الإخوة الأعزاء
أضع بين أيديكم جزءا من دراسة أنجزتها قبل بضع سنوات حول موضوع النقاش:
واملي ألا تحذفوه مثلما عودتموني
هذه الدراسة لم تنشر بعد،
ومع ذلك سأسنح للقراصنة بقرصتنها

وصف التجربة الأصلية
لاحظ أعضاء مجموعة غتنبرغ Gothenburg أن التصور السائد للتعلم في المؤسسات الأوروبية هو التصور الكمي الضارب الجذور في الثقافة السائدة . ولاحظوا أن نظام الامتحانات وطرق التقويم المتبعة هي التي تساعد على ترسيخ هذا التصور وتعززه عند المتعلمين لكونها تكتفي بمطالبتهم بإعادة إنتاج ما اختزنوه في الذاكرة من المعلومات التي يعتقد أنها صحيحة ، ولا تختبر قدرتهم على الفهم والتحليل وما إلى ذلك من المهارات الرفيعة المستوى . هكذا تم إهمال الجانب الكيفي للتعلم .
ذكر داهلغرنDahlgren, 1984)) وهو واحد من أعضاء المجموعة الذكر أن بارتلت كـان من أوائل الباحثين الذين انشغلوا بالمستوى الكيفي للتعلم . ولذلك اعتبر الأبحاث التي قامت بها مجموعته امتدادا للمشروع الذي رسم بارتلت خطوطه العريضة منذ عام 1932. ولعل من أهم النتائج التي توصل إليها هذا الأخير أن التلاميذ لا يعيدون إنتاج المقروء ( القصة ) على هيئته الأصلية ، بل يعيدون إنتاج دلالته حسب فهمهم الخاص وعلى ضوء التأويلات الشخصية للمادة المقدمة إليهم . وبذلك دحض الفكرة القائلة بأن الذاكرة جهاز يعيد إنتاج المخزون المتراكم في منطقة من مناطق الدماغ ، ووضع اللبنات الأولى للمقاربة الكيفية لظواهرالتعلم qualitative approach .
تهمل المقاربة الكمية للتعلم أهم عنصر فيه وهو المعنى, « إن أكثر ما يتوقف عليه التعلم عند الإنسان هو القدرة على إدراك المعنى ، فهو يتجه نحوه . إن التعلم هو الجهد المبذول للوصول إلى المعنى, ومعنى أن يتعلم المرء شيئا هو أن يدرك معناه » ( ص 23-24 Dahlgren, 1984,) يقوم هذا التصور للتعلم مقام المصادرة الأساسية التي وجهت البحوث التي قام بها فريق البحث . فبدل أن يتجه الاهتمـام إلى تقديـر مقدار ما حصل عليه المتعلم من معلومات تركز على تقدير نوعية الحصيلة ومدى جودتها . ولتقويم حصيلة التعلم النوعية لجأ مارتن إلى القيام بتجربة على الطلبة شبيهة بتجاربهم الدراسية اليومية . تتمثل التجربة في أن عرض الباحث مقالا أكاديميا على أربعين طالبا ، وطلب منهم أن يقرؤوه بتركيز وتمعن كل وفقا لطريقته ووتيرته المألوفة في القراءة ، ملغيا بذلك عامل ضغط الوقت . وأخبرهم أنه سيطرح عليهم أسئلة حول النص عند انتهائهم من القراءة. وأما المقال المقترح فهو عبارة عن مساهمة أحد أساتدة التربية في النقاش الدائر في السويد حول إصلاح نظام التعليم الجامعي . قام الباحث في هذا المفال بإعادة تحليل المعطيات التي استعملت في بحث أنجزه المجلس الوطني للجامعات في السويد ، وانتهى التحليل إلى نتائج تختلف عن تلك التي توصل إليها ذلك المجلس .
توصل البحث الأول إلى أن معدلات الطلبة في كليات الفنون والعلوم الانسانية منخفضة بالمقارنة مع المعدلات المحصل عليها بكلية الطب والهندسة المدنية . وعزا الباحثون ارتفاع المعدلات في النوع الثاني من الكليات إلى تنوع البرامج المقررة فيها . واستخلصوا من ذلك أن ارتفاع المعدلات في النوع الأول من الكليات رهين بتنويع برامجها الدراسية, وعندما أعاد الكاتب تحليل المعطيات انطلق من افتراض مفاده أن عددا مهما من الطلبة يلجون التعليم العالي من أجل تعميق خبرتهم في تخصص معين من غير أن يكون الهدف عندهم هو الحصول على الدبلوم . ولذلك استبعد خلال تحليله للمعطيات فئة الطلبة الذين تتجاوز أعمارهم خمسة وعشرين عاما، والذين يحتمل أنهم تابعوا دراسات عليا في مجال آخر، وولجوا كليات الفنون والعلوم الانسانية لاستكمال تكوينهم في مجال معين خلال فترة دراسية محدودة . ولذلك فإن مغادرتهم للجامعة في وقت مبكر لا يعتبر إهدارا ، لأنهم لا ينظرون إليه باعتباره كذلك . وقام بتقسيم عينة البحث المتبقية إلى فئات حسب نوع الجامعة ، والجنس ، ومادة التخصص ، ومتوسط الدرجات المحصل عليها في آخر مرحلة من مراحل التعليم الثانوي . وتبين له وجود فروق جوهرية بين مختلف الفئات, تنخفض المعدلات في بعضها وترتفع في البعض الآخر لتصل إلى المتوسط الملاحظ في كليات الطب والهندسة . واستخلـص الكاتب من ذلك أنه لكي يحقق الإصلاح هدفه المتمثل في رفع المعدلات في كليات الفنون والعلوم الانسانية فيجب أن ينص على اتخاذ إجراءات انتقائية بدل الاكتفاء بالإجراءات العامة . ذلك لأن مستوى النجاح الذي تحققه بعض الفئات يبعث على الارتياح, ولا يطرح المشكل إلا بالنسبـة لفئات أخرى .
بعد قراءة المقال قام الباحث باستجواب الطلبة . وانطلقت المقابلات التي أجراها مع كل طالب على حده من سؤال يتعلق بالمعنى العام للنص المقترح . صيغ السؤال على النحو التالي : « حاول أن تلخص المقال في جملة أو جملتين, بعبارة أخرى ماهي مقاصد الكاتب ؟ » . ثم تلى ذلك طرح أسئلة فرعية تتعلق ببعض جوانب النص ومظاهره الخاصة ، وأسئلة أخرى ترمي إلى دفع الطالب للإفصاح عن عمليات التعلم التي وظفها خلال معالجته للنص . وبعد ذلك قام الباحث بتحليل المعطيات التي جمعت بهذه الطريقة, وكان الهدف هو تصنيف الأجوبة المحصل عليها ، واختزال كل نوع منها في مقولة تعبر عن الخصائص البنيويـة لحصيلـة التعـلـم, structural aspects of outcomes of learning. .
هكذا تم توظيف استراتيجية التحليل الكيفي للمعطيات للكشف عن دلالات ما عبر عنه الطلبة من خلال التركيز على بعض الكلمات والأمثلة التي وردت في أقوالهم ، والتي تدل على الفروق الجوهرية بين الأجوبة التي تغطيها مختلف المقولات ، والفروق الملاحظة في الأجوبة التي تندرج ضمن المقولة الواحدة . تمخض التحليل في البداية عن عدد كبير من المقولات . وما زال الباحث يهذبها ويدققها إلى أن اختزلها في النهاية إلى عدد قليل جدا , تتجلى من خلال نماذج الأجوبة التالية:
‌أ- يجب اتخاذ إجراءات انتقائية,
‌ب- يجب اتخاذ إجراءات متباينة ــ حسب نوع الفئة,
‌ج- يجب اتخاذ جملة من الإجراءات,
‌د- هناك فروق بين مختلف فئات الطلبة,
إن ما يميز النماذج الثلاث الأولى هو أنها متراتبة حسب درجة دقتها . فالإجراءات الانتقائية تمثل حالة خاصة بالنسبة للإجراءات المتباينة . وتمثل هذه الأخيرة حالة خاصة من الاجراءات المعبر عنها بصيغة الإطلاق . وأما النموذج الرابع فيتميز عن النماذج السابقة من حيث أنه يكتفي بالوقوف عند المعطى الامبريقي . يدل النموذج الأول والثاني على مدى قدرة الفرد على استنتاج الخلاصات وتدعيمها بالقرائن والدلائل الامبريقية . تصنف الأجوبة التي يمثلها كل نموذج من هاذين النموذجين ضمن الأجوبة المتجهة نحو الاستنتاج conclusion-oriented . وأما النموذج الرابع ( د ) فهو يمثل الأجوبة المتجهة نحو الوصف , مثله في ذلك مثل النموذج الثالث (ج) , وذلك على الرغم من أن أجوبة هذا الأخير تبدو وكأنها متجهة نحو الاستنتاج ، وهي في الواقع ليست كذلك . لأن الاستنتاج عام جدا ولا تربطه أية علاقة واضحة بالمعطى الامبريقي . فهو لا يعدو أن يكون مجرد فكرة إضافية وضعت بموازاة الفكرة الأساسية المتعلقة بالفروق الموجودة بين معدلات مختلف الفئات .
