هلع إيناع الحلم وبُعْد المسافة لنورسين توحدا على ضفاف قرطاج
***مدخل
يقول محمد مندور: "على ضوء هذا الفهم لكلمة النقد نستطيع أن ندرك المقصود من تعريف الأدب بأنه نقد الحياة "
فانظلاقا من هذه القولة يتضح أن الأدب عامة، والشعر خاصة، هو تجربة بشرية نقدية للحياة، بمجالاتها الواسعة والمتعددة ،بما فيها الحياة الإنسانية، بكل أبوابها الاجتماعية والسياسية والثقافية ،الظاهر منها أو الباطن ،أو مابعد الحياة من مصير، والقوى الإلهية وطوارئ الزمان والمكان ،وما يجري من تفاعلات الكائنات الوجودية، من تآلف وصراع ..ومهمة الأديب ليس الوصف وتعداد عناصر الحياة كما تراها العين المجردة ،وإنما الكشف عن العلاقات الحاصلة بينها ،بعين تأملية تحليلية ثاقبة ،ثم إعادة ترتيبها على ضوء رؤياه وتصوره الذهني ،انطلاقا من منظوره الخاص ،وطقوسه الفردانية ،وأفقه المعرفي ،والمؤثرات الثقافية سواء التروستية المتوارثة عن الماضي والأجداد ،أو الكارتيلية المكتسبة من الحياة وتجارب العصر ،فمن خلال هذه القولة ،لي مبادرة اقتحام ديوان "دم ميديا سقف قرطاج لنورسين توحدا على استبصار الحياة، وهما الشاعران المتميزان التونسية :ضحى بوترعة ووالعراقي جوتيار تمر..
***العتبة الخارجية
*الغلاف
يجاورالغلاف بين لونين: الرمادي والأحمر الداكنين والفاتحين ،وهي صورة انعكاسية لقرارات النفس ،وما تتملاها من عتمة تتخللها انفراجات أحيانا ،وإيقاعات تعيشها الذات الشاعرة ، انطلاقا من صراعها المرير مع الواقع ، الذي أصبح السبب في تذويب جوهر الإنسان، بسلب سلطته على الطبيعة وتحويله إلى مجرد آلة في يد الاستغلال ، تنتزع منه كافة الملامح الإنسانية غصبا ....
*اللوحة
المتمعن فيها بحدس يجدها تنشطر إلى ثلاثة أجزاء
1- الجزء الأول الفضاء الذي تتوسطه غيمة ،أو كتلة دخان داكنة ،والدخان كما هو معلوم لايكون دون نار ،وهو ترميز إلى الاحتراق ،احتراق الذات ،أو لغة القتل المتفشية بين البشر، في نار الحروب المشتعلة والمستمرةعلى إبادة الإنسان ،وجرفه نحو الحتف ..هي صرخة معبرة عن أشياء مؤلمة تتورم في الأعماق ...
2- الجزء الثاني القمة أو المرتفع من الأرض يتوسطها شريط أحمر باهت اللون ويعني احتمالين :
- الاحتمال الأول :الصعود إلى القمة أمر مستعص،نظرا لوجود حواجز الخط الأحمر الذي يعني ممنوع التجاوز ،أي بلغة أخرى هناك ضوابط وثوابت لاقبول تخطيها ،أي ابق حيث أنت ، ولاتتطلع إلى مبتغى آخر ...
- الاحتمال الثاني : السفح والقمة وبينهما شريط أحمر باهت تعني طبقتين من البشر الدنيا والعليا بينهما هوة شاهقة :الطبقة الأولى في السفح تكابد التهميش والجهل والاستغلال والفقر ،تعيش واقعها المرير، بين التردي والإملاق خارج الدائرة والقرار ...والطبقة الثانية في القمة بيدها مراكز القرار، المدبرة والآمرة والناهية تعيش واقعها المترف في رخاء وهناء ..ولون الشريط الأحمر الباهت، يعني أن الهوة آخذة في الردم إن عاجلا أو آجلا ،وستصبح الطبقة المهمشة في القمة ،وهذا هو السر الذي دفع عاصفة الكتابة اجتياح الشاعرين ،لترميم هذا الشرخ الحاصل ،والوصول إلى جوهر الإنسان ليعيش الإنسان إنسانا ...
