السلطة و الإنسان

من بين خاصيات الفكر الحي و الدينامي أنه لا يتوقف عن بلورة المفاهيم و مساءلتها، فهو لا يفتأ يقلب الأفكار و التصورات بحثا عن مساحة أرحب للتفكير و التفكر، بحثا عن طرق أخرى، مسارات أخرى حتى يستطيع رؤية ما لا يرى، أو ما لم يكن بالإمكان رؤيته. في هذا الإطار يمكن اعتبار أن مهمة التفكير في المفاهيم و طرحها للمساءلة لا تخلو من أهمية، لأن المفاهيم هي قوة الفكر أو الطاقة التي تمنح للفكر متسعا من التفكير. و قد يؤسفنا أشد الأسف أن يكون الفكر الغربي ديناميا حين تعاطيه مع قضية المفاهيم، و في محاولته استكشاف أراض خصبة عذراء داخل مسار تاريخه الفكري، و داخل استراتيجياته المعرفية التي ترى أن القوة المادية و الهينمة على الآخر تبنى أساسا على قاعدة القوة الفكرية.
لنرى بعض هذه المسارات التي خاضها الفكر في الغرب، و النقاشات التي تولدت عن ذلك من خلال استعراضنا المتواضع للقضايا الفكرية التي اثارها مفهوما السلطة والإنسان.
يمكن اعتبار السلطة و الإنسان أحد المفاهيم التي انشغل بها الفكر الإنساني عموما و الغربي على وجه الخصوص، فأخذا حيزا هاما من جدالات الفكر الغربي. لا ندعي أننا سننجز هنا تتبعا دقيقا للمسار الفكري و التاريخي اللذين مرا بهما، بل سنحاول تقديم أهم التصورات و الأفكار التي تم بلورتها.
1- ما السلطة؟
حينما نبحث في المسار التاريخي الذي خاضه هذا المفهوم في الثقافة الغربية، نجد أن هناك مسارين أساسيين يتحكمان في تاريخ هذا المفهوم: مسار أول هيمن فيه تصوره للسلطة على أنها فعل تمارسه الدولة، و مسار ثان بلور في إطاره تصور للسلطة على أنها متموضعة في المجال الاجتماعية و الثقافية...
بالنسبة للمسار الأول، نجد أن اهتمام المفكرين قد انصرف منذ القديم إلى حصر السلطة في المجال السياسي: بمعنى أن السلطة لا يمارسها سوى أصحاب القرار السياسي أي الحكام. لقد انشغل الفكر السياسي بهذه السلطة و نظر إليها في مركزيتها و في بعدها العمودي، و تصورها على أساس أنها مجموعة من المؤسسات و الأجهزة التي تعمل على إخضاع المواطنين داخل رقعة مكانية معينة.
لقد أنتج الفكر السياسي عدة نظريات حول ضرورة السلطة، مصدرها، مشروعيتها، من هم الذين لهم الحق في ممارستها؟ و من هم مالكوها؟ و ما هو أساسها؟ و قد تم ملاحظة أن هذا النوع من السلطة يستخدم كل أشكال العنف و الإرغام و التعسف.
أما المسار الثاني لهذا المفهوم فهو لا يحصر السلطة في المجال السياسي، بل يستكشفها في الجسد الاجتماعي و الثقافي. و يمكن العودة بهذا التفكير إلى أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يفرض نفسه جيدا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث راح مجموعة من الباحثين ، كما يقول المفكر مطاع صفدي "أمثال ماركوز، بوبر، فوكو و هابرماز يتقصون آثار القمع في كل ما من شأنه أن يمارس فعالية سلطوية، أو إرغامية داخل النسيج الاجتماعي بكل تفاصيله و زواياه و مستوياته، فأصبح التحرر السياسي في هذا العصر يعني التحرر الجنسي و النفسي و الاجتماعي و المعرفي، بحيث لم يعد من الممكن تغطية أي نوع من أنواع القمع بقصر الحرية على مجالات دون أخرى و خاصة في مجتمع التقنية المعاصرة الذي يتحكم به النظام الكلياني"
و يعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أحد أبرز المفكرين المعاصرين الذين انشغلوا بهذا المفهوم. يقول عنه مطاع صفدي: "إذا كان ميشال فوكو قد وضع يده أخيرا على صيغة انبثات الخطاب السلطوي في مختلف الشبكة الاجتماعية فإنه بذلك يوجه الانتباه إلى كون السلطة لا تعني فقط جهاز السيطرة الحاكمةأو مؤسسات الدولة، بل هي تتخطى هذه المركزة الفوقية لتنبث في مختلف فعاليات الأجهزة الاجتماعية."
