ياسر حمود..
ياسر حمود.. في الآرت هاوس
رؤيا الدائرة من نافذة المربع
مقدمات
-1-
نحو اكتمال الصورة الرؤيا كحدث انفعال! فعال، مجرد، متحرك في اتجاهات الذات..! صاخب وشفيف. ملون ونافر.. مموسق، جامح قاطع كلمحة بصر! أو ضربة سيف.. تكثيف حتى نهاية التوقع.. كعالم في نقطة؟! أو نقطة تحتوي عوالم! كعاصفة تندلع في العين وما تلبث أن تدور في الدواخل قشعريرة تلهب خلايا الروح.. دهشة كتلك الشهقة لحظة انبثاق الوعي في عوالمه وما يلبث أن يعود محتضناً رؤى من أفلاك بعيدة فتشعر أنك لا تقف على حافة اللون وحسب، بل ويطير بك خارج حدود اللوحة ممسكاً تكون بالكاد بإطارها فلا تقع من سرعة الدوران..!
-2-
حسناً فعل حمود أنه عرض في هذا المكان الذي تدخله من بوابة كبيرة من خشب الصنوبر فتهبط درجاً حجرياً نزولاً إلى الأعلى! لأنك أمام عرض من هذا النوع تصبح اتجاهات الأشياء نسبية!! فخط أفق الأرض ليس بالضرورة خط في أفق اللوحة فيفصل السماء عن الأرض!.. عند حمود يكون في مكانٍ ما من السماء؟! أو يكون خطاً أحمر ممزوجاً بصفرة الشمس! بمقدمة اللوحة التي تنفتح عوالمها على عتمة الوعي أو بتولة المعرفة المكتشَف للتو وهجها!؟.. بعد أن دخلت هذا الحرم اللوني أصابني ما يشبه القشعريرة ليس على سطوحي الجسدية بل وأعمق من ذلك بكثير! قلت عالياً هذا جنون.. أكثر من القدرة الطبيعية على الانفعال وإيصاله.. سمعني ياسر رحّب بها كلمة. لكني ما زلت بعد أيام أحاول إعادة توازني بعد دخولي مشهد العاصفة الذي قذفني بعيداً.. لا أعرف من أين أبدأ؟!.. كيف تؤم طيور الخطوط المنشبة وهي تبحر إلى البعيد؟! كيف أكتب وأنا بعد أتلمس مفردات وعي ينضح بها جسد اللوحة ؟! كيف أصلي هذه الرقصة وقدماي لا تحتملاني بعد؟!
في الوقت الذي يمشي اللون على الماء..!! ربما هنا أنت لست بحاجة إلى الصلاة أكثر من القدرة على استقبال هذا الوعي الذي يقودك فيما بعد إليه؟! ليس مهماً أن تعرف كيف تفرق الظلمة عن النور هنا؟! إذا عرفت أنك تكمن بينهما؟! وما بينهما هو الدفق من محاولات التموسق في شكل اللحن الأول؟ ففي البدء من قال إنه كانت الكلمة؟ ألم يكن اللون؟! في البدء الفعلي، ألم يكن الرقم؟! ألم تكن الموسيقا؟! إذاً لماذا للون، للموسيقا، للكلمة ترسيبات رقيمة؟! هل كانت النقطة؟! وهل هي حرف أم رقم؟! هذا هو ياسر حمود ريشة تزيح باللون اللون إلى ما وراءه؟ يزيح ستائر الضوء لولوج عتمة أكثر عتمة؟! وما ينفذ إلى قلب العين، ضوء لا يأخذك بعيداً؟! وإن كان يفعل! بل قريباً إلى داخلك البعيد؟!
-3-
ترتفع كثيراً إيقاعات التجريد هنا إلى ما وراء التجريد، حيث للخط في مستوى ما من السماء لا يشكل حركة معزوفة خارج سطرها الموسيقي بل لتضيف سطراً آخر؟! وهي أي مفردات التشكيلات المجردة من مربعات، خطوط أفقية أو عامودية، أو منكسرة، محلزنة أو نتف من ضربات على فضاء اللوحة لم تعد مجرد تجريدات شكلية وإن كانت في إطارها البصري أو الانفعالي الفني تفضي إلى ذائقة راقية يقال فيها صوفياً إنها أول درجات الشهود بالجمال! فهل يكون ياسر متجرداً دائراً في فضاءات الوعي منفعلاً باحثاً عن أسباب تجريده؟! أم أنه متجاوزاً الأسباب والمظاهر مميطاً بها عن ذات القلب كونية الصور وصولاً إلى تجريدها؟!!
وهو -أي ياسر- من أي مستوى انفعالي يقدم مجرداته شكلية بصرية كانت أم بصيرية أو كلتاهما معاً فهو يقدم طاقة كافية لقدح شرارة الانفلات بعوالم من الخصوصية لدرجة يشعر أي كان أن ياسراً يرسم له، منه، أو فيه؟!
-4-
لم أتحدث مع الفنان حول أعماله، فكلانا يرى أن هذا مهمة اللوحة وحدها. والناقد لاحقاً.. ولذا تحدثنا لوقت قصير عن فضاءات الدائرة والمربع والذي كنت أعرف أنه لكل منهما خصوصيته لكن أن يكون المربع دائرة؟! هذا لم أستوعبه!.. إذا تحرك حول ذاته سرعة كافية سيغدو دائرة!! عندها عرفت أن ياسر بحركة انفعالاته على سطوح لوحاته (اللوحة الواحدة) يتسارع كفاية موسيقياً ليصبح دائرة لونية تذوب فيها الألوان ليغدو أبيض مرتحلاً برداء (برتقالي اللون) بفضاءات الأزرق حتى عمق الفيروزيات والأخضر. ياسر ليس ثباتاً فنياً غذ يصل إلى آخر مطاف ارتقاء الصورة هنا في البعد المادي للتجريدات الحسية وغير الحسية، وإلى بدايتها في بعد إزاحة الصور الملتبسة عن المعنى المجرد..! إنه فن موسيقا التجريدات المتحركة.. المتحركة حتى حدود يُظن أنه الثبات..
-5-
من ذاكرة الشكل الأول يأتي ياسر أو إلى تلك الذاكرة يجنح ممتزجاً باللون بكل جموح الرغبة والانفعال المتوهج لأقصى حدود التوتر وهو من ذاك الاشتعال النرفاني. الاكتشاف الطيفي.. يُصاغ مشهداً بصيرياً رؤيوياً يقال فيما بعد إنه التصوف؟! إلا أن كل هذا الصراع المفتوح على بهجة عناق الضوء تحت أشعة اللون وجنون السمع لا يفضي بالضرورة إلى هذا الاستنتاج؟ فقراءة أولية لخطوط ياسر بمعرضه الأخير تثبت أن هذه الحركية لا تزال متدفقة في اتجاهات عديدة ولا توحي بسكينة الثبات التأملي التي يتصف بها المتصوفة دون الولوج في الطرق المختلفة لكن التصوف وإن صح التعبير يقع على طرفي مفهوم من الصوفية الاستلابية الرطبة وهي في مرتبة أدنى إلى الصوفية السكينية المنسجمة مع إشراقات الدائرة الأولى.. ويقال كل شيء عن ياسر إلا السكينة الآن!! فهو يتحرك على فضاء المربع وممسكاً بخلاصات أكاسير حسيات المجردات المصورة (اللون)!!
-6-
لدى ياسر تلك النزعة لتحقيق الاكتمال.. فهو يرسم محاولاً الوصول إلى كمال جزئيات حسية أو انفعالية في إطار الكليات.. من المرأة ذاك الجمال المغموس بنقاء التراب وهو تصور معنوي ينحو إلى الاكتمال لكنه في الجانب المادي منه كرسم يحقق فيه بشكل موازٍ ذات الأمر! إلا أنه يحقق الشيء ذاته أيضاً برسم الموسيقا كمشهد حسي سمعي مصور، وهو يوغل كثيراً بتقديم نفسه كصورة تنزع إلى التكامل والانسجام عندما ينزع سيف الساموراي من غمده. ذاك السيف الذي يلخص أروع قيم النبل والتضحية والشجاعة فيقتل به الخوف من الموت يقتل من خلاله كلون وريشة الموت ليحيا باللون والفن! وهو كما في السيف هو أيضاً في الحب. ساموراي حتى أقصى حدود الحب ذاك المادي كعلاقة مع الجسد أو معنوي متجاوزاً بهذه العلاقة ومعها مجرد حدوها..
وفي سعيه لتحقيق هذه التكاملات من بوابة المربع يدور زواياه ليغدو أكثر اقتراباً من دائرة الاكتمال..!
-7-
.. لدخول عوالم اللوحة عند الفنان.. فعلياً نحن بحاجة إلى وجهات عديدة ليتسنى لنا القراءة.. فحمود على المستوى الشخصي من زاوية تحليلية من النوع الوجداني الفكري واقعياً أو شعورياً وهو بذلك يكون من النوع الحدسي الحسي على مستوى اللاشعور. أي أن حمود في هذه القطبية التي تشكل مناخاً إبداعياً خاصاً لا يحمل فيها تلك الضدية الطبيعية التي يحملها على صعيد قطبيه المؤنث والمذكر (الانيما والانيموس) واللذين بدورهما لا يحملان هذا التعارض، بل ذاك التداخل والتمازج لصالح الإبداع أو لنقل عند حالة الخلق الفني.. ومن هنا أيضاً يشكل ياسر تلك الحالة الشفيفة التي تسمح له بالقيام برحلته الليلية للروح (Nekyia) في فضاء اللاشعور الجمعي مستقدماً من تلك الخافية مفردات انفعالاته وتجريداته الحسية والتي يمكن بشكل أو بآخر تسميتها رؤيا! والرؤيا هنا ليست مجرد انفعال عارض بل فعل يلزمه الكثير من التطرف في الخصوصية المعرفية والنفسية لبلوغ درجة الانفعال فيه وهو ما يظهر بأعمال ياسر المتصاعدة في خطها البياني بإشاراتها الحسية اللونية الرمزية وحركتها الموسيقية الروحية! وأنا هنا لا أتحدث عن تفصيلات بل عن عموم الحالة البايوجومترية (biogeometry) التي يقدمها ياسر والتي تعني هنا وبدقة أكبر طاقة الشكل واللون الحركة والموسيقا عبر تردداتها الموجبة الصغرى المتوازنة من خلال مجموعة الأشكال والخطوط في كل اللوحة ما ينتج هذا الرضى والإحساس بالجمال في البنية العقلية ويرفع من درجة الوعي..! فاللوحة هنا تتجاوز بكثير إطارها المادي إلى فضاء.
التجريد الأرقى، وتقدم خبرة بصرية تفتح للذائقة آفاقاً للحلم. إلا أن الأهم هنا تلك الطاقة التي تعكسها هذه اللوحة ومدى أثرها وهنا نتحدث عن علم حقيقي ما زال الكشف عن خفاياه قائماً.. وكذلك الكشف عن تجريدات ياسر حمود.
جريدة البناء [399]، الاثنين 23 حزيران 2008
عمار حسن ammar7h@yahoo.com
رد مع اقتباس
المفضلات