3- الجزء الثالث وهو عبارة عن صخور، التي تغوص نضاحتها في غيهب دامس، كلما كانت بعيدة ، وهو رمز للشدائد التي تطفح بها الحياة ،وقساوة الدهر وصروفه المتكالبة ،ومايفرضه من تأزم ،وهي رؤيا تأملية إلى الكائنات الوجودية ،لذات شاعرة ذات فعل ،ذات وجود ،ذات شعر ....
*العنوان
رباعي يتألف من جملة اسمية :مبتدأ معرف بالإضافة وخبر معرف بالإضافة كذلك ،صيغ باللون الأحمر القاني ...
-الشطر الأول: دم ميديا صياغة لم توضع اعتباطية مجانية ،وإنما هي مراوغة، لها بعدها الدلالي ، الرامز إلى إراقة الدم إن بفعل التقتيل ،أو بفعل نضالي ،تضحية من أجل العيش بكرامة إنسانية ،أو من أجل الحرية والديموقراطية أو الوطن ،فهذه العناصر النبيلة يستحق افتداؤها بالدم على حد إصرار الشاعرين ...
-الشطر الثاني سقف قرطاج :نقف بداية عند سقف على اختلاف المواد التي بني بها ، هو مايحمي ويقي من الأمطار و البرد و الشمس و العواصف أو الرياح ، ،ويُقصَد بها الأجنحة المتظللة الحامية من كل سوء ،و بعدها الدلالي : بالدم والتضحيات والنضال والأرواح تتم حماية الوطن من الغرباء ،من الاحتلال ،من السلب ..
***المحتوى ،
تَوَحَّدَ الشاعران طقوسا ومشاعر وكتابة ،في شراكة ليبهرانا برائعتهما،
ومسألة الشراكة لم تقتحم مجال الأدب فحسب ،فقد تسربت أيضا إلى الغناء والفن التشكيلي، بل وحتى الحياة الاجتماعية بين قوسين( الزواج )مثلا ،لتحضير عرس واحد، تتم تكلفته أقل للفرد في ظل الجماعة ...ومسألة الشراكة دعت إليها عدة أشياء، من جملتها الجانب المادي الذي يثقل كاهل المبدع، حيث يستعصي عليه مجابهة إخراج عمله إلى النور على انفراد ..ولا ننكر أن لها إيجابيات محمودة ،في نشر ثقافة الحب والثقة والتضامن ،هذه الخصال الآيلة اليوم نحو الانقراض ...
الكتاب صدر في طبعته الأولى الأنيقة ،من مؤسسة المغاربية للطباعة والإشهار ..تحتوي الأضمومة على 93 صفحة ، تتراوح نصوصها مابين القصيرة والقصيرة جدا ،شاء الشاعران أن يخلياها من العناوين تماما ،ويدرجاها في سياق حكائي ،لازمته المتكررة فعل "قال"للغائب بنوعيه ،حيث نتلمس في النص الأول ملمحا للصورة المدرجة على الغلاف ....
***-التيمات
تتعدد التيمات وتتناسل من منظور الشاعرين ،حسب تصورهما الشخصي ورؤيتيهما للحياة والكون، ومايكتنفهما من غموض وأسرار مبهمة ،جعلتهما في حيرة ، ولا سند لهما غير الشعر كملاذ ساحر ...
