أسباب ثقافية وإعلامية وراء ضعفها
ملاحظات حول ترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية
بشير البكر

أود في البداية الاشارة الى ان هذه الورقة انطباعية وليست دراسة اكاديمية. هي تنطلق من متابعتي الشخصية، وملاحظاتي كقارئ اولا باللغتين العربية والفرنسية، ومن واقع اهتماماتي كصحافي وكاتب لما يصدر من العالم العربي، وفي خصوصه. ولذا أريد أن أنوه إلى ان موقع الاحصائيات والارقام والاحكام العامة والدارجة، ليس من اختصاص هذه الورقة. لأن هدفي هنا هو تسليط الضوء على جانب من مكانة الكتاب العربي في فرنسا.

في البداية يخطر على بالي السؤال التالي: بغض النظر عن حكم القيمة، لماذا لم يستطع الأدب العربي أن يحقق الرواج الادبي في فرنسا، الذي حققه الأدب الامريكي اللاتيني، في حين أن العرب أقرب الى فرنسا تاريخيا وجغرافيا؟

هناك اسباب كثيرة يظل أهمها، ان ادب امريكا اللاتينية يعتبر جزءا من الثقافة الاوروبية، وقد جرى العمل على ترجمته منذ اربعينات القرن الماضي، في حين بدأت ترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية في السبعينات من القرن الماضي. والسبب الرئيسي الثاني اعلامي، يعود الى تسليط الضوء على ادب امريكا اللاتينية، نظرا للعدد الكبير نسبيا من الحائزين على جائزة نوبل.

يمكن اعتبار هذين السببين مدخلا الى جملة من الملاحظات الاساسية، التي تتعلق بحركة ترجمة الادب العربي الى الفرنسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ووضعها الراهن. وإذ أطرح هذه الملاحظات، فإني أهدف من وراء ذلك تسليط الضوء على موضوع، يعد من اخطر التحديات التي تواجه الثقافة العربية، ومشكلة تواصلها وايصالها إلى الآخر.

الملاحظة الأولى هنا، هي إن الثقافة العربية كانت تعرف تجاهلا كبيرا في فرنسا قبل ثلاثة عقود. وكان الباحث والناقد الفرنسي يهتم بما ينشر في تشيكو سلوفاكيا والمكسيك والارجنتين، وعندما يصل إلى العالم العربي يتجاهله. وفي كتابه الشهير “رولان بارت بقلم رولان بارت”، يلمح الناقد الفرنسي الى ان الثقافة العربية “لاتهمنا الا في حالات انتروبولوجية”. وليس سرا ان الكثير من دور النشر الفرنسية لم تتحمس كثيرا لنشر نجيب محفوظ، قبل نيل جائزة نوبل، فصارت الجائزة في هذه الحالة شرطا لظهور الكاتب، وليست شرطا للقيمة. والأمر ذاته تكرر مع الاديب الصيني “جاو كسينغ جيان”، الذي حصل على جائزة نوبل سنة ،2000 وقد رفضت دار “غاليمار” العريقة نشر رواياته بسبب كبر حجمها.

والملاحظة الثانية، هي ان ما ترجم الى اللغة الفرنسية من العربية، في عقدين من الزمن يتجاوز ما ترجم عبر قرون، ومع ذلك يبقى الكتاب العربي المترجم الى الفرنسية على هامش الادب المكتوب مباشرة باللغة بالفرنسية. وهناك امثلة على ذلك مثل طاهر بن جلون وامين معلوف، والعشرات من الكتاب العرب، أو المتحدرين من أصول عربية الذين يكتبون اليوم بالفرنسية، وخصوصا من الاجيال الجديدة. ومن المؤسف ان هؤلاء يعانون من إهمال ثقافي فادح. ويتطلب الأمر لفت انتباه الجهات المختصة الى الثقافة العربية التي تنتج اليوم بلغات أخرى، وإلى الكتاب العرب من ابناء المهاجرين المزدوجي اللغة، والى الملايين من العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب.

إن الملاحظة الثالثة التي تستحق التوقف امامها هنا، هي ان افضل حضور للأدب العربي في اوروبا موجود في فرنسا، ويعود الفضل في ذلك الى دار نشر سندباد/اكت سود، التي ترجمت حتى الآن لحوالي 100 كاتب من أصل 140 كاتبا عربيا ترجموا الى الفرنسية(ثلثهم من مصر)، منهم نجيب محفوظ ومحمود درويش وادونيس والياس خوري وهدى بركات وجمال الغيطاني وحنان الشيخ وادوار الخراط ويحيى حقي وصنع الله ابراهيم. وللوقوف على حجم هذا الجهد تكفي المقارنة بين ما كان عليه هذا الادب قبل عقدين من الزمن وما هو عليه اليوم. في ذلك الوقت لم تكن هناك سوى بعض الروايات القليلة المترجمة لنجيب محفوظ، أما اليوم فهناك كوكبة كبيرة الى جانبه من مصر ولبنان وفلسطين وسوريا واليمن والعراق وبلدان المغرب العربي.

والملاحظة الرابعة، هي ان المؤسسة التي بدأت الاهتمام بشؤون الادب العربي في فرنسا، هي مؤسسة الاستعراب الفرنسي. وقد اهتمت اولا بالجانب الديني:بالاسلام. وأنشأت جيلا من المستشرقين اختصوا بالفقه الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي والمدارس الأخرى. اهتمت بعلم الكلام، بالسيرة والتاريخ، وتحقيق المخطوطات ونشر النصوص، وابدعت في هذا المجال وقدمت خدمات كبيرة.

أما الملاحظة الخامسة هنا، فهي تختص بالدافع الى الترجمة خلال العقدين الأخيرين. وهنا يمكن ايراد سببين رئيسيين:الأول، هو حركة تطور الثقافة الفرنسية نفسها. فالثقافة الفرنسية شأنها شأن غيرها من الثقافات منفتحة وترفع لواء العالمية، لذا ذهبت للبحث والتنقيب عن الثقافات الأخرى في آسيا وامريكا اللاتينية. ومن الطبيعي ان تتجه الى ترجمة الادب العربي، كما تتجه لترجمة آداب الصين وتركيا والهند واليابان... إلخ. والسبب الثاني، هووجود نحو خمسة ملايين عربي ومسلم، وخصوصا من ابناء الجيلين الثاني والثالث الذين تعلموا في الجامعات الفرنسية، وانقطعوا عن اصولهم اللغوية والفكرية العربية والاسلامية. لقد صار هذا الحضور مصدر طلب للثقافة الادبية والدينية. وهذا ما يفسر ترجمة القرآن الى الفرنسية.

الملاحظة السادسة هي، إن الرواية العربية هي الأكثر انتشارا في فرنسا من بين الانواع الادبية العربية، وهناك تركيز على ترجمة مجموعة من الكتاب من حقبة الستينات تحديدا، وإغفال لباقي النتاج الآخر، الأمر الذي يحتم ضرورة ترجمة ونشر أعمال ابداعية متنوعة اكثر، حتى يدخل الأدب العربي ميدان المنافسة بقوة لسائر الآداب الأخرى. ويعود السبب في هذا التقصير الى غياب الجهد العربي الرسمي في صورة تامة.

وأريد أن ألفت الاهتمام إلى نقطة تتعلق بنشاط الملحقيات، والمراكز الثقافية العربية في فرنسا (المصري، السوري، العراقي، اليمني، الجزائري). وفي حدود علمي لم يسبق لأحد هذه المراكز، أن قام بجهد على هذا الصعيد، ولم نسمع أن حكومة عربية، أو وزارة ثقافة اهتمت بترجمة الادب العربي الى الفرنسية. في الحقيقة هناك محاولات متفرقة تقتصر على بعض بلدان الخليج مثل الامارات، لكن هذه المحاولات محصورة في نطاق تعريفي ضيق، ليس هاجسه ترجمة الاعمال الادبية، بقدر ما هو إعطاء فكرة عامة. إن المسألة على درجة كبير من الخطورة، وهي تستلزم التحرك في اكثر من اتجاه: أولا، هناك حاجة ملحة لاصدار مطبوعة ثقافية عربية شهرية تعنى بنقل الجديد من النتاج الثقافي العربي إلى الفرنسية. ثانيا، هناك حاجة لاصدار كتاب الشهر، وهو ترجمة عمل ادبي صدر حديثا، فتكون المحصلة السنوية قابلة لتقديم صورة عن حالة الادب العربي الذي يكتب اليوم. وثالثا، هناك حاجة لدار نشر تعود الى ترجمة الاعمال الادبية ونقل الثقافة العربية الى الفرنسية، شريطة ألا تقع في مطب الاحتكار. رابعا، هناك ضرورة لاستحداث جائزة خاصة بالكتاب العربي المترجم الى الفرنسية، هدفها قبل كل شيء إعلاء شأن الترجمة، والتعريف بالكتاب العربي بالفرنسية، في فرنسا والدول الفرانكوفونية.

لقد بات العالم العربي معروفا جدا في فرنسا خلال العقد الأخير، وانتشرت الموسيقا العربية، والطعام العربي على نطاق واسع، لكن الكتاب العربي بقي في اطار ضيق بسبب محدودية ما يترجم، الأمر الذي يستدعي تركيز الجهد في هذا الاتجاه. وهذا يتطلب استحداث مؤسسة خاصة للقيام به على اكمل وجه، وشرط نجاحها هو أن تكون بعيدة عن وزارات الثقافة في العالم العربي، وعن الجامعة العربية.

أما الملاحظة السابعة فهي، غياب النشر المشترك بين الناشرين العرب والفرنسيين. إن الالتفات الى هذا الجانب من شأنه أن يساعد على إيصال الكتاب العربي إلى الفرنسية. ومن المؤسف أن الناشر العربي لم يصل الى مرحلة ابعد من الاستثمار السريع الأجل في الكتاب، ولو أنه لجأ إلى الاستثمار على المدى الطويل، لكان من الممكن الوصول إلى صناعة كتاب كما هو قائم في اوروبا والغرب على العموم . وهذا الأمر يتطلب في كل الأحوال، أن تكون دار النشر قادرة على المستوى المادي للنهوض بهذه المهمة. في ختام هذه الورقة أجد انه من الأهمية بمكان، أن نقف سريعا عند تجربة دار سندباد في ترجمة الأدب العربي الى الفرنسية، وهي التي أسسها الكاتب والمستعرب الفرنسي بيار برنار سنة 1972 كدار مستقلة، متخصصة في ترجمة الادب العربي، قبل أن تنضم الى دار “اكت سود” بعد وفاته. وكانت أولى ترجماتها رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ. وقد ترجمت له نحو 11 رواية.

لقد استطاعت سندباد/ أكت سود أن تجعل العديد من الكتاب العرب، في صلب المشهد الثقافي في فرنسا، وبالتالي في اوروبا، مثل نجيب محفوظ، محمود درويش، هدى بركات، الياس خوري... إلخ. وذلك من خلال ترجمة اعمالهم. إلا إن هذه الدار لا تستطيع وحدها النهوض بالمهمة، رغم الجهد الكبير الذي قامت به حتى الآن.


* * *

يقع معهد العالم العربي الذي صار صرحا ثقافيا هاما، في وسط باريس على مقربة من الحي اللاتيني والسوربون والبانتيون (مقبرة العظماء). لم تحصل دول كبرى مثل الولايات المتحدة أو اليابان على هذا الموقع. إن ذلك يعكس اهتمام فرنسا بثقافة العالم العربي، بقي على العرب أن يروا أنفسهم جيدا في عيون الآخر.

إن افضل السبل اليوم للتواصل هو نقل الادب العربي إلى اللغات الأخرى، ولابد من الاشارة إلى ان الادب العربي الجديد يحتاج إلى التفاتة خاصة، فهو من ناحية جدير بأن يترجم، ومن ناحية ثانية، يعكس إلى حد كبير نبض المجتمعات العربية.

حين خرج اليابانيون من ويلات الحرب العالمية الثانية، واشتد عود اقتصادهم، وشرعوا يصدرون السيارات والتلفزيونات، فكروا حينها بأن يصدروا معها ابداعهم وفكرهم، ومن هنا بدأوا بمشاريع للترجمة لم يقوموا بها بمفردهم، وإنما دعموا مؤسسات غربية وحرضوها على ترجمة نتاجهم. فهل يبادر العرب إلى شق طريقهم الخاص نحو الترجمة؟



شارك الكاتب بهذه الورقة في ندوة الترجمة

ضمن فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب 2006