Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
أرض الميّت

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: أرض الميّت

  1. #1
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    Thumbs up أرض الميّت

    في سيرة المكان


    أرض الميّت


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    اللوحة للفنان التشكيلي السوداني: فيصل تاج السر


  2. #2
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي


    إهداء ...

    إلى "عليم عباسي" مرّة أخرى في سويداء القلب والذاكرة الخاوية إلاّ منه، وإلى "فاطمة عيد حافظ"، أميّ النوبية الأصيلة التي أرضعتني حليب الحِكمة والصبر وإلى روح المرحوم "صالح محمود آدم" أوّل من علمني القراءة وقال لي: أجل!


  3. #3
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    1


    كنتُ منتبهاً لصوت الجدة مِسكة المتشائم ومتأثراً به وهي تحكي لنا عن وفاة أحد أعظم الأساطير التي مرّت على قريتنا والقرى النوبية على الإطلاق، وظلت سيرة هذه الشخصية الأسطورية التي تسببت في تسمية الأراضي التي تسكنها بعض القبائل الأحمسية السمراء تتردد على ألسنة عجائز القرية وشيوخها جيلاً بعد جيل؛ إلى الحد الذي جعل الرواية تخضع إلى عمليات تحريف شعبية واعية، فأضاف إليها البعض من مخيّلته الخاصة؛ بينما اعتمد البعض الآخر على ذاكرته التي كانت قد أصابها العطب والصدأ بفعل تقدّم السن، ولم يبق من معاصري هذه الشخصية أحد على قيد الحياة. ولكنني تأثرت برواية الجدة مِسكة التي روتها لنا على حلقات متسلسلة، فكنا ننتظر الظلام وهو قادم يتهادى على مهل فوق سفوح جبال ميمن توّو الجنوبية كغريب يدخل القرية على خجل فنجلس في نصف دائرة: أنا وأبناء عمومتي وبعض الفتيات لنستمع إلى ما تبقى من حكايات جلال التمتام.

    ومازلت إلى الآن قادراً على تصوّر مشهد وفاته الذي لم يشهده أحد وخضع لتكّهنات الرواة من هيئته التي رأوه عليها عندما عثروا عليه ميتاً على سريره ممسكاً بصورة فتاة لم تتجاوز الثامنة من العمر. والضوء الذي كان يمر متسللاً من خلال النافذة المتهالكة على تجاعيد وجهه الذي كجلد تمساح أمازوني، عرّى تواريخها. ذلك الضوء الذي كنهر هادر من آلاف اليرقات الضوئية، كان يعبر بين ثقوب النافذة الخشبية المطليّة بطلاء أزرق، ناشراً رذاذ أشعةِ الساعة الثامنة صباحاً على طول المجرى الضوئي المستقيم، مجنونة كإحدى لوحات سلفادور دالي السريالية. كل الذين رووا قصته أجمعوا على أن الحزن كان أكثر الملامح إضاءة في قسماته المُتعَبة، وأنفاسهُ المتصاعدة كأنها صوت سفينة بخارية غادرت مرساها من ميناء حلفا النهري للتو. الهواء الصباحي البارد يصفع الباب الخشبي بصفائح الألمنيوم المتآكلة، كأنه جسد كركدن أفريقي معتدٍ بنفسه.

    كان له قنٌ يُربي فيه ثلاث دجاجات، وديكاً أعرجاً لا يُلقّح ولا يُؤذن، وكلبٌ أسود بذيل مقطوع، يُذاع عنه أشياء مُريبة ويُشكّ في أمره. عندما عضّ الكلب صابرين ابنة العمدة ليلة عيد أضحى، لم يجرؤ –حتى إمام القرية– على إمساكه وحقنه بالسُّم. العمدة نفسه كان يقرأ المعوذتين وينفث عن شماله ثلاثاً كلما رآه، ويردّد بصوت عال ليسمعه الكلب: "أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق!" وظنّ أن ذلك ما كان يبقيه في حرز منه، وآمن أنّ تلك الكلمات كانت سرّ نجاته من هجمات الكلب العدوانية. ولا أحد يعرف على وجه الدقة من اكتسب الشهرة من الآخر الكلب الأسود أم ابنة العمدة. إذ كانت مجالس الرجال لا تخلو من ذكر تلك الحادثة وأصبح الأمر فاكهة الليالي الخمرية التي اعتاد عليها الشباب في القرية. جاء الناس راجلين وراكبين من كل الأصقاع البعيدة والقريبة ليحمدوا للعمدة سلامة ابنته. وجاء حكيم القرية ليحقن الفتاة المسكينة بإحدى وعشرين حقنة في سرّتها أمام دعوات الجميع لها بالشفاء والسلامة من داء الكَلَب.

    بعد وفاة الشيخ العجوز، قرر بعض الفتيان -من بينهم هارون عزيزة- مطاردة الكلب الأسود العجوز وقتله، واعتبروا ذلك واجباً مدنياً ودينياً مقدساً، وشرفاً سوف يستحقون عليه الثناء والمجد من أهالي القرية. هارون عزيزة وجدها فرصة مناسبة لكسب احترام الأهالي الذين نبذوه بعدما وشت به مجموعة من الأطفال عندما كان يختلس النظر إلى فتاة بالغة وهي تستحم في مياه النيل، فكان أكثرهم حرصاً وحماسة لمطاردة الكلب، بل وأكثرهم شراسة في الفتك به. كانت دماء الكلب الأسود خلاصهُ من العار الأبدي ولا شك. وبموت الكلب الأسود وصاحبه التمتام، انقلبت أحوال القرية رأساً على عقب، ولم تعد تهنأ بالراحة.

    أوصى الشيخ عبد الصبور إسماعيل دهب إمام الزاوية اليتيمة في القرية آنذاك بتعليق الكلب الأسود -بعد قتله- على سارية كانت فيما مضى جزءاً من ساقية أنشأها أبوه طيّبُ الذكر الشيخ إسماعيل دهب قال: "يمكننا استخدام جيفته طُعماً للتماسيح والضباع التي تهدد أبناء القرية وأطفالها ومواشيها، أو فلتكن طعاماً للجوارح التي تحمل في حويصلاتها أرواح الأطفال الميّتين." وأصبح ذلك فيما بعد سُنّة جارية، فكانت تُعلّق الحيوانات الأليفة المريضة، بعد قتلها، والضباع والبهائم النافقة، والكلاب السوداء على السارية؛ وكان ذلك سبباً في تسمية القرية بأرض الميّت. ومازال يُشاع حتى الآن في أرض الميّت أنّ الأطفال عندما يموتون تتخطّف الجوارح أرواحهم في طريقها إلى السماء، فتسكن حويصلاتها لأنهم لا حساب لهم أمام الله، أو يغدون ملائكة صغيرة لا يُوكل الله إليهم تلك الأعمال الشاقة التي يُوكلها للملائكة، فقط يحوّمون في الأرجاء

    قيل أنّ الشيطان يتشكّل في أجساد كلاب سوداء، فيدخل البيوت ويبث فيها الشرور والأحقاد، وأوعز البعض حوادث غرق المراكب النهرية إلى أنّ بعض الكلاب السوداء السائبة كانت تتسلّل إلى النهر وتستحم وتشرب منه؛ فأطلق شبان القرية وشيبانها حملة للقضاء عليها، كانت الأشرس في تاريخ القرية كلها، ثم عمّت الحملة كل الحيوانات السوداء: قطط، عقارب، أفاعي، غِربان وأُصيبت القرية كلها بلوثة اللون الأسود. كلّ ذلك كان بعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد الصبور دهب (إمام القرية) وحذر فيها أهالي القرية من الكلاب السوداء التي تسكنها الشياطين، ولذا فإن قتل كلب التمتام الأسود كان واجباً دينياً مقدساً أيضاً. كل ذلك ساعد على إقناع الأهالي بأن قريتهم تعج بالملائكة والشياطين، وأغلب الظن أن هذا هو فهرس الحياة السرّي.


    قالت الجدة مِسكة فيما يُشبه العتاب المؤدّب: "إنّ العجوز التمتام دُفن دون مناحة تليق بسنوات عمره السبعين، أو بمآثره التي تعترف بها النساء فقط. ولم يترك ورائه ما يجعل الآخرين يتذكرونه به غير كلبه المعلّق على السارية، وثلاث عشرة حفرة متفرقة في جسد القرية الحجرية، وبعض الخردوات التي كان يحتفظ بها في حقيبته القماشية". ولم يدعي أحد الرواة معرفته باسم جلال التمتام بالكامل، ولكنهم ذكروا أن (التمتام) لقب أُطلق عليه لكثرة تأتأته. جاء إلى القرية قبل سنتين من وفاته، ولم يكن يحمل معه –وقتها- غير حقيبة قماشية يجعلها على ظهره، وتميمة معدنية يضعها في يده اليسرى، وكلبٍ أسود يتبعه لاهثاً بلسان طويل وردي اللون متدل ورطب. سكن أطراف القرية، وأقام بيته الذي من شعر الماعز على تلة كان يستخدمها كَلَس كمئذنة يرفع منها آذان المغرب في المواسم الرمضانية، ورغم أنّ جلال التمتام جاء في غير مواعيد رمضان؛ إلاّ أن أهالي القرية اعتبروا ذلك مساساً بمقدساتهم، وقرروا طرده وحرق خيمته، وكادوا أن يفعلوا لولا تدخل العمدة.

    وبفتوى من الشيخ عبد الصبور دهب تم منع النساء من النياحة عليه بعد موته رغم أنهن كنّ الوحيدات اللواتي أحزنهن رحيله فعلاً، فلم يبكين عليه إلا سراً. وعادت للتلة قداستها حيث تتنزّل الملائكة بعد غروب شمس كل يوم. وأكدّ البعض أنهم رأوا خيالات ضوئية تلّف التلّة بعد وفاة التمتام بيومين وظلّت سيرة الضوء الذي لم يشهده إلا أموات القرية حجّة على قداسة التلّة التي أصبحت اليوم في مقام جبل عرفة من الحجاز؛ لذا فإن عمدة القرية أمر –بإيعاز من شيخها- أن يُسوّر التلّة بسياج له باب، وتولت عائلة كَلَس حراسة التلّة واحتفظوا بمفتاح بابها الزنكي المتين، ومُنع الناس من التبوّل أو قضاء الحاجة عند التلّة.

    وحسب رواية الجدة مِسكة فإن رجال القرية وأطفالها تجمهروا على باب خيمة الغريب حاملين العصي والحجارة، في انتظار أن يخرج إليهم الغريب، ولكنه خرج راسماً ابتسامة ترحيبية حذرة على وجهه، وهو يستقبل العمدة وضيوفه: "يمكنني أن أجيب عن أيّ سؤال تشاءون؛ إلاّ فيما يتعلّق بجهة قدومي. أنا بينكم الآن لأن العالم انتهى بي هنا، وهذه التلّة طيّة العالم الكبيرة. أحببتُ أن أموت في هذا المكان الجميل. فماذا يضيركم إن بقي بينكم رجل عجوز مثلي؟!" أخرج التمتام بعض الأدوات المعدنية من جُراب جلدي قديم معلّق على عارضة الخيمةِ، ونثرها أمام الجميع: "هذا كلّ ما أحمله." نظر الناس بدهشة إلى الخردوات التي يحملها، وكتموا ضحكاتهم، بينما قال العجوز الغريب:

    "هذه آخر أسرار الفيزياء الحديثة. الإنسان ينوي أن يطوي العالم في كفّه، وهو في طريقه إلى خلق معجزاته الخاصة، البعض يتحدث عن عصور قادمة لن يحتاج فيها الإنسان إلى الحركة، حيث سيكون كل شيء بضغطة زر واحدة؛ وسيكون للأسلاك المهملة شأن عظيم في تواصل البعيدين وتقريبهم من بعضهم، وسوف تعود الخيول والجمال والحمير إلى البريّة فلن يكون الإنسان بحاجة إليها في تنقلاته، ربما تصبح أداة لتسلية إنسان ذلك العصر! سوف يعرف الناس الضوء الذي يوقد بلا زيت، يوقد بالأسلاك والأزرار، وعندها سوف تعودوا بحاجة إلى فوانيسكم التي سوف تبقى في المتاحف. هل تعرفون المتاحف؟ وسوف يتوقفون عن كتابة الخطابات والزيارات سوف يكون كل ذلك تراثاً لا يتبعه إلا الفقراء والجهلاء فقط. سوف تنهار الأسرة ويتبادل الجميع الأدوار. من كان له ابنة أو ابن فليسعد برؤيته الآن وليتمتع بحسّه الأبوي؛ فربما لن يعود هنالك أبناء. سيكف الإنسان عن مغازلة القمر في أغانيه وأشعاره، ويصعد إليه في زيارة سياحية كل عام! الراكضون وراء الإبل والأغنام سيجدون ذلك مضحكاً، ولكن تلك هي الحقيقة."

    كلماته المتعجرفة تلك جاءت موافقةً لبريق ماكر لمع في عينيه. رفع حاجبه الأيمن الكث حتى ظنّ الناس أنه سيقع، كانوا يستغربون كيف يكون شعر حاجب أكثر كثافةً من الآخر. ملامحه تلك كانت تشعرهم بالخوف منه، إضافةً إلى طريقة كلامه المليء بالطلاسم المخيفة، والعبارات المبهمة. مدّ التمتام يده داخل جُرابه وأخرج قطعةً معدنيةً غريبةَ الشكل، وضعها بشكل عمودي على الأرض وبدأ يضغط على طرفها العلوي بسبابته فأخذت تتراقص بمرونة، ثم أفلتها فجأةً؛ فقفزت كجرادة مذعورة في حقل يحترق. تعجّب الأهالي للمعدن الطيّار، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يتعرفون فيها إلى النوابض المعدنية.

    ثم مدّ يده -مرة أخرى- وأخرج أداة أخرى، وأبدى –هذه المرة- اهتماماً بالغاً بما يفعل. تجمهر الناس حوله وهو لا يفعل شيئاً غير الإمساك بتلك الأداة غريبة الشكل. بدت لهم كقرص زجاجي تافه لا جدوى منه. وانتفضوا مذعورين عندما بدأ اللهب يشتعل في الأوراق اليابسة تحتها. سبحلَ البعض بصوتٍ عالٍ: "سبحان الله .. سبحان الله"، ونظروا إلى بعضهم البعض وهم يضحكون. قال أحدهم: "لقد عاد عصر المعجزات!" الوحيد الذي لم يعجبه الأمر هو الشيخ عبد الصبور دهب؛ الذي نهض مفزوعاً من مكانه كالملدوغ وهو يقول: "هذا سحرً، هذا أمر شيطاني، لا يجوز .. حرام!" وغادر المكان وهو يكرر: "استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم!"

