magdyhussien@hotmail.com

دراسة الولايات المتحدة كمجتمع ونظام أحد محاور بحثى ودراساتى منذ عشرات السنين ، فقد رأيت ضرورة ذلك باعتبارها القوة التى تحكم العالم ولابد من فهمها وفهم آلياتها الداخلية ، وكذلك فى اطار دراسة سنن التقدم ، ولماذا صعد الغرب وتخلفنا فى الشرق ، ومن واقع هذه الدراسات أدرك أن الرئيس الأمريكى رغم أهمية موقعه ، فانه مربوط بالمؤسسة الحاكمة المركبة بأبعادها الأمنية – الصناعية – العسكرية للفئة الحاكمة التى يغلب عليها التكوين الأنجلو سكسونى الأبيض البروتستانتى . ومع ذلك فان فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية يمكن أن نصفه بزلزال فى أمريكا .. ولكن بأى معنى ؟
بمعنى أنه مؤشر على ادراك المؤسسة الحاكمة الأمريكية لضرورة احداث تغيير دراماتيكى فى أداء أمريكا داخليا وخارجيا ، ادراك بضرورة الاعتراف بهبوط الولايات المتحدة من عليائها ، والتعامل بواقعية مع قوتها المتراجعة .



وستكون النتيجة النهائية ، كارثة على أوباما كشخص ، ومكسبا واقعيا للمؤسسة الحاكمة الأمريكية .

المؤسسة الحاكمة الأمريكية هى التى صنعت أوباما ولمعته ودفعته للفوز حتى تغير من بعض سياساتها دون أن يأخذ ذلك شكل الهزيمة السافرة ، بل سيقال أن رئيسا جديدا وحزبا جديدا قد فازا ولهما سياسات مختلفة عن جورج بوش .

المؤسسة الحاكمة الأمريكية التى تسمى فى الوسط السياسى الأمريكى :

Establishment

وهى كما ذكرنا تركيبة معقدة من أجهزة الأمن المتعددة والمجمع الصناعى العسكرى المالى ومؤسسات البحث التابعة لهم ، الاتجاه الغالب فى هذه المؤسسة اختار أوباما بعناية وهى تعرف خصائصه تماما :

1- جذوره الاسلامية تريح العرب والمسلمين ، وأمريكا تريد أن تخفف من وتيرة الصراع مع العالم الاسلامى الذى كلفها الكثير . ( انصح المثقفين بقراءة كتاب الفوقية الامبريالية الأمريكية لمايكل شوير كادر المخابرات الأمريكية الذى يشرح فيه مسألة واحدة : لماذا يخسر الغرب الحرب ضد الارهاب وأنا أعتبره وثيقة شبه رسمية تعبر عن رؤية نافذة بالمخابرات الأمريكية المركزية سى أى ايه ). 2- جذوره الافريقية تريح السود الأمريكيين وكافة الأقليات وكل الفئات من غير الانجلو سكسون البيض البروتستانت ، وكل القارة الافريقية التى زاد وزنها فى الرؤية الأمريكية بسبب البترول المكتشف حديثا بها وبسبب ضياع باقى القارات من أمريكا !! خاصة آسيا وأمريكا اللاتينية ، كذلك فان نجاح أوباما سيكون أكبر دليل على صدق الديموقراطية الأمريكية وعدم عنصريتها .( كان القول بامكانية ترشيح أو نجاح رئيس أسود نكتة فى الولايات المتحدة منذ سنوات قليلة وربما شهور قليلة مضت !) 3- ابتسامته الوديعة وخطابه الرقيق يريح كل الخائفين من الولايات المتحدة الكارهين لها الذين عانوا من عبوس بوش ونائبه ديك تشينى . أمريكا تحتاج لحملة علاقات عامة لمواجهة موجة الكراهية العالمية وكذلك فقدان الثقة لدى الشعب الأمريكى بالسياسيين عموما . حتى لقد انخفض الحضور الأمريكى للانتخابات الى حد 40% أما فى هذه الانتخابات فقد وصلت المشاركة الى 66% وشخصية لطيفة كأوباما يمكن أن يكون مناسبا لدور العلاقات العامة . ووداعة أوباما هى أول ما سيخسره عند أول موقف كريه ستتخذه الولايات المتحدة فى عهده . 4- أوباما هو الوحيد الذى صوت فى كونجرس ولايته ضد حرب العراق وهو يطالب بانسحاب القوات الأمريكية من العراق خلال 18 شهرا ، وأمريكا تريد الانسحاب من العراق مع حفظ ماء الوجه كما قالت كونداليزا رايس ربما فى زلة لسان . 5- أوباما يطرح الحوار عموما فى السياسة الخارجية وحتى مع ايران وهذا مطلب طالما ألحت عليه المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية الأمريكية فى السنوات الأخيرة بعد التعثر الحاد فى أفغانستان والعراق ثم فى لبنان والصومال ثم فى غزة وباكستان وكوريا الشمالية وجورجيا وأمريكا اللاتينية . والطريف أن المؤسسة العسكرية الأمريكية هى التى أحبطت خطط ضرب ايران بتصريحات علنية رافضة واستقالات وأيضا بتسريبات محسوبة للاعلام الأمريكى . 6- أوباما أصبح ملحا أكثر بعد الكارثة المالية التى زلزلت النظام الأمريكى من القواعد والتى بدأت معالمها تظهر منذ بدايات عام 2008 ومعروف أن الحزب الديموقراطى يركز على مسألة الضمانات الاجتماعية والتأمين الصحى . 7- أوباما هاجم ممارسات بوش ضد الارهاب التى أضرت بالحريات المدنية ، وهاجم تجربة سجن جوانتنامو( لاحظ صدور أحكام قضائية ضد بوش أدانت سياسته فى هذا السجن ). 8- أوباما يمكن أن يحسن العلاقات الأمريكية المتدهورة مع العالم الخارجى .. أمريكا اللاتينية وأوروبا وروسيا والصين . المؤسسة الحاكمة الأمريكية ستستخدم أوباما على كل هذه المحاور وستنسحب بشكل محسوب من نقاط التورط العسكرى الخاسرة . وبالمصطلح العسكرى ستقصر خطوطها وتعيد تموضع قوتها وقواتها . ورغم اننى استخدم مصطلحا عسكريا وأعنيه لكنه لايقتصر على المجال العسكرى فتقصير الخطوط يحدث أيضا فى الأمور الاقتصادية والسياسية . ان أوباما هو لافتة أو بارافان لتمرير انكماش التمدد الأمريكى : السياسى والعسكرى والاقتصادى ، للعودة الى الحجم الطبيعى كقوة عظمى تعترف بحجمها الحقيقى دون مبالغة . والمقصود بالحجم ليس الآلة العسكرية وحدها كما برهنت التجارب المريرة لهم فى السنوات الخمس الماضية . أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فلن يقدم أوباما شيئا ، بل هو محاط بأكثر العناصر اليهودية صهيونية ومن حاملى الجنسية الاسرائيلية بل ان مستشاره الرئيسى قاتل فى صفوف الجيش الاسرائيلى ! وكان من مستشارى كلينتون . وكذلك هو يستعين بالفعل من الآن بالطاقم اليهودى الذى كان مصاحبا لكلينتون ، وهو حصل على 80% من أصوات اليهود ولايمكن لسياسى أن يصل الى هذا الموقع دون العبور على اللوبى الصهيونى . كذلك لن يقدم شيئا فى مسألة الديموقراطية فى عالمنا العربى والاسلامى لأنها تتعارض مع المصالح الأمريكية . ورغم كل ما سبق فان اضطرار الطبقة الحاكمة الأمريكية الى الاستعانة بهذا الشاب ( 47 عاما) اللطيف الوديع دمث الخلق ، الذى أفنى شبابه فى خدمة فقراء أمريكا السود ، وهو من بيئة فقيرة و من جذور اسلامية بلا شك فأبوه مسلم اسمه حسين وعمه اسمه سعيد ، وأوباما نفسه تعلم فى مدرسة اسلامية بأندونيسيا حتى سن 10 سنوات وزوج أمه الذى رباه كان مسلما . اضطرار الطبقة الحاكمة الجبارة على الاستعانة بشخص له هذه المواصفات لتعويم أمريكا الامبريالية قاسية القلب التى لاتعرف المبادىء ، هو فى حد ذاته أكبر دليل على عمق أزمة النظام الأمريكى . وهذا ما نعنيه بالزلزال !

*****
مقالات أخرى لمجدى حسين:
http://www.el3amal.net/news/page.php?t=2&i=17