الرحلة بين الأدب و الجغرافية
إهداء لدكتور/ محمد فؤاد منصور بمناسبة "الصحراء الواسعة"
تقديم
يرتبط مفهوم الرحلة في الأصل اللغوي العربي، بركوب الإبل، أو الجياد ونحوهما، وترويضها حتى تصير "راحلة"، وقد نقل ابن منظور عن أبي زيد قوله: "أرحل الرجل البعير(...) إذا أخذ بعيراً صعباً، فجعله راحلة"، ثم يضيف ابن منظور: "الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله.." ونستنتج من هذا القول، أن تحقيق متعة الاكتشاف من ناحية والرغبة في مكابدة الشدائد، والتغلب عليها من ناحية أخرى، هما من الأضداد التي ينشدها الإنسان في الرحلة، ويختم ابن منظور القول: "وقال بعضهم: الرحلة الارتحال، والرحلة بالضم الوجه الذي تأخذ فيه وتريده".
وتختلف الرحلات باختلاف الأغراض البشرية، التي تستدعي القيام بها، غير أن هناك أغراضاً أخرى استدعت كتابتها بعد ذلك، فالرحالون لم يهتموا برحلاتهم إلا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، واستمر التأليف فيها إلى أن أصبحت فناً أدبياً مميزاً، حدده الباحثون حديثاً، وصنفوه ضمن أنماط السرد الذي يتخذ الرحلة موضوعاً له، لكن فريقاً آخر من الباحثين، يرون أن لهذا الفن قيمتين: الأولى علمية، والأخرى أدبية؛ فهو يتناول الكثير من نواحي الحياة الواقعية: "إذ تتوفر فيه مادة وفيرة مما يهم المؤرخ والجغرافي وعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخي الآداب والأديان والأساطير".
وهذا يعني، أن أي رحلة كي تعد فناً، لا بد أن تحمل في الوقت نفسه هاتين القيمتين، أعني العلمية والأدبية، لكن نسبة إحداهما إلى الأخرى، متفاوتة في الرحلات العربية على الأقل، فبعض الرحلات يغلب عليه الجانب العلمي، الجغرافي والتاريخي، وبعضها الآخر يغلب عليه الجانب الذاتي أو الأدبي الوجداني.
وقد كان اهتمام الرحالين بتدوين رحلاتهم، كبيراً جداً، ويضيق بنا في هذا المحل تعداد كل المؤلفين في الرحلة من جغرافيين ومؤرخين وأدباء، وغيرهم من المتخصصين، ونخص بالذكر أشهرهم، كأحمد بن يعقوب ، مؤلف كتاب "البلدان"، وأحمد بن يحيى البلاذري ، صاحب كتاب "فتوح البلدان"، والمقدسي مؤلف "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، كما تواصل تأليف الرحلات ذات الطابع الجغرافي والتاريخي وعظم، وخاصة على يد أمثال البكري، وابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة المغربي، وأبي القاسم بن يوسف التجيبي التلمساني، وعبد الرحمن بن خلدون.
الرحلة أدبيا
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أن الأدب العربي قد حفل بالكثير من القصائد والنثر الذي يحث على الأسفار والرحلات كما حفل بالكثير الذي يعارض ذلك.
ونورد على سبيل المثال ما ينسب للإمام الشافعي من قوله رحمه اللّه حاضاً على الرحلة والسفر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل وغربة
وقطع فياف وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته
بدار هوان بين واش وحاسد
أما المعارضون للسفر والرحلة فقد عبر عنهم شاعرهم بقوله:
تفكر إخوان وفقد أحبة
وتشتيت أموال وخيفة سارق
وكثرة إيحاش وقلة مؤنس
وأعظمها يا صاح سكن الفنادق
فإن قيل في الأسفار كسب معيشة
وعلم وآداب وصحبة فائق
فقل كان ذا دهراً تقادم عهده
وأعقبه دهر كثير العوائق
وهذا مقالي والسلام مؤبد
وجرب ففي التجريب علم الحقائق
فقام أحدهم يجرب السفر والرحلة فقال:
سفر الفتى لممالك وديار
وتجول في سائر الأمصار
علم ومعرفة وفهم واسع
وتجارب ورواية الأخبار
ومن عوامل نجاح أدب الرحلة التي يمكن أن نشير إليها في هذا المقال أن تكون الرحلة مدونة تدويناً موضوعياً بعيداً عن الفرضية وأن يكون الرحالة متصفاً بالنزاهة والواقعية فضلاً عن كونه مزوداً بالعلم والثقافة والمعرفة.
ونظراً إلى هذه المضامين، فقد عد الباحثون أدب الرحلة علماً من العلوم، إذ إن أصحابه ألموا فيه بكثير من المعارف، فتحدثوا عن البلاد التي زاروها، وعن طبيعة الأرض والمناخ والمواقع والحدود والأبعاد والارتفاعات، ولم يهملوا أحياناً البنيان والآثار، وصوروا أحوال السكان وطباعهم وأعيادهم وحرفهم وما يؤدونه من الضرائب، وما كانت تختلف به الألسنة وتتغير اللهجات، فشملوا بذلك مختلف أنواع الجغرافية، ويمكن أن نشير هناإلى ما تزخر به كتابات الإدريسي في "نزهة المشتاق" وابن جبير في "كتاب الرحلة" وابن بطوطة في "تحفة النظار" وناصر خسرو علوي في "سفر نامة" والقاسم التجيبي في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، ومحمد بن عمر التونسي في كتابه القيم "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان"، إلى غير ذلك من الكتابات الراقية التي تنقل القارئ إلى المناخات والبيئات والأجواء والأزمنة التي كتبت فيها تلك الدراسات القيمة.
الرحلة جغرافيا
الجغرافيا علم يدرس ظاهرات سطح الأرض الطبيعية، كالجبال والسهول، والغابات والصحارى، والحيوان والإنسان، كما يدرس الظاهرات البشرية التي صنعها الإنسان على هذا السطح، كالمدن والإنتاج الاقتصادي: الزراعي والمعدني، والتجارة وطرق المواصلات، وميدان هذا العلم الطبقة العليا من قشرة الأرض والطبقة السفلى من الغلاف الجوي (المعجم الجغرافي، مجمع اللغة العربية، القاهرة 1394ه 1974م).
ولقد كتب علماء المسلمين في جغرافية الأرض ورسموا خرائطها، قبل أن ينقلوا كتب غيرهم إلى العربية، استجابة لدعوة الإسلام الحنيف إلى طلب العلم النافع، وإعمال الفكر والعقل في كل ما خلق الله تعالى وسخره لخدمة الإنسان، بما في ذلك الأرض التي يحيا عليها، فهي أصل وجوده من ترابها ومائها خلق، وعلى صدرها وخيراتها يعيش، وإليها يعود ويتلاشى ترابا في ترابها، ومنها يبعث تارة أخرى قال تعالى: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور” (سورة الملك: 15) وقال سبحانه: “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى” (سورة طه: 55).
ومنذ القرن الأول للهجرة اتسعت معرفة المسلمين بأقسامها وصفاتها لاتساع فتوحاتهم وعرفوا منذ ذلك الحين عمل الخرائط الجغرافية وقراءتها، فيروى أنه لما غزا قتيبة بن مسلم الباهلي مدينة بخارى صعب عليه فتحها، فكتب بذلك إلى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، فكتب إليه الحجاج يطلب منه أن يصورها (أي يرسم خارطتها وما حولها) ويرسل صورتها إليه، وقد أشار الحجاج على قتيبة الباهلي بطريقة فتحها سنة 90ه.
وكانت الدولة الإسلامية الكبرى المترامية الأطراف تجتمع على وحدة دين ولغة وثقافة، فاجتهد علماء الحضارة الإسلامية في دراستها عن طريق الرحلات والأسفار والتعرف إلى تضاريس الأقطار والبلدان لتوثيق الصلات بينها، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالعدل بين سكانها، وكان لاكتشاف الأجهزة العلمية، كالبوصلة والمزولة والأسطرلاب، أثر مهم في تسهيل الرحلات وتشجيع الرحالة.
وتميز الجغرافيون في الحضارة الإسلامية بنظرتهم العلمية الواقعية لمختلف الموضوعات الجغرافية، وكان الخوارزمي (ت: 850م) من أعلام المرحلة الأولى لتطور الفكر الجغرافي الإسلامي، فقد وضع كتابًا عن “صورة الأرض” قال عنه “نيللينو”: إن مثل هذا الكتاب لا تقوى على وضعة أمة أوروبية في فجر نهضتها العلمية فصاحبه من أبرز العلماء في عصر المأمون، وهو يعالج في كتابه بصفة رئيسية أهم الموضوعات الجغرافية المتعلقة بخطوط طول وعرض الأماكن والجبال والبحار والأنهار، وأسماء المدن الواقعة على الجانب المعمور من الأرض مرتبة حسب ورودها في الأقاليم السبعة.
وقد ساعدت مثل هذه البدايات العلمية تدريجيًا على أن تبلغ الجغرافيا درجة عالية في البحث المبني على الاختبار الشخصي والمعرفة المكتسبة من السفر والتنقل، وازدهرت حركة التأليف الجغرافي، وزاد الاهتمام بفروع الجغرافيا الرياضية والفلكية والطبيعية والبشرية، وغيرها وواكب هذه الجهود العلمية الابداعية اتساع رسم الخرائط حتى شمل العالم الإسلامي كله ما يمكن أن نسميه أطلس العالم الإسلامي، وقد أحصى “ميللر” الخرائط التي رسمها المسلمون للعالم الإسلامي فوجدها مائتين وخمسا وسبعين خارطة، باستثناء خرائط الإدريسي التي وصفها “ميللر” بأنها تمثل مدرسة جغرافية خاصة ذات أثر كبير في تصوير الدنيا للأوروبيين.
وهنا تجدر الإشارة إلى جانب مهم، يغفل عنه الكثيرون، وهو دور التجربة في البحث الجغرافي، خاصة أن الجغرافي المعاصر يرى في “الرحلة” عين الجغرافيا المبصرة في الدراسة الميدانية، وفي ضوء هذه الملاحظة المهمة يشهد التراث الجغرافي لحضارتنا الإسلامية بسبق علمائها إلى مفهوم البحث الجغرافي وإنجازه عن طريق الرحلة الميدانية، وذلك قبل الجغرافي المعروف “اسلندر همبولت” الذي يعده المؤرخون واحدًا من عمالقة الجغرافيا في القرن التاسع عشر الميلادي، وينسب إليه البعض أبوة الرحلة الجغرافية المتخصصة، عندما خرج في الرحلة التي غطت مساحات من أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا وسيبيريا وعاد منها لكي يصبح جغرافيًا مرموقًا، ونسوا العشرات من علمائنا الذين سبقوه إلى مثل هذه الرحلة الميدانية.
اعتنى عدد من الباحثين في أدب الرّحلة، باستخراج وتحليل المواد الجغرافيّة الواردة في كتب الرّحلات العربيّة، واعتبروها منابع غنيّة للحقائق والمعلومات الجغرافيّة عن البلدان الإسلاميّة. ورأى بعضهم أنّ الرّحّالين كانوا من السبّاقين إلى التأليف في علم الجغرافيا.
ونذكر من بين هؤلاء الذين عالجوا المواضيع الجغرافيّة في كتبهم المستشرق الرّوسي (أغناطيوس كراتشكوفسكي)، الذي صنّف الرّحلة العربيّة ضمن ما سمّاه بـ: "الأدب الجغرافي" الذي عدّه الباحثُ فرعاً من فروع الأدب العربي، وقد تنبّه كراتشكوفسكي إلى قيمة مؤلّفات الأدب الجغرافي العربي، لكونها مصادر هامّة وأحياناً الوحيدة، التي عرّفت بمدن وبلدان العالم، في حقب معيّنة مع حفاظها غالباً على الطّابع الفنّي في الكتابة واستعان جورج فضلو حوراني بما ورد في أدب الرّحلات العربيّة من معلومات جغرافيّة عن الملاحة في المحيط الهندي.
وتبدو المواد المتّصلة بالجغرافية عند أدبائنا متركزة حول: وصف المدن والأمصار، أو تحديد مواقعها، والمسافات التي تفصل بينها، وذكر خصائصها وهوائها، ومواردها الطّبيعيّة، وكذلك تتناول الطّرق البرّيّة والبحريّة، والمسالك والمفاوز، والفجاج، وقد تتخصّص أكثرها في الجغرافيا، فتتعرّض إلى تحديد صورة الأرض، أو ما يعرف بعلم الخرائط.
هنا تطرح أمامنا مجموعة من الإشكالية، هو في أي الإطار الذي يمكن أن نضع فيه المنسوخ أو المروية الذي وصلنا عن الرحلة، هل في إطارها العلمي أي الجغرافي الذي بعرف بالشعوب في إطار الجغرافية السكان، أو الأمصار و المدن، في أطار الجغرافية البشرية او الطبيعة نيات و ماء و تضاريس... في إطار الجغرافية الطبيعية، أو في إطارها الأدب الفني الجمالي، هنا افتح أمام زوار هذا المقال باب التصويت و أرائكم كيف ما كانت تهمونا في هذا الموضوع.
المفضلات