*-دور الشعر
الشعر كمؤسس فعلي للإنسانية ،ومُسَكّن للكائن البشري آلامَه ،وبلسم قوي لجراحه ،،له سلطة على تغيير ماهو معتم وغير إنساني ، إلى الحقيقة التي يتوسطها النور ،غير أنه يُسَيّج ويحاصر بآليات القمع ،كي لاتتخطى كلمته النابصة الناهضة الآفاق ،فتشعل وهج التنوير في الأذهان الغافية ،وتحاول تغيير عقلياتها المتحجرة :
ولم يكن الحرف سوى ذبابة في غرفة مغلقة
ص:46
فعَبَدة الجهل والمصالح الخاصة ،ليس في صالحهم أن ترفل الكلمة الواعية ، لتهدهد الجمود وتجتث المتكرَّس ،فتوقظ سنابل الوعي والتطور، خوفا على مصالحهم وكراسيهم ومنابرهم ،وعليه فالمثقف الحقيقي ،لايسجُد لمثل هذه الترهلات والتعقيدات المُهددة ،بل يتحدى الأسوار المطنبة ليكمل رسالته ،أ ليس هو نبي على حد قول أفلاطون ؟؟؟؟
تعال نطهر القصئد المغلولة من بذخ البعد ..
تنضح الخطيئة تفاحا
ص:44
فالقصيدة هي ملاذ الشاعر الفاتن ، الذي يهرب إليه من انكسار الروح وإكسير الحياة وينابيع الألم والعذاب. .
تسكب عريك في جحيم اللغة
ص:86

*- الموت
تفتطن الذا ت الشاعرة أننا في أزمة الخيبة ،ومسألة الكآبة المنقوعة في دموع الأشياء ،وهاجس الموت الذي يطارد الكائنات الوجودية ،تأتي نظرتها من زاويتها الخاصة فريدة إلى الموت،وطعم مرارته،فالموت هو الذي يمنح طعم الإحساس بمتعة الحياة ..وبما أن الموت لايملكه الشاعر،وليست له سلطة عليه لتدجينه أو التحكم فيه ،يبقى القبض على زمامه بالفعل الشعري،وإعطائه رموزا عديدة ومتنوعة ..
زغب الأمنيات في طفولة الميت
ص:32
فالنظرة التأملية للكون والحياة وماوراء الوجود، تأخذ الشاعر في دوامة وحيرة من أمره ، يتطلع باستفهاماته الفلسفية إلى أجوبة علها تشبع نهمه ،فيرتطم بتفريخ أسئلة دون انقطاع ..
ألست تفكرين بالتلاشي ..............؟
ألست جمرة تقتفي العطش ؟
ص:28
ويسافر الموت كتفا إلى كتف الذات الشاعرة ،على مدى النصوص كلها ،فتفسح له المجال التأملي بشكله الموسع :الموت /العدم بعد طواحين الصراع المريرة ..
نفكر في الموت على عجل وكأننا........
نعبر بورتريها للخراب
ص:48
وهي تجربة في مواجهة رعب الوجود ،ومحاذاة الموت / العدم لكل الكائنات الوجودية ،ومباشرة فوضاه العارمة في إنشاء أشياء، ومحو أخرى ...
*- الرحيل
تعجز الذات الشاعرة ،عن الوقوف في تحديات الوجود المتنامية ،
فيسكنها هاجس الرحيل، إلى منافي الدنيا عابرة قاطرة الدم ،هروبا من واقع مغترب ، تسكنه سلالات متعددة الوجوه ،وهي غربة في النفس ،وهذه قمة الوعي ودراية الذات الشاعرة بنفسها ،ومعرفتها حق المعرفة ،أنها عاجزة عن ترميم الأكوان ،وإعادة إليها نضارتها وجمالها ،فتغوص في متاهات لامتناهية ،تنشد الرحيل وتتوق إلى الأسفار ،إنما سفر في الذات وفي النفس، لترميم شقوقها وإعادة إليها توازنها المفقود ..
لسفر أعيد فيه ظلي
وأفتح عرشا لنبؤات
ص:29
وتتأجج نار الشوق إلى الرحيل ،وهذا يجلي بوضوح ضيقا في النفس، والتوق إلى الانعتاق ،إلى الهيام ،إلى التحليق ،إلى الحرية التي هي سمة أساسية للمبدع ،وهو هروب في النفس مما تحس به من أوجاع وآلام تتلبسها الذات الشاعرة ، فتنطلق باحثة عن البداية ، عن ولادة جديدة ،كي تنجو من وخز الأوجاع ،فتنتعل أجنحة الطيور لتفر من متسع مدى قاتل ، ..
أوستقد أجنحة الطيور
وأفر هناك
ص:37
يعاسر الذات الشاعرة التحليق ،فتعود خائبة ،لتنطوي على نفسها في خلوتها ، هروبا من صواعق الواقع الحارقة ، لتعيد تراتيب الحياة ولو في الوهم أو المستحيل ..
وإني أذهب صوب نفسي
أذكر أني أذكر في خلوة الهمس ..
ص :53
*- الحلم بين التحقيق وبعد المسافة
تعيش الذات الشاعرة شهية الصراع والتمزقات ،بينها وبين الحياة ، وبينها وبين أشياء جميلة تحلم بها ،وهي محظورة تعانق المستحيل ،إذ يتّسع مدار المسافة بين الرغبة والتحقيق ،بين الحلم والتطبيق ،بين الأمل والوصول ،وهاجس البعد سيظل يطارد ها ...
هذه المسافات واقفة
ص:15
المسافات زوبعة تلو زوبعة
نفس الصفحة
فالمسافات ليست كما نلامسها في الواقع مباشرة ،ولكنها المسافات النفسية ،ما تحس به الذات الشاعرة من عجز لتغيير الواقع المرير حسب ماأرادته هي ،كرغبة نفسية في إعادة عمران الأوضاع على ضفاف مشرقة ، ينتشر ضوؤها على أركان الإنسانية كلها ، وعند العسر تتملى بهالة من الفراغ ،...
بل أنا سيدة أقاليم الفراغ
ص:50
تمتعض النفس وتحس بالخيبة ....

بحجم احتفالات الجثث أحمل الحلم
من نفس الصفحة
مركب للسواحل الميتة
ص:51
مركبي ليس تماما
نفس الصفحة
تهيمن رؤية سوداوية طافحة بالحنين والبكاء ،وانشطار الروح وتمزق الذات والتلاشي الكلي للجسد ،وهذا الإحساس وليد وعي إنساني فياض ،
ولحظة انفعالية، انطلاقا من حساسية متوهجة تنحسر في مجالات وجودية....
شاردة ....تبكي لصفصافة ترتجف
ص:56
لم ظلام الكهوف يجذبني ؟
ص:57
ورغم اليأس والنظرة التشاؤمية ،تأتي أحيانا لحظة الإصرار بكل إرادة قوية، وعزيمة التحدي لاقتلاع الفاكهة من بين الجمر ،ولايضيرها الاحتراق ، لتتجاوز الأوضاع المزرية الراهنة، إلى ماهو أنظف وأرقى ..
نشتهي الفاكهة في الجمر
ص:58
وأنت تؤسس في شهية الآلهة لثمرة التمرد
نفس الصفحة
تشتعل الأماني لإعادة تشكيل الحياة ورسمها بألوان قزحية فتنضاح نضارتها ،وتتضح ألوانها ،غير أن قمم التعثر ترتفع بشدة لتطفئ الحلم ،ويسود الحزن وتستمر العتمة ..
كنت أنتظر أن نرسم لوحة بدأناها مرارا
ص:64
هي أمنية أضرمت في المسافات
ص:65
فعلى الرغم من إعصار الآلام المجتاح فبحوزة الذات الشاعرة حلم تركض وراء أطيافه لتحقيقه ،ولو بالحب على الأقل ..
أحبك ....أو أهذي
ص:60
أفتش فيك عن طلقة عشق
تحتوي القلب ...
