، ويمثل أكثر عمليات الخلق الشعري ثورية في تشيلي، إذ إن أحداً في هذا البلد، كما يقول بيرناردو كروث، لا يكتب بالصورة المميزة المركزة الرائعة التي يكتب بها محفوظ أعمالَه. فقد كانت حياته صعبة قاسية، فغدا شعره كذلك، ديكاً أسود يترنم بما تجيش به نفوس المستضعفين الأبية من ثورة على الظلم والجمود، وعزم على التغيير والخلاص:


    التفتَ إلى العبيد، وقال:
    "هو يشرب دمكم
    وأنتم تتباركون بكسرة خبز جاف.
    تشيدون أهرامات ومدائن
    سيقول إنه هو بانيها."


    تكتسب المقاومة في شعر محفوظ مصيص مشروعها وشرعيتها من كونها فعلاً أخلاقياً وعطاءً إنسانياً، يقوم على التكافل بين المستضعفين، لرد أذى المستكبرين عن النفس والنحن، دون كلل أو ملل
    :

    أمسى خروفاً
    وسيغدو أسداً في الغابة
    لأنَّ اليد التي امتدت للتبرك
    ستعود حاملة السلاح.
    ستصطك عظام
    وتخور عزائم
    لأنَّ يوم الحساب آت.


    محفوظ شاعر، تجاوزت شاعريته حدود الزمان والمكان تجاوز الطغاة والغاصبين حدود حقه الطبيعي في أن يعيش في وطنه حراً آمناً على نفسه ومعتقداته وممتلكاته. فقد شردت الصهيونية الفرنجية والديه من فلسطين، وشردته هو قوى الطغيان الحاقدة من وطنه الثاني، تشيلي، فعاش المأساة مركبة، ظلم على ظلم، وحددت هذه المعطية توجهات شاعريته وأغراضها، فرفع بيارق القصيد المقاوم، على رأس سرايا من شعراء بلاده، خارج الوطن، فالتف حوله، عبر حدود المنافي المترامية، سيرخيو ماثياس وأوسكار هَهن (1938) وعمر لارا (1941) ووالدو روخاس (1944) ووالتر هويفلر (1944) وأسوالدو رودريغث (1944- 1996) وغونثالو ميان (1947) وثيثيليا بيكونيا (1948) وماوريثيو إليكتوران (1960)، شعراء أعلام احتضنوا الوطن الجريح بكبرياء، في قلوب عاشقة أدماها النوى عنه:


    أسموني الغريبَ
    وطالبوني بأن أرحل
    لكنني منذ زمن
    رحلتُ والكفن في حقيبتي.


    طوال ستة عشر عاماً جثم الانقلابيون العسكريون على صدر تشيلي أرضاً وإنساناً، فاغتصبوا الحقوق وكمموا الأفواه وأزهقوا الأرواح، ولطخوا اسم الوطن وسمعته بالتذيل على قوى الاستعمار العالمي، والتورط، بمشاركة صنيعتها "إسرائيل"، في جرائم مشهودة، حتى غدا هؤلاء الشعراء المغردون في فضاءات المنافي، بعذابات الوطن وصموده، وعلى رأسهم محفوظ مصيص، صوتَ تشيلي المقاوم، خارج البلاد وداخلها.
    وبالرغم من الغشاوة التي تلازم عناوين كتبه مثل "أحلام قابيل" 1953، و"ترنمات الديك الأسود" 1958، و"المهزومون" 1961، و"أساطير المسيح الأسود" 1963، و"سِفر النجوم المطفأة" 1964، و"وصايا على الحجر" 1971، و"بكاء المنفِّي" 1986، فإن شمساً تطل من خلفها ساطعةً، لا تلبث إذا أنعمنا النظر في حقيقتها، أن تمزق تلك الغشاوة الجنائزية كاشفةً عن روح ثورة متمردة تنظر إلى الأمور نظرة تأملية واقعية تسمح برؤية المستقبل رؤية حقيقية.


    "في هذه الأرض التي تسحقها الآلام والمجاعة.
    محتومة تظهر في السماء
    علامة الثورة فوق السم والشرور
    فهي عبور من خلال الموت
    وصيحة عبر جدار الصوت".