يرى فوكو أنه " كان لا بد من انتظار القرن التاسع عشر من أجل معرفة ما الاستغلال، لكننا ربما نجهل حتى اليوم ما السلطة؟ و قد لا تكفي الاستعانة بماركس و فرويد لمعرفة هذا الملغز، المرئي
و اللامرئي في آن، الحاضر و الغائب، المستتر في كل مكان الذي نطلق عليه اسم السلطة. فنظرية الدولة، و التحليل التقليدي لأجهزة الدولة لا تستنفد بالتأكيد حقل ممارسة و وظيفة السلطة، إنها ذلك الشيء الكبير المجهول حاليا: من الذي يمارس السلطة؟ و أين يمارسها..حيثما تكون السلطة هناك ممارسة لها، و بالدقة ليس هناك فرد بعينه يتمتع بها وحده. و بالرغم من ذلك فإنها تمارس باتجاه
محدد مع بعضهم من جهة و ضد الآخرين من جهة ثانية. فنحن لا نعرف من يقبض عليها، غير أننا نعرف من لا يتمتع بها"
و يحاول ميشال فوكو مساءلة مفهوم السلطة أكثر في كتاب إرادة المعرفة الذي يشكل الجزء الأول من مشروعه حوله تاريخ الجنسانية في الثقافة الغربية. في هذا العمل أراد هذا الفيلسوف أن يحلل كيفية تشكل نمط من المعرفة حول الجنس لا بمفاهيم من مثل الضغط أو القانون، بل بمفهوم السلطة. و ما يقصده فوكو بالسلطة هو من جهة أولى تعددية علاقات القوة المحايثة للمجال الذي تمارس فيه، و من جهة ثانية، اللعبة التي بواسطة الصراعات و المواجهات الدائمة يتم تحويل هذه العلاقات أو تعزيزها أو قلبها، و من جهة ثالثة، الارتكازات التي تجدها هذه العلاقات عند بعضها البعض بطريقة تشكل سلسلة أو نظاما، و الانزياحات و التناقضات التي تعزل علاقات القوة الواحدة عن الأخرى، و من جهة أخيرة، الاستراتجيات التي تفعل فيها علاقات القوة، حيث في الرسم الأخير تتحقق في أجهزة الدولة، و تشكيلة القانون، و أشكال الهيمنة الاجتماعية.
إن هذه السلطة حسب ميشال فوكو يلزم البحث عنها لا في وجود أولي لنقطة مركزية، بل في الأرضية المتحركة لعلاقات القوة التي تحرض، دون انقطاع ذلك نتيجة عدم التكافؤ، أوضاعا سلطوية لكن تظل دوما محلية و غير ثابتة. و يستمر فوكو في بلورته لمفهوم السلطة و ذلك بتركيزه على ما يلي:
أولا، أن السلطة ليست شيئا قابلا للامتلاك.
ثانيا، أ ن علاقات السلطة توجد بشكل محايث لأنواع العلاقات الاقتصادية و المعرفية و الجنسية...
و ليست خارجة عنها.
ثالثا، أن علاقات السلطة تأتي من أسفل: أي ليس هناك في أساس السلطة ذلك التعارض الشامل بين المهيمِنين و المهيمَن عليهم، إنها لا تمارس من فوق باتجاه التحت ، بل إنها توجد في العلاقات الأفقية.
رابعا، أن علاقات السلطة هي في الآن ذاته قصدية و غير ذاتية، أي أن لها أهدافا تتوخاها، بيد أنها ليست من اختيار ذات فردية.
خامسا، حيث توجد السلطة توجد مقاومة لها، و هذه المقاومة ليست مجرد فعل ضدها، بل إنها طرفها الآخر الي يلازمها. يقول فوكو:"علينا أن نحاول تحليل آليات السلطة داخل حقل علاقات القوة، بهذا الشكل ننفلت من نظام سلطة القانون الذي جذب إليه منذ زمن طويل أنظار الفكر السياسي."