ص:72
فعلى حد قولة الميكسيكي "خوان رولفو "،التي تحدد عناصر الكتابة في ثلاثة :"الموت ، والألم ،والحب "نجدها بالفعل قد توفرت في هذه الأضمومة ، سواء بإذن الذات الشاعرة ،أو سهوا منها ،وهي العناصر التي تتمحور حولها جل النصوص ...
*- الصمت
هو اللحظة التي تنحسر فيها الذات الشاعرة ،وتدفن نفسها فيها ،لحظة التأمل ،لحظة الشاعرية ،لحظة الخلوة ،حيث تكتوي بجمر التفكير في الهموم اليومية ،وأسرار الوجود المبهمة ، ومتنافراته وتناقضاته ،فتحاول بانفعالاتها ،بقلقها ، بتوترها فك طلاسمها ، ببتر المسافات بينها،وتحويلها إلى كتلة واحدة في توحد صوفي عاشق ...
بين جمر المسافات والصمت
لاأرى إلا الوجع في فاكهة التفكير فيك
ص:21
فالذات الشاعرة هنا خارج الزمان والمكان ،تتوغل في عوالم أخرى منسوجة من الصمت ،لتؤثثها بما يغلي في مرجل الأعماق ،ففي الصمت تتنفس جراحها ،وتشرب غليونها وفق إملاءات الذات والكون ،فنجدها تفك المتشابك ،وتُلَمّع الباهت ،وتضيء المعتم،وتحيي الدفين ،فتتم الكتابة الشفوية في لحظة المخاض هذه ،وتبقى عالقة بمشجب ظلالها حتى يأتي موعد الولادة ..
هو الصمت أكثر حضورا منا
يوقد فين عصورا تحتفل بالذهول
هو الصمت أبلغ من المسافات .....
ص:26
حين تستولي الرغبة الحارقة ،على الذات الشاعرة للبوح/ للإفصاح /للتعبير عن أشياء تعتمل في النفس ،ليس لها غير الصمت تتخلص فيه
من الثقل الجاثم على الصدر ...
حيث الصمت فيه مئة فم
ص:32
***اللغة والأسلوب
- اللغة
مهما طرقنا باب الحداثة الشعرية ،لابد من خيط رفيع من الأصل يتسلل إلى الفرع أي الثرات ،فتقتحم بعض المحسنات البديعية القصيدة سواء بوعي أو بغيره ،هذه القرائن التي كانت سالفا العمود الفقري للقصيدة العربية ،وبغيرها لاتُعبَر شعرا ،كالاستعارة والتشبيه والسجع ...
مايدل أن القصيدة لم تبتر من جذرها إطلاقا حتى تصبح غريبة ،وتعلن أنها سيرورة تاريخية لها أصولها الثابتة ..واستعمال التشبيه هنا ليس مفاده تكريس الثوابت السالفة ،وإنما هي مراوغة ولعب باللغة ...
أرتديها كأنها لوحة من نسيج البياض
ص:12
أدرجت النصوص في شكل حكائي ،لازمتها المتكررة فعل ماض "قال "للغائب بنوعيه ،تحت مظلة كاف الخطاب ،يتم بواسطته التراشق بالألفاظ والجمل أوالنصوص أحيانا ...
قالت
عرفتك قبل أن التقيك
ص:58
قال
لامست وجهك
في خطى الريح ....
ص:59
-الأسلوب
يجتاز الطرائق التقليدية مشجونا بالإيحاء ،موسوما بحيوية الدلالات ،معتمدا آليات الخرق والعبور المفاجئ إلى اللامباشر ،لخلق لغة جديدة ،
بإدراجها ضمن مواقف جديدة تكشف عن دلالة ما في الذات وما في العالم ،عاصفة بالأشياء وملامحها وأطيافها إلى حد الغرابة ،متوغلة في المعاني الغامضة التي تختفي في أعماق مناطق النفس ،انطلاقا من معاينة الوجود في حدوده وفواصله ،خارجة عن المألوف والمعتاد ،بمعانيهما السطحية المباشرة المألوفة إلى ماوراء العالم ،وفق قوانين وسنن خاصيتين، للكشف عن الحقيقة انطلاقا مما هو إبداعي يرتبط بجوهر الإنسان ،وكان الاقتصار هنا كما يتضح على عملية الانزياح المستمدة هي نفسها من عملية التضاد ،كعملية خرق منهجي في صور بلاغية تتفاوت في معاييرها وفي درجات الاستعمال ،وماتكتنزه من دلالات عميقة تتناسل وتتجدد بتعدد القراءات ...
لم أستفق .......
من هذيان العشق حول مائدة الليل
ص:46
فالشاعران لويا عنق اللغة بامتياز ،وجعلاها تقر بما ليس كائنا ،وتؤسس لما ينبغي أن يكون وفق القواعد التي سيخترقها هذا القول في حركته اللولبية الملتوية المراوغة ،تتوجه مباشرة إلى صميم القلب بتموقفاتها الشعرية من العالم ..
*- المسكوت عنه
كما يتضح في جعبة الشاعرين الكثير ،تزدحم الألفاظ بمعانيها ودلالتها لتخرج دفعة واحدة ،غير أنهما لم يقولا كل شيء ،إذ تتخلل الشذرات الشعرية أو تختتم بنقط المسكوت عنها ، سمة التكثيف المعتمدة في الكتابة الحداثية ،والغرض، إفساح المجال للقارئ ليملأها من منظوره الشخصي ،وفق حدوده المعرفي ،وعيا منهما أن القارئ اليوم أصبح مبدعا ثانيا بعد المؤلف ...
تياما ........صارت قلق مردوخ..........
يتقاسمان الريح ...........يقتصدان الأرض..........لموت أقل .........
ص:9
إذن انتهى عهد اقتناص المعنى ،بعد قراءة النص الشعري لمرة واحدة ،أو لمرتين وكفى ،وحلت محله الشفرة ،التكثيف ،حيث تتوالد الدلالات بتجدد القراءات ،وتفكيك شفرات النص ،وتهجي ماوراء السطور واستخراج الخفي من بين ظاهره...
*- المتنافر والاستفهام
تبلغ الحيرة مداها ،وتتمزق الذات الشاعرية بين تراتيل الكائنات الوجودية ،وتناقضاتها ومتنافراتها ،فتقف مندهشة أمام الموت والجثث،وإراقة الدماء ،وجملة من الاستفهامات توسع مافيها ،
والأرواح في كامل موتها..
عند مشارف أسوار وطني
وأنت ........أتبقين ....؟
ص:16
قوة الشاعرية إذن تتجلى في الجمع بين المتنافر لخلق الألفة بينها ،فلاحظوا هذه الشذرة الجميلة ،وكيف تم التوحد بينها بصيغة فنية عالية ..
عال سقف البحر .....
عال هذا النزول إليك
ص:27
وستظل الحيرة والاستفهامات تلازمان الذات الشاعرة ..
فاخترت بأي أحرف أرسمك؟
كيف لي.......... ؟
ص:38
وتتلظى بكوابيس الانتظار والحيرة باحثة في وهم الوجود وأسراره المبهمة ،وأكوانه المعتمة، وكائناته المتنافرة،عن ركن هادئ تستريح فيه من نوائب الزمن ، فتتسع حلقة التيه بكل مساحاتها الزمنية
كل مساحات الزمن تأتيني
ص:41
*اللازمة المتكررة
تتكرر بعض اللوازم الموضوعاتية باشتهاء ،ليس ذاك التكرار الاعتباطي المفسد لجمال اللغة ،وتركيبها ،وإنما هي مغامرة لغوية عن وعي وحدس قويين ،تتلاعب بالألفاظ ،في شكل صياغي فاتن له بعده الدلالي ، تبين بجلاء حنكة الشاعرين ومراسهما على تطريز اللغة، وترصيعها لتأتي بالجديد ،فتضيء أشياء ملتبسة ،ومن ضمن اللوازم التي رافقت النصوص من ألفها إلى يائها كموضوعاتيات تيمية هامة :
1- لازمة الصمت :
بالأقمار والصمت ص:11
ويأتي الصمت صارخا ..... ص:12
وأكون الإيقاع في الصمت ص:20
الصمت جمر ص:22
ودعي الصمت :نفس الصفحة
يحركني صمتك ص:23
صمت على نصب الآلهة ص:24
صمت مساء ص:25
بين صمتك وسقوف المنافي :نفس الصفحة
هو الصمت اكثر حضورا منا ص:ص:26
هو الصمت أبلغ المسافات :نفس الصفحة
عال سقف الصمت ص:27
تصمت... تغرس الوجع ص: 32
حيث الصمت فيه مئة فم :نفس الصفحة
فحللت عشبة تورق صمتك ص:43
أيها الصمت ص:44
ويخرج من الصمت : نفس الصفحة
وأنهض من هزيمة الصمت ص:45
في صمتنا نبدأ الكلام ص:58
تسترسل في صمت ص:72
فاكتشفت أن الصمت :نفس الصفحة
صمتي المنتحب ص:73
والصمت المر صوتي ص:77
وجرح يفتح للصمت ص:80
من الجوع معجزة الصمت ص: 81
ألتقيك في الصمت ص:84
2- لازمة الموت
....لموت أقل ص:9
يؤثثني جرس الموت ص:34
يعبر موتا بملامح إنسان... ص:40
الموت فاكهة العشاق ص: 48
نفكر في الموت :نفس الصفحة
فتشتهي الموت ص:49
وأصلي أول صلاة للموت ص:52
جوقة العصافير حطت فوق موتي :نفس الصفحة
أذكر أني مت ص:53
إننا نسير بلا هوادة إلى حتف ص:61
يغير تاريخ موتي ص:62
الساقط فوق رحيلي في الموت ص:73
الممنوع من الموت ص:76
تصوغ استفاقتي برؤى الموت ص:81
لاشيء يمنعني من الموت ص:85
مهمتك الأولى الموت ص:86
ندخل لعبة الندى والموت :نفس الصفحة
هذه بشرتك التي تموت ص:87
تموت العصافير ص:88
لم يكن موتا في الحسبان ص:89
تنضج الموت في كفك:نفس الصفحة
كما تتكر لوازم أخرى مثل الربيع والمسافات والمدى والبعد ،لكن انحسرت على هذين الإثنين كمثال فقط ...
***الجانب الفني
إن حقيقة الجانب الفني الإبداعي بكل عناصره وتميزه لاتأتي من فراغ،
وإنما هي إفرازات تلفظها منطفة النفس من غابتها المخيفة المرعبة ،المحاطة بسياج من الغموض والأسرار ،عن طريق محاورة النفس وارتياد مواطن الغموض القابعة في داخلها ..
*الصورة الشعرية
الصورة الشعرية نفسية تنبثق مما هو ثابت في أعماق الأديب ،محكمة في عناصرها ،ومندمجة في وحداتها اللغوية والإيقاعية ،وصياغتها للكشف عن الحقيقة ،تمر بدروب النفس ومسالكها الصعبة ،انطلاقا من رؤيا طليقة حرة تكسر كل القيود، وتهتك كل المحظورات ..إن الأشياء في الكون في هذه الصيغ لاتكون منفصلة عن الذات ،بل تأتي في شكل الاندماج المطلق بينها وبين الذات الشاعرة ،ماحية المسافات ،مذيبة الفروق ،معانقة المتنافر ،على نحو تلخيص الوجود كله في لحظة تأملية رؤيوية ...في هذه اللحظة العصيبة ينسج المبدع الصورة الشعرية وفق طاقته اللغوية وقدرته التعبيرية ،وحنكته والمراس بكل الأشكال الفنية الممكنة ..
مازجا دمي بدمك
بومضة عيني في نداي المجروح
ص:14
نلاحظ كيفك تتفتح الصورة الشعرية بألوانها وأطيافها ،فتبدو لنا كباقات أزهار تتموج بألوانها القزحية ..تُجلي نفسية الذات الشاعرة المضطربة المنكسرة المتشائمة ،شاحبة الملامح ،رافضة الحياة تماما بكائناتها الكئيبة التي توصلها إلى الاحتراق ...
أيها المترنح في رفوف القلب
لي تطاير الآلهة في ذاكرتي وفي
النقوش على حجر قديم .....
*الانزياح والرمز والإيحاء
طبعا هذه العناصر لاتشكلها رؤية بصرية ذهنية منطقية تستند إلى العقل ،والتحليل العلمي ،بقدر ماهي نتاج خيال جامح ،قفز على كل الحدود الكونية معانقا الممكن واللامكن ،الماضي والآني ،القاصي والداني ،داخل تركيبة لغوية غير مألوفة، تؤثث للغرائبي والمدهش ،وفق إيقاعاتها العجيبة ،صحيح الأشياء العيانية هي المادة الخام ..لكن تمتصها الرؤى عبر حدس قوي، لتصوغها مخاطبة في القارئ الجانب الإيحائي الترميزي التخييلي والانزياحي الناشئ في صورها وإيقاعها المدهشين فتطرز الذات الشاعرة النصوص ضاربة السهل الممتنع بكل العناصر آنفة الذكر ...
لاحظوا معي هذه الوصلة الجميلة :
التراب يعرف الطريق لجسد
يشتهيه .....
يؤسس له في الأرض وطن
ص:66

صياغة مدهشة للموت حين يواري الجسد الثرى ، بترميز وإيحاء وانزياح للقبر بالوطن ، حين يحتضن الجسد ..والأمر ليس بالهين ،إن لم تكن للشاعر موسوعة معرفية ،وخيال واسع وآليات لتحويل اللغة العادية في نسيج شعري إلى إيقاعي فني تصويري ...
***خلاصة

على الرغم من أن لكل شاعر طقوسه الخاصة ،وفرادته في الأسلوب ، ووضعه الاجتماعي ، وسلاحه المعرفي ، والمؤثرات المحيطية ،التي تختلف من شاعر إلى آخر، نجد أن النورسين ضحى بوترعة وجوتيار تمر ،توحدا في هذه الرائعة دون عسر، وبتفوق باهر ،مكسرين كل العقبات ،وهذا يوحي دون جدال أن الشاعرين لهما نقط تقاطع، تتجلى أساسا في دواعي الكتابة ،والظروف الزمنكانية المشتركة ،والقاموس اللغوي الموحد ،حتى تخال أن النصوص من نسيج أحدهما دون الآخر،
على كل فمن خلا ماتقدم ،يبدو أن الشاعرين التونسية ضحى بوترعة والعراقي جوتيار تمر ،قد قدما إلى المكتبة العربية بصمة حداثية ،ستبقى وثيقة خالدة على مر العصور ،في تاريخ الشعر العربي عموما، والشعر التونسي العراقي خصوصا ..أتمنى من كل قارئ أن يطلع على هذا الديوان الشيق "دم ميديا سقف قرطاج"فأكيد سيجد ضالته ...

المراجع
*- {دم ميديا سقف قرطاج{للشاعرين ضحى بوترعة وجوتيار تمر
*-الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب
د.احمد الطريسي أعراب .
*-البيت:مجلة بيت الشعر في المغرب صيف-خريق- 2002
*-الفن والأدب: الدكتور ميشال عاصي.
*- الماركسية والفن الحديث :ف.د.كلينجندر :ترجمة وتقديم ابراهيم فتحي .
*- القصيدة المغربية المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد (الجزء الثاني):عبد الله ابراهيم راجع .
*- السيميائيات :عالم الفكر :المجلد 35 – 3 يناير –مارس
مالكة عسال
بتاريخ 12/11/2008