    من هذا الموقف الجلي، ومن هذه القناعة الراسخة، انطلق شاعرنا يكتب شعره الإنساني المقاوم. ومنذ أن شردته سلطات الانقلاب الطاغية من بلاده، وحتى وافته المنية في منفاه سنة 1990، ظلَّ محفوظ ينشد، من فنزويلا بوليبار، أناشيد التحريض وينفخ من شاعريته في نفوس المستضعفين الصابرين احتساباً، بآيات الخلاص مسانداً كل قضايا التحرر والتحرير في العالم، داعياً أصحابَها إلى تضييق الخناق على الظالمين والمعتدين، والغزاة والمحتلين؛ وهنا تقدمت أكثر قضايا الإنسانية المعاصرة عدالةً، فتبوأت عنده " فلسطين في القلب" مكانها.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر



    2- فلسطين في القلب
    إلى فدائيي الثورة الفلسطينية


    عند قدم هذه السلسلة الجبلية القاسية البيضاء
    أقف عارياً أنا
    محفوظ مصيص
    عبير فلسطين في القارة الأمريكية
    مواطن من العالم الثالث
    من العين الثالثة
    من هذا القمر الفارغ
    كمهر أرفع صوتي في وجه السماء المكفهرة
    لن أبكيك أرض أبي العتيقة
    لن أبكي شهداءَك أو
    نساءَك المهتوك عرضهن الملقيات
    إلى الجمَّة السوداء،
    أو أطفالك المشرئبة إلى الشمس وجوهُهم،
    أطفالك الذين قلبي يعبدهم،
    لن أبكي دُورك ذات الحجارة الأزلية
    المسكونة بالغربان،
    المجلوبة من كل الأمم،
    غربان عيونها زرق،
    أو خضر أو صفر
    أو حمر كشقائق نعمان دموية.
    لن أبكي مسنِّيك الذين يغنُّون تحت الأخياش،
    سماءً هجرتها العصافيرُ
    ولا صلواتك لإله مات في
    الحجز منذ زمن بعيد
    الدمع وحده
    يلعق الحجرَ! ينزلق
    كالموت،
    ويسقط سقوط الماء على السَّيفِ
    المجرَّد
    أغنية العين الناضبة! العين التي لا رطوبة فيها، وأشربُ
    إبريق دموعي في وحدتي، عندما
    لا يستطيع حتى الموت رؤيتي، وأنتِ، وأنتِ، زوجي، تظنين
    إنِّي نائمٌ
    قبضة تحدٍ. عَرقٌ وحِمم بركانية! ذلك ما أُريد.
    أُخرجوا،
    أبطال الشَبُّوط والحفر الباردة!
    في أيديكم المفاتيح،
    أخرِجوا النمرَ من صوانكم !
    عودوا إلى المهد الذي تحابَّ فيه آباؤكم
    وفيه مات الجدُّ، في آخر أمسية، مستمعاً جَلَبَة الحظائِر
    وثغاءَها الزبرجدي.
    همو أصحاب غيتو أوروبا ! الذين
    في الأفران حُرقوا، المنبوذون كقرطاس إثر العاصفة،
    المسلوخون عن جلودهم، أو
    المهروسون مع الحجارة،
    المسمَّرون، الممزَّقون إرباً،
    المُزهقة أرواحُهم في غرف الغاز
    في آوستشوتز
    المجفَّفون،
    الذين لم يتعلموا الدرسَ،
    من توينبي العجوز، وأرسلوا
    كلابهم المسعورة إلى فلسطين
    وأسراب ضِرائهم في ثياب أحبارٍ
    أو أسماك قرش حزينة
    أو أرسلوا الجنرال الذي، بعين واحدة، صلدة، كالماء المتجمد،
    ينظر إلى أرَضاته أو جلاَّديه.
    إلى جديانه الشعارية.
    هرعوا
    "ككيس سليكا" وريح عاتية.
    كعواء مجنون في الوهاد، حَرَقَ
    الأرض الطيِّبة،
    أشجار الليمون ترتجف
    كثدي أرملة بها الذكريات قد عصفت؛
    أشجار رمَّانك
    التي لا تنتهي، وصناعاتك التقليدية
    البسيطة، عندما كنتِ تشغلين الصدف،
    أو تنقشين على خشب الزيتون الخالد.
    بقروا بطن دير ياسين واستعرضوا
    فتياتك عاريات
    وشربوا بين أفخاذهن النديَّة
    كالشمعدان حرقوا
    رموزك، قذفوك بالنابالم والزيت الأسود،
    وشتتوا شمل أبنائكِ يحملون على أكتافهم
    آخر ثقب مسمار في الذاكرة.
    ولكن هناك بعيداً
    في المخيمات
    في كل مخضلّ وترابي في الأحشاء، وأعمى
    في محاريب الرّعب أو بهزال الجسوم
    التي في كل يوم تموت،
    بين مراييل وجرذان مبتلَّة،
    بين أحلامٍ جذماءَ ودخان وحبال وملابس
    موتٍ.
    بين القطران والحثالة
    بين أشياءَ
    كثيرة نسيتها الأرضُ،
    انفجرت، فجأة، قنبلةُ دمٍ: مائة
    ألف رأس كبردٍ قرمزي،
    بكلمة عدلٍ محفورة في
    كل عين، وكل قلب يائسٍ،
    من كل
    شبوط إلى قلب الليل فدائيٌ قفَز،
    قلب الليل الرهيب السابق لكل تاريخ.
    فالطفل أصبح الآن فدائياً هائجاً،
    واللسان الجاف كألسنة لهب في حلفاء،
    إليكم أبناء الظل الساطعين،
    هذه الوردة الباردة.
    هذه الدماء التي ما زالت تحرقني، ومن
    الوهاد الساحلية، من هذه الصخرة الكوكبية،
    للأهوال والعظائمِ
    أُحيل لغتي باروداً،
    أُشعل أساطيري الخاصة
    وعلى صهوة جواد جامحٍ أصحبكم
    في رحلتكم
    وأقول:
    المجد لكم في الذُّرى!
    وهنا في السهوب لكم المجد!
    المجد للصناديد عند شروق
    الحجر! فلتسعد الصدور
    التي منها رضعتم، لبن الكواكب السيارة كطعم الحنظلِ.
    فلتسعد امرأة
    وضعت على جباهكم أولَ قبلة،
    امرأة تغطي وجوهكم في الساعة السوداء الأخيرة الخالدة.
    عندها أُثني على رجولتكم،
    وسواعدكم القوية،
    وباسمكم
    أرفع صوتي
    كمن يُشهِر سيفاً
    في أمريكا اللاتينية
    وأُبخِّر الآلهة
    احتفاءً بمولدكم.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    3- بكاء المنفيّ

