(الغَـرَقُ )
د. شاكر مطلق
كان يقتَلِعُ ، كالمجنونِ ، بلاطَ الرّصيف ويَحفرُ بيديه الرّملَ تحت قدميه ، دون تعبٍ .
تجمّعَ الناس حوله .لمْ يرَهُم، وتابعَ الحَفرَ بقوةٍ ... حفَر أعمقَ فأعمقَ ولم يتعبْ ، برغم العَرق المتساقط بغزارةٍ من جبينه. نظراتُه زائغةٌ قلقةٌ، وكأنّها تَبحثُ عن شيءٍ ما ...
فجأةً توقّف عن الحفرِ وتنفّسَ عميقاً. نظر خائباً في الحفرةِ وصاحَ :
لمْ أجدْه ، لمْ أجدْه ... إلى أينَ ذهب البحرُ ؟! .
الناسُ يَرقبونه في ذُهولٍ . هلْ جُنّ الرّجُلُ ؟ .
عندما وصل الشّرِطيُّ المكانَ ليرى لماذا يتجمّع الناسُ هناك ، وماذا يحدث في المكان ، تراجع صاحبُنا ، آنَ رآه ، مذعوراً إلى الوراءِ ، وسقط في الحفرةِ .
لقد اختفى صاحبنا وغابَ نهائياً ، عن الأنظارِ ...
سادَ المكانَ صمتٌ قاتلٌ وحَيْرةٌ وذهولٌ .
أطلّوا في الحفرة وبحثوا فيها مراراً وتكراراً، ولكنّهم لم يجدوه ، وما وجدوا منه أثراً أبداً ، برغم مرور زمن طويل من البحث عنه ، هناك في الحفرة الفارغةِ إلاّ من الرملِ الجاف الأصفرِ.
قيلَ - حتى بعد مرور أعوام على هذه الحادثةُ الغريبةُ - أنه ماتَ غرقاً في بحرٍ لا يرَوْنهُ ، وإنْ كان البعضُ لا يزال يُطلّ فيها ، بين حينٍ وآخرَ ، ويؤكّد أنّه يَسمع ، في الليالي المُقمرات ، ما يشبه هديرَ الأمواج قادماً من هناك ، من فراغ حفرةٍ لم تُردَم أبداً...
هل كانت الحفرةُ الفارغةُ شاهداً على غريق الوَهم ، أم على غريق الحقيقة التي لا نراها ، في زحمة الحياة _ حياتنا - المسَطّحة .
==========================
حمص - سورية 92/7/2008
E-Mail:mutlak@scs-net.org[/size][/size]
المفضلات