هناك إذن مقولتان أساسيتان : مقولة التعلم المتجه نحو الاستنتاج ، ومقولة التعلم المتجه نحـو الوصف . ولقد دلت البحوث اللاحقة على وجود مقولة ثالثة تقع في مرتبة دون مرتبة الوصف. تشيـر هذه المقولة إلى حصيلة التعلم المتمثلة في ذكر ما احتفظت به الذاكرة من النص . حيث يكتفي الفـرد بذكر أوتعيين mentioning بعض عناصر النص من غير أن يدرك العلاقات القائمة بينها . تصف هذه المقولات ما سماه فريق البحث بـ « مدى الحصيلة » outcome space الخاص بهذا النوع من النصوص . يدل هذا المفهوم على التباين الموجود بين أنواع الحصيلة التي انتهى إليها الأفراد بعد قيامهم بإنجاز مهمة معينة من مهام التعلم .
يستفاد من هذا التعريف أن فعل التعلم لا ينفصل عن المضمون الذي ينصب عليه . يعكـس مـدى الحصيلـة طبيعـة ذلـك المضمـون ونوعيـة التعلـم المكتسب من خلال معالجة ذلك الموضوع . فعندما يعالج الفرد موضوعا معينا فإنه لا يكتفي بتسجيل المعلومات التي يحتوي عليها ذلك الموضوع ، بل يكتسب بالإضافة إلى ذلك طريقة جديدة في التعلم ، إنه يتعلم كيف يتعلم ، أو لنقل بعبارة أخرى إنه يتعلم التعلم . وبناء على ذلك يمكن القول بأن طرق التعلم تتنوع بتنوع الموضوعات . ذلك لأن التعلم حسب التصور الجديد نشاط يحكمه مبدأ القصدية ، فهو يتجه دائما نحو شيء ما. وتتحدد آلياته بطبيعة الموضوع الذي يتجه إليه . ذلك ما أغفلته الدراسات السيكولوجية التقليدية التي اهتمت بدراسة عمليات التعلم . حيث كانت تنظر إليها وتعالجها كما لو كانت عمليات ذهنية صرفة . بإغفالها لمبدأ القصدية قلصت المجال الذي يغطيه مفهوم التعلم ، وحصرته في القدرات الثابتة abilities ، ولم تول إلا قدرا قليلا من الأهمية لحصيلة التعلم، وغضت الطرف عن السياق الذي يجري فيه فعل التعلم ، وكأن التعلم ظاهرة قائمة بذاتها ، كأنه النومين المكتفي بذاته .
يحول التصور الكلاسيكي للتعلم دون إدراك البعد الدينامي في هذه الظاهرة . يزداد التعلم, حسب التصور الجديد ، نموا وفعالية كلما تنوعت مهامه وموضوعاته . يتجلى التطور في الطريقة التي يعالج بها الفرد النصوص التي هي من نوع النص الذي استعمل في التجربة التي قمنا بوصفها من خلال الانتقال من أجوبة الذكر إلى الأجوبة المتجهة نحو الوصف ، ومنها إلى الأجوبة المتجهة نحو الاستنتاج . يدل هذا الانتقال على التغير النوعي الحاصل في تصور المتعلم للتعلم. وتشير المقولات الثلاث (الذكر ، الوصف ، الاستنتاج) إلى مختلف تصورات الأفراد لبعض مظاهر الوجود وطرق التفكير فيها . فهي لا تكتفي بوصف الفروق في حصيلة التعلم ، بل تتعدى ذلك إلى وصف تصورات الأفراد لوقائع الحياة . يعرف دهلغرن التعلم ، بناء على ذلك ، بأنه عملية دينامية تتمثل في التغير الحاصل في التصور. فعندما يتحقق فعل التعلم يحصل الانتقال من تصور معين إلى تصور آخر يختلف عنه اختلافا نوعيا . لذلك يجب أن تكون وظيفة أنظمة التعليم هي مساعدة الأفراد على تغيير وتعميق نظرتهم إلى العالم .