    شهداء أعرفهم
    من فلسطين ينادونني
    ويسألون باكين كيف ولماذا
    بينما يسقط المطر
    ويملأون أباريقهم
    يهمّون بالرحيل
    بين أناشيد رعوية وترانيم موت مخيفة
    ... ... ...
    يسكنني حزن النخاسين
    شددتُ الرحال إلى أمريكا الجنوبية
    لكن لم يفهم أحد معنى أن أكون منفياً
    ولم يتعرف أحد على ظلي
    ولم يبق مني إلاَّ هذه الحشاشة من اللغة
    التي أبشر بها في السوق.
    فلسطين تعلق شهيدها الأخير على أشجار الزيتون
    وأنتَ يا لبنان
    بأخشابك النبيلة كما عهدتُك
    مدمَّرٌ
    ... ... ...
    جلدك غزلاني اللون
    كغزالة انبثقت من الماء لتوها
    أوراق حلفا من دمِ
    ... ... ...
    أنا الذي خرجتُ من عظمك
    الأول في هذه القارة الأمريكية
    لم أفهمك قط
    كنتِ تسألين عن معنى وجودنا هنا
    وكم هي بعيدة فلسطين!
    وكل ما كنتُ أريده
    هو أن أبكي.
    أسموني الغريبَ
    وطالبوني بأن أرحل
    لكنني منذ زمن
    رحلتُ والكفن في حقيبتي
    أموت بلا سبب
    كذلك الذي
    يقذفون به من كوكب آخر
    ويستطيع اختيار قبره.
    هيَّا بنا معاً إلى فلسطين.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    4- لا مقام لنبي في بلاده

    كالمسمار
    كانوا يضربونني
    دائماً على الرأس.
    فصارت الرأس قرناً
    جهنمياً عميقاً
    به استطعت كسر
    عظم فخود آلهة
    وهشَّمت فيهم أضلاعاً
    ولكثرة الدق تثلم القدوم
    ولو أنهم بدل الدق على القرن
    صفعوا على الأصداغ
    لبقي القدوم اليوم
    على قيد الحياة
    يداهن
    أو يمارس الرذيلة
    في دكاكين الحدائد.
    لذلك ثمة من يؤكد
    على أنَّ لا مقام لنبي
    في بلاده.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  12. #12
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    يتبع إن شاء الله

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    مع الشاعر الكولومبي داسو سالديبار
    في رحلته
    من أوروك إلى فلسطين



