من وصايا جدّي (2) "السفيه اكتفيه"

عدنان كنفاني

ما أن حلّ المساء، تسارعنا لتحضير وترتيب مقعد جدّنا، وإبريق الشاي، والكأس التي يفضّل أن يشرب منها، وجلسنا هادئين ننتظر عودته من المسجد بعد أن يفرغ من صلاة العشاء.

وما أن رآنا، ولمح جهودنا بترتيب المكان وتحضير الشاي، حتى ابتسم بحبور، ومسح لحيته البيضاء، وأخرج من جيبه السبّحة الزيتونية، وأصلح وضع العباءة المشمشية على كتفيه، وأخذ مكانه على الأريكة المفضّلة.

تعوّد جدّي منذ وقت طويل لا أذكره ولا يذكره أحد من أخوتي، بل ربما قبل أن نولد أن يقتصر عشاؤه على خمس تمرات، وعندما تجرأت وسألته، ربّت على كتفي وقال:

ـ كنت شاباً عندما عانيت من آلام شديدة في معدتي، واضطررت بعد أن تجرعت العديد من وصفات أمي وأبي أن أراجع الطبيب الوحيد في البلدة آنذاك.

اعتدل في مجلسه وأردف:

ـ قال لي الطبي: تلبّك في المعدة، من الأفضل أن يقتصر عشاؤك على عدد قليل من التمر..

ابتسم وهو يمسح لحيته البيضاء الفضيّة، وقال:

ـ ومن يومها وأنا مواظب على تلك النصيحة، ولم أعاني منذ ذلك اليوم أي آلام في معدتي.

قفز أخي الأكبر وهو يقول بتعجب:

ـ ولكن يا جدي كان ذلك منذ زمن بعيد، والعالم يتغير، والطب يتطور..

سكت جدّي.. وراح ينظر في وجوهنا مليّاً، ثم رفع حاجبيه..

تبادلنا نظرات حائرة، وكل واحد منا يفسّر إشارة حاجبيه على هواه، ولمّا لاحظ جدي حيرتنا، ضحك مبدياً سخرية، وقال:

ـ سأروي لكم حكاية طريفة..

واستدرك:

ـ وهي حكاية تنتمي إلى ما حدثتكم عنه بالأمس عن عبثية الحوار مع الحمقى والسفهاء، أمثال من أصرّ على أن الغراب عنزة، رغم أنه طار، فقال "عنزة ولو طار"

اقتربنا أكثر من جدي، جمع السبّحة بقبضة يده، وأراحها في حضنه.. قال بعد أن بسمل وافتتح:

ـ سمعت هذه الحكاية من أحد العقلاء، عن عالم جليل أراد أن يحاجج الناس بلغة الإشارات، وكان يفوز في كل جولة، إلى أن وصل إلى مدينة لم يجد فيها من يواجهه غير رجل سفيه وأحمق وجاهل، والعالِم لا يعرف عنه هذه الصفات، وكان لقاؤهما في المسجد بعد صلاة الجمعة، فاجتمع الناس حولهما لمتابعة المحاورة..

جلس الرجلان متقابلين، بدأ العالم الحوار الصامت بأن رفع إصبعه مشيراً للسماء، فأشار الرجل الأحمق إلى الأرض. مدّ العالم إصبعه في وجه الأحمق، فمد الأحمق إصبعيه في وجه العالم. أخرج العالم من جيبه بيضة، فأخرج الأحمق من طيات جلبابه صوصاً.. صرخ العالم: غلبي والله.

ساد الوجوم والدهشة وجوه الناس في المسجد، إذ كيف لهذا الأحمق السفيه أن يغلب عالماً جليلاً.؟ وعندما سألوا العالم: كيف يغلبك يا سيد العلماء.؟ قال: قلت له عندما رفعت إصبعي للسماء: الله رفع السماء، فأشار هو إلى الأرض كأنه يقول: وبسط الأرض.. قلت بإشارتي بإصبعي الواحد: لا إله إلا هو.. فأشار بإصبعيه يقول: لا شريك له. أخرجت البيضة لأقول: يخلق الميت من الحي، فأخرج الصوص ليقول: ويخرج الحي من الميت.

تبادلت مع أخوتي نظرات استحسان لذكاء الرجلين، لكن جدي راح يضحك ساخراً وأشار لنا أن ننتظر خاتمة الحكاية، فسكتنا نستمع بينما تابع جدي يقول:

ـ كان العالم يتحدث معجباً بذكاء وفطنة الأحمق، وكان الأحمق يضحك بسخرية وقحة، وسرعان ما انبرى يخاطب الناس: لا تصدقوا أي كلمة مما قال. كل الأمر أنه قال لي وهو يشير إلى الأعلى: سألقي بك إلى السماء، فقلت له وأنا سأدفنك في الأرض. ثم قال وهو يشير إلى وجهي: سأقلع عينك، قلت له: بل أنا سأقتلع لك الاثنتين. وعندما شعر بتفوقي عليه أخرج البيضة ليقول لي: سأفقسك كما تُفقس البيضه، فقلت له وأنا أخرج الصوص: بل أنا سأمعطك كما نمعط الصوص.

سكت جدّي يلتقط صدى حكايته، ونحن نضحك بصخب، إلى أن قاطعنا قائلاً:

ـ ألم أقل لكم إياكم ومعاشرة السفهاء والحمقى.. وإياكم ومحاورة سفيه، فإنه سيغلبكم بسفاهته وحماقته.

****
تعقيب / رائع يا استاذ عدنان وصدقا قال الجد رحمه وعذرا ان تاخرت في الاطلاع على هذا الموضوع بسبب سفري لسوريا الشقيقة في زيارة عمل ثقافية .. مع محبتي واعتزازي