3-3-أنواع المقاربات التي كشفت عنها التجربة الأصلية
قمنا في الفقرة السابقة بوصف التجربة الأصلية والمقولات التي أسفر عنها التحليل. سنحاول الآن وصف المقاربات التي يستعمـلـهـا الطلبـة لمعالجة المهام الدراسية approaches to learning . لم يكتف الباحثون بالوقوف عند المقولات التي تصف الفروق في حصيلة التعلم ، لقد حاولوا بالإضافة إلى ذلك تفسير تلك الفروق . حيث انطلقوا من فرضية أساسية مفادها أن الفروق الملاحظة بين الأفراد ترجع في الأصل إلى اختلاف عمليات التعلم عندهم . لقد افترضوا أن كل نوع من أنواع عملية التعلم process of learning يؤدي إلى حصيلة ذات بنية متميزة . زعم مارتـن وسالجـو(Saljo 1984 Marton and) أن هذه العمليات ظلت مجهولة وغير معروفة تماما إلى حين إجراء التجربة . ولـم يجدوا في الساحة العلمية ، حسب قولهم ، أية نظرية تتعلق بعمليات التعلم المستعملة في قـراءة النصوص ، ولا أي نموذج نظري يمكن الانطلاق منه أو اختباره بالتجربة. فكيف تسنى لهم والحالة هذه اكتشاف تلك العمليات ؟ ما هي أنسب طريقة لجمع المعطيات التي تدل على تلك العمليات والتي من شأنها أن تساعد على تفسير الفروق الملاحظة في حصيلة التعلم ؟
اختار مارتن طريقة الملاحظة من الداخل بدل الملاحظة من الخارج . تتمثل الطريقة الثانية في رصد ما يفعله الطلبة عند قراءتهم للنصوص . يتعلق الأمر مثلا بفحص الكلمات والعبارات التي يشيرون إليها ، والنقط التي يسجلونها ، والمدة التي استغرقوها في القراءة ، وما شابه ذلك . ولكن المعلومات التي يمكن الحصول عليها بهذه الطريقة تفتقر إلى الانسجام ، ولا تؤلف بالتالي نظاما متكاملا. لذلك يتعذر إقامة أية علاقة ضرورية بينها وبين نوع الحصيلة . ولذلك كان لا بد من اللجوء إلى طريقة الملاحظة من الداخل . تتمثل هذه الطريقة في أن يفسح الباحث للمبحوث مجال الحديث عن تجربته في التعلم من قراءة النصوص . كان مارتن يطلب من كل طالب أن يصف له طريقته الخاصـة في مباشرة مهمة التعلم ، ثم يدفعه للإفصاح عن تصوره لتلك المهمة . كان يريد أن يعرف ماذا يفعلون بالضبط عندما يقرؤون ، وكيف تبدو لهم مهمة القراءة والوضعية التي تجري فيها, لتحقيق هذا الغرض أدرج في المقابلات التي أجراها مع الطلبة أسئلة تصب كلها في هذا الاتجاه , نذكر منها على سبيل المثال:
ــ هل بوسعك أن تصف كيف تباشر قراءة النص ؟
ــ هل وجدت فيه ما يستعصي عليك ؟
ــ هل وجدته ممتعا أم لا ؟
ــ هل صادفت في النص أثناء قراءتك له ما استرعى انتباهك بشدة لما له من أهمية خاصة
بالنسبة إليك ؟
قام الباحث بتسجيل أجوبة الطلبة ، ثم انكب على تحليلها وتصنيفها في أفق الجواب على سؤال أساسي يتعلق بمعرفة الأسباب الكامنة خلف الفروق النوعية بين الطرق المتبعة لفهم المعنى العام للنص . وكانت النتيجة هي أن الطلبة الذين لم يدركوا المعنى العام ما كان بوسعهم أن يصلوا إليه لسبب بسيط هو أنهم لم يضعوه نصب أعينهم ، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنه إطلاقا . لذلك ظلوا مرتبطين بظاهر النص ، ولم يجهدوا أنفسهم بالبحث عـن مقاصده ، وعـن الرسالـة التي ينـوي الكاتـب تبليغها ، وعن الخلاصات التي يمكن استنتاجها منه . لقد سخروا كل ما لديهم من طاقات لاستظهار النص من غير فهم . وعلى العكس من ذلك اتجه البعض الآخر منهم إلى الكشف عن بنية النص وعلاقاته ، قاصدين إدراك فكرته العامة ، والكشف عن الرسالة التي يحاول الكاتب تبليغها ، ولا يترددون في إصدار الأحكام النقدية ، واستنتاج الخلاصات المنطقية , وبلورة بعض الأفكار الشخصية .
يحاول أفراد الفئة الأولى حفظ ما ورد في النص من معلومات عن ظهر قلب لكي يتمكنوا من إعادة إنتاجه فيما بعد . ولذلك ظل وعيهم طافيا على السطح ، ولا تخامرهم نية التوغل في أعماقه . ومن غريب المفارقات أنهم كلما اتجهوا إلى الحفظ إلا وازداد شعورهم بالعجز عن التذكر, لا يتذكرون ما حاولوا حفظه من شدة القلق المرتبط بالميل الشديد إلى الحفظ خوفا من الفشل . يؤدي التعلق الشديد بظاهر النص مخافة الفشل في إعادة إنتاجه إلى نوع من الشذوذ المتمثل فيما سمي بتضخم المقاصد hyperintention . وأما أفراد الفئة الثانية فإن انتباههم ينصب في المقام الأول على معاني النص ودلالاته . حيث يبذلون قصارى جهدهم للكشف عن بنية علاقاته ومراميه القريبة والبعيدة . ورغم أنهم لا يميلون إلى الحفظ ولا ينشغلون به ، إلا أنهم يتذكرون تفاصيل النص جيدا .
كشف التحليل في النهاية عن وجود مقاربتين أساسيتين من مقاربات التعلم بواسطة النصوص : المقاربة التي تقف في معالجتها للمعلومات عند حدود السطح , والمقاربة التي تتوخى معالجة المعلومات في العمق . فكما أن هناك فروقا نوعية في حصيلة التعلم ، هناك فروق نوعية أيضا في عمليات التعلم . إن تراتب أنواع الحصيلة حسب خصائصها البنيوية يقابله تراتب عمليات التعلم المستخدمة لمعالجة المعلومات حسب اتجاهها نحو السطح أو العمق ، نحو الاستظهار أو الفهم. ولقد دل التحليل الاحصائي للمعطيات المتعلقة بعمليات التعلم وبحصيلة التعلم عن وجود علاقة ذات دلالة إحصائية قوية بين الظاهرتين . هناك ، من جهة، علاقة ارتباط قوية بين الأجوبة المتجهة نحو الاستنتاج وبين عملية التعلم المتجهة نحو العمق ، وهناك ، من جهة أخرى ، علاقة ارتباط قوية بين الأجوبة المتجهة نحو الوصف وبين عملية التعلم السطحية . يميل الطلبة الذين يستخدمون المقاربة الأولى إلى البحث عن المعنى العام ، بينما يكتفي من يستخدم المقاربة الثانية باستظهار ما ورد في النص من معلومات .
قام باحثون آخرون ممن ينتمون إلى مجموعة غتنبرغ بتجارب مماثلة ، وانتهوا إلى نفس النتائج . منها تجربة ونستام (1980Wenstam.) التي عرض فيها على الطلبة أربعة نصوص تحكمها بنيات متشابهة , يصف كل واحد منها مبدأ خاصا ويوضحه بمثال . ولكنها تختلف في الطول الذي يتراوح بين صفحتين وست صفحات . ويحتل المثال في كل واحد منها حيزا مهما . يتناول أحد هذه النصوص العمـل العلـمي الـذي أنـجـزه عالـم الفزيـاء سمـلـوايـز Semmelweis Ignaz مكـتـشـف العضويات المكرسكوبية التي تتسبب في الأوبئة التي تنتشر على نطاق واسع . استعمل اكتشاف هذا العالم وكذا الأفكار والتجارب التي انبثقت عنه كمثال يوضح الطريقة العلمية في اختبار الفرضيات بواسطة المنهج التجريبي . وطرح الباحث على الطلبة السؤال التالي: « حاول أن تلخص النص في جمل قليلة, بعبارة أخرى ، ماذا يريد الكاتب أن يقول ؟ » . وحصل على أربعة نماذج من الأجوبة :
 أجوبة تدل على فهم الفكرة الأساسية وعلاقتها بالمثال,
 أجوبة تدل على فهم الفكرة الأساسية وعدم فهم علاقتها بالمثال,
 أجوبة تدل على عدم فهم الفكرة الأساسية, اكتفى الطلبة المصنفون ضمن هذه الفئة بوصف
بعض الأفكار الفرعية وصفا عاما وفضفاضا كقولهم : " يتعلق النص بأسباب الظاهرة ",
 أجوبة تدل على التركيز على مثال أو أكثر من الأمثلة الفرعية مثل قولهم : " يصف النص
الدكتور في مستشفى فيينا وهو يشتغل بحثا عن سبب ارتفاع معدل الوفيات عند النساء اللواتي
يعانين من حمى النفاس خلال العمل ",
نلاحظ تدرج الأجوبة حسب درجة فهم كل من المبدأ أو المثال ، وهو ما يدل على الفروق النوعية في الحصيلة . يتعين على الطالب الذي يعالج هذا النوع من النصوص أن يقف على المبدأ ويفهمه . وإذا كانت وظيفة المثال هي الإيضاح فإن وضعيته لا تختلف مع ذلك عن وضعية المبدأ فيه , فلا تفاضل بينهما ولا تراتب . لذلك تصنف هذه النصوص ضمن ما يسمى بالنصوص ذات الاتجاه الأفقي horizontalization. تقتضي الطبيعة الأفقية للمادة التي ينصب عليها فعل التعلم ربط المبدأ بالسياق الذي يدل عليه المثال حتى لا يظل عبارة عن مبدأ مجرد . تكمن أهمية المثال هنا في كونه يساعد على فهم المبدأ جيدا وعلى شحذ الذاكرة . لذلك لزم أن يراعي التقييم الكيفي لحصيلة التعلم الطبيعة الأفقية للنص ، فهي التي تساعد الباحث على إبراز الخصائص البنيوية التي تميز كل مستوى من مستويات التعلم .
تدل هذه التجارب على مدى خصوبة التحليل الكيفي لظاهرة التعلم . من حسناته أنه أدى إلى تشكل تصور جديد للتعلم ، حيث أصبح يبدو في شكل ظاهرة متعددة الجوانب والأبعاد ، ترتبط فيها عمليات التعلم بالمادة التي تعالجها ارتباطا لا انفصام فيه . لقد أكدت التجارب أن عمليات التعلم وأنواع الحصيلة المترتبة عنها تتحدد قبل كل شيء بطبيعة الموضوعات التي يتجه إليها فعل التعلم . فمن الموضوعات ما يفتقر إلى المبدأ المنظم للعناصر التي يتألف منها ، والذي يعطي للكل معنى ودلالة. يفرض هـذا النـوع من الموضوعات على المتعلم اللجوء إلى أساليب الحفظ والتذكر. غير أن معظم الموضوعات تحكمها بنية داخلية . في هذه الحالة يستدعي فعل التعلم تشغيل العمليات التي تمكن من إدراك البنيـة التي تمثـل المبدأ المنظم للعناصر. وإذا اتجهت هذه العمليات بنجاح نحو غايتها القصوى أنتجت حصيلة تدل على نظرة الفرد العميقة إلى الظاهرة ، وتعبر عن قدرته على إدراك حقيقة وجودها في العالم . لقد أصبح قادرا على تلمس واستيعاب المعنى الذي يوجد خلف الظاهرة ذاتها من خلال ربطها بسياقها العام . ذلك ما يدل عليه مفهوم « سياق الفهم » الذي أفرزه التحليل الكيفي للتعلم. يدل هذا المفهوم على أن المعنى ليس خاصية من خصائص الموضوع الذي يعالجه المتعلم ، بل هو إضافة يصبغها عليه هذا الأخير. لذلك كان لابد أن ينمو أفقيا وعموديا كلما ازدادت قدرة الفرد على التعلم . يبدو التعلم في ضوء هذا التحليل على أنه العملية التي تضفي على ظواهر الوجود معانيها ودلالاتها,