    1- داسو صانع الحياة


    في "وحوش الألم"، يربط الشاعر القاص الناقد داسو سالديبار الأسطورةَ والتاريخ بالواقع المعيش، ليصور صراع الإنسان ضد جانبه البهيمي الشرير، منذ أن ولد في شخص خمبابا: (رمز البهيمة الشريرة) الذي قتله جلجامش (منذ أربعة آلاف عام)، مروراً ببيلاطو المتهود وأتباعه الذين قتلوا المسيح، حتى عصرنا هذا الذي تقف فيه البشرية شاردة اللب وفي فمها تساؤل: إذا كان جلجامش قد غسل قدميه تعبيراً عن براءَته في عصرٍ اختلطت فيه الإنسانية بالبهيمية، وغسل بيلاطو يديه متنصلاً من جريمة ارتكبها في عصر نضج فيه العقل البشري فماذا ستغسل القوى الاستعمارية الفرنجية الرأسمالية، وماذا ستغسل الصهيونية العنصرية الإحلالية، بعد جرائمها في فلسطين وغيرها من بقاع العالم!
    لكي تحقق البشرية إنسانيتها توجب عليها التخلص من طبيعتها البهيمية، ولكنها عبر مسيرة الخلاص هذه تعرضت لنكسات أخلاقية في السلوكيات، ساعدت على تغلب الجانب البهيمي الذي بلغ الأوج فتكاً بالإنسان في عصرنا هذا، على يد الصهيونية المتهودة والاستعمار الغربي المتفرنج ذي الأيديولوجيا التدميرية القاتلة.
    منذ مطلع القرن العشرين وقعت كولمبيا حديثة الاستقلال ضحية هيمنة واشنطن على مختلف وجوه الحياة الإنتاجية فيها، وتفشت في أراضيها زراعة المخدرات لإفساد المجتمع المحلي وتدمير اقتصاده وتحقيق أرباح غير مشروعة لشركاتها الاحتكارية اليانكية القائمة على هذه الزراعة، حتى أصبح وضع الناس المعيشي لا يطاق، فتذمرت العامة، وحملت المنظمات الشعبية الفدائية السلاح في وجه القائمين على الوضع، ومن أجل إبقاء الأمور على ما هي عليه، لجأت الحكومات المحلية الخاضعة لنفوذ واشنطن وهيمنتها إلى الفتك بالمواطنين العزل والغدر بقيادات المنظمات الفدائية المقاتلة، لكن ذلك لم يحل المشكلة، وإنما زادها تعقيداً، واكتظت المنافي بعقول ومبدعين ينطق لسان حالهم بقصيد خوسي إوسيبيو كارو :

    بعيدأ، آه! عن سمائك المقدسة
    التي تهدهد مهدي
    أرى نفسي، أنا المنفي قليل الحظ، أجرجر
    عذابي وبؤسي.
    أتوكأ على مؤخرة مرتفعة
    لسفينة تهرب على عجل،
    وأنظر إلى جبالنا
    وقد أضاءَتها الشمس.
    في رعاية الله يا وطني الغالي! في رعاية الله،
    ليس بمقدوري بعد، يا وطني الغالي، أن أكرهك!
    كنتُ في بلواي،
    كطفل أتشبث بمعطفك؛
    فتنتزعه من يدي يداك الغضوبان
    وتنكر عليَّ أنت، في سخطك، نشيجي وعويلي.
    وتقذفني ذراعك العملاقة إلى
    ما وراء البحار.
    في رعاية الله يا وطني الغالي! في رعاية الله،
    ليس بمقدوري بعد، يا وطني الغالي، أن أكرهك!
    أهيم على وجهي الآن حزيناً
    في بلاد غريبة،
    استجدي بنشيجي المسافرين
    خبزَ الألم:
    من باب لباب تتنقل طرقات عكازي،
    سدىً! أه، من يتعرف على صوتي في بلاد غريبة؟
    في رعاية الله يا وطني الغالي! في رعاية الله،
    ليس بمقدوري بعد، يا وطني الغالي، أن أكرهك!
    آه، ما كنت أطلب منك متوسلاً إلاَّ قبراً!
    أحفره في كل مساء
    على آخر خيط يرسله شعاع الشمس الغاربة
    كان جوابك قاطعاً:
    "اذهب واطلب قبراً لك في بلاد غريبة!"
    واملأه بحجارة فتتتها نبتتُك
    في رعاية الله يا وطني الغالي! في رعاية الله،
    ليس بمقدوري بعد، يا وطني الغالي، أن أكرهك!
    أحملُ، في كوب، غصناً طرياً مزهراً
    من شجرة برتقال
    ما زلت أستنشق من براعمه
    شذى الوطن!
    سيظل بظله قبري، وحينئذٍ
    سأغفو غفوتي الأخيرة؛
    على طيف أوراقه وحفيفها
    في رعاية الله يا وطني الغالي! في رعاية الله،
    ليس بمقدوري بعد، يا وطني الغالي، أن أكرهك!


    عندما راح معظم إنتاج الوطن الغالي من المخدرات يتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأثقل ميزانية نظامها الاجتماعي، سعت إدارة واشنطن، دون جدوى، إلى إعادة قولبة هذه الزراعة، تحت شعار محاربة زراعة المخدرات، لأن هدف تلك الإعادة لم يكن، في الأصل، القضاء على المشكلة، بقدر ما كان مناوراتٍ، وبحثاً عن أسواق جديدة لتحسين أوضاع شركاتها المعنية، حتى تلك المستفيدة من تجارة المخدرات، والتمكين لحكومات البيت الأبيض من إحكام سيطرتها على كولمبيا.
    هكذا غاصت السنوات العشر الأولى من حياة شاعر "وحوش الألم" (كانيون دي سان خوليان، كولمبيا 24/7/1951) في دوامة ما يُعرف في تاريخ كولمبيا بمرحلة العنف التي امتدت ظاهرياً بين سنتي 1948 و 1962، إثر مقتل الزعيم الشعبي اللبرالي خورخي الييثير غايتن، وضربت بجذورها الدامية في الصراع القديم المتواصل على السلطة بين حزبي الأقلية اللذين تناوبا السلطة في البلاد تحت رعاية واشنطن.
    وبعد أن أودت هذه المرحلة الدامية بحياة ثلاثمئة ألف ضحية، جلها من الفلاحين الذين واجهوا حملات العنف بالصدور عارية، دون وعي طبقي أو أيديولوجي حقيقي لطبيعة المتصارعين، استيقظ الشعب الكولمبي ليكتشف حقيقة الأقلية الحاكمة المستغلة بوجهيها المحافظ واللبرالي. وليتخذ بالتالي، مكانه الصحيح في صفوف حركات التحرير الشعبية التي تبلورت في منظمة "إمي دييثي نويبي" الفدائية.
    وداسو سالدبيار Dasso Saldivar في ديوانه "صانع الحياة" الذي اقتطفنا منه هذه القصيدة، كما في جل نتاجه الأدبي، وبخاصة في "أقاصيص العودة"، يعكس أكثر أصداء ذلك الصراع القاتل إيلاماً، من خلال وعي سياسي واضح للظاهرة، على اختلاف مواقعها، من جبال زاغروس والأند إلى جبال الجليل، ومن جلجامش أوروك وجيفارا إلى فدائي فلسطين.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  14. #14
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    2- وحوش الألم

    بين القدم واليدين
    يمتد محيط إنسان
    محيط كينونة بشرية إنسانية
    وما نلمحه هنا
    ليس أكثر من يمٍّ:
    من أوروك إلى لاسيو
    منحدراً إلى بوليفيا
    وفلسطين كاملة
    حينئذٍ، عند فجر أوروك
    قال فتى لجلجامش:
    أقتل خمبابا، أقتل البهيمة
    أقتلها في أحراش الأرز
    واغسل يديك!
    غسل جلجامش قدميه
    وقال:
    لستُ أنا القاتل
    إنه الإنسان
    الذي يولد
    طفلاً على أقدام القرون!
    وعلى شاطىء لاسيو.
    عند الهجيرة الهاجرة
    قال عجوز لبيلاطو:
    أقتل أنكيدو ( المسيح)
    أقتله في سهوب النفس
    وإغسل يديك!
    غسل بيلاطو يديه
    وقال:
    لستُ أنا القاتل،
    إنها هي، إنها البهيمة
    التي تنقرض
    على رأس القرون
    لكن واويلتاه!
    فقد راح هذا العرف
    في صلب الزمن يدب
    حتى يتوقف في بوليفيا وفلسطين الدامية...
    من كروم التين والبرتقال الحزين
    انطلق عند الغروب صوتٌ
    كان ينتظر الأوامر:
    أقتل الفدائي
    أقتله عند منعطف حريتنا، وعطِّر الحجة!
    خادم العم سام ضمخ بالطيب حجَّته
    وقدمها لنا في العالم أجمع كي نستنشقها.
    لكن الجرح كان لا يزال عنيداً،
    معششاً في ذاكرة الإنسان:
    بهيمة الشمال
    كانت في حرش من أحراش بوليفيا
    وما زالت في بيارة برتقال من بيارات فلسطين
    تقدس خمبابا.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  15. #15
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    الشاعر الطليطلي خواكين دي لوكاس
    بين أريحا وبيت لحم
    تائهاً يجهش بالبكاء




    1- خواكين شاعر الفن للحياة

    ترقد مدينة تل أبيرا على ضفاف نهر التاجة، جنوب غربي العاصمة الإقليمية طليطلة. وكانت في عهد العرب الأندلسيين مسورة بسور أقيم عليه ستة عشر برجاً للمراقبة.
    في تل أبيرا، ولد الشاعر الإسباني خواكين بينيتو دي لوكاسJoaquin Benito de Lucas سنة 1934. بعد تخرجه من كلية الآداب بجامعة مدريد، عمل في سنة 1960 مدرساً للغة الإسبانية بالمركز الثقافي الإسباني في عمان ودمشق، ثم برلين ولم يعد إلى بلاده إلا سنة 1969. ليمارس المهنة نفسها حتى تقاعد عن العمل الوظيفي كأستاذ في جامعة مدريد.
    بدأ خواكين يكتب أولى قصائده في منتصف الخمسينيات وينشرها في مجلة "الشعر الإسباني"، أو يلقيها في مهرجانات شعرية في جامعة مدريد أو في مجمعها الثقافي. وقد تتلمذ في هذه الفترة على شعراء مثل خوسي يرّو وداماسو ألونصو.
    خواكين شاعر هادئ المظهر، مسكون بالواقعية، بكل ما تحمله من انسجام وتناقضات، الأمر الذي جعل شعره تعبيراً صادقاً عن مضمون مفاهيم كالحياة والموت والصبر والأمل، وحتى مفاهيم ثقافية وزمنية كالأدب والتاريخ. فليس شعر هذا الشاعر الهادئ، في مظهره، هدوء البحر شعراً محايداً أو غير مبالٍ بالمعطيات، وإنما هو شعر شاعر متروٍ يتفحص مادته معنىً ومضموناً، ويستشرف منها إرهاصات المستقبل استشرافاً قلما يخطئ تقدير الأمور.
    إنه شاعر يعيش واقعنا الإنساني غير المريح في هذا الزمن، ويمر بنا مرور الكرام إلاَّ من إلقاء السلام، فنظنه غير معني بمحيطه ومجتمعه، وهو الذي يحمل قلباً وحدساً كالهوائي يلتقط كل ما حوله من أفراح وأتراح، ومسرات ومضرات، يفاجئ كل جاهل بشخصيته عندما يقرأ شعره، أو يتجاذب أطراف الحديث معه، فشعره كصندوق الخياط لا تعرف ما بداخله إلاَّ إذا فتحته وولجت إلى صنعته ولوج العارف المتذوق، الباحث عن أسرار الصنعة الشعرية بكل مظهرياتها ومغاليقها. فحذار من قراءة شعر هذا الشاعر قراءة أيديولوجية استحثاثية، أو معالجته معالجةً عابرة سطحية.
    في إطار الكثافة اللينة والعاطفة الجياشة وأحلام اليقظة، اعتمدت شاعرية خواكين علي معرفة المحيط الخارجي للأحوال والأشياء من ناحية، وعلى التجربة الشعورية التي تعطي القصيدة صورتها النهائية من ناحية أُخرى.
    وفي تجربته الشعورية نلمس ظلالاً سوريالية خفيفة، حيث يسبر في ديوانه "الطحالب" 1976 أغوار دنيا الأحلام والخيال. ومع هذا يظل الطابع الغالب على أدبه واقعياً، يؤكد على أن الحياة والشعر هما الشيء نفسه، حتى جاء ديوانه " تنافر" سنة 1983 قاطعاً في حكمه: "إما أن يكون تاريخنا أدباً أو لا يكون شيئاً آخر على الإطلاق".
    ولقي شعر خواكين قبولاً لدى القراء والنقاد فحصل سنة 1967 على "جائزة أدونيس للشعر"، على ديوانه "مادة للنسيان"، وسنة 1976 على "جائزة ميغل إرناندث الشعرية" على ديوانه "مذكرات الرياح".
    أتاحت له إقامته في سورية الكبري بمعايشة الشرق وسبر أغواره وطناً وثقافةً، وتاريخاً وبيئة، فجاء ديوانه "الهواجس" سنة 1964 ثمرة طيبة لهذه التجربة الغنية لشاعر قضى شرخ الشباب في دراسة العالم الروماني اللاتيني ومعايشته تراثاً وثقافةً ولغةً. لهذا كانت ضربة الحظ التي حملت الشاعر إلى سحر الشرق قوية الأثر حتى تنازعته المشاعر الشرقية والوطنية:


    الناس الذين أعيش معهم
    بعيداً عن بلادي
    يرونني أمر مالئاً
    الصباح بالشجون
    وعن بُعد يُسمع
    صوت البحر في القيد يشدو.


