قصة بيئوية للصديق الشاعريوسف بلغيث الباز..
الجزائر


زَائِـرٌ لَعِـينْ


( قد لا يعجبُكَ شكلُ التمساحْ ... لكنهُ إذا ما أحس بالجوعِ فإن جميعَ الأشكال.. تَرُوقهُ.. و تُعجبُهْ.. ! )

... البحيرةُ هذا الصّباحَ! .. مليئةٌ بنقيقِ الضّفادعِ .. كان قدْ جلبها أحدُ الزُّوّارِ من البركةِ المجاورةِ للحديقة .. ستكون طُعمًا سائغًا للتّمساحِ ... لكنّها لنْ تسمنَ .. ولنْ تغنيَ من جوعْ ..!
ما أجملَ أنْ تكونَ الحديقةُ فارغةً ، ليتنقلَ الواحدُ بحريةٍ.. بينَ مرافقِها ، ويستمتعَ بمناظرها، بعيداً عن الفوضى التي تجلبُها كثرةُ الزُّوّارْ..
فاليومَ.. سوف أتجوَّلُ في الرّكنِ الخاصِ بالتّماسيحِ .. إنّها حيواناتٌ جديرة ٌبالمشاهدةِ .. فطريقةُ تنقّلِها .. زهْوُها.. صمْـتُها المحيّرُ .. نظراتُها البريئةُ المخادعةُ .. كل ذلك يثيرُ الانتباهَ و الفضولْ .
.. هاهو التّمساحُ الأفريقي الكبيرُ .. يترنّحُ يمينًا و شمالا ً.. يبدو أنهُ بحاجةٍ لِمَنْ يُؤْنِـسُه ! جُلبَ – حسبَ ما كُتبَ في اللاّفتةِ الخاصّةِ بهذا الرّكن - من أدغالِ أفريقيا .. شرسٌ ، لكنّه غيرُ عُدواني .
.. تُرى ماذا يفعلُ ذاك الحارسُ بذلك القفص ؟! .. بقي بعضُ النّاسِ يتفرّجونَ .. مستغربينْ .. مُشْرَئِبة أعناقُهم !
..حركةٌ و صراخٌ بداخله.. فُتِحَ البابُ الصّغيرُ للقفص .. و خرج الزّائرُ الجديدُ مسرعًا.
تمساحٌ آخرُ ، لكنّه صغيرٌ.. بينما لا يعيرُ التّمساحُ الكبيرُ ٱهْتمامًا لخشْخشته .
.. كان يقفُ إلى جانبِ صديقنا.. شخصٌ وسيمٌ ، تبدو عليه علاماتُ الغربةِ مثله .. كانَ مُمسكًا بقِطَعِ المَوْزِ و بعْضِ حبّاتِ الفولِ السّودانِي .. يقدّمُها لمجموعةٍ من القردةِ الأسيويّةِ الصّفراءِ .. و لا تجدُ من تعبيرٍ عن رغبتها الجامحةِ للأكلِ مـنْ تلكَ الصّرخاتِ المتقطّعة ، بينَ الفينةِ و الأخرى ، أو بتلكَ الرّقصاتِ البهلوانيّةِ العجيبةْ ...
سألتُه - وقد كانَ طويلَ القامةِ ، هادِئَ الطبعِ - عن البلدِ الذي جُلبَ منه هذا التّمساحُ الصّغير.. فرد في هدوءْ :
- " هذا التّمساحُ ليس أفريقيًا !.. إنّه أمريكيٌّ ..وهو أشد ضراوةً من ذلك المعتد بنفسهْ ! " .
.. أعجبتني ثقتُه الزّائدةُ في معلومته .. لكنّي لمْ أعرْهُ ٱهتمامًا مرَّةً أخرى.. فالحديقةُ لا تتطلّبُ التّفكيرَ بلْ تُذكي في مَنْ يزورُها.. التّسليةَ و الاستمتاعَ في مثلِ هذه اللّحظاتْ .
.. إسْترْعى ٱنْتباهِي ، حمْلُه لهاتفٍ كبيرٍ .. كان يرن كل بضعِ دقائقَ .. يبدو أنهُ رئيسُ الأمنِ العام .. المكلّفِ بالنّظامِ في الحديقةِ .
.. ثمّ حدّثتُ نفسي..و النّشوة ُتتملّكني من رأسي حتّى قَدمَيْ :
- " لا يهُم ما سمعتْ !.. المهم الاستمتاعُ بالجولةِ.. الّتي كنتُ أنتظرُها بشغفٍ منذ وقتٍ طويلْ.." .
ذهبَ صاحبُنا متنقّلاً بينَ جنباتِ الحديقةِ ، الّتي كانتْ رائعةً هذا الصباحَ .. يغني تارةً ، و يُنشدُ شعرًا تارةً أخرى .
.. لكنْ سرعانَ ما ٱنْقطعَ صفوُ الحديقة وهدُوءُها .. بصراخٍ عالٍ تبِعتْه أنّاتٌ..أثارَ فضولَ النّاسَ ، للبحثِ عن المصدرِ المنبعثِ منه كلُّ هذه الجلبةِ العظيمةْ .
... تبيّنَ أن مصدرَ الصّوتِ كان من البحيرةِ و بالتّحديدِ " قفص التّمساحيْن ".
جرى صاحبُنا جرْياً لمْ يبنْ لهُ مشيٌ من هرولةٍ ..قصدَ المكانَ .. حشدٌ كبيرٌ متمسكٌ بالسّياج .. قامتُه القصيرةُ ساعدته على التّسلّل بينهم بسهولةٍ.. و كانت المفاجأةْ ...!
.. ذيلُ التّمساحِ الكبيرِ مقطوعٌ ، الدّمُ يتقاطرُ منه بكثرةٍ .. يتلوَّى .. ثم سقط بالقربِ من التّمساحِ الصّغيرِ.. الذي كان فمُه مُضرَّجًا بالدّماءْ .
.. لمْ يصدقْ أحدٌ ما شاهد .. و كلهم ٱستغرابٌ.. و سؤالْ :
- " أيمكنُ أنْ يكونَ التّمساحُ الصّغيرُ .. صاحبَ هذا الموقفِ البطوليْ !؟ " .
..أسرع خادمَا القفصِ .. دخلا .. أحدهُما همَّ بإشغال التّمساحِ الصّغيرِ بقطعةِ لحمٍ ..
.. بينما الثّاني وَجّهَ بندقيتَهُ نحو المجروحِ الكبيرِ.. ثم سقط بعد أنْ أطلقَ عدّةَ صرخاتٍ .. ينفطر لها القلب .
.. كان المنظر محزناً !
..صرختْ إحدى الزّائراتِ .. متأثّرةً بمنظرِ التّمساحِ البائسِ.. قائلةً :
- " لا تقتلوهْ ..! ..لا تقتلوهْ ..! " .
.. لفّتِ الكآبةُ أجواءَ المكان.. ظن الجميعُ ألاَّ محالةَ منْ قتلِ التمساحِ ، ولكنِ اتضَحَ أن البندقيةَ.. كانتْ تحملُ رأسًا مُخَدّراً..حتى تتم عمليةُ إسعافهِ إلى مشفى الحديقةِ ، بسهولةٍ .. و دون خوفْ.