و في مكان آخر يلقي ميشال فوكو المزيد من الضوء على هذا المفهوم، حيث يشير إلى أنه يلزم القبض على السلطة في حالة تحققها، و في الكيفية التي تتحقق بها. فيرى أن السلطة نمط من الفعل يقوم به البعض اتجاه البعض الآخر، و ليس هناك من سلطة إلا و هي ممارسة من طرف أحد الأشخاص على أشخاص آخرين، فهي بالتالي لا توجد إلا و هي منجزة.
إن الذي يحدد علاقة السلطة في نظر فوكو هو نمط الفعل الذي لا يؤثر في الأشخاص مباشرة بقدر ما يؤثر في أفعالهم الخاصة. فهي فعل على فعل، أو على أفعال محتملة أو حالية، مستقبلية أو حاضرة.
يرى فوكو أن مفهوم " القيادة " بإمكانه أن يفيدنا في هذا الإطار، باعتبار أن السلطة هي قيادة قيادات، بالتالي فهي نمط من الحكم. و حينما نحدث في هذا الإطار عن الحكم فإن الأمر يتعلق ببنية محتملة للمجال الذي يتحرك بداخله الآخرون.
و حينما نحدد علاقات السلطة بهذا الشكل فإنه يلزم إدخال بعد الحرية، لأن السلطة لا تمارس إلا على ذوات حرة: ذوات أمامها حقل من الإمكانات، و العديد من التصرفات، و الكثير من ردود الفعل،
و أنماط مختلفة من السلوكات، و تتخذ لذاتها مكانا. إن علاقات السلطة تكون حينما تستطيع الذات أن تتحرك، من هنا يمكن القول أن الحرية يمكن اعتبارها شرط وجود السلطة.
يفرق الباحث بين السلطة و العنف، فإذا كان العنف يؤثر في الجسد و الاشياء، و يقوم بأعمال الهدم
و الكسر فإن علاقة السلطة تتطلب من جهة ذات قابلة لاستقبال فعل السلطة، و من جهة أخرى حقل منفتح بأكمله أمام علاقة السلطة للاستجابة و ردود الفعل.
و يخلص فوكو إلى فكرة أساسية حيث يقول: "إن العيش في المجتمع يعني، في كل الأحوال، العيش بطريقة يصير معها ممكنا تأثير فعل البعض على فعل الآخرين. إن مجتمعا دون سلطة لا يمكن أن يكون إلا تجريدا"
و في نفس هذا الإطار المتعلق بالتفكير في السلطة المتموضعة داخل المجتمع، نجد عالما الاجتماع "ميشال كروزيه" و "ارهارد فرد برغ" في كتابهما (الفاعل و النظام) يحاولان تأسيس سوسيولوجيا للعمل المنظم. و هما ينطلقان في تفكيرهما من المصادرة التالية: و هي أن الفاعل الاجتماعي لا يوجد في فراغ، بل يوجد داخل نظام لا يمكنه أن يوجد دون فاعل يحمله و يحققه، و الذي يستطيع وحده تغييره. داخل هذا الإطار يتساءل الباحثان: أين هي السلطة؟ إن السلطة بالنسبة للباحثين تبرز في علاقة الفاعل بالنظام: أي أن علاقة الفاعل بحقل الفعل، و من خصائص هذا الحقل أنه غير شفاف، بل مبنين إلى درجة أنه يمارس ضغوطات وإكرهات على الفاعل.
و يرىعالما الاجتماع أنه على الرغم من الضغوطات التي يفرضها النظام على الفاعل الاجتماعي فإنه يظل هناك هامش و لو ضيق من الحرية يستطيع الفاعل استخدامه لمواجهة النظام.
و في محاولتهما بلورة مفهوم جديد للسلطة خارج المجال السياسي، فإنهما يلاحظان أن مفهوم السلطة مفهوم منفلت و متعدد الأشكال، و فيما وراء الأنماط المختلفة لتمظهرها فإنهما يبحثان عن وحدتها التي تتلخص في إمكانية البعض على التأثير في البعض الآخر. و بالتالي فإنهما يركزان على بعدها العلائقي، حيث يقولان: إن التأثير في الآخر يعني الدخول معه في علاقة، و أنه داخل هذه العلاقة تنمو سلطة شخص"أ" على شخص "ب" " . ثم يضيفان " إن السلطة إذن هي علاقة و ليست ملكا للفاعلين، و لا تستطيع أن تتمظهر و أن تصبح ضاغطة بالنسبة لأحد الأطراف الموجودة إلا عن طريق تحققها في علاقة يتواجه فيها فاعلان أو أكثر، مرتبطان ببعضهما البعض، لإنجاز هدف مشترك يحدد أهدافهم الخاصة، و بدقة أكثر فإنها لن تستطيع النمو إلا عبر التبادل بين الفاعلين المنضويين ضمن علاقة معينة."
لكن، ما هي طبيعة هذه العلاقة المتبادلة؟ إنها من جهة أولى علاقة وسيلة: أي أن السلطة لا تدرك إلا ضمن الهدف الذي يحفز على استخدام الموارد من قبل الفاعلين، و من جهة ثانية فإنها ليست علاقة متعدية: أي إذا حصل أن نجحت علاقة سلطة " أ " مع " ب " فإنها ليست مضمونة النجاح مع " ج "،
و من جهة أخيرة فإن السلطة علاقة متبادلة و غير متكافئة: إن " ب " الذي يتلقى علاقة سلطة من " أ " عليه أن يستجيب لها و إلا فإنها لن تتم، و هي غير متكافئة لأن " أ " و " ب " إذا ما تكافآ في كل شيء فإن السلطة لن تلعب وسيطا بينهما.
و بخصوص الموارد التي تعتمد عليها هذه السلطة يحصرها الباحثان في كل الأنواع الفردية و الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية التي يتمتع بها الفاعل و التي تحدد الإطار الزماني و المكاني لتحققها. إن معرفة الوضع الاجتماعي للفاعل تمكن من القبض على الإمكانيات المتاحة له لتنويع ميادين استثماراته: للعب علاقات سلطة عديدة، و أيضا لفهم كيف أن كل واحد يستطيع القبض على عامل الزمن
و استخدامه. إن عامل الزمن عنصر أساسي في هذه المعادلة و ذلك لأن الفاعل من جهة لا يقبل بالخسارة إلا ضمن زمن قصير، و لأنه من جهة أخرى يأمل في أن ينتصر في الجولة المقبلة.
لقد حاولنا إلى حدود الآن الإشارة إلى وجود مفهومين للسلطة، الأول ينظر إلى السلطة باعتبارها فعل تمارسه الدولة في إدارتها للأرض و البشر، أما الثاني فهو يعترف بوجود سلطة أخرى تتحقق داخل النسيج الاجتماعي باستنادنا في ذلك إلى مرجعية فلسفية من جهة، و سوسيولوجية من جهة أخرى.
إذا كان فعل السلطة يتم بين كائنات إنسانية، فإن الفكر الغربي لم يتجاهل هذا الكائن، و قدم حوله مجموعة من التصورات و الأفكار، فكيف تم تمثل الإنسان من قبل هذا الفكر؟
2- ما الإنسان؟
بإلقاء نظرة مجملة على تاريخ الفلسفة في الغرب يمكن أن نستخلص أن مفهوم الإنسان احتل مكانا هاما وسط الجدالات المعرفية الدائرة بين الفلاسفة و المفكرين. و إذا ما أردنا رصد التحولات العامة التي أصابت دلالات هذا المفهوم فإننا نستطيع أن نتبين تصورين اثنين أساسيين:الاول قارب مفهوم الإنسان من خلال قضية النزعة الإنسانية أو الإنسية، و هو إشكال امتد من ديكارت إلى جان بول سارتر. أما الثاني فقد قارب المفهوم من خلال النزعة المضادة للإنسية، و أقطاب هذا التصور يشكلون ما دعي في مرحلة الستينيات من القرن العشرين بالبنيوية في الفلسفة، و علوم الإنسان و المجتمع.
2-1 النزعة الإنسانية:
عملت النزعة الإنسانية منذ ديكارت على تنصيب الإنسان كأسمى موضوع للتفكير و التأمل،
و البحث في الخصيصة المميزة له و لوجوده على باقي الكائنات الأخرى. لقد جاءت هذه النزعة ضدا على التفكير الثيولوجي الذي خنق الفكر الغربي في المرحلة القروسطية حيث هيمنت الكنيسة و التفكير اللاهوتي، و قد كان هذا النوع من التفكير يعطي أهمية كبرى لمقولة الله، فكل الافكار التي كان التفكير الكنسي ينشغل بها أو يحاول مناقشتها كانت تدور بالأساس حول محور "الله"..في مقابل هذا التفكير انبثقت النزعة الإنسانية كمحاولة منها تخليص الفكر الغربي من الفكر الثيولوجي، و تنصيب الإنسان موضوعا أساسيا للتفكير و البحث. لقد كان هم النزعة الإنسلنية إعطاء الاعتبار للإنسان، تكريمه و تمجيده، و هذا ما أدى بها إلى إنتاج أفكار أخلاقية و قيمية حول الإنسان.
ف"الإنسان بالنسبة لديكارت كائن حر، واع و مريد، فوعيه بذاته حاضر مباشرة أمام نفسه في منتهى الشفافية، عبر عملية استدلالية في ظاهرها و حدسية في عمقها. و الإنسان عنده كائن متميز لأن جوهره هو الفكر في مقابل المادة التي يعتبر جوهرها هو الامتداد. و إرادة الإنسان تتوقف على وعيه بذاته في الأساس، فالكوجيطو هو الحقيقة الأولى و هو أساس كل الحقائق و اليقينيات."
أما الفيلسوف الألماني كانط، فهو يرى "أن الإنسان مجال الحرية بامتياز من جهة، و قيمة مميزة من جهة أخرى. في حين أن سارتر لم يكن يوافق على اعتبار أن الإنسان خاطع للحتميات التي تخضع لها الطبيعة لذا كان يقول: ليس هناك حتمية، الإنسان حر، الإنسان حرية."
و على العموم، و كما أشار إلى ذلك المفكر محمد سبيلا "أن النزعة الإنسانية الكلاسيكية في مختلف تجلياتها، تنطلق من المصادرة على تميز الإنسان، و على قدرته الخلاقة، و حريته اللامحدودة،
و إرادته الفاعلة و الصارمة" إننا هنا أمام صورة لإنسان واع بذاته، صانع لتاريخه، و هو أصل كل إنتاجاته، و هي صورة إنسان واجهت العديد من الانتقادات من طرف النزعة المضادة للنزعة الإنسانية على اعتبار أن كل التصورات التي أنتجت حول الإنسان هي في العمق تصورات تتسم بالتجريد و التعالي على التاريخ.
2-2 النزعة المضادة للنزعة الإنسانية:
تشكلت النزعة المضادة للنزعة الإنسانية نتيجة مجموعة من التحولات المعرفية و التاريخية التي أدت في آخر الأمر إلى إزاحة الإنسان باعتباره مركزا للعالم، و إعلان موته كما جاء ذلك عند الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. و كما هو معروف فإن الموت التي بشر به هذا الفيلسوف لا يتعلق بالإنسان ككائن حي، بل باعتباره مفهوما و تصورا.
يمكن إيجاز الأسباب فيما يلي:
هناك أولا، الإنجازات الهائلة التي تمت في الميدان العلمي و التكنولوجي و الآثار التي خلفتها على الإنسان، إذ بدأت الأمور تنفلت من يد الإنسان و تمارس مجموعة من التأثيرات ضده.
ثانيا، كشفت الدراسات التي اتخذت الإنسان موضوعا للتحليل و الفهم أن هذا الأخير لا يختلف كثيرا عن الحيوان، يقول هنري أتلان: "إن اكتشاف الحياة اللاواعية أو إعادة اكتشافها، و المحفزات اللاواعية للخطابات و أفعال الناس...كان في البدء أولى الضربات العنيفة، باسم العلم، لصورة الإنسان هذه: مبدع خطاباته و أفعاله، و مسيطر بواسطتها على عالم الطبيعة الذي يتعالى عليه جوهريا" .
إن كل ما كان يميز الإنسان في نظر النزعة الإنسانية أخذ يتهاوى أمام الضربات العنيفة التي وجهتها له علوم الإنسان و المجتمع، و أيضا الفلسفة المعاصرة. فقد أظهرت اللسانيات المعاصرة أن الذي يتحكم في إنتاج اللغة تركيبيا و صرفيا و صوتيا و دلاليا ليس الذات المتكلمة، بل نظام خفي لا تعيه الذات. و عوض أن يتكلم الإنسان اللغة فإن اللغة هي التي تتكلم من خلاله. و أظهر التحليل النفسي مع جاك لاكان أن الذي يحدد الذات ليس الشعور أو الوعي، بل بنية لاشعورية منظمة مثل اللغة هي التي تتحكم في جهازه النفسي، و في كل ما يصدر عنه من تصرفات و أفعال و أقوال. كما أظهرت الانثربولوجيا أن نشاطات الإنسان الاجتماعية و الثقافية خاضعة لبنية قاهرة ترسم حدودها. و قد بينت دراسات ميشال فوكو خصوصا أركيولوجيا المعرفة أن تاريخ الفكر" لا يخضع فقط للقانون العام لتقدم الفكر، و أن الوعي الإنساني، أن العقل الإنساني، ليس هو المتحكم في قوانين تاريخه، بمعنى من المعاني" إن الذي يتحكم في تاريخ الفكر، في نظر فوكو، هو النظام المعرفي أو الإبستيمي، بل إن صاحب أركيولوجيا المعرفة يذهب إلى حد القول:" إن الطريقة التي يفكر بها الناس، و يكتبون و يتكلمون،( و حتى النقاشات في الشارع و الكتابات اليومية) بل و حتى الطريقة التي يستشعر بها الناس الأشياء، و الكيفية التي تثار بها حساسياتهم، و كل سلوكهم تحكمها، في جميع العصور، بنية نظرية، نسق، يتغير مع العصور و المجتمعات، إلا أنه يظل حاضرا في كل العصور و كل المجتمعات." و هكذا، ففيما وراء الإنسان، و إبداعاته و أنشطته و سلوكاته
و أقواله، اكتشفت علوم الإنسان و المجتمع و الفلسفة أيضا أنواعا من اللاوعي، و من الأنظمة التي تحد من حرية الإنسان و سيادته و وعيه و إرادته، فلم يعد الإنسان موضوعا للبحث بل البنى
و الأنظمة و الأنسقة.
إن هذا التصور الجديد للإنسان لم تعبر عنه فقط علوم الإنسان و المجتمع و الفلسفة، بل عبرت عنه أيضا الرواية الجديدة في فرنسا، و كما لاحظ ذلك جان ريكاردو، أن الشخصية الروائية" انحط دورها، و بهتت ملامحها، و غابت عنها حياتها الخارجية و الداخلية" ثم إن النقد الروائي لدى كل من بارث و جينت صار يهمل الشخصية على حساب إعطاء الأهمية للتقنيات السردية.
هكذا نكون قد حاولنا إثارة الانتباه إلى تصورين للإنسان: تصور يقدم لنا الإنسان باعتباره ذاتا مركزية فاعلة واعية و هذا التصور يندرج ضمن النزعة الإنسانية، ثم هناك تصور ثان أنتجته النزعة المضادة للنزعة الإنسانية، حيث قللت من أهمية الإنسان، و اعتبرته كائنا خاضعا مثله مثل جميع الكائنات لمجموعة من التفاعلات و الصراعات التي تحد من حريته و إرادته.
و إذا حاولنا النظر إلى العلاقة التي يمكن أن تتم بين السلطة من جهة و الإنسان من جهة أخرى، فإن ما يثير الانتباه هو أنها تخضع للعبة دياليكتيكية من العسير ضبطها أو التكهن بمسارها و نهاياتها، فهي تظل دينامية. فكيفما كان شكل السلطة سياسيا أو متموضعة فلا يمكن الجزم بأنها مسيطرة و نهائية.
لا نعتقد أن حركية الفكر قد توقفت عند هذا الحد، و لا يمكن القول أن الكلام حول مفهومي الإنسان و السلطة قد اكتمل، فمازال الفكر يسائلهما من خلال المستجدات العلمية و التاريخية و السياسية، إذ أن هناك من ينادي الآن بإعادة بناء النزعة الإنسانية من جديد و إعادة الاعتبار للإنسان، لكن هذه الدعوات تصدم بالواقع الذي لايفتأ يكذب التصورات الأخلاقية و يجعلها مع كامل الأسف تجريدية.