    ويُبحر ليلاً في صحرائنا العربية حيث "تتقدم القافلة/ والرجال يداعبهم النعاس/ دون صوت في الحناجر.../ يئنون تحت سيف الألم"، حتى يصل البتراء:" مدينة تحاصرها الرمال/ مدينة عتيقة في عالم النسيان/ حيث الحجر وحده يشدو/ طليقاً في الهواء/ محطماً قيوده/ ناضجاً من انتظار غزاة كثيرين".
    وفي القسم الثالث من "الهواجس" يجتاز نهر الشريعة غرباً إلى فلسطين: القدس وأريحا وبيت لحم، فيغني في ظلال زيتونها ولوزها أعذب الأنغام، وبخشوع يعيش ذكرى المسيح عليه السلام أرجة يانعة.
    وتظل ذكرى الشرق العربي في نفس هذا الشاعر الطليطلي ريانة ترطب من جفاف الشعور بالغربة، ومرارة الواقع المعيش وخيبة الأمل التي تجشمها في ألمانيا وانعكست على ديوانه: "معسكر الاعتقال النازي Kz" سنة 1970.
    ولهذا، يؤكد الشاعر خواكين بينيتو دي لوكاس، ويعيد التأكيد مثنى وثلاث، في دواوينه الاثني عشر بعامة، وفي "فلسطينياته" بخاصة على أمر واحد

    : "الصباح سأظل أنتظره، حتى وإن لم يأت".

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  16. #16
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    2- أسوار القدس

    الجبال وردية
    والوديان زرق،
    الأنهار متثاقلة
    وصفير الريح مشدود
    بين أشجار صنوبر
    تراني أبكي عند أسوار
    هذه المدينة العتيقة.
    راحت النسمة بين أشجار
    الزيتون تشدو
    وتحتضن الأطفال؛
    وراح الناس أيضاً بين
    أشجار الزيتون يهزجون .
    على أبواب هذه المدينة أقف
    وحيداً رهين الريح والبشر،
    والذكريات والأطفال؛
    كما لو كنت بين بيت لحم
    وأريحا تائهاً أجهش بالبكاء.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  17. #17
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    3- البحث عن أريحا

    جبال فلسطين
    عند الصباح توجتها براءَة الطفولة.
    كان الليل أشمّ
    والنجوم ناصعة
    وأنت يا من تخب بحصان جريح
    بحثاً عن أريحا بين النخيل
    سيقان أسل لدنة
    تنمو على ضفتي نهر الشريعة الضيقتين.
    بجوار البحر المّيت، المياه ضريرة
    تغني أغنية الموت الذي
    راح صوته كنهر سلام إلى
    شرايينك يتسرب
    وهاأنت أخيراً في " أرض الميعاد "
    بعد تجاهل طويل وسير
    حثيث بحثاً عن حشائش،
    علامة غيث وآثار حافر حصان،
    وأطلال منازل ومواقد.
    سواء كنت تقياً من أتقياء مريم
    أو حاجاً إلى مثوى سانتياغو، تأتي
    أريحا تكسو صدركَ الأصداف،
    رداؤك متسخ، والعكاز بيمناك
    وتشرع في الصلاة أمام الطبيعة.
    من المدينة العتيقة لم يبق شيء
    في الذاكرة، سوى نبع عجيب
    وشجرة في ظلها ما زالت
    تصوت خشخشة الأردِية
    الزرق وصوت الأنبياء قد انطفأ.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  18. #18
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    4- على ضفاف نهر الشريعة

    غير المكشوفة والمخفية في النفس
    هناك دروب اُخرى،
    أنت لا تود رؤيتها بينما نصعد، عند المساء،
    من البحر الميت إلى بيت لحم
    تقول لي إن الحياة نسغ نعصره
    بأيدينا ثم يختفي كما تتلاشى
    مياه هذا النهر في البحر.
    وإن كان كذلك، فلمَ المساء
    له هذا القطيع الملون الهائم
    في الجبال الوردية الزرق ؟
    لماذا تشدو الشمس على
    رؤوس الأطفال؟
    لماذا يملأ الربيع بصوته عناقيد كثيرة
    أنظر النسيم بين الأشجار يصفق
    لكل لحظة حياة في هذه الغادة
    التي تَرِد النبع لتملأ جرتها وترفعها
    على الرأس ببهجة تأسر الآبق.
    إذا كانت الحياة نسغاً نعصره بأيدينا
    فلماذا نذهب، هذا المساء؛ أنا وأنت
    يحذونا الأمل إلى بيت لحم
    تقولين لي والمدامة تتدفق من أعيننا
    سروراً: "انظر نهر الشريعة"
    فأنظر إلى مياه النهر الكدرة.
    ويعصب الليل أعيننا
    فأين أنت.
    أين تذهبين ؟

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  19. #19
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر


    5- الغريب

    كان الغريب
    يبحث في النجوم
    عن اسمه
    بنظرات تائهة.
    بالكاد يتذكر يداً بيضاء
    لامرأة أغمضت عينيه طفلاً
    كي لا يصيبه الذعر.
    وبالكاد يتذكر صوتاً كان يناديه
    بحروف اسمه كاملةً.
    لكن زمناً طويلاً قد مضى
    أو أنه في الأقل يظن
    أنَّ زمناً طويلاً قد مضى
    لم يعد فيه،
    حتى هو نفسه يتذكر اسمه.
    بقسوة تتجذر في الكلمات كينونتنا
    هنا ينساب بطيئاً فقدان الهوية
    وضبابية الصفات الشخصية
    كلعاب يسيل من بين شفتي مخمور
    تصيبه تعبيراتُ المجاملة بالهلع.
    لدفع الخوف عن نفسه، ودّ لو انتصب
    فوق أحراش التهم الكثيفة والقسوة
    الملتصقة باسمه غريباً.
    ودّ لو رفع اسمه بيرقاً
    كان، ذات يوم، يخفق
    بين شفتي والديه.
    هنا اسمه تعرفه الملفات فقط
    والشكاوى التي ثصلُ
    على ورق النماذج المطبوعة
    وصفارات سيارات الشرطة.
    لذلك فهو يبحث
    في النجوم عن هويته الحقيقيه
    يلا جدوى،
    لأنَّ النجوم، هي أيضاً مثله، غريبة.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  20. #20
    أستاذ بارز الصورة الرمزية عائشة صالح
    تاريخ التسجيل
    24/12/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    5,872
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي رد: فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر

    6- من وحي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين


    عندما شاهدت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين
    أذهلني التفكير في المصير المجهول لهؤلاء المشردين.
    رغم أنَّ القصيدة لا تلجأ إلى أسلوب المباشرة في الإدانة،
    فهي تكشف عن حيرة بشر، أشعر أنني واحد منهم.


    في الضباب يدفع الليل خطاك
    باتجاه صحراء زاحفة
    قوافل متعبة،
    تحت البدر،
    قرية من خيام قاتمة
    تعيش بصدر شقه
    سكين الرمال القاطعة
    وأنت، بينهم، لا تدري
    ما يدور حولك.
    لكنك بالجوارح
    كالنخيل في الواحات
    تنمو فيك الهواجس مع النغم
    الذي تولد فيه
    النجوم من جديد.
    كم هو بعيد المنال هذا العالم
    وكم هو ملتصق جسدك بالتراب!
    الذي به تسمو
    كرقصة شبقة عمياء
    كعطر غريب مسكر
    كخليط ينسون، من السمسم والنعنع
    وسرعان ما تغدو الحياة
    أمام ناظريك نغماً عابراً،
    تشدك الرؤى، ويمر الصباح
    ويتلظى المساء في شعلة
    نور، كما لو أراد أن يتطهر
    مضفياً بلسانه على الجبال لونها الذهبي،
    وعلى الأنهار الرقراقة في طريقها إلى السماء
    كمسالك في طريقها إلى الأرض،
    أنت لا تسير فيها لأن في جسدك
    غابات من الحزن.
    لكن الليل يعود،
    وبظلاله تروي ظمأك لمزيد من الهواجس
    هكذا تظن أن السعادة قد أتتك
    على عتبات أمل جديد
    راح يتفتح أمامك.
    وأمل جديد آخر ينغلق في وجهك.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 5 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •