أعادت الصحف الإسرائيلية خلال شهر سبتمبر الجاري الى واجهة النقاش بالبيت الإسرائيلي , وعلى خلفية الانتخابات على رئاسة حزب كاديما طرح تداول قضية تقسيم مدينة القدس , هذه القضية التي ظلت موضع شد وجذب طيلة سنوات خلت , بل وقدر لها أن تكون في اغلب الأحيان موضع الثمن الفاصل ما بين السلطة والسلام او النصر والهزيمة مع العرب , فالمؤيدون لفكرة التقسيم - وهم قلة - يرون من وجهة نظرهم أن لا سلام مع العرب في ظل احتلال إسرائيلي كامل لمدينة القدس ، وهناك من يريد تقسيم المدينة للحفاظ على أغلبية يهودية في العاصمة , وغيرها من الأسباب التي تؤيد وجهة نظرهم , أما المعارضون لها - أي - لفكرة التقسيم , فيقولون أن مجرد التفكير بها يعتبر خيانة للوطن , وبداية للتنازل عن جزء لا يتجزأ من ارض إسرائيل التاريخية , كما هو حال لسان حال المؤرخ الإسرائيلي وعضو هيئة قسم دراسات ارض إسرائيل في جامعة حيفا , البروفيسور يحيعام فايتس , الذي شدد على وحدة القدس كعاصمة أبدية لمستعمرة الكيان الإسرائيلي المحتل خلال تصريح له في صحيفة هاآرتس الإسرائيلية خلال هذا الشهر.
وقال البروفيسور يحيعام فايتس انه ( في نطاق الصراع على رئاسة كاديما أثار احد المنافسين وهو الوزير شاؤول موفاز دعوى " لا اخطر منها " وهي أن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني تجري اليوم تفاوضا مع الفلسطينيين على تقسيم القدس , وفي الغد ستقسم المدينة لتمنح أعداءنا العرب " الأغلى " - أي - أجزاء من المدينة المقدسة , وفي عالم الوطنية الأجوف , أن معنى هذا الفعل العميق هو الخيانة لا (اقل من ذلك ) , وقد شن وزير المواصلات الإسرائيلي شاؤول موفاز هجوما حادا بتاريخ 31 / 8 / 2008 م على منافسته الرئيسية في انتخابات رئاسة حزب كاديما وزيرة الخارجية تسيبي ليفني واتهمها بتقسيم القدس , وقال موفاز - في تصريحات أوردتها صحيفة -جيروزاليم بوست- الإسرائيلية على موقعها على الانترنت , انه ورد الى مسامعه أن ليفني قدمت تنازلات حول القدس في مفاوضات ترأستها مع الفلسطينيين ، ورأى أن هذا الأمر غير مقبول , ويتنافى مع ما يؤمن به أعضاء حزب كاديما وغالبية الشعب الإسرائيلي.
ولمشاهد تقسيم وتقطيع أوصال مدينة القدس الإسلامية العربية تاريخ طويل يتجاوز كثيرا أفكار البروفيسور يحيعام فايتس ووزير المواصلات الإسرائيلي شاؤول موفاز , ومستشار هذا الأخير الاميركي الصهيوني آرثر فينكلشتاين الذي قاد حركة تجديد وإعادة هذه الفكرة في عام 1996 م , وذلك في إطار المنافسة بين بنيامين نتنياهو وشمعون بيريز على رئاسة الحكومة الإسرائيلية , فلو عدنا الى الوراء قليلا , لوجدنا أن البداية كانت في عام 1918 مع أول مخطط إجرامي صهيوني لتقسيم مدينة القدس على يد سلفادور اللنبي , الذي استدعى مالكين " مهندس الإسكندرية " ليضع تخطيطا للمدينة يحقق الهدف الصهيوني الاستعماري لواحد من أهم أجزاء الأمة الإسلامية , حيث قام هذا الأخير بذلك خير قيام بتقسيمها إلى أربعة أقسام وهي البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها والقدس الشرقية (العربية) والقدس الغربية (اليهودية) , وقد ساهمت هذه الخطة بذلك الشكل على تعزيز الوجود اليهودي بشكل كبير وذلك بهدف السيطرة الكاملة عليها وتحويلها فيما بعد الى عاصمة لمستعمرة الإجرام والإرهاب الصهيوني ـ اسرائيل.
وقد ( سمحت هذه الخطة - كما يشير الى ذلك الدكتور جعفر عبد السلام في كتابه القانون الدولي لحقوق الإنسان , دراسات في القانون الدولي والشريعة الإسلامية - بالبناء في القدس الغربية وجعلها منطقة صالحة للتطوير , بينما منعت ذلك تماما في البلدة القديمة , وقيدته بشدة في القدس , وبذلك سمحت هذه الخطة بتعزيز الوجود الصهيوني في القدس الشرقية وإحكام تطويقها واستيطانها , لمنع أي توسيع عربي مستقبلي محتمل ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي للمدينة ليتسنى السيطرة تماما على المدينة , وتحويلها الى عاصمة للدولة اليهودية ) , بعدها حاول كل واحد من رؤساء حكومات إسرائيل اللاحقين أن يترك بصماته علي المدينة المقدسة احتلالا وتوسيعا وتهويدا وتطهيرا‏ , الى أن جاء بن جوريون والذي كان أول من تطلع الى القدس كعاصمة لإسرائيل حتي قبل إعلان قيامها يوم ‏15‏ مايو‏1948‏ م , ثم وهو يرأس الحكومة المؤقتة حتي أصبح رئيسا للوزراء في فبراير‏1949‏ ولمدة‏ 15عاما‏ - أي - حتي اعتزاله عام‏1963 م.
وقد حلت الكارثة الكبرى بالقدس والأمة الإسلامية والعربية على عهد الصهيوني ليفي أشكول الذي تولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية الإجرامية فيما بين الأعوام ‏1963‏ م و‏1969‏ م , حيث توالت الأحداث المأساوية عليها وعلى المسلمين والعرب كالتالي : في 7 / 6 / 1967م تم احتلال الجزء الشرقي العربي من القدس , بعدها بعشرين يوما تم الإعلان عن تطبيق القوانين الإسرائيلية على القدس وهدم السور وتوحيد شطريها , ومصادرة الأراضي العربية شرقها وضمها الى القدس الغربية لتصبح بلدية القدس الموحدة , ومصادرة 116 دونما داخل البلدة القديمة وهدم المباني المقامة عليها وإقامة مباني جديدة اسكن فيها اليهود , وفي 25 / 7 / 1967 م أحصت إسرائيل سكان القدس وأعطت الموجودين فيها بطاقات هوية إسرائيلية واعتبرت الموجودين خارجها غير مقيمين فيها , وحرمتهم من حق الرجوع إليها , وبعد أشكول جاءت جولدا مائير وقد استهلت فترة حكمها بأبشع جريمة عرفتها القدس وذلك بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في‏21‏ أغسطس من العام ‏1969 م , واستمرت الأوضاع المتردية على ما هي عليه منذ فترة جولدا مائير ومرورا بإسحاق رابين عام‏1974‏م , والذي واصل سياسته الاستيطانية الإجرامية الإرهابية بشكل غير مسبوق , وذلك بمصادرة مزيد من الأحياء العربية والاستيلاء علي الأراضي المحيطة بالمسجد الأقصى الشريف للبدء فيما يسمي بمشروع بناء القدس الكبرى , زاعما بان القدس ستبقي موحدة إلى الأبد تحت سيادة إسرائيل.
وفي 30 / 7 /1980 اصدر الكنيست الإسرائيلي ما يسمى "بالقانون الأساسي" حول ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية واعتبارها "عاصمة موحدة للمستعمرة الإسرائيلية الإجرامية الكبرى " , ثم وفي ديسمبر من العام ‏1994‏ م , اصدر الكنيست قانونا آخر يحظر نشاط بيت الشرق الذي كان مقرا لفيصل الحسيني المسئول عن ملف القدس منذ عام‏1991 م , ( وبعد مقتل رابين وتولي شيمون بيريز بفترة قصيرة جاء نيتانياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية ببرنامج لتهويد القدس أشد خطورة من سابقيه‏ ,‏ ويكفي الإشارة إلى افتتاحه أول نفق تحت المسجد الأقصى في‏26‏ سبتمبر‏1996‏ واستمرار عمليات الحفر وتكثيف عمليات بناء المستوطنات ومن أبرزها مستوطنة جبل أبو غنيم ) , ويستمر الحال على ما هو عليه من التهويد والتقسيم والتجزئة والتخريب مع من تلاه من رؤساء وزعامات الحكومات الصهيونية الإجرامية مثل شارون ورئيس الحكومة الإسرائيلية الراهن أولمرت والذي لم يقل عمن سبقوه في ممارسة فرض سياسة الأمر الواقع.
وها نحن اليوم نسمع تكرار نفس اللعبة القديمة المتجددة , والعزف على نفس الوتر الذي طالما عزفت عليه قيادات تلك المستعمرة الإرهابية منذ ظهورها إلى الوجود بقرار ظالم وجائر من قبل منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947م , وقيامها بتاريخ ‏15‏ مايو‏1948‏ - ونقصد - العزف على وتر تقسيم مدينة القدس , بهدف إحلال السلام المزعوم مع العرب , فيما الطرف الآخر يراهن على عكس ذلك , - أي - على ورقة السلطة والفوز برئاسة الحكومة بالوقوف في وجه ذلك التقسيم وتجزئة القدس , وفرض يهوديتها السياسية على الفلسطينيين والعرب رغما عنهم , تحت ذريعة وحدتها الإسرائيلية الأبدية , ولتكون القدس بجميع أبعادها التاريخية والسياسية واحدة من أهم الأوراق التنافسية للجميع مع كل موسم للانتخابات الإسرائيلية.
وبالرغم من أن قرار تقسيم فلسطين قد اقر وضعا مختلفا لمدينة القدس , لا يعطي إسرائيل أي حق قانوني للتصرف بها وبمراكزها ومقدساتها , وذلك بسبب أهميتها وقداستها بالنسبة لكل البشر الذين يدينون بديانة سماوية , والذي جعلها مدينة دولية " تدويل القدس " بحسب القرار 194 والصادر في 11 / ديسمبر / 1948م , وقد نص على أن منطقة القدس يجب أن تتمتع بمعاملة خاصة ومنفصلة عن معاملة بقية مناطق فلسطين الأخرى , ويجب أن توضع تحت الرقابة الفعلية للأمم المتحدة , والقرار رقم 303 , الصادر في 9 / ديسمبر / 1949 م , والذي نص على وجوب وضع القدس في ظل نظام دولي دائم , يجسد ضمانات ملائمة لحماية الأماكن المقدسة داخل القدس وخارجها , وأكد على ما جاء بقرار التقسيم والقرار الملحق به , من وجوب قيام مجلس الوصاية بإدارة المدينة وحدد حدود مدينة القدس بأنها , بلدية القدس الحالية والمراكز والقرى المحيطة بها , إلا انه لا إسرائيل ولا أعوانها الصهاينة ومن هاودهم في مختلف أرجاء العالم قد التزموا بحرمة ذلك من الناحية الدينية القدسية , ولا احترموا شرعية القرارات الدولية الصادرة باسم المنظمات الدولية والحقوقية العالمية , كمنظمة الأمم المتحدة على سبيل المثال لا الحصر.
وهو ما يؤكد عبثية ما يطلق عليه تاريخيا وسياسيا مصطلح السلام مع إسرائيل , وخصوصا في ظل هذا الفارق الشاسع ما بين الحصانة والدعم المادي والسياسي الذي تناله إسرائيل من قبل بعض أعضاء المجتمع الدولي من الكبار , وعلى رأسهم الولايات المتحدة الاميركية , مما جعلها ترتكب معظم جرائمها وخروقاتها وتجاوزاتها بدم بارد , ولتبدوا إسرائيل بذلك مستعمرة فوق القانون والإرادة الدولية , وما بين ضعف الإرادة العربية ووهنها وتشرذم قوتها وتقزم دولها , والتي لم تتمكن الى الآن من الحصول على ابسط حقوقها الشرعية والقانونية المسلوبة من قبل هذا المستعمرة منذ العام 1948م , ولا من استرداد ما سلب من أجزاء ترابها العربي لا باسم السلام ولا بغيره , ولتظل هذه المستعمرة وقادتها يتاجرون ويقامرون بما بقي تحت سلطتهم من التراب العربي , باسم السلام الزائف أحيانا , وباسم السلطة السياسية أحيانا اخرى.