آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: رواية الطوق - 4 -

  1. #1
    أديب الصورة الرمزية غريب عسقلاني
    تاريخ التسجيل
    04/03/2008
    المشاركات
    65
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رواية الطوق - 4 -

    غريب عسقلاني – رواية الطوق – 4 -

    ـ 4 ـ

    شمس الضحى باهتة، لم تلبث أن غيبتها الغيوم عن العيون المتطلعة لاستقطاب الدفء.
    لهاث الأنفاس يتكاثف قبل أن يصل السقوف الواطئة، فيما العيون تدور في محاجرها ترقباً وهلعاً، حتى عيون الأطفال اكتست بسهوم رمادي، وسكتت حركاتهم، وخبا صراخهم..
    ترقب والأذان ترهف السمع، واليوم الثالث يزحف نحو الظهر، فجأة صوت يتردد في المكان، لم يستوعب الناس ما يقول الميكرفون.قال يونس لجدته:
    - سمحوا بالتجول لمدة ساعة، يبدأ من العاشرة..
    وانفلت إلى الزقاق، وجدته في أثره هلعة، غير مصدقة ما يقوله غراب البين الميكرفون.
    - يا ولدي يا يونس، قولي ايش اللي سمعته..
    كان يونس قد رجع من نهاية الزقاق، لم يشاهد أحداً في الأزقة، خاف ورجع، ثنى يده كم الساعة الآن، ود لو رسم على معصمه العاري ساعة تشير إلى العاشرة، قالت جدته:
    - استنى لما تطلع الناس من بيوتها.
    وابتلعت حزناً كبيراً، والميكروفون يوزع تحذيراته "انتبهوا. انتبهوا" يسمح بالتجول من الساعة العاشرة وحتى الساعة الحادية عشرة" وفي لحظة واحدة تقيأت البيوت الناس، حتى الأطفال الرضع زحفوا إلى عتبات البيوت، عالم ينفلت مرة واحدة لا يدري إلى أين يتجه.
    الناس تحدق في عيون الناس، كأنهم يتعرفون إلى بعضهم من جديد، القهر، الاكفهرار، والصمت يلتصق بالوجوه، وجوه الناس مرايا الناس والكل واجم وكأن أيام الكفر حلت بالمطارح، وكأنهم جاءوا إلى الدنيا مذعورين ضاق الزقاق بهم، لم يبق في بيته غير الأستاذ فهيم وعائلته، يزعق على غير عادته:
    - أنا قلت ما حدا يطلع بره، ساعة ويرجع المنع.
    وصوت زوجته.
    - يا رجل، الأولاد زهقوا، تعقدت عروق أبدانهم، سيبهم يشوفوا وجه الله.
    صوت ينعر في فضاء الزقاق خشن مهدد، لولا خروجه من بيت الأستاذ لما صدق أحد أنه يصدر عن حنجرة الأستاذ فهيم:
    - اقفلي الباب، وإذا طلع واحد من الدار تكوني طالقة.
    انخرست دار الأستاذ فهيم، وارتسمت ابتسامة باهتة على فم أم خليل، ودمدمت أم صابر "الله يحط الصلح بينهم" ثم معاتبة "هو هذا وقت طلاق وفراق، الدنيا مطلقة حالها يا ناس"
    وانخضت العجوز فقد انفلت يونس بعيداً عن الزقاق.
    - يونس يا يونس، الله يغضب عليك..
    خافت من دعواتها، الغضب يمشي في الشوارع وانطلقت خلف الصبي, ونادت أم خليل على ابنتها:
    - يا حسنة خلي عينك على أخواتك، وطلى على عمك أبو محمود.
    وانطلقت مع سميرة إلى الشارع، فيما قبض الغاوي على يد ابنه الصغير وأخذ يذرع الزقاق جيئة وذهاباً، ويخاف من عودة آلام عظام الخاصرة، تشنجت أصابعه، صرخ الصغير فارتخت أصابعه، وحبس دمعة تخلقت في غور بعيد.
    "كدت أكسر يدك يا ولدي، هل يكسرونها جوعاً أو ضرباً، تكبر بيد مقصوفة" جلس على عتبة الدار مهزوماًَ، وأخذ يراقب الزقاق رأسه بين ساقيه، حياه الجعباص، رد التحية من بين ساقيه، انتبه إلى صوت زوجته:
    - يا راجل روح هات حاجة للأولاد.
    رفع رأسه، قتلتها سحنته المقلوبة، لم يع شيئاً قالت:
    - خذ بالك من الأولاد، أنا رايحة أجيب شوية خبز وبرتقال.
    نظر إليها مستطلعاً، أوضحت:
    - الناس ترمي من وراء السلك خبز وبرتقال.

    ***
    لم يبق أحد في البيوت، ساعة واحدة ويعود الحشر، البحر من ورائكم والأسلاك من أمامكم، الناس يندفعون باتجاه الأسلاك حيث الجنود والهروات والبنادق، الناس تأخذ حاجتها من الخبز والبرتقال والخضار، بعض من هم خارج الطوق أتى بطناجر الطبيخ ساخنة.. وعليّ يكلفه فجأة بتنظيم الناس، فالعلاقة بينهما لا تتعدى بعض النقاشات، وتبادل الرأي، عليّ يقفز بالعلاقة من حدها النظري إلى العمل..يتسلل علىّ من الطوق ويتركه يقلب الأمر في تنفيذ مهمة لا يعرف عنها شيئاً، يسمح بالتجول ويرى الناس وقد انتظمت عفوياً، كل يعرف ما هو المطلوب منه، بدون الرجوع إلى الأفكار والنظريات والكتب، الناس اليوم يضعون النظريات، التجربة تفرض نفسها ها هم يأتون بهدوء يقدمون بهدوء ويغادرون بهدوء، ويفرضون الدهشة على الجنود، ينمو شيء في داخله، يتبرعم الجماهير خامات أصيلة، وفعل الجماهير أسس لم يدرسها في الكتب، وها هو يتعلمها من الناس الذين قفزوا من بطن الخوف إلى دائرة العطاء، خجل من نفسه وتساءل هل نظروا إليّ واكتشفوا ذعري وأنا خلف محمد موسى في الساحة، هل شاهدوا الأستاذ خالد، صاحب الخطب والمساجلات وهو يلقم الأرض. فيما محمد موسى يستمد صلابته من الناس. قال لسميرة التي وقفت بالقرب منه:
    - نصبر على هذا الحال شهور.
    قالت سميرة مبهورة:
    - شئ فوق التصور
    - عليّ كان يدرك هذه الأشياء.
    امتلأت اعتزازا ولهفة شوق، فيما شرد خالد بعيداً يفكر في الآتي، قبل أن يتسلل عليّ قال له:
    - كل بيت خارج الطوق، مكلف بإطعام بيت داخله.
    كدت تهزأ من عفويته واعتزازه بنفسه، ومن تفكيره المثالي، وكأن الناس يلتصقون به ويقدمون ما يطلب، وكأنهم يعانون من التخمة، ما عليهم غير طرد الفائض من بيوتهم، وكأن فائض القيمة اختبأ في البيوت الواطئة، لم يكن الوقت يسمح بالحوار واختفى عليّ. وها هو يرى النساء تحمل الأشياء وتقدمها لأول يد تمتد، لم يحضر أحد خصيصاً لأحد، أي إنسان يعطي أي إنسان، حتى البرتقال المحرم تتناقله الأيدي، كيف وافق أصحاب البيارات، وهل استأذنهم عليّ في ذلك، لا أهمية لذلك اليوم، فالناس تزرعه وتحرثه وترويه والناس اليوم تأكله، يبتسم، هل تحققت نبوءة طبيب اليونسكو الزائر الذي أذهلته الأمراض المتفشية بين التلاميذ قال:
    - كيف تنتشر كل هذه الأمراض والبرتقال يملأ البلد.
    البرتقال يذهب بعيداًَ، أنت تأكل من برتقالنا في بلدك أكثر منّا، نحن نراه أكثر منك وتخدمه فقط.
    قلت للطبيب يومها:
    - عندما نأكل برتقالنا تغادرنا الأمراض، وتنتفي أسباب زيارتك.
    هل بطلت اليوم أسباب الزيارة؟ وأخذ ينظر إلى الجنود، آلاتهم جامدة، على امتداد الأسلاك، ولفت نظرة تسرب بعض النساء من ثغرة في السلك، كاد يبصق عليهن ولكنه أحجم، من حق الناس أن تخاف على الصبايا تحت وطأة شرف العائلة، البنات شرف علينا أن نخاف عليه ونبعده عن الخطر، تتسرب النساء والرجال باقون، سيدركون يوماً أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وانتبه على صوت سميرة:
    - الجنود يبعدون الناس عن الأسلاك
    الجنود ينهالون على الناس بالهروات وأعقاب البنادق، يدرسون البرتقال والخبز والناس يبتعدون عن الأسلاك، والحجارة تنهمر باتجاه الجنود، وأصوات الأطفال توزع الأغاني. سحب سميرة واختفيا في أحد الأزقة، وأخذا يرقبا الجنود والناس وعلى مقربة منهم الجنود ينهالون على الجعباص يدوسونه بالأحذية ويدقون لحمه بأعقاب البنادق، الجعباص يتأوه ويصيح:
    - أكل للبغل يا خواجا.
    جبهته مشطوبة، وجهه معفر بالتراب ينهض ويسقط تحت وطأة الضربات.
    - كيس يا خواجا.. خبز.. برتقال.
    أصوات أطفال تصدح في المكان.
    "ولا يهمك يا جعباص بكرة الخواجا ينداس"
    صعدت الابتسامة خجلى على شفتيها، تود لو تخبئ كل الرجال في صدرها. همست:
    - الأغاني تولد على شفاه الأطفال، شوف يونس يقود الصغار، وقذائفهم أغاني وحجاره.
    - أغاني الصغار بشاير أمل يا سميرة.
    أعذب الأغاني تخرج من الصدور الطفلة، موسيقى الملائكة أيام الطوق، تذوب أصوات الأطفال في الأزقة، والجعباص متماسك على رضوضه
    يبتعد عن الجنود، وصوت الميكرفون ينعق في الشوارع.
    "انتبهوا. انتبهوا على الجميع البقاء في البيوت حتى إشعار آخر"
    ***
    أخذت أم صابر تدلك الرضوض والكدمات في وجهه ورقبته، وتتمتم بالتعاويذ والدعاء، عيناه تدوران مع حركة أصابعها على جسده، تتحجر الدموع في عينيه، أن تأتيه أم صابر رغم الحصار أقوى من كل الدموع، انقلب على بطنه مستسلماً للعجوز، جست كتفه فعض الوسادة، وضاعت الصرخة في الحشايا، ولم يشعر بدخول أم خليل التي جاءت تساعد أم صابر، تجمع عضلات الكتف، يدان عفيتان قالت أم خليل:
    - يومين وكل شئ يروح في طريقه، اللزقة تسحب الوجع إن شاء الله.
    أم صابر تنظر إلى باب الحجرة تنادي.
    - مالك خجلانة، تعالي اقعدي.
    دخلت حسنة ورقدت بجانب أمها وقالت بحياء:
    - سلامتك يا جعباص
    الكلمات تتجمد على لسانه، نظره يتوزع بين النساء، آه يا حسنة رضوضي وأوجاعي تهون من أجلك قال أم صابر تهون عليه:
    - البغل أكل وشبع.
    ثم أكملت ترد على الحيرة في عينيه.
    - جمعت قشر البرتقال من الزقاق، يكفيه علف يومين.
    هدأت دقات قلبه، وارتفع الدق على الحائط الذي يفصله عن بيت الغاوي قال:
    - دقي يا حسنة، الرجل قلقان عليّ ومن ساعة ما وصلت وهو نازل دق وأنا مش قادر أرد عليه.
    دقت حسنة بقوة، فرد عليها الدق من الطرف الآخر، ووصل صوت الغاوي:
    - الحمد لله، الجعباص بخير، قدر يدق
    سعدية ابنته تقول:
    - الظاهرة عنده ناس، أقوم أشوف يمكن يلزمه شئ.
    قال الجعباص:
    - صرت أنا والغاوي في الهوا سوا، ظليت أضحك عليه واليوم وقعت في المحظور.
    ابتسم في وجه حسنة.
    - الغاوي أكل بوز بسطار وأنا أكلت كتيبة بساطير.
    وضعت سعدية صحن العدس في زاوية الغرفة وجلست بجانب حسنة:
    - كيف حالك يا جار، قلقانين عليك، والله أبي ما هو عارف يقعد.
    قالت أم خليل مماحكة:
    - اللي خايف عليه، يشرف يشوفه ويطمئن عليه
    عقبت أم صابر:
    - خرعوه الله يخرب بيتهم، مين يصدق أن الريس الغاوي يتغير، سبحان من غير الأحوال.
    وقامت تمسح الزقاق، وأشارت للنساء فتسللن كل إلى دارها.

    ***

    التعديل الأخير تم بواسطة غريب عسقلاني ; 01/10/2008 الساعة 12:42 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •