في خطوة رائدة سبقتها خطوات رائدة عديدة في ميادين الثقافة المختلفة أهمها-في ميدان اللغة-تحديث المعجم العربي وفقا لأسس علمية مدروسة ،مما يعد من أهم إنجازات العقل اللغوي العربي في آواخر القرن الماضي ،أطلقت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية مؤخرا خطتها القومية للترجمة على مستوى العالم العربي .وهي مبادرة ،برغم جرأتها في وقت كادت تنعدم فيه المبادرات الجريئة تنطلق من أهداف موغلة في التطلع والمثالية بشكل قد ينأى بها عن الواقع الفعلي الراهن للثقافة العربية من جهة والوضع المترهل لمؤسسات الثقافة والتعليم في الأقطار العربية من جهة أخرى بحيث يمكن ألا تسفر جهود تحقيق الأهداف عن شئ يذكر إذا لم يتم ربطها بشكل متواز بآليات أخرى لاتكرس لهذا الوضع وتعمل على تغييره .وفيما يلي عرض نقدي لماورد بالخطة وفق محاور ثلاثة تبنتها الخطة :المنطلقات والأهداف ،آليات التنفيذ،خطة إنشاء المعهد القومي العالي للترجمة

أولا :المنطلقات والأهداف

1-:تقوم هذه الخطة على مقارنة مثالية بين الوضع الراهن للثقافة العربية والإسلامية والوضع الذي كانت عليه إبان قيام حركة الترجمة الكبرى على يد العلماء العرب والمسلمين عن اليونانية في العصور الوسطى في حين أن ذلك قد تم في وقت لم تكن السيادة المعرفية فيه للغرب كما هي الآن من جهة ،ومن جهة أخرى كانت الحضارة العربية والإسلامية حضارة منتجة تقوم على الإبداع والتفكير النقدي وليس مجرد التلقي السلبي للعلوم الأوربية.أما الآن فمع تراجع القريحة الإبداعية للعرب والمسلمين عن الغرب الأوروبي وفي ظل الهيمنة الغربية والأمريكية –ثقافيا وسياسيا واقتصاديا-على مقدرات الشعوب العربية ،يصبح الحديث عن التعريب المطلق للعلوم وإحلال الكتاب المترجم محل الكتاب الأجنبي –دون ربط ذلك بخطة موازية للتقدم الإبداعي والمعرفي-حديثا لايخلو من تناقض مع الذات في وقت نسعى فيه جميعا إلى الارتماء التام في أحضان الآخر ثقافيا وإعلاميا والانبطاح أمامه سياسيا واقتصاديا .ولعل هذه الدعوة للتعريب متأثرة بظروف قطرية معينة لدول المغرب العربي-التي توجد المنظمة في إحداها- التي تعاني من ثنائية لغوية غير متوازنة تؤثر بشكل سلبي على وضع اللغة العربية والثقافة العربية والإسلامية وهو وضع لاتعاني منه باقي الدول العربية التي تشتكي –على العكس من ذلك تماما-من تقاصر أبنائها عن تعلم اللغات الأجنبية وتسعى في هذا الاتجاه سعيا دؤوبا –مما يجعلنا في النهاية بإزاء موقفين متناقضين تماما بين الأقطار العربية . وأتصو ر أن الحل الأوسط لهذه المعضلة هو التوازي وليس الإحلال ،بمعنى أن يتعايش الكتاب المترجم جنبا إلى جنب مع الكتاب الأجنبي يعاضد كلاهما الآخر ،بحيث يصبح الأول مصدرا للتلقي السليم للعلوم ويصبح الثاني وسيلة الإمداد بلغة الإبداع –الذي يجب أن يكون باللغة الأم-إذا كان مقدرا لمعين الإبداع العربي والإسلامي أن يتجدد.

2- :تركز الخطة على ضرورة قيام كل بلد عربي بتحديد احتياجاته من الكتاب المترجم –مفترضة وجود اختلافات جوهرية بين احتياجات الدول العربية من هذا الكتاب وهو افتراض ليس له ما يؤيده على أرض الواقع نظرا لعدم وجود تفاوت واضح بين الدول العربية في مستويات التعليم والثقافة ولأن كل هذه الدول تعاني من نفس المشكلات الهيكلية في المجالات المختلفة من اقتصاد وإدارة وتعليم وغير ذلك .إن المشكلة الحقيقية لاتتمثل في تحديد الاحتياجات بقدر ماتتمثل في ربط هذه الاحتياجات بالآليات الداخلية لكل بلد عربي وجماعات المصالح والنخب القائمة على تنفيذ هذه الآليات والتي قد تتعارض مصالحها ورؤاها مع الاحتياجات النظرية التي يحددها المتخصصون الذين تندبهم المنظمة لذلك .فعلى صعيد التعليم الجامعي مثلا ،يصبح الحديث عن الكتب المدرجة في خطة الترجمة كرافد أساسي للمناهج الدراسية في الجامعات دون التنسيق مع هيئات التدريس بهذه الجامعات حديثا غير مبني على أسس واقعية إذ من المعروف أن الأستاذ في الغالبية العظمى من الأنظمة الجامعية العربية هو المصدر الأساسي للكتاب الجامعي وهو الذي يحتكره تأليفا وترجمة وتسويقا .


ثانيا آليات التنفيذ :

1- في مجال الحديث عن المعاجم ثنائية اللغة كإحدى وسائل تنفيذ الخطة ،يكتفي تقرير الخطة بالإشادة الكمية بالمعاجم المتوافرة مع إغفال الإشارة إلى القصور الكيفي لهذه المعاجم سواء أكانت معاجم ثنائية عامة أو متخصصة ،حيث إن الأولى لاتقوم على أساس من التنظير اللغوي العلمي الدقيق بينما الآخيرة تعاني من انفصال عن التطور اليومي المذهل للمصطلحات في المؤسسات المهنية المختلفة كالبنوك والهيئات القانونية .
2- يخلط التقرير بين ثلاثة مفاهيم متباينة لحوسبة اللغة هي :المعاجم الإلكترونية ،ذاكرة اترجمة ،الترجمة الآلية ،إذ يدرجها جميعا تحت مفهوم "الترجمة الألية " .


ثالثا :- خطة مقررات المعهد العالي للترجمة : تعديلات مقترحة

يؤخذ على مخطط المقررات المقترح لماجستير الترجمة الكتابية الملاحظات التالية :
1) كثرة عدد المواد بشكل مبالغ فيه (حوالي 45 مادة على مدار السنتين) مع خلوها في ذات الوقت من المعارف اللسانية الأساسية التي يعاني المترجم العربي من قصور شديد فيها.
2) يتم تركيز السنة الثانية على الترجمة المهنية المتخصصة ،في المجالات المختلفة علما بأن المترجم لن يفيد من كل هذا الزخم الدراسي إذ أنه غالبا سوف يتخصص في مجال واحد أو عدد محدود من المجالات ولن ينال من كل هذه التخصصات الدقيقة (حوالي 30 تخصصا للترجمة ) إلا شذرا لن يسمن ولايغني من جوع .ولذا أقترح تخفيض هذا العدد إلى ستة تخصصات أساسية فقط .
3) بدلا من الأطروحة في السنة الثانية ،أقترح أن يقوم الطالب بترجمة كتاب في التخصص الذي يجده مناسبا له كشرط للحصول على الماجستير تماشيا مع الأهداف الواقعية للمعهد ،وإذا لم يكن بد من الأطروحة فليتم إنشاء قسمين بالمعهد للتخصص في السنة الثانية :قسم نظري يدور حول نظرية الترجمة ويكلف فيه الطالب بتقديم أطروحة علمية عن علم الترجمة ،وآخر عملي يكلف الملتحق به بترجمة كتاب ،كما سبقت الإشارة ،للحصول على درجة الماجستير ،ويكون لطلبة المعهد الحق في الانضمام إلى أي من هذين القسمين
4) في ضوء ماسبق أقترح خفض عدد المواد الدراسية على مدار السنتين من 45 مادة إلى 24 مادة وفقا للتعديلات التالية :
السنة الأولى :

الفصل الدراسي الأول الفصل الدراسي الثاني
1 –علم دلالة الألفاظ
2-علم المعاجم
3-المعاجم ثنائية اللغة
4-المعرفة اللغوية للمترجم (تقابلية-حقائقية-إجرائية)
5-المعرفة غير اللغوية للمترجم (رؤية العالم،الثقافة،الموقف الاتصالي)
6-مادة لغة عربية 1-ترجمة إنجليزي-عربي (عملي)
2-ترجمة عربي-إنجليزي (عملي)
3-تحليل خطاب عربي (عملي ونظري)
4- تحليل خطاب إنجليزي (عملي ونظري)
5-مادة مصطلحات
6-صرف تقابلي

السنة الثانية :

الفصل الدراسي الأول الفصل الدراسي الثاني
1-معاجم متخصصة
2-علم لغة النص
3-مقدمة للترجمة المتخصصة
4-لغة عربية
5-تقنيات الترجمة
6-نظرية الترجمة 1-ترجمة صحفية
2-ترجمة قانونية وتجارية
3-ترجمة علمية
4-ترجمة أدبية
5-تعريب Localization
6-subtitling
أو
التخصص في أحد هذه المجالات ،كأحد خيارات المعهد ،مع قيام المتخصصين بتحديد المواد الست في هذا الفصل على أساس كل تخصص

وبعد ،فإن الملاحظات التي أوردتها آنفا لاتقلل البتة من قيمة الطرح الحضاري لهذا الصرح الثقافي الشامخ والتي أرجو أن تصل إلى القائمين على هذا المشروع الضخم لعلهم يجدونها ذات فائدة .

شريف عكاشة
لغوي ومترجم/مؤسسة هندسة اللغة/مصر



sherifokasha@hotmail.com