    عمدة القرية لم يكترث كثيراً لفزع الشيخ عبد الصبور، وشغله اندهاشه عن ذلك. تقدّم التمتام منه، وهو يمسك أداة أخرى غريبة الشكل، قال: "أمّا هذه فتسمى (عين الشيطان). خذ أمسكها يا عمدة وانظر من خلالها". لبعض الوقت؛ تردد العمدة؛ وخاف أن يؤدي ذلك إلى فقدانه بصره، خاف أن يخرج منها مارد شيطاني ويتمكن من الدخول إلى جسده عبر عينيه فتحرقهما: "ماذا تريدني أن أرى بهذا الشيء؟ فأنا لا أؤمن بالسحر." ضحك التمتام وأخذ ينظر من خلالها ناحية القرية: "سترى القرية -كلّ القرية- بين يديك، لا يحق لغيركَ أن يراها كذلك." قفز العمدة مدفوعاً بشغف السلطة والفضول، نظر إلى القرية، فرأى البيوت وكأنها أمام عينيه تماماً. رأى الشيخ عبد الصبور راكباً حماره وقد تعلّقت ثمرة نبتة شوكية بعباءته، كان قريباً لدرجة أنّه مدّ يديه لينتزع الثمرة الشوكية عن عباءة الشيخ عبد الصبور، ولكنه لم يتمكن من ذلك، أزاح الآلة عن عينيه فرآه بعيداً جداً عنه، فصرخ مجدداً: "سبحان الله!" وتهافت البقية على العمدة يريدون أن ينظروا من خلال الآلة العجيبة، فنهرهم: "لا أحد يحق له النظر من هذه العين الشيطانية إلاّي؛ وإلا ستحتقرون." ابتسم التمتام في سخرية وقال: "حضرة العمدة، هذه الآلة تسمى (المنظار)، وهي إحدى منجزات الفيزياء الحديثة". مسح العمدة أنفه وسأل: "وما الفيزياء؟"


  4. #4
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    2



    هذا الغريب الأسطوري كان دائماً محاطاً بهالة من الغموض؛ فكان البعض يخشونه ويعتبرونه ساحراً، بينما اعتبره آخرون من أولياء الله الصالحين، ومن أصحاب الكرامات. وبأمر من العمدة اجتهد شباب القرية -بهمة غير متوقعة- في بناء منزل من الطين ليقيم فيه التمتام؛ عِوضاً عن بيت الشعر الذي كان يسكنه. النساء كنّ يزرنه سراً، ويحكين له قصصهن السريّة، والأحاديث التي تجري وراء الجدران الجالوصية(1)، حتى أنّ زوجة العمدة كانت إحدى زائراته السريّات. النساء أكثر إيماناً بالخرافة، لأنهن الأقل حظاً من التعليم في أرض الميّت التي تنتشر فيها نباتات العُشَر كالوباء، حتى خطب الجمعة التي كان الشيخ عبد الصبور يلقيها على أهالي القرية لم تكن تخلو من ذكر النساء ومكائدهن. ومازالت إحدى المخطوطات القديمة التي احتفظت بها عائلة كَلَس الدينية تحوي خطبه التي كان يلقيها في صلاة الجمعة، وجاء في بعضها: "النساء إحدى الآفات التي خلقها الله لامتحان قلوب الرجال، هنّ الامتحان والابتلاء الحقيقي والأشد في حياة المؤمن. النساء كالفيضانات والطواعين وكافة الابتلاءات التي تواجه أحدنا في طريقه إلى الجنّة. من أرخى لهن أذنيه فكأنما أسلم إلى الشيطان زمامه. ألم يكنّ آخر ما حذر منه الرسول وهو على فراش الموت (ما تركت فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)؟ أولم يحذرنا ربنا منهن (إنّ كيدهن عظيم)؟ فكيف بنا نراهن على متاع الدنيا وهي زائلة لا محالة؟ فاتقوا الله في أنفسهم وفي دينكم، ولتتق النساء الله في أنفسهن وفينا، فلا يخرجننا من الجنّة مرتين."

    يبدو أن خُطب الجمعة وقتها لم تكن تخلو من ذكر النساء والشياطين، ونباتات العُشَر التي يُشاع أنها ثمار الجن والعفاريت. وحتى اليوم يتناقل الناس مقولته المشهورة عن العُشر: "ما كثرت في مكان؛ إلا كانت إشارة إلى وجود الجن والشياطين، فهي لا تُزرع، ولا تُقطع ولا يُستفاد من ثمرها، وإن أصابت عصارتها عين الإنسان فإنها تُصيبه بالعمى." ويتفق جميع الرواة على أن الشيخ عبد الصبور كان هو الشخص الوحيد الذي لم يُحب جلال التمتام رغم افتتان الناس بما يحمله في جُرابه من خردوات سحرية. ولكنه لم يستطع فعل شيء حياله لأنه كان حظياً عند عمدة القرية، لذا صبّ جام غضبه على كلبه الأسود بعد موته؛ هكذا فسّر البعض ثورته على الكلب المسكين.

    وقيل أنه مات دون أن يعرف بموته أحد، ضلّت روحه تحوّم في الأرجاء دون أن تهتدي إلى طريقها أخيراً. البكاء والصلوات ومراسيم العزاء هي التي تهدي الأرواح – بطريقة ما – إلى طريق البرزخ دون أن تحتاج إلى التفكير. الأرواح لا تفكّر؛ لأنها بلا أدمغة، ولكنها عندما تحاول ذلك تصدر ضجيجاً يُخِل بفيزياء الطبيعة؛ عندها يتولّد الوهم؛ فنتوهّم الأشياء ونعدّها هذيانات حمى التايفود المزعجة. الأرواح لم تعتد على السير، كانت دائماً تستغل الجسد في ذلك، ولكنها الآن مطالبة بالسباحة في الفضاء، إنها لا تقوم بذلك بشكل مثالي في بادئ الأمر؛ تماماً كما تتهادى فراخ النسور في بداية الطيران.

    عندما فاحت رائحة العفن –وليس عندما افتقدوه وهو يجر حبل القارب ليعبر الجدول المائي إلى الضفة الأخرى، أو حين يحفر في القرية بشكل عشوائي دون أن يعرف أحد عما يبحث– عرف الجميع بموته. قلّة منهم فقط قاموا بدفنه مُحتملين تلك الرائحة النتنة، هذا عملهم! الجيّد في الأمر أنّ أحدهم استطاع نزع الصورة من كفّه المتيبسّة. كانت صورة من ورق كلاريك رديء جداً ما فسّر تكسرها بسهولة في يد عجوز لم يكن قادراً على أن يتحكم في حركات أطرافه، ولم يستطع أحد أن يتعرّف على الفتاة، أو يستدل على العلاقة بينها وبينه. قال البعض عندما علموا بخبر وفاته: "كان يجب أن يموت منذ عشرة أعوام أو أكثر، فهو عجوز كفاية." بينما استشعرت في كلمات الجدّة مِسكة نبرات حاسدة وهي تقول: "كان محظوظاً إذ مات منتصف الليل؛ أنهى يومه كما يُنهي عامل البنطون(2) يومه المهني: عرف كلّ ما دار في يومه ذلك، وشهد الأوقات كلها: خروج النساء إلى النهر وعودتهن، وخروج الرجال إلى الغيطان وعودتهم، ولعب مع الأطفال، وضحك، وتناول عشائه، وشرب كأس مائه البارد؛ ومات". ولكن موته لم يكن سبباً في حزن أحد، غير النساء!

    النساء العواجيز يُخلصن في عملهن في المناحات التي تقيمها القرية عند موت أحدهم. يذكرنَّ شجرة العائلة والمآثر والخصال التي كان يتمتع بها، ويفعلن ذلك بلحن مُوحّد. لكن في حالة هذا العجوز، كانت كل النساء حاضرات في المأتم السرّي الذي أقمنه في دار زوجة العمدة حيث لا تطالهن يد شيخ القرية وعيونه، وبكينهُ بحرقة بالغة، ورغم أنّ النائحات لم يكنَّ يعرفنَّ له شجرة عائلة لتذكرنها في نياحتهن إلا أنهنَّ نُحْنَه بأكثر مما نُحْنَ شخصاً آخر؛ ظللنَّ يُكررنَّ: "أيها العجوز المسكين المرتحل، يا من أمضيت جلّ وقتك في حفر الآبار بحثاً عن ماء للشرب لهؤلاء العطشى، و يا من أضأت ظلمات الصدور التعيسة بالحكمة الآسرة، يرحل عنّا جسدك الآن، ولتبقى روحك في الأرجاء من أجل النساء العازبات والراغبات في الحمل، وليبارك الله روحك إلى الأبد." استغفرت إحداهنَّ سبعين مرّة بعد انتهاء المناحة؛ علّ الله أن يغفر لها كذبتها تلك.

    مات جلال التمتام أخيراً كما تمنى البعض، وترك وراءه كلباً أسود علّقوه –بعد قتله- على عارضة خشبية، وثلاث دجاجات وديك لا يُلقح ولا يؤذن، وبعض الخردوات التي استولى عليها عمدة القرية في غفلة من الناس، حين أمرهم بحمل جثته إلى منزل الشيخ عبد الصبور ليغسّله استعداداً للصلاة عليه، وبعد مغادرتهم جميعاً، بحث عن خردوات التمتام حتى وجدها ودس بعضاً منها داخل ثيابه، ودس بعضها الآخر تحت عباءته وغادر دون أن ينتبه إليه أحد. ولكن الشيخ عبد الصبور أرسل جثة جلال التمتام في نفس العربة إلى العمدة مرّة أخرى ورفض تغسيل الجنازة أو حتى الصلاة عليها لأنه لا تجوز الصلاة على الساحر وأن الأولى بجثته الحرق وليس الغُسل، ولم يشأ العمدة أن يتحمّل ذنباً كهذا، فأمر بدفن الجثة سراً دون تغسيل أو صلاة. وظلت أسطورة جلال التمتام أكثر الأساطير الشعبية تداولاً في أرض الميت برغم ما في رواياتها من تناقض واختلاف، ورغم نهايته المؤسفة والغامضة التي أضفت على حياته الأسطورية رونقها الخاص الذي تتمتع به الآن.

    على موائد العشاء المثالية النادرة التي يقيمها العمدة في داره يوم عاشوراء من كل عام، يجتمع الرجال والنساء والأطفال، ويتغيّب العاشقون ليحجزوا لأنفسهم أماكن في البيوت الخالية، لتضج ليلة عاشوراء بروائح الذبائح والجنس؛ فعندما يتوجه الجميع إلى بيت العمدة تفتح البيوت أبوابها السرّية للعشاق الليليين ليحتفلوا بهذه المناسبة على طريقتهم الخاصة. أبواب بيوت أرض الميّت لا تعرف الأقفال، ولا تعانقها إلاّ في العاشرة ليلاً عندما ينام الجميع. يأخذون قوارير الخمر التقليدية، ويقضون ليلهم في ممارسة السُكر ومعاقرة الجنس. كانت تلك الحقبة من تاريخ القرية عصر البورنوغرافيا الذهبي؛ إذ بلغت فيه أعلى مستوياتها على الإطلاق، ولا يزال البعض يبكون على ضياع تلك الأيام واشتغال الناس بالملذات الأقل أهمية وأكثر خسّة! فتيات أرض الميّت أكثر شبقاً من بقية فتيات المنطقة الشمالية، وهنّ أكثر إمتاعاً، ولمّا كنَّ ليلاً لا يتحدّثنَّ إلا عن الشباب ومغامراتهن الجنسية معهم على ضوء الفوانيس الزيتية، ويتبادلن الخبرات في ذلك؛ فقد كنّ أكثر الفتيات دراية بما يُثير الرجال. "هارون عزيزة" الذي استعاد ثقة الناس بعد مشاركته الجادة في قتل كلب التمتام الأسود، لم يجد لوماً من أحد عندما اكتشفوا وجوده في منزل خاو برفقة إحدى الفتيات ليلة عاشوراء. قالوا: إنه شابٌ طائش، ولا بدّ أنّ الله سيهبه الرُشد والصلاح إذا تزوّج؛ فزوّجوه. وبينما تتداول النساء أحاديث الجنس والشعوذة، ينشغل الرجال إمّا بمعاقرة الخمور أو بمضاجعة البهائم.

    صباح يوم عاشوراء يخرج أهالي أرض الميّت إلى النهر. تحمل كل أسرة بعض الطعام المُعدّ خصيصاً لهذا اليوم، وتضع كل أسرة طعامها دون أن تأكل منه، ففي يوم عاشوراء تأكل كل أسرة من طعام غيرها، ويرشون بعض الحليب البارد على أطراف النيل، بينما تهتم بعض النسوة برش مياه النيل بعد خلطها بقليل من الملح على أعتاب البيوت وفناءات المنازل. وفي اليوم التالي تخرج بعض النسوة حاملاتٍ الجرار الصفيحية فوق رؤوسهن، بينما تحمل أخرياتٌ أوان نحاسية يضعن فيها ملابس أفراد الأسرة المتسخة للغسيل. تتوجه النساء إلى النهر لجلب الماء، وعلى ضفّة النهر الشرقية يتبادلن الأحاديث الماجنة، والأخبار العامة، ويتفقن على برنامج المساء؛ بينما تتوجّه النساء المتزوجات إلى حقول البرسيم والخضروات الموسمية. أحاديث النسوة على ضفة النهر لها نكهة خاصة، لاسيما إذا تمّت مراقبة ذلك سراً من وراء الأجمات والنخيل الذي يفصل ضفة النهر الرملية البيضاء عن القرية ذات الأرض الحجرية الصلبة. تشمّر النسوة ملابسهن، ويجلسن على حواف النهر الصخرية، بينما تتوغل أخريات إلى داخل النهر ليحصلن على الماء غير المصاب برغوة الصابون.




    _________
    (1) الجالوص لبنة طينية للبناء يُضاف إليها القش وروث الحيوانات لتزيد من تماسكه.
    (2) البنطون: وسيلة نقل نهرية تربط بين القرى الواقعة على ضفتي النيل تستخدم في نقل الناس والمواشي والمعدات. ومازال البنطون مستعملاً إلى الآن في بعض القرى السودانية المطلة على النيل.


  5. #5
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    3



    عندما يعود زمرة من الغائبين -عن جيوب القرية الأنفية، وذاكراتها القريبة- من رحلة الحج في أراضي الحجاز، يذبح الأهالي الذبائح، ويمرغون أياديهم في دمائها، ويلطخون بها أبواب بيوت الحجيج ليُعرفوا بها لاحقاً، اعتاد الناس على أن يفعلوا ذلك، وفي أرض الميّت لا يوجد غير ثلاثة بيوت فقط ملطخة بصورة الكفوف الدامية. تعود هذه العادة (كما قيل) إلى تراث يهودي قديم، وأغلب الظن أنّهم لم يكونوا يعلمون ذلك إذ يقومون بذلك.

    تمتد جلسات الأنس -مع الحجيج القادمين- إلى أنصاف الليالي الصيفية وهم يتحدثون عن رحلتهم الإيمانية، ينقلون مشاهداتهم عن أراضي الحجاز، وعن أهلها وما رأوه هناك، ويظلون يستمعون إلى كل ذلك وكأنهم يستمتعون إلى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. ويؤمنون في قرارة أنفسهم أنّ من حجَّ إلى بيت الله الحرام ضمن الجنّة لا محالة، فينظرون إليهم بغبطة يعرفونها جيداً، ويتلذذون بها كثيراً. حتى الحجيج أنفسهم يعتبرون أنفسهم ولدوا بالفعل من جديد، وأنهم قد أصبحوا أناساً بلا تاريخ، ولا ذنوب ولا معاص تذكر، فيستسهلون خطاياهم الجديدة، ويرونها ضئيلة مقارنة بجبال الحسنات التي عادوا بها من رحلتهم، ولا يمر أسبوع كامل حتى ترى أحدهم وقد توسط جلسة سُكر ليلية.

    وفي أرض الميّت الشأن كل الشأن لشيخ القرية ثم لعمدتها وأخيراً للمتفقهين من أسرة كَلَس ثم للحجيج الذين قد يحلون محل الشيخ عبد الصبور دهب في الإفتاء عندما يغادر الأخير إلى قرى الضفة الأخرى من النيل لجلب البخور والصندل لأغراض الرقى الشرعية وتبخير المساجد. وفي المناسبات السعيدة وغيرها يتم أخذ هذا الترتيب الاجتماعي في عين الاعتبار، فلا تخرج أواني الطعام إلا للعمدة وضيوف مجلسه: شيخ القرية وإمامها، وأفراد عائلة كَلَس، والحجيج، وكبار السن، وعمّال البنطون والوابور(1) ثم الأطفال فالنساء.

    وفيما يهلك الأكثرية في طريقهم إلى أرض الحجاز لنيل لقب (حاج) التي كانت تعدّ أمنية غالية لمن تخطّى سن الخمسين؛ فإن آل كَلَس كانوا يحجون في كل عام تقريباً من أجل تدعيم سلطتهم الدينية في القرية، وتأكيداً لاستحقاقهم لهذه السلطة التي تقاسموها مع آل دهب الذين ربطتهم بهم مصاهرة قديمة. وبطريقة تلقائية تم تقسيم القرية إلى عائلات كبيرة وصغيرة اختص بعضهم بالعلم الديني، واختص بعضهم الآخر بالثروة. وفيما استولى آل دهب وآل كَلَس على كل ما يتعلّق بالدين والتدين، كان آل فنتي أرباب الأموال والمشاريع التنموية في المنطقة؛ بينما ظل البقية على هامش الحياة اليومية يقتاتون على ما يتساقط من هذه العائلات الكبرى.

    أهالي قرية أرض الميّت يشتهرون بزراعة النخيل، لذا فإنّ رجالها يتقنون كيمياء الكحول، وحِرفة صناعة الخمر، ولا يعتبرون الخمر من الموبقات أو المحرّمات، بل يعتبرونها إحدى أساسيات الحياة الضرورية، التي لا يستغنون عنها لاسيما في المناسبات السعيدة والأعياد؛ بينما تهتم النساء بالأشياء الأكثر أهمية. وربما أفتى الشيخ عبد الصبور دهب بكراهية الخمر، ولكنه لم يُحرّمها على الإطلاق. قال أنّ الخمر تجعل الشخص في حكم المجنون والنائم فيُرفع عنه القلم، ولا حرمانية فيمن يرفع عنه القلم؛ فكما أن الجنون ليس بحرام والنوم كذلك فالخمر تأخذ حكمهما ولو كان ترك الخمر أفضل وأكمل للدين.

    حتى بعد موت التمتام وكلبه كان ما يزال الكثيرون يؤمنون به كرجل صالح وصاحب كرامات، وقليل من الناس فقط اعتقد بأنه كان صاحب حظوة لدى بعض الملائكة الذين كانوا يسرّبون له بعض أخبار السماء المستقبلية والغيبيات، ويتذكر له البعض صدق نبوءاته التي جرت في حياته كما حكا بالتفصيل. إحدى المؤمنات بنبوءات جلال التمتام كانت السيّدة عواضة زوجة العمدة التي ذهبت إليه خلسة كما بقية النساء وطلبت منه الكشف عما تخبئه لها الأقدار إذ كانت تخشى أن يتزوّج عليها العمدة طلباً لإنجاب مولود ذكر.

    عواضة بصيلي ذات الثمانية وأربعين عاماً والمتزوجة من عمدة القرية منذ أكثر من ستة وعشرين عاماً كانت لا تنجب غير الإناث، وخشيت أن تذهب ثرواته الزراعية لأبناء أخته (فانا سالي) التي يبدو أنها لم تكن على وفاق معها. ورغم ما يبدو على القرية من تداخل ومصاهرة إلاّ أنّ الولاء للأرومة الأسرية كانت هي المحرّك والمحرّض الأساسي في خلافات وتحالفات أهالي القرية. ذكرني ذلك بما سمعته حديثاً عن ارتباط القبائل البدائية القديمة بالطوطم، وكيف كان محركاً أساسياً في الحياة الاجتماعية والتناسلية لتلك القبائل. بعد أن أحرق التمتام بعض البخور المجلوب من أدغال الصومال وقرأ تعاويذه الطلسمية، ردد بطريقة شعرية ساجعة لم تكن تخلو من لكنة نوبية ركيكة:

    "ما تخافي الفوات
    العمدة مربوط بثبات
    والولد من صلبه آت
    يمكن يكون موجود ومات
    ويمكن حيجي من البنات"


    وكانت عواضة (ذات الأسنان الأمامية البارزة وكأنها أنثى قندس نهري) في جلسات تحضير الإتّر والتركين(2) في القسم النسائي المخصص من سرايا العمدة مع نسوة القرية الفضوليات تنشد ما سمعته من التمتام وهي تُمني نفسها بمولدها المرتجى وهي تقول: "سوف يأتي الولد ببركة نبوءات الشيخ التمتام!" ولكن وبعد مرور سنتين وموت التمتام دون تحقق النبوءة كانت كالكثيرات من النساء قد بدأت تكفر به كرجل صالح ذو كرامات. وعلى عكس النساء النوبيات فقد كانت عواضة بصيلي من ذلك النوع من النساء المهادنات التي تجد كينونتها في طاعة زوجها تلك الطاعة العمياء؛ فلا تحسن أمامه إلا حِرفة الخنوع الأمر الذي كان يمنحه شعوراً طاغياً بالسلطوية والسيادة.

    في ذلك الوقت الغابر من تاريخ أرض الميّت، لم تكن القرى النوبية (المنحدرة من نواة مجتمعات أمومية بائدة) ممهدة لثورات اجتماعية من ذلك النوع حتى يتقبّل الأهالي فكرة التعددية، ولكن عواضة بحس أنثوي مستنير لم تستطع أن تركن إلى هذا المنحى الاجتماعي المتغيّر؛ لاسيما وعلى بعد فراسخ منها تأتيها الأخبار من قرى يقطنها الهوسا والبشارية عن رجال يتزوّجون ما شاء لهم من النساء طلباً للذريّة أو بدواعي جنسية جشعة. ولم يكن لها لتعرف ذلك إلا بعد أن تمكن زوجها العمدة من حلّ لغز الجهاز الذي بحجم ثمرة البطاطا الذي وجده ضمن مسروقاته من جراب جلال التمتام بعد شروحات مستفيضة من أحد الحجيج القادمين من الحجاز، فكان العمدة أوّل من امتلك مذياعاً في أرض الميّت.

    كان البعض يتسلل خفية حتى يصل أسفل إحدى نوافذ سرايا العمدة التي يضع عليها المذياع الذي أطلق عليه اسم (كُومّابنّي) أو الحكّاي، ليستمعوا إلى ما يُذاع من أغنيات وأخبار فيعرفوا ما يحدث خارج حدود قريتهم المنعزلة عن العالم. كان اكتشاف المذياع في القرية يُعد نقلة نوعية من ذلك النوع من الاكتشافات الكبرى التي تُحدث تغيّراً جذرياً، وغزا المذياع بيوت أهالي القرية بعدها بفضل الحجيج القادمين من الحجاز الذين كانوا قبل ذلك حريصين على جلب قوارير مياه زمزم والمسابح المصنوعة من الخرز أو العاج، ولم يكن لهذا الاختراع أهميّة تُذكر بالنسبة إليهم قبل أن يمتلكها العمدة، وقبل أن يعتبرها الناس واحدة من أمارات الوجاهة. عندها بدأ الشيخ عبد الصبور دهب بإصدار فتاواه التي تحرّم المذياع لأنها تنطق بالغناء المنكر؛ كما أنها كانت قد ألهت الناس فعلياً عن أداء الشعائر الدينية. ولم يدخل التحريم حيّز التنفيذ العدائي إلا بعد أن توالت مجادلات الناس للشيخ عبد الصبور حول فتاواه القديمة التي سمعوا بفتاوى مخالفة لها من المذياع.

    العمدة: حسن سالي (أو حسن فنتي كما أُشتهر عنه) والذي اختلفت الروايات حول حقيقة لقبه؛ كان حتى بعد وفاة التمتام بثلاث سنوات الوحيد في القرية وأحد القلائل في المنطقة الذي يمتلك حماراً، في الوقت الذي لم تكن فيه الحمير بذات الاحتقار الذي تبدو عليها الآن. فقد كانت وسيلة المواصلات الوحيدة؛ بل كانت إحدى أمارات الثراء والغنى الفاحش. وفي حين أعزا البعض لقب (فنتي) إلى اشتهار أسرته بتجارة البلح (منذ حقبة السلطنة الزرقاء وانتقال الملك إلى العرب المسلمين الذين تزوّجوا من أخوات الملوك مستفيدين من أحد أغرب تقاليد النوبة التي تقضي بتوريث الملك للذكور من نسل أخواتهم)؛ يرجّح آخرون أنّ يكون (فنتي) لقباً لأمه التي يقال أنها كانت من أجمل جميلات النوبة، وكان الشعراء والفنانون يتغنون بجمالها وأناقة شلوخها الست(3). ومازالت الذاكرة الشعبية لأهالي القرية تحتفظ ببعض هذه الأشعار التي يُرددها الشباب لفتياتهن في طقوس البورنوغرافيا ومواسم عاشوراء.

    حسن فنتي الأرستقراطي المنحدر من أصول امتهنت تجارة البلح الشمالي المشهود له بالجودة في سائر القطر كان (حين انتهى إليه الأمر) يحتكم على اثنا عشر هكتاراً من النخيل والبرسيم والأراضي الزراعية. كل من عاصروه وُلدوا ليجدوه عمدة عليهم، وأغلب الظنّ أن ذلك لم يكن إلا منصباً شرفياً فرضه ثرائه والسطوة التي يملكها؛ فقد قيل أنه كان لا يعبر بمنطقة إلا وتمتد الأرض بساطاً أخضر أمامه، كناية عن الخير الذي يجلبه معه. أما عني فإني أقول: إن الروايات المتواترة عن غناه، لم تنقل إلينا مدى فقر أهالي القرية بالمقابل؛ فقد كان الناس يقيسون ثراءه بمدى ما يُقدّمه: فقيل أنه بنا أول مدرسة ابتدائية في المنطقة، وأول مشفىً صحي متواضع، وأول طابونة مجلوبة من مصر، وأول وابور مياه، وكان أوّل من سنّ النوادي الاجتماعية مستفيداً من علاقاته الواسعة ونفوذه الأخطبوطي.

    لسببٍ لا أعلمه فإنني لم أُحسن غير أن أتصوّر العمدة رجلاً بديناً بلحية خفيفة، وعصا أبنوسية يتوكأ عليها دون دواعي العرج، وصوت جهوري كصوت سفوح جبال ميمن توّو في مواسم الانهيارات الصخرية؛ رغم أن الجدّة مِسكة أكدت غير مرّة أنه كان هزيل الجسم، ذو لحية كثة، وصوت متآكل يُشبه فحيح الأفاعي، وعينين جاحظتين وماكرتين كعيني حرباء ملعونة، واسع الخطوات حين يمشي وكأنه يتدرب على الطيران. لم أنجح أبداً في مطابقة هذه المواصفات الأكيدة بالشخصية التي سكنت في مخيلتي منذ سمعت عنها من الجدة التي كانت تحرص على سرد تفاصيل كل ما تحكيه لنا؛ وخمّنت أنها أخطأت وتغلّب عليها الخرف، ووجدتُ نفسي مطمئناً إلى هذا التخمين.




    ________
    (1) الوابور: مضخ المياه.
    (2) الإتر : أكلة شعبية شبيهة بالملوخية. التركين: أكلة شعبية شبيهة بالملوحة
    (3) الشلوخ: عادة سودانية قديمة اندثرت الآن وهي عبارة عن خطوط على الوجه ترسم بواسطة موس محمي على النار تكون في الغالب خطوط طولية مقسمة بالتساوي على ثلاث خطوط في كل خد، وتختلف الشلوخ بأشكالها وأماكن وأطوالها حسب اختلاف المناطق والقبائل.


  6. #6
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    4


    مازلت أتذكر تلك التقاسيم المتعَبة التي تجيد الجدة مِسكة رسمها بعفوية عندما كانت تحكي لنا عمّا فعله جيوش الإمام عبد الله التعايشي -الملّقب بتورشين- بأهالي القرية والقرى النوبية المجاورة. وكم جاهدتُ معها لتُحدد لي متى كان ذلك ولكنها لم تكن قادرة حتى على التخمين. كل ما قالته: إنها كانت صغيرة حين شاهدت -لأول مرة- سنابك خيول أولئك المرتزقة الذين كانوا يغزون القرى النوبية لينهبوا ما بها من خيرات: حبوب، وفواكه، وبقول، وبهائم ليموّنوا بها قواتهم التي كانت تقاتل ضد الوجود المصري في السودان.

    حكت جدتي أنّ الرجال كانوا يُهاجمون القرى النوبية وينهبون ما تطاله أيديهم، حتى أنهم لم يتركوا البهائم والدواجن. وعندما كانت الأسر النوبية تخفي بهائمها التي تعوّل عليها كثيراً في معايشها عن أنظار اللصوص، كانوا يأتون بجدي ويعضّونه في أذنه حتى يعار؛ وعندها تنطلق يعارات الماعز الأخرى داخل البيوت والأخبية فيهجم عليها الجنود دون رحمة. كنتُ بفطرة الطفولة الفوّارة أحب هذا التعايشي الذي تعلّق في مخيلتي كأحد الفوارس الأسطورية: بمنظره المُتخيّل ناصع البياض الذي لا يشوبه شيء إلا بعض البقع المتوقعة على حصانه الأبيض الهزيل. إلا أنني كنت آخذ عليه أنه كان السبب في تجهّم جدتي مِسكة التي كانت تشبه صفاء الجنة، وعبقرية اللحظات الإيمانية بكل نقاوتها القدسية.

    لم أستطع في ذلك الوقت المبكر أن أحدد موقفي منه رغم ما سمعته من حكايات عنه وعن الإمام محمد أحمد الدنقلي الذي لقّب نفسه بالمهدي وأفشى بين الناس قصصاً عن منامات رأى فيها النبي وهو يُبشّره بأنه المهدي المنتظر واستغل بساطة من معه؛ فأغراهم بمجد خطّه لهم على تراب المسايد(1) المُباركة، على ضوء لهيب التُقّابات(2) الليلية. كانت شخصية المهدي مرعبة بالنسبة إليّ، ولكنني لم أستطع أن أقارنه بالإمام التعايشي حتى علمت أنه بنا على قبة المهدي –بعد موته- قبة أخرى وأمر الناس بالحج إليها بدلاً عن الكعبة المشرّفة. لا أدري؛ ولكنني شعرت بالخذلان عند معرفة ذلك. وفيما بعد عرفت أن كثيراً من أتباعه -الذين أطلق المهدي عليهم اسم الأنصار تيمناً بأنصار المدينة- قد غلو في أمره حتى أن كثيرين منهم كان لا يذكر اسمه إلا ويقول: "عليه السلام" فعرفت أنني لم أكن الوحيد الذي بهرته شخصية هذا التعايشي المخدوع الحالم.

    كان يسير على خطى إمامه المهدي في جهاده ضد الكفار ونواياه المعلنة في فتح مكة واسترداد القدس قبل أن تداهمه حمى التايفود الأفريقية المميتة فأرتده قتيلاً ليحمل لواء خلافته من بعده ويأخذه جنون العظمة لغزو مصر، بعدما أذاقوا أهل السودان ويلات التقتيل والتشريد. كانت الجدة مِسكة تحكي -بكل فخر وهي تحاول بيُسر محو ملامح البؤس النوبي المستديم- عن موقعة أرقين التي شارك فيها النوبيون جنباً إلى جنباً مع القوات المصرية والإنكليزية لدحر عدوان الجيش الدموي الحالم، قالت: "كانت نهاية جيش التعايشي الذي تقدّمه عبد الرحمن النجومي تعني نهاية المحنة بالنسبة إلينا." كم كانت طيّبة الجدة مِسكة وحالمةً هي الأخرى! ومرّة أخرى سألت نفسي: هل كان النوبيون وحدهم الأحامسة أم ذاكرة الشعوب يُصيب العطب؟

    لم يكن أهالي أرض الميت وحتى وقت قريب؛ قبل وفاة الجدة مِسكة يؤمنون بوجود مدن وبلدان أخرى خارج خارطة منطقتهم المنحصرة بين نهر لا يكف عن الجريان، وجبل لم يُحدّث نفسه بالحركة والتغيّر! كانوا يعتقدون أن العالم ينتهي عند جبال ميمي، وأن ورائها تماماً أرض المحشر العظيم. عزّز هذا الاعتقاد ما رواه البعض عن أسفار غامضة قام بها شبان مغامرين في حقب متتالية لعبور الجبال إلى الناحية الأخرى، وأنّ أحداً منهم لم يعد مرّة أخرى. كان يُقال: إن جبال ميمي تحرسها العفاريت، كما أن مياه النيل تحرسها التماسيح!

    في بعض الكهوف البدائية التي على إحدى سفوح جبال ميمي، وعلى صخورها الجرانيتية السوداء العملاقة التي كصخور نيزكية محترقة منذ ملايين السنين ثمة رسوم تبدو كرسوم الأطفال تصف ما يعتقدونه: تماسيح بأسنان حادة ذات لجام، تمتطيها مخلوقات غريبة ناهضة (شبيهة بالإنسان) ولها قرون، وآثار معركة ضروس. ولولا الشياطين البيضاء (التي سمّاهم النوبيون بالجريتية) لما تمكن أحدنا من معرفة ما بداخل هذه الكهوف حتى اليوم!

    في أرض الميّت تتقاسم التماسيح مياه النهر مع بني البشر، فتسبح التماسيح في النهر ليلاً، بينما يكون النهر صباح للنسوة: لغسيل الثياب، والأواني. وللرجال: لغسيل القوارب والحمير. وللشباب: للسباحة، والصيد. كل ذلك باتفاق (غير مكتوب) بين أبناء القرية وتماسيحها. والتماسيح غير مسئولية عمن يخرق هذا الاتفاق؛ فتلتهم الأطفال الذين يخرجون خلسة من البيوت ليدشّنوا قواربهم الورقية أو تلك المصنوعة من الأحذية القديمة البالية، ولا عزاء لأحد.
    في أرض الميّت تتقاسم العقارب والأفاعي الأرض مع بني البشر، فتهيم العقارب والأفاعي في الأرض مساءً: تحت الصخور وأوراق الأشجار المنكفئة على وجهها، وخلف كل شيء ساكن، بينما تكون الأرض صباحاً للنسوة: لتهذيب الحشائش في المزارع القريبة، وتقسيم أحواض الزراعة، وعيادات المرضى والولادات المستعجلة. وللرجال: لسقيا المزارع والعزاءات وحفر القبور، وإعداد الخمر التقليدية. وللشباب: لجلب الدقيق على ظهور الحمير، ومغازلات الفتيات، والسوق، وللأطفال للعلب السَكَج بَكَج(3)، وشليل(4)، وتصنيع سيارات من علب الصفيح القديمة. والعقارب والأفاعي غير مسئولة عمن يخرق هذا الاتفاق؛ فتلدغ الذين يخرجون ليلاً لجنس طارئ، أو بحثاً عن مفقود، أو قضاء حاجة.

    ورغم أنها قرية صغيرة (ولطالما رأيتها كذلك) ولكنها تعج بالقصص الخرافية والأساطير عن الجن والعفاريت والضباع، ولا تزال الأجيال تتناقل بفخر غير مسبوق أسطورة أسلافهم الذين روّضوا الضباع وامتطوها عوضاً على الحمير. الرجال في أرض الميّت يصنعون الخمر، ويزرعون الخشخاش، ويرقصون الأُولّيّ والهُمْبيق ويتفاخرون بالحمير، بينما تقوم النساء بالأشياء الأكثر أهمية؛ فهن يجلبن البرسيم، وينظفنّ المزارع والبيوت، ويصنعن التركين والأبري(5)، بينما تهتم التماسيح والعقارب بتربية الأبناء.

    ذلك العام الذي صادف الذكرى السنوية الرابعة لوفاة التمتام، كان حسن فنتي قد خرج إلى مياه النيل محاطاً بأهالي القرية الذين تعودوا أن يخرجوا معه ليُجددوا له البيعة في شكل طقوس احتفالية لم تكن تُعد عملاً سياسياً بقدر ما كانت طقوساً نيلية توارثته القبائل النبوية التي ارتبطت حياتهم بمياه النيل في كل الملمّات والمناسبات السعيدة. حملت تلك الطقوس سمات يعود تاريخها إلى حقب منسية في التاريخ الشفهي للقرية؛ ولكنها موجودة الآن في كتب الأنثربيولوجية الحديثة. ولابد أنه في ذلك اليوم تم ختان عشرات الأطفال الذكور إذ يؤخر ختان الأطفال لمثل هذا اليوم من العام للحصول على البركة النيلية. أما الأطفال الأقل حظاً فيكتفي ذويهم بغسلهم فرادى في مياه النيل مع ذكر بعض الابتهالات النوبية القديمة.


    في الزيجات النوبية كان العروسان يخرجان إلى النيل في زفّة صباحية، وهم يضربون على الدفوف ويرددون الأغاني والأهازيج التقليدية الطروب. ثم يقف العروسان على حافة النهر، وتبدأ الطقوس النيلية: فيقوم الزوج بغمس يده في مياه النهر ثم يسكب ما تبقى منه على شعر عروسه، وتقوم العروس بخلع حذائها وغمس قدميها كاملتين في النهر دون أن تبدي أيّ انزعاج من حركات النسوة من حولها وهن يعبقنها بالبخور والروائح الشعبية ويُغدقنها بالقبلات، بينما يغسل الزوج وجهه بمياه النيل سبع مرات متتاليات. وعندما تضع كل أنثى حملها، فإنه لابد أن يستحم المولود أولاً بماء النهر وسط زغاريد النسوة والابتهالات المأثورة لتحل عليه البركات وإلا فإن ذلك سيكون نذير شؤم ولاشك.

    شاءت المصادفة المحضة أن يُنتج دلال العمدة المفرط لابنته الصغرى صابرين صبيّة بمواصفات ذكورية حتى أن اسمها الأنثوي اندثر في سيرة القرية وباتت تعرف باسم (صابر). كانت صابر التي نالت نصيبها من حقن داء الكلب الاثنتي عشرة عندما كانت في الخامسة من عمرها قد أصبحت بعد ذلك بأقل من سنتين فتاة تنافس الذكور في كل شيء. حتى أنّ أطفال القرية كان يخشون منها، وربما فعلوا ذلك لأنهم كانوا لا يجرؤون على مقارعة ابنة العمدة، ولكن وبمرور السنوات أثبتت صابر ذكوريتها وأن تلك الذكورية مستحقة بجدارة، فكانت تصرع الفتيان، وتسابقهم، وتسبح معهم في مياه النيل، وتتقدمهم عندما يعزمون تسلّق صخور جبال ميمن توّو. خمنّتُ أنّ لعاب كلب التمتام الأسود تسلل عبر أوردتها وعبث بجيناتها وهرموناتها الأنثوية.

    ولمّا بلغت صابر سن المدرسة قام والدها العمدة بإلحاقها بمدرسة فركة الابتدائية للبنين دون أن يجد ذلك اعتراضاً من مدير المدرسة، فأكملت دراستها الأولية في مدرسة البنين كواحدة منهم. ومع مرور السنوات نسي الجميع أمر أصولها الأنثوية إلى الأبد. وحتى عندما بلغت مبلغ الإناث وبدأت أعضاؤها الأنثوية بالنفور من جسدها اضطرت إلى ربط ثدييها الصغيرين إلى أضلاعها بقطعة قماشية. كانت عواضة بصيلي مؤمنة بأن صابر هي إحدى نبوءات التمتام المُتحققة؛ وعندها فقط وجدت تفسيراً لكلماته الطلسمية التي كانت تشبه الهذيانات: "ويمكن حيجي من البنات"

    هذه الذكريات المروية على لسان الجدة مِسكة كانت هي أولى معارفي الأساسية بأهالي قريتي الصغيرة الوادعة (أرض الميّت)، وكانت الجدة مسكة آخر الحكّايات عندما توفيت عن عمر يناهز المائة وثمانية عشر عاماً قضتها كلها في تصوير وتدوين موروثات القرية. لقد عاشت لترويها لنا دون أن يفطن أحد لتوثيق ما لديها من أخبار وقصص؛ ببساطة لأنه لم تكن هنالك وسيلة توثيق معتمدة ذلك الوقت. وبينما كانت القرية وادعة؛ فإن بيوتها كانت تحبس داخل أضلاعها الجالوصية حكايات وقصص حيّة ومتناقضة.

    لم يكن حديثي عن ثورية المذياع في أرض الميّت من قبيل المبالغة؛ إذ أنّ ما فعله المذياع في وعي أهالي القرية على مرّ السنوات كان ثورة حقيقية بكل المقاييس. فعلى أقل التقديرات استطاع الناس التخلّص ولو ببطء غير مستشعر من نفوذ العائلات الدينية التي كانت قد فرضت سيطرتها على القرية لردح من الزمن، هذا الأمر سمح للبعض ممن آمنوا بنبوءات التمتام وصلاحه بأن يُقيموا على ضريحه قبّة لا تقل في شموخها وهيبتها عن بقية قباب أولياء الله الصالحين المنتشرة في أرجاء القطر. كانت القبة التي تُبنى على ضريح أحدهم رمزاً يُوحي بكرامته ومكانته الدينية، وربما أصبحت بعض القباب مزاراً للكثيرين في نزعة لا تخلو من مظاهر الوثنية القديمة التي تركتها العصور البائدة.

    كان ميرغني كلس أول من أطلق جملته التي ذهبت مثلاً عندما قال: "من يرى قبّة التمتام يظن أنّ تحتها رجلاً صالحاً بالفعل!" وانتشر المثل بعد ذلك ليُستخدم بكثرة في كل من يُتوسّم فيه الخير ولا يكون أهلاً له. ورغم أنّ معظم زوّار الضريح كنّ من النساء إلاّ أنّ بعض الرجال كان يأتيها في حالات اليأس المقيتة: إما طلباً لتسهيل زيارة بيت الله في مواسم الحج عند انقطاع الأسباب، أو طلباً للشفاء من مرض عضال، أو عجوز يطلب عمراً إضافياً، أو دميم يطلب زوجة حسناء! أكثر المبررات المنطقية لبناء قبّة للتمتام كانت وفاة الشيخ عبد الصبور دهب الذي مات بعد التمتام بأشهر معدودة، فدفن بجانبه وبُنيت له قبّة إلى جوار قبته.



    ________
    (1) المسايد (ج) مفردها مسيد، وهو مكان العبادة فيه تقام الصلوات وتحفيظ القرآن وجلسات الذكر وغير ذلك.
    (2) التقابات (ج) مفردها تقابة، وهي النار التي تضاء ليلاً ليقرأ على ضوئها تلاميذ المسيد القرآن
    (3) السكج بكج: لعبة شعبية قديمة شبيهة بلعبة الكراكيت الحالية.
    (4) شليل: لعبة شعبية قديمة جداً ومنتشرة في جميع أنحاء السودان يقوم فيها الأطفال برمي عظمة أو ما شابه والبحث عنها على ضوء القمر وهم يُرددون: "شليل وين راح أكلوا التمساح" وتختلف تفاصيل هذه اللعبة من مكان إلى آخر ولكنها تظل اختلافات طفيفة ليست جوهرية.
    (5) الأبري: من الأكلات الشعبية التي مازالت موجودة حتى اليوم وهي عبارة عن رقائق قمح مغمورة في ماء الليمون يُضاف إليها الماء وتقدم باردة، وينتشر الأبري في المواسم الرمضانية


  7. #7
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    5



    كانت تلك الحقبة بالتحديد هي الحقبة التي خرج فيها الأفندي عبد الشافي خليل الذي كان أحد القلائل الذين نزحوا باكراً إلى الخرطوم في نهايات القرن الثامن عشر ليعمل مع الإنكليز والمصريين إبان الحكم الثنائي في السودان. عبد الشافي خليل الذي عمل في وقتٍ لاحق غفيراً في كلية غاردون التذكارية بعد الانتهاء من عمليات بناء السكة الحديدية في السودان؛ كان قد أحدث ضجة كبرى في أرض الميّت لا تقل عما أحدثه جلال التمتام أثناء حياته أو حتى بعد موته. فقد كان أول من طالب بهجرة النوبة إلى إسرائيل واعتبرها عودة إلى الجذور. ظلّ يحكي للناس عن أصول النوبيين اليهودية المنسية (بل المخفية عمداً) في كتب التاريخ والذاكرة الشعبية، وبينما كان قلّة من النوبيين يُرجعون أرومتهم إلى أصول مسيحية قامت على أنقاض الحضارة الـمَرَوية؛ كان الأفندي يحكي عن أرومة يهودية بدأت منذ عهد نبي الله موشيه الذي يعني اسمه في العبرية (لقيط الماء) وتم تحريف اسمه إلى موسى في الثقافة الإسلامية.

    وعلى عكس ما يُشاع؛ فإن النوبة لم تتعرض لغزو الثقافة الإسلامية وسطوتها فحسب، بل تعرضّت –بحسب الأفندي- إلى غزو مسيحي كذلك أدى إلى طمس معالم الثقافة اليهودية التي ينتمي إليها النوبيون في الأصل؛ إذ يُرجع عبد الشافي النوبة إلى أصول إسرائيلية سكنت حوض النيل وخضعت لسيطرة عماليق الفراعنة الذين استولوا على الملك بعد وفاة نبي الله ييسب (أو يوسف) وانهيار دولته. وكان رمسيس الثاني (فرعون مصر آنذاك) قد رأى مآثر النوبة المتمثلة في العبقرية المعمارية من أضرحة ومعابد؛ فأجبرهم على بناء أضرحة أعظم منها له ولمملكته، كما أُعجب بما لديهم من خبرة في الزراعة؛ فاستخدمهم لاستصلاح أراضي مملكته. كان من بين النوبيين رجل يُقال له موشيه أتاه الله النبوة وأوعز إليه إخراج المستضعفين من النوبيين وعبر بهم البحر، وبعد هلاك رمسيس في اليم عاد ثلّة منهم إلى مصر مرّة أخرى واستقروا بها. ومن الأقوال المأثورة عن عبد الشافي أنه كان يُفسّر شتات النوبة بالشتات المضروب على بني إسرائيل والسيحان في الأرض والذي جاء ذكره في القرآن؛ ولذا فإنه رأى أن خارطة إسرائيل التي يأملون في رسمها من منابع النيل إلى الفرات لم تكن من قبيل المصادفة أبداً.

    كان عبد الشافي يتكلّم عن خطط عالمية مدروسة تُحاك ضد الشعب اليهودي وثقافته التي أُعلنت عليها الحرب منذ حقب سحيقة بدأت من الفترة المسيحية الجديدة بالسطو على الموروثات اليهودية المتمثلة في الثورة على الشريعة اليهودية على يد يسوع (اليهودي المتنصّل من يهوديته) بما في ذلك الكتاب المقدّس الذي تم ضمّه إلى كتابات المسيحيين ونسبته إليهم فيما يُسمى بالعهد القديم وإكماله بما سُمّي بالعهد الجديد الذي كتبه الحواريون في زمن لاحق من وفاة يسوع. إضافة إلى السطو على القصص والأساطير التي تمثل مجمل التراث اليهودي العالمي، وعملت هذه الحركات على تشويه صورة اليهودية واليهود سواء في المخيّلة الدينية للديانات التي ظهرت بعد ذلك أو حتى في المخيلة الشعبية على السواء فحاول إظهارهم بأنهم شعب دموي لئيم وناكر للجميل وخائن للعهود والمواثيق. ولم تتوقف عمليات السطو تلك حتى عندما تقلّص المد المسيحي في أوان الفتح الإسلامي، بل امتدت السرقات الأدبية حتى انكب العرب على معين الأدب اليهودي وسطا عليه أيضاً. ووصل إلينا مما ذكره عبد الشافي من سرقات العرب للموروث اليهودي: قصة علي بابا والأربعين حرامي التي سرقت حرفياً من كتب اليهود القديمة.

    تميل الشعوب النوبية إلى إطلاق اسم (بابا) على أي امرأة اسمها (فاطمة)، وعندما كانت الشعوب النوبية منحدرة من بقايا مجتمعات أمومية قديمة فإنها كانت ما تزال تحتفظ ببعض خصائص تلك المجتمعات التي دأبت على نسبة الأبناء إلى أمهاتهم؛ وعليه فإن (علي فاطمة) أو (علي بابا) كان شخصية نوبية يهودية الأصل سطا العرب على قصته ضمن عشرات بل مئات القصص اليهودية الأخرى التي سطوا عليها. ومن عمليات السطو التي أخبر عنها عبد الشافي على الموروث اليهودي القديم تلك الحملات الدموية التي قامت بها الديانات السماوية اللاحقة ضد الأنثوية التي كانت مقدّرة في اليهودية وكيف أنها سعت في تعاليمها إلى نسف دور المرأة المقدس الذي ظلّ طوال حقب سحيقة طويلة معتداً به في الديانات البشرية الأرضية من قبل. كان عبد الشافي لا يرى اليهودية إلا كنسق عقدي متسق تماماً مع اتجاه فطري يُمجّد المرأة ويُعلي شأنها تماماً كما تعاهد النوبيون في الوقت الذي تمّ فيه امتهان المرأة في بقية الديانات اللاحقة عليها.

    كان عبد الشافي -الذي اعتبره أهالي القرية مجنوناً- يرى أنّ الديانات اللاحقة على اليهودية لم تأت بشيء جديد إلا فيما اعتبره إعادة صياغة لما شملته موروثاتهم العقدية: بدء الخليقة، أنباء آدم وزوجه في الجنة، أنباء قابين وهابيل، أنباء الرسل من بعد، الطوفان، نهاية الخليقة. وكان يتحدث عن سطو المسيحية والإسلام على العديد من المعتقدات الدينية لليهود ونسبتها إليهم بعد إعادة صياغتها في قوالب جديدة؛ ومن ذلك: العقيدة الهرمجدونية التي تقضي بقيام حرب في آخر الزمان بين قوى الخير والشر وكيف أن المسيحية اقتبست هذه العقيدة ونسبته إليها وكذلك فعل الإسلام وعملتا على اتساق هذا المعتقد اليهودي مع التيار الفكري لكل من الديانتين. وكيف أن الماشيح أصبح يسوع في الثقافة المسيحية والمسيح عيسى بن مريم في الثقافة الإسلامية.

    ولم يزل عبد الشافي يُذكر أهالي القرية تلك المآثر التي دخل عن طريقها الإسلام إلى النوبة، وكيف قاوم الأسلاف النوبيون (رماة الحدق) زحف الجيوش الإسلامية وأنزلوا بهم الخسائر حتى وقّعوا على البقط التي أتاحت لهذه الجيوش المُعادية التسلل بمهل إلى البلاد كسم الأفاعي الرقطاء. ورغم أن دعواه تلك لم تلق رواجاً كبيراً بين أوساط النوبيين الذين عزوا خطرفاته إلى لوثة الثقافة الوسطية التي كانت سيئة السمعة آنذاك، إلا أن مقولاته وجدت طريقها إلى قلّة من المتعلمين الذين لم تسعفهم الحيلة لفعل شيء أكثر من مجرّد التصديق السرّي بما جاء به الأفندي الخرطومي على ظهر ناقة عشراء منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وفسّروا عليها سرّ الأحمسية التي أرجعوها إلى: الذلة والمسكنة التي ضُربت عليهم من الله. وإذ لا تُوجد دلائل قطعية على ما ذهبوا إليه فقد كان الكثيرون في النهاية قد وجدوا في الإسلام الذي انتشر في السودان مع قيام مملكة الفونج أفضل الخيارات المتاحة، فسلّموا له زمامهم.

    توافق الناس على مناداة عبد الشافي خليل بالأفندي لأنه كان قد ترك لبس الجلباب والعمامة واستبدلهما بلبس البنطال (لبس الأفندية) حتى أنه حلق نصف شاربه لأجل ذلك. وأمام دعواه التي اعتبرها أهالي القرية كالهرطقة الموجبة للقتل؛ فإن عبد الشافي هرب ولم يعد إلى القرية مرة أخرى، وترك ورائه زوجته (فتحية بُشارة) بعد أن أغدق عليها بالحُلي والمجوهرات المزيّفة التي ابتاعها لها من الخرطوم. ولم يعلم أحد بزيف تلك المجوهرات إلا في وقتٍ لاحق من ذلك.

    وكان مما تركه عبد الشافي واحتفظت به فتحية بشارة صندوق مليء بالكتب؛ كان من بينها كتاب عتيق منزوع الغلاف ممزق الحواشي جاء فيه: "حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب قال: ليس بيننا وبين الأساود عهد ولا ميثاق، إنما هي هدنة بيننا وبينهم على أن نعطيهم شيئاً من قمحٍ وعدسٍ ويعطونا رقيقاً، فلا بأس بشراء رقيقهم منهم أو من غيرهم. وحدثنا أبو عبيد عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد قال إنما الصلح بيننا وبين النوبة على أن لا نقاتلهم ولا يقاتلونا، وأن يعطونا رقيقاً ونعطيهم بقدر ذلك طعاماً، فإن باعوا نساءهم لم أر بذلك بأساً أن يشترى."(1) وعندما وقع ذلك الكتاب في يدي وقرأته حزّ في نفسي كثيراً أن أكون من سلالة نخاسة يتاجرون في الناس مقابل أن يتحصّلوا على طعام يقيم صلبهم!

    يُعلي التاريخ شأن عباقرة العلوم، ولكنه في الوقت ذاته يتجاوز عن أخطائهم وخزعبلاتهم التي يعتبرها مجرّد هفوات. فمازلنا نسمع عن إنجازات الإغريقي طاليس العبقرية، وقوانينه المدهشة التي نعتبرها مرجعاً في المنهج الرياضي الاستنباطي، ولكن لا أحد يذكر مقولاته الخرقاء عن تناسخ الأرواح، وكيف أن روح رجل ما قد تكون آتية من زمن ماضٍ من حياة عاشتها كقنديل بحر! ومازال تاريخ النوبة الشفهي يتناقل بفخر بعض الأسماء التي عاشت ملوكاً في الأخيلة الشعبية متغاضياً عن هفواتهم التي لا تغتفر، فلا أسوأ من أن تكون من نسل نخاسة. هذا الاكتشاف المفاجئ والمخزي كشف لي إضافة إلى العديد من المشاهد العيانية سبب التعالي النوبي واحتقارهم للعبيد المنحدرين من أصول زنجية.

    كانت صابر حسبما تقول الروايات قد عاشت حتى التاسعة عشر من عمرها في ثوب صبي نزق، مفرط الهياج يستعين به فتيان أرض الميّت في مشاجراتهم مع فتيان القرى المجاورة؛ لاسيما في المواسم التي تكون سبباً في تجمّعهم: كالأعياد والأفراح وحصاد البلح وجزّ البرسيم أو احتفالات الختان الجماعية. وعندما تزوّجت أختها التي تكبرها بثلاثة أعوام، كانت هي من تحفر لنصب سرادق الاحتفال في إحدى ميادين القرية، وكانت تضرب الأولّي مع الرجال أفضل من كثير منهم؛ إذ كانوا يصطفون في مجموعات ويدوزنون صفقاتهم مع وقع أرجلهم على الأرض على أنغام الطنبو(2)ر. وليس كل من حرّك قدميه وصفّق بيديه أجاد الأولّي، فهو أشبه بحالات التقمّص الصوفية تتلبّس فيها الموسيقى أجساد الرجال وتحرّكهم بها كيفما اتفق، فيتمايلون ويتقدّمون ويتأخرون في مشهد لا يخلو من الإثارة والحماسة.

    ماتت صابر غرقاً في مياه النيل وهي تسبح مع الفتيان كعادتها، عندما انزلقت إحدى قدميها على صخور النهر الملساء. وروت إحدى النساء أن أحداً من الفتية لم يجرؤ على إسعاف جسدها الرطب قبل أن تفارق العالم وتُسلم روحها إلى باريها. وقيل أن أحدهم دفعه الفضول فكشف عن عورتها ليتأكد مما إذا كانت أنثى فعلاً أم لا؛ وعاب عليه الجميع ذلك؛ ولكنه كان قد اطمأن! لم تجد صابر من يحزن عليها بعد موتها إلا أخواتها الأربع اللائي بكين فيها كل الأسلاف الراحلين، وبكين أمهن عواضة بصيلي التي كانت قد أُصيبت بلوثة بعد رحيل زوجها حسن فنتي، وتحققت مخاوفها بعد ذلك فأصبح علي فانا السوشكي(3) عمدة القرية وانتقل إلى سرايا العمدة. وظلت عواضة بُصيلي تبكي زوجها على قبره متمنية الموت واللحاق به ورفضت العودة إلى المنزل رغم مناشدات بناتها وأهالي القرية، إلا أنها فضّلت البقاء جوار قبر زوجها على البقاء تحت رحمة علي فانا. وبموت صابر توقفت استفهامات الذين شككوا في قدرتها على الزواج والإنجاب وكل التساؤلات المتعلقة بشأن مستقبلها التناسلي.

    كانت أرض الميّت في تطورها السلحفائي تعيش على هامش التاريخ الإنساني المتسارع، تقف تحت ظل الحضارات تأكل من الفتات الذي يتساقط من فوهات صنّاعها الخالدين. لم تحاول أن تتصادم مع أيّ منها لأنها بطريقة ما كانت تحس بتعالٍ نرجسي مردّه مجد استمر لألف وخمسمائة سنة ثم ضاع تحت سنابك جيوش المسلمين ودهاء العرب؛ الأمر الذي جعلني في كثير من الأحيان أميل إلى تصديق مقولات عبد الشافي فيما ذهب إليه؛ فمنذ فجر التاريخ لم تشهد البشرية جنساً عرقياً يحتقر غيره ويُعلي شأن نفسه كما يفعل النوبيون وبنو إسرائيل على السواء!



    _________
    (1) من كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري (ت 279هـ/892 م) فصل: صلح النوبة
    (2) الطنبور آلة وترية قديمة خاصة بقبائل الشمال السوداني مازلت مستخدمة حتى الآن
    (3) السوشكي: وصف نوبي للرجل المنقاد لزوجته


  8. #8
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    6


    في أزمنة المجاعة كانت الأمهات يعتصرن أثدائهن ويُحلّين الحليب بماء البلح ويُطعم به أطفالهن، كانت تلك الحقبة التي لم أشهدها من الحقب الأكثر صعوبة على أهالي أرض الميّت التي كادت أن تعصف بالقرى النوبية فلا تترك لها أثراً. قيل أن ساقية الشيخ إسماعيل دهب -التي أصبحت بعد ذلك سارية التمتام- قد امتلأت عن آخرها بجيف الحيوانات النافقة؛ بينما كانت ما تزال بعض القطط والدواجن تناضل من أجل أن تبقى على قيد الحياة؛ إذ توجهّت إلى تغيير نمطها الغذائي. فتشاجر الأطفال والقطط على مياه البلح الآسنة، وحبّات الدوم الصلبة، وقشور الفواكه المصابة بالطفيليات، ولكن نيلنا المقدس أعاد الحياة إلى القرى النوبية وأهاليها الذين لم يكفوا يوماً عن مناشدته فرادى وجماعات.

    لكل الأماكن رائحة، ولكل الروائح ذاكرة وشرايين تنبض بالحياة؛ وهكذا كانت (أركِن أُرُوم) الغارقة في سواد الكبريت الواقعة شمالي أرض الميّت؛ إذ كانت نساء القرية يذهبن إلى هناك لجمع الهبّوت أو الرماد الطبيعي الذي يستخدمنه علاجاً لبعض الأمراض الجلدية: كالطفح ومداواة آثار الجُدري المائي والبهاق والثآليل الفيروسية. تلك الثقافة التي تُعد من أكبر الأدلة على ارتباط الإنسان بأرضه والعلاقة التي تربط بينهما قبل اكتشاف العقاقير الكيميائية والفزلكات الطبية الحديثة. كُنّ يجمعن الجرار الصفيحية ويضعن فيها ما تيسّر لرجالهن صيّده من أسماك الباروش والأسماك النمرية المتوحشة، ويضعنها كما هي دون نزع الحسك أو حتى الشوك، فقط كنّ يُضفن الثوم والملح والبهارات الخاصة إليها، ثم يُحكمن إغلاق الجرار التي لا تُفتح إلا بعد مرور أربعة أيام. في هذه المدة تكون الأسماك قد استوى تعفّنها؛ فتقلّب مراراً بأعواد خشبية غليظة وطويلة مُعدّة لهذا الغرض حتى تصبح كالطين اللازب.

    ربما لمرّة واحدة في حياتي شهدت صناعة التركين الذي تقوم به مجموعة من النساء في وقت واحد، يرددن عندها أغنيات تذكر شجاعة الرجال ومهارتهم في الصيد. كان حضور تلك الطقوس الجماعية بالنسبة إلينا نحن الأطفال نوعاً من التسلية، إذ تأتي كل امرأة برفقة أطفالها؛ وبينما تنغمس النسوة في العمل كنا ننغمس في اللعب بالطين الكبريتي دون أن نخشى توبيخ الأمهات المنهمكات في إعداد التركين. تلك اللحظات المثالية النادرة كانت حفيّة في القرى النوبية، لاسيما لدى الأطفال الذين كانوا يجتمعون عند عتبة سرايا العمدة ويختلقون الأفاعيل التي تثير غضبة الكبار.

    وفي مواسم الأعياد كان الأطفال يتجمعون وقد ارتدى كلٌ منهم ملابسه الجديدة والتي لم تكن تختلف كثيراً عن بقية ثياب السنة، ثم يتسابقون حتى حدود القرية الشمالية، ويدخلون البيوت مشرعة الأبواب فاتحين جيوبهم لاستقبال الحلوى التي يُغدقها عليهم الكبار بكرم جمّ، ويظلون ينتقلون بين قرى المنطقة حتى يصلون إلى شجرة اللبخ المشهورة التي تمّد أغصانها كشمعدان سحري عملاق يجلسون تحت ظلها ويخرجون حصيلة ما في جيوبهم من حلوى، يفرشونها أرضاً ويأكلون حتى يلتهمهم العطش؛ ثم ينطلقون إلى النيل يشربون من مياهه الباردة حتى يرتوون، ولا ينسون أن يتراشقوا بالماء وأن يبللوا ثيابهم الجديدة مهرجاناً لشغب الطفولة الذي لا ينقضي، ولا ينقضي العيد حتى تُقبّلهم العجائز ويحملهم الرجال على ظهورهم ويملئون الدنيا بالضحكات.

    كل شيء في أرض الميّت كان روتينياً حتى تلك الأعمال الأكثر حفاوة وتقديراً: صناعة التركين والعزاءات النسوية وحفر المقابر، وحصاد البلح، وحتى الهمبيق الذي يقوم به الرجال في المناسبات السعيدة: حيث يصطف الرجال في نصف دائرة مُصدرين من حويصلاتهم الرئوية أصوات الهُمبيق التي كنتُ أخاف منها كثيراً. ذات الأصوات كانت تسكب القشعريرة الباردة نهراً في أوصال النساء، وتُلهب الحماسة في قلوبهن. ولكننا لم ندرك روتينية هذه الأشياء حتى زيارة الشياطين البيضاء لنا ذلك اليوم.

    مقارنة بالحكّاي ومقولات عبد الشافي الثورية؛ فإن عودة نجيب آشا غير المتوقعة إلى القرية كانت من الأحداث الأكثر أهمية على الإطلاق في تاريخ أرض الميّت. عندها فقط ابتدأت صفوف الرجال المنتظرين للفرج جوار ضريح التمتام، وعلى أعتاب سرايا العمدة تتجه إلى منزله؛ فقد عاد وقد بدت عليه أمارات الثراء المشرقة بعد سنوات اغترابه العشرين التي قضاها في أسوان برفقة السيّاح الأجانب؛ تعلّم فيها (إضافة إلى اللغة الإنكليزية): الانضباط في المواعيد، وتنميق الكلام، وتهذيب أفكاره تجاه الحيوانات الأليفة. ولم يكن من المنتظر بعد اغتراب طويل كهذا أن يجد نجيب أحداً من أفراد أسرته على قيد الحياة، ولكن المعجزة الحقيقية أنّ جدته لأمه عائشة (أو آشا كما ينطقها النوبيون) كانت ما تزال تناضل من أجل أن تبقى حيّة بعد أن فقدت بصرها وخفّ سمعها وتساقط جلّ شعرها.

    بابا نوبة التي ظلت طوال الثمانين عاماً التي عاشتها متشبثة بالحياة، اختارت اليوم التالي مباشرة لعودة حفيدها لتموت! وكأنها كانت في انتظار عودته لترحل هي عن الدنيا؛ وبينما خمّن البعض أن مقدم نجيب كان قدم شؤم على جدته، كان البعض الآخر يتندرون بهذه القصة، ويقولون: إنّ ما كان يحمل بابا نوبة على البقاء حيّة كان كونها آخر من تبقى من سلالة آل كُبْرة المنقرضة، وبعودة حفيدها لم يعد لديها ذلك الدافع للبقاء! وبدأنا نسمع اسم (أسوان) يتردد أكثر من ذي قبل على ألسنة الناس. ما فعله نجيب آشا ببساطة أنه صوّر أسوان لأهالي على أنها إحدى الجنان الأرضية المفقودة التي مات المئات من المغامرين في بحثهم عنها، تلك الجنة كانت على بُعد ملء السواعد بالتجديف الحثيث، الأمر الذي جعل الناس يتدافقون إلى منزله كالجراد.

    كان يطلب من كل فرد جنيهاً كاملاً مقابل أن يُوفّر له عملاً هناك، فاضطر البعض لبيع ما يملكون من نخيل وأراض وعدد، ومن لم يجد؛ رهن ما لا يصلح بيعه على أمل جازم بالسداد. البعض تصوّروا أنفسهم وقد أصبحوا أثرياء كنجيب آشا أو كالعمدة نفسه وحتى أن كثيرين منهم كان قد تلبّسته شخصية الثري المتغطرس. أذكر أنّ أحدهم وقف قائلاً في إحدى ليالي أرض الميّت الحالمة: "عندما أعود من أسوان سوف أشتري سرايا العمدة أو أبني واحدة إلى جوارها!" وكان ذلك جلّ ما حلم به.

    النساء كنّ الباعث الحقيقي وراء أوهام بعض الرجال، ولم يكن بمقدور أحدهم أن يُوقف تلك الوساوس التي عاشت في دماغه كخفّاش ليلي لعين تلّصق على جدار الجمجمة. ظنت النسوة أنّ من يذهب أولاً تتفاقم فرص ثرائه أكثر من غيره؛ لذا فإنهن لم يتوقفن عن الوسوسة، وارتاح الشيطان وقتها من عمله وتركه لهن. تلك التجربة أفرخت عشرات السوشكّيين الذين لم يكن أهل القرية يعلمون بأمرهم.

    الأطفال -في ذلك الوقت الذي بدأ فيه نجيب آشا في إرسال الشباب إلى مصر- كانوا يسمعون عن أسوان أكثر مما يسمعون عن الخرطوم، وكانت بالنسبة إليهم إحدى عجائب الدنيا التي لم يتوقعوا حتى في أكثر أحلامهم رومانسية وخصوبة أن يسافروا إليها أو أن يروها بأم أعينهم. كانوا يسمعون عن شوارع الأسفلت، ورسموا في مخيلاتهم المحدودة تصوّرات بدائية عن شكله ولونه. وكانوا يسمعون عن العربات التي تجرّها الأحصنة، وعن السيارات المعدنية، وعن الراقصات والملاهي الليلية؛ ولكنهم لم يعلموا كنه هذه الأشياء حتى عاد نجيب آشا من هناك حاملاً في جراب ذكرياته قصصاً وحكايات عن أسوان والقاهرة والإسكندرية وتركيا التي سمعت بها أرض الميّت لأول مرّة.

    لم يلحظ أحدهم ذلك البريق الماكر الذي لمع في عيني نجيب وهو يُخاطب إحدى الفتيات: "توجد فرص عمل للنساء أيضاً في أسوان." وربما حاول إخفاء همجيته البيولوجية، ولكنها كانت بادية كفاية بين فكيه كذئب صائم يتعرّف على فريسته للمرة الأولى، عندها قفز أبوها ورفض سفرها وشكر له عرضه السخي، ولكنه وكل أهالي القرية تفاجئوا باختفاء نجيب آشا والفتاة بعد أسبوع من ذلك. وحسب فهرس الوفيات الأبجدي فإنه قد تم إضافة اسمها إلى القائمة فوراً، وأصرّ والدها على ألا تقوم النائحات بعملهن ذلك النهار. قال: "تموت ابنتي كما تنفق الخراف كميتة التمتام من قبل." ولم يساعده إحساسه بشرفه ذلك على أن يتذكر جرائره السابقة.


    حين ذاع خبر ولادة عوضية كوشة المتزوّجة حديثاً؛ ذهبت النساء لزيارتها في المنزل وحملن معهن كل ما ينبغي لهن حمله في مثل هذه المناسبة؛ ففي حين حملت بعضهن علب حلوى الماكنتوش التقليدية، حملت الأخريات أكياس البخور والصندل وبرطمانيات الخُمرة والمحلبية(1) المصنوعة محلياً. في حين لم تذهب النساء اللواتي رأين جنازة عابرة ذلك اليوم. تلك العادة النوبية التي مازلتُ أستغرب من تفاصيل وضعها في قوالب اجتماعية لا يحاول أحدهم كسرها أو تجاوزها؛ إذ تتشاءم النفساء من استقبال من رأت جنازة أو دماً مسفوكاً بأم عينيها. وإن كانت تلك إحدى القريبات؛ فإنها تأتي لزيارتها دون أن تسمح لها برؤية وجهها، فتكتفي برؤية قفاها ثم تغادر المنزل بسرعة.

    يقال: إن الموت والحياة لا يُمكن لهما أن يلتقيا أبداً إلا في ظروف نادرة؛ لا تتوفر إلا كانت أمارة لكارثة وشيكة. وربما كان الأسلاف الذين سنّوا هذه المُشاكرة مؤمنين بأن لكل من الموت والحياة حيواتها الخاصة بهما، وأن محاولات الخلط بين هذه الحيوات يُعدّ تحدياً سافراً لقوانين الطبيعة ونواميسها الأزلية، الأمر الذي يُنذر بما لا يُحمد عُقباه. وتظل النفساء حبيسة هذه المُشاكرة حتى تُكمل عدتها، وفي اليوم الأخير، تأتي نساء القرية ليتم اختيار إحداهن لتغسيلها بيدها بما الذهب على طشت من النيكل. تجمع النساء ما توافر في أيديهن من ذهب حقيقي ويُلقينه داخل الطشت، ثم تُنقع القطع الذهبية في الماء لبعض الوقت قبل أن تستحم به النفساء.

    في الأربعين أرسل النسوة في طلب فتحيّة بُشارة لتُلقي بذهبها الخرطومي في طشت عوضية كوشة وتفاءلنّ بذلك. ولكن فتحية خافت أن تفعل وتصدأ مجوهراتها الزائفة ويُفتضح أمرها، فرفضت بقوة بحجة أنّ ما يفعلنه النساء يُعبّر عن تخلّف ورجعية وسير على خطى عادات آسنة لا معنى لها. ولكن ضراوة العادات دفعت بالنسوة لمهاجمتها ونزع بعض الذهب من يديها وإلقائه في الطشت عنوة. وعندما صدأ عرف الجميع بزيفه، وأصبح الحديث عن ذهب فتحية بشارة الفالصو فاكهة المجالس النسوية؛ حتى أنّه غدا مثلاً يُضرب؛ فيُقال: أزيف من ذهب فتحية!

    كانت نساء أرض الميّت الحوامل يذهبن كل صباح إلى النهر برفقة بعض النسوة، فيجلسن على حوافه ويغتسلن ويسمحن شعورهن بمياهه المباركة التي حملت أحد الأنبياء السماويين ذات يوم، ثم تبدأ الحوامل بالأكل من طين النيل، ويحملن جزءاً مقدراً منه في أكياس ليأكلنه مساء في البيوت. نساء أرض الميّت المفتقدات للكالسيوم يتخذن من طين النهر مصدراً أسياسياً للكالسيوم والحديد؛ يقوّين به أجسادهن الضعيفة. والبعض يصنع الطين في قوالب كأصابع الشوكولاته ويأكلنه بنهم جمّ في الأمسيات والأسحار. وليس طين أيّ نهر كطين نهر النيل.



    _______
    (1) الخمرة (بضم الخاء) والمحلبية: عطور ومستحضرات نسائية شعبية


  9. #9
    عـضــو الصورة الرمزية فاطمه بنت السراة
    تاريخ التسجيل
    11/09/2007
    المشاركات
    650
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    :

    الكاتب القدير هشام آدم
    أسجل حضوري لروايتك لحين القراءة المتأنية
    سبق وأن قرأت لك (جريمة بتوقيت جرينيتش ) ذات الحبكة الجيدة
    والتي حيرني فيها التوقيت.

    تحية بيضاء

    :

    اقبل الناس على ما هم عليه, وسامح ما يبدر منهم,
    واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة ..

    الدكتور عائض القرني

  10. #10
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الأستاذة : فاطمة بنت السراة

    يُشرفني مرورك الكريم على رواية ( أرض الميّت ) وسعيد بأن نص (جريمة بتوقيت جرينيتش) قد نال جزءاً من إعجابك. سوف يتواصل السرد عن أرض الميت تلك القرية النوبية ذات الأجواء والفضاءات الساحرة، وأتمنى أن تنال كذلك على إعجابك، ويُسعدني أن أسمع رأيك فيها قريباً.

    لكِ مني فائق التحية والتقدير


  11. #11
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    7



    كان يعيش في أرض الميّت رجلٌ يُدعى سرور؛ داكن البشرة من أصول زنجية تم جلبهم في عصور غابرة للخدمة في استصلاح الأراضي الزراعية، ومكثوا في القرية منذ ذلك الحين حتى أتقنوا اللغة النوبية. كثيرون خرجوا إلى الدنيا ليجدوا سرور وعائلته أمامهم، ولكن لم يكن أحد لهتم بسيرة هذه العائلة الزنجية وتاريخها؛ حتى أن الجدة مِسكة لم تذكر لنا شيئاً عن هذه السلالات الزنجية في رواياتها الشعبية.

    عاش سرور الأوشي بين أهالي أرض الميّت كعبد نوبي دون أن يُسمح له بامتلاك أرض أو منزل؛ فكان يعيش في قُطّية مبنية من القش وسعف النخل وخشب أشجار السرو. كان إتقان سرور للغة النوبية ما يجعل أهالي القرية يتقبّلون وجوده في المناسبات، ورغم ظاهرية المحبة التي يُبديها الجميع لهذا الرجل، إلا أنّ النعرة العنصرية كانت تطفو في الأوقات العصيبة والمحكّات الحقيقية، فقد أوشكوا على قتل ولده وطرده من القرية عندما واقع فتاة نوبية ادعت أنه اغتصبها أثناء غياب أبناء القرية ذات موسم حصاد، ولم يوافقوا على تزويجه منها لرد الشرف المسفوح بل فرضوا عليه نقل قُطيّته خارج مضارب القرية.

    أوشي التي تعني (عبد) في اللغة النوبية كانت الوصف الأكثر شيوعاً في أرض الميّت الذي أُطلق على سرور وعلى السلالات الزنجية، ولم يعتبرها النوبيون عنصرية رغم أنها كانت تنفح بها دون ريب. ولم تمض بضعة أسابيع حتى غادر ابن سرور البلاد ولم يعد إليها مرّة أخرى. لم يتساءل أهالي أرض الميّت عن اختفاء العبد الزنجي ولم يُحسّوا تجاهه بالذنب، بل إنهم بكل وقاحة المستعلي طلبوا من سرور تلقيح أشجار النخيل في موسمها المداري كالمعتاد. كانت تُعجبني الطريقة التي يتعامل بها سرور مع أهالي القرية؛ إذ لم يكن يكترث كثيراً لنظرات الازدراء وكان في نظري أكثر رجال القرية حكمة وبُعد نظر.

    عندما غادر نصف رجال القرية خلف نجيب آشا بحثاً عن ذهب أسوان ونسائها تاركين مزارعهم وبيوتهم ورائهم، كان هو الوحيد الوصيّ على هذه المزارع؛ فاتفق معهم على تلقيح عراجين النخيل مقابل الحصول على جزء من الشراميخ الحاملة للبلح. وحيث أن غالبية الرجال كانوا قد رحلوا عن القرية فإن سرور كان وصياً على أكثر من إحدى وعشرين مزرعة؛ يتحصّل في نهاية الموسم من كل نخلة في كل مزرعة على ثلاثة شراميخ. وبينما كان سرور يبيع بلحه في جواويل ويتحصّل منها على أموال طائلة، كان بلح المغتربين يظل معلّقاً على شراميخه ليُصبح فيما بعد طعاماً للحمير أو خمراً للسكارى المتبقين. وربما مات سرور بعد قبل مجيء الشياطين البيضاء ببضعة أسابيع، ولم يكترث لموته أحد.

    غادر نجيب آشا وخلت القرية من الشبان، وكان ذلك أول عهد أهالي أرض الميّت بالهجرة. خلت جلّ البيوت من الرجال، ولم تعد ترى غير الأطفال والنساء والعواجيز،ولم تكن النساء في كل ذلك تكفّ عن الإنجاب! ومع مرور الوقت وغياب الرجال وموت سرور الأوشي؛ لم تجد النساء إلا أن يخرجن إلى المزارع والحقول والعناية بالحمير والدواجن والأطفال والقيام بمهام الرجال الغائبين. شح الرجال وغياب الأزواج عن زوجاتهم ساعد في إحياء عهد البورنوغرافيا الذي كان قد بدأ في الاختفاء تدريجياً، كما أنه ساعد أيضاً في إكساب قلوب النسوة قسوة غير معهودة؛ فلم يعدن يجلسن على أعتاب البيوت يلهجن بذكر الغائبين، وادخرن آلامهن وحرقتهن في صدورهن ليُخرجنه في العزاءات النسوية؛ ولذا فإن النساء النوبيات هنّ أفضل من تبكي ميتاً في طول القطر وعرضه، وهذا فسّر لي احتفائهن بالمواسم والمناسبات الحزينة بعد ذلك أكثر من أيّ شيء آخر. وبعد سنوات كانت مهنة النائحات قد انقرضت تماماً! كانت هجرة الرجال عن أرض الميّت سبباً مباشراً في نفض الغبار عن المرأة النوبية التي بدأت تخط حروف اسمها للمرأة الأولى بمداد من نور على صفحات التاريخ النوبي الحديث.

    ذلك اليوم الذي قدمت فيه الشياطين البيضاء، أحدثت عجلات عرباتهم نقعاً من على بُعد فراسخ. وأخذ علي فانا العين الشيطانية التي ورثها عن خاله العمدة ضمن ما ورثه من أراضٍ ونخيل وبيوت ونساء، ونظر من خلالها ليصرخ بعدها قائلاً: "إنهم الإنكليز!" وعلى سيارات الجيب المكشوفة التي كنّا نركض خلفها محاولين الإمساك بذرات الغبار التي تثيرها العجلات ورائها جاء الخواجات. ترّجل أربعة رجال وثلاث نساء ووقف رجال القرية وأطفالها وهم ينظرون إلى الخواجيات الشقراوات، وكان ذلك أول عهدنا بذوي العيون الزرقاء والشعور الشقراء. كانت أجسادهم تلمع تحت وطأة ضربات شمس أواخر حزيران لتعطيها لوناً فسفورياً راقياً، بينما لم تكن تمنحنا غير حرارة تضيف على ملامحنا بؤساً إضافياً.

    كانوا يرتدون سراويل قصيرة ونظارات شمسية وقبعات من القش، وتتدلى من رقابهم أعين شيطانية كتلك التي بحوزة العمدة. رجال أرض الميّت -أو ما تبقى منهم- وقفوا مشدوهين أمام نعومة الأجساد الآتية من صقيع الدول الأوروبية، ولم يكن من المعتاد في طول القرى النوبية وعرضها رؤية أجساد نسائية بتلك الطريقة الفاضحة؛ حتى أن الفتيان الذين هرعوا إلى منازلهم كانوا لا يُرددون غير جملة واحدة لحشد الجماهير: "خواجيات عاريات عند سرايا العمدة!" ومن جاء، جاء فقط ليُمتّع ناظريه برؤية السيقان المشدودة والبيضاء من غير سوء. كانوا يتكلمون إلينا دون أن نفقه حرفاً مما يقولونه، ورغم ذلك فقد وقف علي فانا قائلاً: "لقد ظلوا طريقهم في الصحراء ويريدون بعض الماء!" فتسارعت بعض النسوة وجلبن أباريق الماء الفخارية الباردة.

    العمدة نفسه لم يكن مقتنعاً بترجمته التخمينية فأمر أحد الرجال ليبحثوا عن رجلٍ يُمكنه فهم ما يقولونه، وأمر آخر؛ فأسرع إلى السرايا وطلب من النساء أن يعددن القِرى للضيوف، ولم يكتف بذلك بل ذهب بنفسه، ووقف خلف الستار الطيني الذي يفصل بين مجلس الرجال والنساء ونادى على زوجته برفق، وخاطبها بكل أدب جمّ: "هلا تكرّمتِ بإعداد الطعام للضيوف؟!" ومن يعرف تاتا حليمة جيداً، يعرف أن علي فانا كان سوشكّياً باقتدار.

    مكث الخواجات في القرية ثلاثة أيام متتالية دون أن يعرف أحد سبب تواجدهم. كان الحديث بينهم وبين أهالي القرية يتم بلغة الإشارة في أغلبه، وكانت الفطرة والسليقة هي الترجمان. لم يكن الخواجات يتوجهون إلى أيّ مكان إلا وكانت جماهير غفيرة من أهالي القرية تتبعهم في صمت مطبق، حتى أنّ أحدهم صرخ في وجوههم بلغته غير المفهومة؛ ففر الجميع كقطيع نعام جزع، ولكن لم يكون قادرين على كبح جموح فضولهم البدائي طويلاً فعادوا مرّة أخرى بعد حين.

    لم يكن خبرٌ -كزيارة الشياطين البيضاء للقرية- أمراً سهل الإخفاء لاسيما في مكان كأرض الميّت؛ حيث الأخبار تنقلها الرياح، وفي غضون ساعات قليلة كان أهالي القرى المجاورة مجتمعين في أرض الميّت ليتفرّجوا على هؤلاء الخواجات. وبينما انهمك بعض الخواجات في تأملاتهم الكونية؛ كان البعض يلتقطون الصور للمكان: سرايا العمدة، مُشرع النيل، سارية كلب التمتام، حقول الباذنجان والكُرنب، تلّ آل كَلَس المُقدّس، أراضي التركين الكبريتية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي نرى فيها آلة التصوير الفوتوغرافية، كنا نتعّجب من تلك الآلة التي تطلق وميضاً خاطفاً كالبرق دون أن يَحدث أيّ شيء بعده. كان الشيطان الأبيض يبتسم في وجوهنا بعد كل وميض، دون أن نعرف سرّ ابتساماته تلك. الوحيد الذي استفاد من زيارة هؤلاء الشياطين كان عبد السلام همّد الفتى الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، إذ قبّلته إحدى الشقراوات بعد أن أخذت من يديه كأس الماء؛ فحسده الجميع بمن فيهن النساء!

    حمل الخواجات جهازاً غريب الشكل كانوا يتحدثون إليه: جهاز أسود اللون، يُصدر طقطقات مريبة، وله ذيل طويل ناهض إلى الأعلى، ومن ناحية ما منه كنّا نسمع أصواتاً بشرية. لم نكن نعلم وظيفة هذا الجهاز، ولكنه كان أحد أسباب دهشتنا وانبهارنا بما يملكه هؤلاء الشياطين وما يفعلونه. أذكر أنني عندما وقفت إلى جوار إحدى البيوت الطينية لأتبول سمعت صوت بعض النسوة وهن يُهمهن بكلمات غير مفهومة، وعندما اختلست النظر وجدتُ مجموعة منهن تحاول تعليم الخواجية طريقة عمل الشدّي الذي يستعمله النوبيون مقام الرغيف. كُنّ يسكبن عجينة الشدّي السائلة التي من دقيق الذرة على صاج يُوقد من تحته، ثم يُحركنه بعلب الصلصلة الفارغة أو قطعة خشبية في دوائر تبدأ صغيرة من المنتصف ثم تتسع تدريجياً حتى تصبح العجينة الرقيقة دائرة كبيرة بحجم غربال. ورغم أنّ هذه العملية الروتينية مملة وليست بذات قيمة؛ إلا أن الخواجية كانت تبدو في غاية الاستمتاع وهي تحاول صناعة الدوائر وتعيد المحاولة في كل مرّة.

    في اليوم الثالث من زيارة الشياطين البيضاء جاءت سيارة جيب أخرى تحمل أحد المصريين ليُترجم لنا ما يُريده الخواجات. عرّف المصري نفسه باسم (رفعت طلباوي) وبعد أن تناول طعام غدائه وتحدث إليهم بلغتهم التي كأصوات الدجاج الحبشي التفت إلينا قائلاً: "إنهم يسألون عن رجل قدم إلى هنا قبل بضع سنوات يُقال له جلال عبد الحفيظ." هزّ العمدة رأسه نافياً معرفته، ثم دنا من الرجل المصري وهمس في أذنيه بشيء لم يتمكن أحدنا سماعه؛ إلا أنّ المترجم المصري قهقه عالياً وهو يقول: "والنعمة انت راجل مسخرة!"

    لم يستطع علي فانا الشهواني النهم أن يقتنع بأنه ليس في إمكانه -وهو العمدة- أن يُجامع امرأة اشتهاهها؛ لاسيما إن كانت هذه المرأة خواجية لا دين لها. كانت الفكرة السائدة عن الخواجيات أنهن محترفات جنس ولا يُمانعن أبداً من معاشرة الرجال على اختلاف مشاربهم، ولم يشأ العمدة أن يفوّت هذه الفرصة عليه؛ إذ كانت لتكون إحدى مغامراته الأكثر إثارة على الإطلاق التي ستُضاف إلى سيرته، وربما يكون ذلك سبباً في ذياع صيته حتى بعد مماته، ولكن المترجم المصري رفض أن ينقل رغبات العمدة الصبيانية تلك إلى الخواجية، وفضّل على ذلك قمع العمدة بسياط من السخرية اللاذعة التي نزلت عليه كالسهام وخشي أن يُفتضح أمره أمام زوجته تاتا حليمة فقرر نسيان الأمر.

    عندما رأى أحد الخواجات جهاز الحكّاي في مكان ما من سرايا العمدة صاح مُشيراً إليه، فوقف رفعت طلباوي وهو يقول: "هذا المذياع كان مع جلال. لماذا تنكرون أنه كان هنا؟" فابتسم العمدة وهو يفتل شاربه الكث وقال: "هل تقصدون جلال التمتام؟ لقد مات منذ سنوات." لم يُظهر الخواجات أيّ حزن أو تأسٍ لمعرفتهم بخبر وفاة التمتام. وفيما تضخّم سؤالٌ عن علاقة التمتام بهؤلاء الخواجات في حناجر أهالي القرية كغدة درقية متورّمة، تكفّل العمدة وحده بطرح السؤال على رفعت، عندها عرفنا أن التمتام أو جلال عبد الحفيظ ما كان إلا مبعوثاً من قبل شركة روسية/مصرية لدراسة طبوغرافية المنطقة لسبب لم يفصحوا عنه في حينه. غادر موكب الخواجات في نفس المساء، وتلك الليلة لم يُضاجع أحد زوجته.


  12. #12
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    8


    في أرض الميّت تتجاور البيوت دون أن تتلاصق؛ مما يسمح ببعض الخصوصية لاسيما في المواسم التناسلية. في تلك الفترة التي تبدأ منها خيوط ذكرياتي الطفولية في الانفلات من بكرة حياتي؛ كان الكبار قد بدؤوا إدمان النوستالجيا وتوارثها على نحو موح بالدهشة؛ جعلني على غير وفاق بالحقبة الزمانية التي وُجدتُ فيها مصادفة مستشعراً سوء الطالع إذ لم أُولد قبل هذا الوقت. حتى في الأعراس النوبية وتحديداً في ليالي تخضيب العرسان بالحناء كانت النمّامات قد اتجهن إلى إنشاد الأهازيج الحزينة المتوافقة مع النوستالجيا الشعبية العامة؛ فيذكرن الأسلاف الراحلين والأزمنة الوردية البائدة التي لن تعود ومواسم الضحكات النقيّة والأفراح الخالصة؛ حتى أصبح أسلوب النمّة الجديد سنّة متلازمة بعد ذلك.

    كانت النساء يجلسن -في حفل تخضيب العريس- أرضاً، وتُمسك كل امرأة بإحدى قدميه، ويشرعن في تخضيب قدميه بالحناء وسط زغاريد النسوة والفتيات وبعض الأهازيج الشعبية التي تُلهب قلوب الشباب وتغريهم بالتفكير بالزواج؛ بينما يجلس العريس مخضّب اليدين يُحيي الجميع ويُطلق ابتساماته الممزوجة بشحنة الخجل بعد أن علّق الضريرة على صدره والهلال المُذهّب على جبينه. بينما تنشغل العروس وأسرتها في الاستعداد لمراسم الاحتفال. وفي حين يتوجّب على العريس أن يذهب إلى النهر ليغتسل بيد أصدقائه المقربين، كانت أم العروس تذهب خلسة إلى بيت الزوجية وتُعلّق حزمة من الباذنجان المُجفف على سقف غرفة النوم الرئيسة درءاً للحسد والعين المشئومة.

    يتعايش أهالي أرض الميّت في توافق تام مع الخرافات والأساطير التي شكّلت وعيهم واتجاهاتهم الذهنية على مدار قرون، حتى ارتبطت حياتهم بها بشكل لا يُمكن التكهن بمدى تجذره، أو بمدى السلطة التي تتمتع تلك الخرافات والأساطير وتؤثر على قناعاتهم ومعتقداتهم ساعد في ذلك تأييد المراكز القوى الدينية لهذه الخرافات ومحاولاتهم إدراجها ضمن أصول الدين وربطها بها، وبات من الصعوبة بمكان التفريق بين الأعمال ذات الأصول الأسطورية، وتلك التي ترتبط بالتعاليم الدينية المجلوبة مع جيوش الغزو الإسلامي.

    ومازال أهالي أرض الميّت يتناقلون سيرة الشيخ إسماعيل دهب المُشتهر بكراماته التي أضافت إليها العقلية الأسطورية الكثير من القداسة. ويحكون عن قدرته على تسخير الوحوش والضباع واستخدامها في تنقلاته بين القرى النوبية في أزمنة كان فيها امتطاء الحمير يُعد من الأفعال الباذخة والمُتكلّفة. ويحكون عن أحد أجداد كَلَس الذي تكلّم في مهده، والآخر الذي كان يقطع نهر النيل إلى الضفة الأخرى ممتطياً ظهور التماسيح؛ بينما تُخفي كهوف جبال ميمي العديد من القصص التي تتناول سيرة الجن واختطافهم لبعض الفتيات وزواجهم منهن ونتاج بعض هذه الزيجات الذي أفرخ مخلوقات بين لا جنيّة ولا إنسية أسموه السحّارين الذين يمشون على الأرض كبشر نهاراً، ويتحوّلون إلى مخلوقات مخيفة ليلاً. ويُصر البعض على أن بعض القرى النوبية تحتوي بيوتها على أفراد من هذه المخلوقات المفترسة والتي يُقال أنها لا تؤذي أهل بيتها؛ بينما تقتات معظمها على الخراف والماعز.

    لسبب آخر -غير ما يُستخدم فيه الأطفال عادةً- كُلفت بمرافقة طماية نوره ابنة جارنا سليم أوندي في مشوارها الأسبوعي إلى طاحونة القرية البعيدة، ورغم أن هذا الإلزام غير المُبرر كان مقيّداً بالنسبة إليّ؛ إلا أنني كنتُ أشعر فيه بالسعادة. كانت روح غريبة تتلبّسني وأنا أسير إلى جوارها كالملاك الحارس أو بالغٍ يُعتمد عليه؛ الأمر الذي فاقم لدي شعوري الرجولي واعتدادي بنفسي. وتظل هذه الروح تتبلسني حتى يزجرني راشدٌ ما ضمن من يزجرهم من الأطفال، ويفقأ عين أناي المتضخمة فأعود لحجمي الطبيعي.

    بعد أكثر من مشوارين إلزاميين مع طماية عرفت أن التقاءها بقرناص -الشاب الأكثر وسامة في القرية بحسب الإحصائيات الرسمية لفتيات القرية- لم تكن مصادفة على الإطلاق. كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها كلمات المغازلة غير الوقحة، وأتعرف على مذاق الرومانسيات الكلاسيكية. قرناص الذي كان أحد القلائل الذين التحقوا بثانوية عبري، وأحد المتعلمين القلائل في أرض الميّت الذين جعلوني أحب المدرسة والتعليم والمتعلمين؛ إذ لم تكن للتعليم سمعة جيّدة في تلك الآونة. ارتبط التعليم بالوظيفة، وفي قرية نائية في شمال السودان لم يكن النوبيون بحاجة إلى التعليم لاشتغالهم بالزراعة من ناحية، ولأن طلب الوظيفة يعني الانتقال إلى الخرطوم؛ حيث الجامعات والدوائر الحكومية من ناحية أخرى.

    كان أهل القرية ما يزالون يتذكرون جيّداً مقولات الشيخ عبد الصبور دهب: عن التعليم وعن الخرطوم، ولم تكن ذكرى عبد الشافي خليل وهرطقاته التي نطق بها، وما حدث له قد تعفنت في الأذهان بعد! وككل شيء آخر: غريب وبعيد؛ لم أكن قادراً على تحديد ما أشعر به تجاه الخرطوم. كانت الخرطوم تعني الحلم بالنسبة إلى الجميع، ولكن لا يُمكنني الآن تحديد ما إذا كان حلماً جميلاً أم كابوساً نخشاه جميعاً. وعلى طريقة القطيع كنّا نخاف مما يخاف منه الجميع، ونحب ما يحبه الجميع. وكما تتعلم الخرانق(1) من أمهاتها؛ كذلك تعلّمنا من الكبار أن الخرطوم تسكنها الأرواح الشريرة. الخرطوم جنة ملعونة، مدينة تأكل الغرباء وتصنع من عظامهم أشرطة السكة الحديدية، ومن جماجمهم قباب قبور المشايخ والأئمة. لم نكن نصدّق أنّ نهر النيل ذاته يمّر بالخرطوم، كان ثمّة اعتقاد راسخ أن نيلنا ونيل الخرطوم ليسا نيلاً واحداً أبداً، بل وأكثر من ذلك فإننا كنّا نعتبر أن أرض النوبة والخرطوم لا يضمهما قطر واحد. كنا نعد الراحلين إلى الخرطوم (ولم يكونوا كثر في تلك الآونة) مغتربين أو مهاجرين.

    في طريقنا إلى الطاحونة، كانت الرياح -على مهل- تكنس فضلات الغيوم المتناثرة على بهو السماء الحبلى بالزرقة المجنونة. بعضها ترفض أن ترحل قبل أن تُشكّل لوحة سريالية غرائبية على قماشة السماء المشدودة بإتقان، والأرض تمتد صفراء مشوبة ببعض النباتات الشوكية وشجيرات العُشر الشيطانية الملعونة. كانت طماية وقرناص يتبادلان الأماني والمغازلات اللطيفة، ويتكلمان عن مفارقات القرية وبعض حكاياتها الطريفة، وفيما كانت طماية تبحر في نوستالجيا من النوع المنتشر كالوباء المشئوم وتذكر أيام الطفولة الجميلة، كان قرناص يقول: "لم يتغيّر العالم؛ نحن فقط لم نعد أطفالاً. هذا ما يُغيّر نظرتنا للعالم الآن!" وقفت طماية وأشارت بيدها إلى المقابر الممتدة في هدوء مخيف وهي تقول مخاطبةً قرناص:

    - انظر إلى تلك الأرض ستعرف منها الحقيقة. فوقها يتقاتل الأثرياء والفقراء، والشيوخ والصعاليك، والمتعلمون والجهلاء. وتحتها ينامون في سلام!
    - الأرض؟
    - أهالي القرية البسطاء يحسدون العمدة على ما يملكه فهو يملك الحمير والنخيل والنساء. يحسدونه على السرايا التي من الطوب الأحمر بينما هم يسكنون في البيوت الجالوصية. وبينما تتشاجر الأسرة على فانوس الزيت اليتيم يمتلك العمدة سبعة عشر فانوساً زيتياً. في بيتنا نملك فانوساً واحداً يتشاركه الجميع: أمي في مطبخها، وأبي عندما يدخل إلى الخلاء، ونحن عندما ننظف أوراق الملوخية. وعندما يستخدمها أحدنا فإن الآخرين يؤجلون مشاريع الأخرى ينتهي.
    - انظري جيداً، حتى القبور ليست سواء: قبر عبد الصبور دهب وجلال التمتام عليهما قبة، وقبر حسن فنتي محاط بالحجارة الملساء وشاهده من الحجر الجيري، وبقية القبور الأخرى ترقد بلا شواهد وتمسح أثرها الفيضانات والسيول. لا سلام حتى في الموت. لقد خلق الناس ليختار كل واحد منهم ميتته وشكل قبره!

    ورغم أن ما كان يقوله قرناص لم يكن مفهوماً بالنسبة إليّ؛ إلا أن حكمته البالغة كانت تأسرني، وتزيد من قناعتي بأن العلم يضيء كهوف الجماجم المظلمة، ويطرد منها خفافيش الخرافة والسطحية. كنت أقول في نفسي: "عندما أكبر لابد أن أكون مثل قرناص." وصنّفت ذلك ضمن الأحلام التي لا يُمكن أن تتحقق أبداً. ثمة سبب إضافي كان يجعلني متمسكاً بهذا الحلم المستبعد: فالعلم -إضافة إلى مقدرته على منح الحكمة وإضاءة البصيرة- فهو يجعل فتاة رائع الجمال كطماية نوره تقع في عشقك.

    بطريقة لم تكن تخلو من تعال البالغين وجّه قرناص سؤاله المفاجئ إليّ:

    - وأنت ماذا تتمنى؟

    كانت هي المرة الأولى التي يسألني فيها أحد عمّا أتمناه، والمرة الأولى التي أخبر فيها شخصاً ما بذلك. ورغم أن سؤاله أعاد إليّ ذلك الشعور الدفين بالعظمة إلا أنني صمت. خُيّل إليّ أن قرناص مارد مصباح سحري جاء ليُحقق لي ما أريده وما أتمناه. فكّرت كثيراً قبل أن أجيب؛ ولكن أمنياتي كلها التي ظللتُ أرعاها وحدي طويلاً فرّت كما تفر جنيات الأحلام مع بزوغ الفجر. لا أدري لماذا خمّنتُ أنه لا ينبغي لي أن أتمنى غير أمنية واحدة فقط؟ الحقيقة أنني لم أجد أمانيّ تستحق الإذاعة. كنتُ أود أن أفصح عن أكثر أمنياتي حداثة؛ ولكنني خشيتُ أن يسخر مني قرناص وطماية؛ فيكون ذلك سبباً في إخماد جذوة العظمة التي اتقدت فيني فجأة. قلت في نفسي: "أصعب شيء على الإطلاق هو أن تُحدد ما تريده!" وبعد تفكير عميق قلت:

    - أتمنى أن أكون عمدة القرية.



    _________
    (1) الخرانق (ج) مفردها خرنق وهو صغير الأرنب


  13. #13
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    أكتفي بهذا القدر من السرد لأسباب تسويقية


  14. #14
    روائي وناقد الصورة الرمزية هشام آدم
    تاريخ التسجيل
    08/09/2007
    العمر
    49
    المشاركات
    78
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الرواية قيد الطبع

    زر مدونتي ( الغابة والصحراء )

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •