مما لا شك فيه بان الولايات المتحدة الاميركية قد استطاعت بشكل او بآخر , ان تتسيد الجزء ‏الأكبر من سنوات القرن العشرون , فكانت فيها كل شي وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى , ‏وخصوصا تلك السنوات التي تلت سقوط العملاق الشيوعي الأحمر – او - الاتحاد السوفيتي , ‏والتي كانت من خلالها مركز العالم ومحوره المتفرد الذي تدور حوله معظم الأجرام الدولية , ‏فالنظام الدولي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا ليس مبنيا على توازن القوى العالمية , بل انه ‏يدور في فلك الهيمنة الاميريكية , ( فما من بلد بمفرده عبر التاريخ امتلك قوة أعظم مما تملكه ‏الولايات المتحدة الاميركية حاليا , وقلة من البلدان او الإمبراطوريات حظيت بميزات على البلدان ‏المعاصرة لها , كالتي تتمتع بها الولايات المتحدة الآن ) 0‏
‏ ولكن الى متى سيستمر هذا التفرد وتلك الهيمنة والقوة المطلقة ؟ والى أي مدى ستستطيع ‏الامبراطورية الاميركية ان تحافظ على قوتها المركزية الجاذبة ؟ تلك هي الأسئلة التي طالما ‏أقلقت أميركا ولا زالت حتى يومنا هذا , حيث تمسك عدد من الباحثين والمراقبين والمؤرخين ‏الدوليين بفكرة ان ذلك التفوق التاريخي للقطب الاميركي , لم يكن سوى غفوة عالمية طال أمدها ‏نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي , وان لحظة القطب الاميركي الواحد ستكون قصيرة , وان عالم ‏القوة العظمى الوحيدة لن يستمر - انظر مقالنا – التحولات القادمة في بنية النظام الجيوسياسي ‏العالمي , بينما أكد آخرون بان القوة الاميركية من الضخامة والتجذر في الأعماق , بحيث ستظل ‏لعشرات السنين المقبلة من القرن الحادي والعشرون كما هي , - وبمعنى آخر – بان ‏الامبراطورية الاميركية ليست كما يقال عنها ببساطة , بأنها قوة مؤقتة وقد برزت بسبب ظروف ‏تاريخية استثنائية , بل الواقع والمعطيات يؤكدان على أنها ستمتد طويلا خلال السنوات القادمة ‏وبنفس القوة الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكة التي عهدها العالم منها خلال القرن العشرون 0‏
‏ وبين امتداد القوة المطلقة والمتفردة للقطب الاميركي كما يؤكد البعض , ولحظات الانهيار ‏والتلاشي التاريخي الى الأبد , كما يشير البعض الآخر , نرى – شخصيا – بان الولايات المتحدة ‏الاميركية ستتمكن من الاستمرار على المدى القصير بنفس القوة والمكانة الجيوسياسية العالمية , ‏مع مراعاة ان تلك الهيمنة ستكون خلال هذه الفترة مشوبة بالمنغصات والمطبات على مختلف ‏المستويات والجوانب الدولية وخصوصا الاقتصادي منها , فعلى سبيل المثال لا الحصر ستتراجع ‏الثقة بالاقتصاد الاميركي شيئا فشيء , وذلك نتيجة للمشاكل والتحولات الاقتصادية والتجارية ‏السلبية التي يمر بها الاقتصاد العالمي عموما والأميركي على وجه الخصوص , كما ان مكانتها ‏الجيوسياسية ستتراجع مع مرور الوقت في ظل بروز عدد من التحديات التاريخية والعالمية التي ‏بدأت بالظهور سريعا , فمن جهة لا شيء يدوم في الى الأبد في عالم السياسة الدولية , ‏وخصوصا فكرة القوة الخارقة , والتي لا نعرف كيف ستتعامل معها الحكومات الاميركية المتتالية ‏؟, والتي ستتعايش بشكل قريب بداية أفول تلك العظمة التي استمرت لأكثر من قرن , وهل ستجد ‏بين أطنان السيناريوهات المعدة مسبقا طريقة محكمة لاسترجاع تلك المكانة الجيواستراتيجية التي ‏بدأت بالتهالك والتآكل 0‏
‏ وهنا نود ان نؤكد على حقيقة أثبتها التاريخ ولا زال , وهي صعوبة التنبؤ بصعود الأمم ‏وسقوطها , لذا فان الذي يدفعنا لتبني الاعتقاد القائل بان الولايات المتحدة الاميركية تعايش اليوم ‏فترة الحمل الكاذب لهيمنتها الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية هي تلك المعطيات الواقعية التي ‏نشاهدها أمامنا , ولكن – وللأمانة – فقد مرت هذه الامبراطورية بمثل هذه المراحل من التهالك ‏والتراجع الحضاري كثيرا , ولكنها نجحت في تخطيها والقفز فوقها بكل جدارة وتفوق , ( ففي ‏فبراير من العام 1941م أعلن الناشر البارز هنري لوس بشجاعة وجرأة عما اسماه القرن ‏الاميركي , - ومع ذلك كما يقول عميد معهد كندي لأنظمة الحكم في جامعة هارفرد ومساعد ‏وزير الدفاع في إدارة كلينتون جوزيف 0س0 ناي , - فقد اعتقد كثير من المحللين عند حلول ‏ثمانينات القرن العشرين ان رؤية لوس قد أنهت شوطها , وسقطت ضحية عوامل مثل فيتنام ‏والاقتصاد الآخذ في التباطؤ والتمدد الاستعماري الزائد عن اللازم ) , ولكن أثبتت الولايات ‏المتحدة الاميركية قدرتها على تخطي ذلك بإتقان وتفوق , فعكست ذلك التصور بشكل كبير , بل ‏وعلى العكس من ذلك فقد كانت سنوات الثمانينات والتسعينات من السنوات الذهبية التي عاشتها ‏الامبراطورية الاميركية 0 ‏
‏ أما من جهة أخرى فهناك قوى جديدة وأخرى متربصة قد بدأت تقض مضجع العملاق ‏الاميركي وسيادته , كالتنين الصيني والدب الروسي واليابان والهند , وهي قوى لن تقبل مطلقا ان ‏تنحشر في الزاوية الحضارية او تبقى كرسوم كرتونية لا أكثر , وخصوصا في حال ظلت ‏الولايات المتحدة الاميركية على طبيعتها التي اعتادتها تلك الدول خلال الفترة الماضية تجاهها , ‏‏- ونقصد – حالة التهميش والتقزيم والتجاهل السياسي الذي تعاملت به هذه الأخيرة معها طويلا , ‏وهو ما لن تستسيغه تلك القوى خلال الفترة المقبلة , وبحسب تعبير الخبير والعالم السياسي كينيث ‏والتز , فان ( الأصدقاء والأعداء على حد سواء سوف يتصرفون كما تصرفت البلدان دائما إزاء ‏تعرضها لتفوق احدها او التهديد بتفوقه : أي أنهم سيعملون معا على تصحيح الميزان , والحالة ‏الراهنة للسياسة الدولية غير طبيعية ) , لذا فإننا لا نتصور بان تلك القوى سالفة الذكر ستركب ‏الموجة الاميركية كما فعلت ذلك خلال القرن الماضي , فأميركا القرن الحادي والعشرون ليست ‏هي أميركا القرنين التاسع عشر او القرن العشرون 0 ‏
‏ وهنا نشير الى نقطة هامة , وهي ان الولايات المتحدة الاميركية ربما توقعت بروز التنين ‏الصيني والعملاق الياباني خلال هذه المرحلة , كما أكد ذلك عدد من خبراء التاريخ والسياسة ‏الخارجية الاميركية , كزبغينيو بريجنسكي وهنري كيسينجر وفرانسيس فوكوياما على سبيل ‏المثال , فلقد دأب جميع المعلقين والمراقبين الدوليين تقريبا وعلى مدى سنوات , على اعتبار ان ‏الصين ستكون اقوي احتمال مشكوك به في السعي الى مكانة الند المنافس للولايات المتحدة ‏الاميركية في المستقبل , ( وأظهرت اغلب استطلاعات الرأي ان نصف الجمهور الاميركي ‏يعتقد ان الصين ستمثل اكبر تحد لمكانة أميركا كقوة عالمية في السنوات المائة المقبلة بالمقارنة ‏مع 8% لليابان , و6% لروسيا وأوربا ) , ولكن ما لم تتصور حدوثه الولايات المتحدة الاميركية ‏هو عودة روسيا من جديد مع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرون الى الواجهة , ‏وبروزها بشكل مقلق جدا , وخصوصا في ظل وجود رجل قومي وطني متعاطف مع الفترة ‏السوفيتية كفلاديمير بوتين , يحاول جاهدا بناء روسيا من جديد , وإعادتها قدر المستطاع الى ‏سالف عهدها , وتحديدا في هذا الوقت الذي تعاني فيه أميركا من روماتزم المفاصل الذي يمنعها ‏في كثير من الأحيان من الوقوف في وجه بعض المتنمرين الجدد على سيادتها وهيمنتها , انظر ‏مقالنا – رسائل روسية ولكن ليست من ورق 0‏
‏ المهم في الأمر بان الولايات المتحدة الاميركية وبالرغم من كونها حتى اللحظة الراهنة القوة ‏الامبراطورية الوحيدة في العالم , وإنها الدولة الوحيدة التي لا زالت تملك رقعة الشطرنج ‏الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية بشكل شبه مطلق , وإنها ستظل كذلك الى فترة قصيرة مقبلة , إلا ‏ان الحقائق اليوم تشير الى ان هذه الأخيرة تشعر بغربة مكانية كبيرة , في ظلال قرن لم تتوقع ان ‏ينقلب عليها بهذا الشكل الدرامي المحزن , لذا فإنها تعيش خلال هذه الفترة على أمل الحيلولة دون ‏فقدان ذاتها وكيانها الذي لم تعد متأكدة من بقائه كما كان خلال الفترة السابقة من القرن العشرون ‏‏, فالشعور بالقلق والخوف على تلك الهيمنة والمكانة العالمية قد بدا يأكل الروح الاميركية من ‏الداخل , كما راح يزيد من أخطائها الخارجية ويبعدها عن أصدقائها وحلفائها الاستراتيجيين, وقد ‏كانت هذه المشاعر النفسية وكثرة الأخطاء دائما تسبق مراحل التراجع والترهل الحضاري لكل ‏الأمم والحضارات السابقة , وهو ما يدفعنا للاعتقاد بان فترة القطب الاميركي ستتلاشى تدريجيا ‏خلال العقدين القادمين على ابعد تقدير 0 ‏
‏ وان السنوات المقبلة ستدفع بعدد كبير من الدول الناقمة على الهيمنة الاميركية وتلك ‏المتربصة بها وأخرى متنمرة عليها الى البحث هي الأخرى عن ذاتها , وعن مكان لها في قطار ‏هذا القرن الذي لن يقف سوى في محطة واحدة فقط , ستكون هي الوحيدة التي ستفصل بين من ‏سيستمر ومن سيتقوقع ويتراجع حضاريا , ولو كان ذلك بخلق تحالفات فضفاضة وليس تكتلات ‏محكمة , وكما بينا في أطروحات سابقة بان المتوقع ان يكون هذا القرن هو قرن استثنائي , تعمه ‏الفوضى وتنتشر فيه الخصومات والنزاعات الدولية في كل شي , بحيث ستنتشر فيه أعداد كبيرة ‏من الأنماط الدولية الفاعلة , والأطياف الواسعة من التحالفات المقنعة , ( حيث تبين النظرة الى ‏السياسة العالمية المعاصرة ان النظام العالمي الراهن , والدائب على التطور , نظام هجين , يجمع ‏بين نظامي الأحادية القطبية الفضفاضة وحكم الكثرة ) – او - البولياركي 0‏
‏ ‏
‏ ‏
‏ ‏
‏ ‏