آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: أسرارصاحب الستر رواية الجزء الثاني ابراهيم درغوثي - تونس

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية ابراهيم درغوثي
    تاريخ التسجيل
    04/12/2006
    المشاركات
    1,963
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي أسرارصاحب الستر رواية الجزء الثاني ابراهيم درغوثي - تونس

    أسرار صاحب الستر
    رواية
    الجزء الثاني

    ابراهيم درغوثي / تونس


    جوانب من السيرة الذاتية
    لصاحب ستر الخليفة :
    الوليد بن يزيد الأموي


    ليلة ولي " الوليد بن يزيد " الخلافة ، بعث في طلبي .
    قال : احضروه ولو كان في السماء السابعة ، فإنني في شوق إليه . وإن له في عنقي دينا حان وقت إرجاعه .
    فالرجل يعرف الآلام التي قاسيتها زمن خلافة عمة هشام والتضييق الذي نالني من الخليفة جراء دفاعي عنه جهرا وخلسة . فبقيت ساهرا في بيتي ليلتها كما لو كنت أترقب هذه الدعوة .لكن إقامتي في داري لم تخطر على بال الجند المكلفين بإحضاري ، فذهبوا يبحثون عني في حانات الأديرة وفي بساتين الغوطة وملاهي النزل الفخمة .
    وحين أعياهم البحث عرجوا على داري فوجدوني هناك ثملا لا أكاد أفرق بين الحق والباطل .
    قالوا : أجب أمير المؤمنين يا رجل .
    فقلت : السمع والطاعة لخليفة رسول الله .
    وذهبت معهم إلى دار السلطنة .
    حين وصلت ، جاء الخليفة يستقبلني أمام الباب . فتح ذراعيه واحتضنني قائلا :
    - لن يلحقك ضيم بعد الآن يا أخي . ستكون صاحب ستري كما كنت صاحب ستر والدي .
    ومد لي يده فلثمتها ، ووضعتها فوق رأسي إلا أنه سحبها بلطف وخلع من بنصره خاتما مزدانا باتلياقوت والزمرد فوضعه في كفي وقال :
    - ستكون الليلة في ضيافتي ، ومن الليلة القادمة ستقف أمام ستارتي .
    في بهو القصر ، كان مهرجا يلاعب قردا . وكانت ثلاث مغنيات واقفات على يمين الأمير ، وعلى يساره مثلهن .كن يلعبن بالفوف والمزاهر ، فسكتن عن الغناء حين وصلت لكن الأمير أشار إليهن بأن يعدن إلى ما كن فيه . فارتفعت أصواتهن من جديد بالغناء :
    عشق القلب الرباب * بعدما شابت وشاب .
    فطرب الأمير ونخر بخيشومه ، فعادت المغنيات إلى البيت يجودنه ويتفنن في تنغيمه وترديده ، وهن يتماجن ويتغامزن ويتهامزن والأمير يميل برأسه في كل الاتجاهات ويرفس الأرض برجليه ويخور كما تخور الثيران . وجواريه يضربن بالدفوف ويتطوحن أمامه وينثرن الدر والياقوت بين يديه ورجليه إلى أن سقط مغشيا عليه ، فاحتملنه في الأحضان وذهبن به إلى بيت نومه .
    فعدت إلى بيتي والأرض لا تكاد تسع سعادتي . وترقبت طلوع النهار على أحر من الجمر ، إلى أن قام صوت الرب يدعو لصلاة الصبح فقمت واقفا .
    تحممت وتعطرت ولبست أفخر ثيابي وقصدت قصر الخلافة . فذهبت مباشرة إلى" صاحب ديوان الوظيفة العمومية " وقدمت له نفسي .
    رحب بي الرجل وأوسع لي في مجلسه وطلب مني أن أترقبه مدة دقيقة حتى يجهز لي أوراق تسميتي في خدمة الأمير . وضرب على ناقوس صغير في متناول يده ، فدخلت جارية صبوح . طلب منها هذا الموظف السامي أن تجهز لي قهوتي لحين إحضار الأوراق . فجاءت القهوة بأسرع مما توقعت على صينية مذهبة ومعها قطع كاتوه بالشكلاطة والفستق والبندق
    تلهيت بترشف قهوتي إلى أن وصل " فرمان " التعيين مدموغا بطابع أمير المؤمنين ، فأوكل بي " صاحب ديوان الوظيفة العمومية " جنديا يسير بين يدي إلى أن وصلت إلى " صاحب الشرطة "
    كان الرجل يعرفني مذ كنت في خدمة مولاه يزيد بن عبد الملك بن مروان ، فمد لي يده مسلما وبالغ في الترحيب بقدومي قبل أن أفتح فمي بالكلام ، ثم دعا قهرمانة القصور الملكية .
    بعد دقائق ، وصلت امرأة في الأربعين من العمر . كانت وهي تمشي ، تضرب الأرض بقدميها فيسمع لها دفيف ، ويرتج لحمها وشحمها ، ويفوح عطر شذي من ثيابها ، عطر أخاد يستحوذ على جميع حواس البدن .
    عرف صاحب الشرطة المرأة ، بي ، فأحنت لي رأسها ، وسارت أمامي تقودني في المنعطفات إلى أن وصلنا إلى قصر الحريم حيث يعقد الأمير مجالس لهوه ليلا ، ففتح لنا الباب خصيان أسودان يحمل كل واحد منهما في يده رمحا ويتمنطق بخنجر . سلم العبدان على المرأة وأحنيا رأسيهما لتحيتي ، ثم أغلفا الباب وعدا يقفان أمامه كأنهما تمثالان من البرونز .
    وجدت نفسي وسط ساحة القصر تحيط بي الرياحين من كل
    مكان ، ولفت انتباهي صوت الطواويس الزاعقة . ونبهتني أصواتها إلى أنني أصبحت الآن في حضرة أمير المؤمنين " الوليد بن يزيد الأموي " .


    وسكت صديقي ، عالم الآثار على الكلام المباح . وبدأ شخيره يرتفع شيئا فشيئا إلى أن ملأ أرجاء البستان ، فقمت من مكاني محاذرا ، وسحبت الكتاب من بين يديه .
    ما كان الكتاب كما توقعت ، فقد كانت داخل غلاف المخطوط أوراق مختلفة الألوان والأحجام . منها رقائق من الجلد وأخرى من الورق العادي المتداول في أيامنا هذه . وكانت على الأوراق كتابات بالخط المغربي القديم الذي كنا نكتب به القرآن على الألواح الخشبية الصقيلة ، أيام كنا نؤم المساجد للعلم ، وكتابات أخرى بقلم " البيك" ، ورسوم ، وتخطيطات ، وتصويبات ، وتسطير على كلمات ، واضافات باللغة الفرنسية ...
    أعدت الكتاب إلى الصندوق وذهبت أحضر الحمار ، فوضعت فوقه البردعة وشددتها شدا قويا إلى ظهره . وتحاملت على نفسي محاولا طرح الرجل فوق الحمار . كان عالم الآثار كالميت من كثرة ما شرب من الخمر . وكان جسمه ثقيلا . لكنني حاولت أكثر من مرة ، إلى أن أفلحت في وضعه على ظهر الحمار جاعلا يديه ورجليه تتأرجحان من الجانبين . وقصدت داره مصحوبا في طريقي بنباح الكلاب وصرير حشرات الغابة وهمهمة ظلام الليل إلى أن وصلت قدام الباب .
    بحثت داخل جيوب الرجل عن المفتاح ، ثم حملته على ظهري ، ودخلت الدار ، فبحثت له عن مكان مريح . وجدت زربية مفروشة على حصير وسط ساحة البيت جعلت الرجل يضطجع عليها ، فشخر مدة بسوط عال ثم هدأ وخمدت حركته .
    أشعلت شمعة ، وأخرجت الصندوق من خرج الدابة .
    كان إغراء قراءة الكتاب كبيرا .


    حبابة
    إني سمعت خليلي * على الرصافة رنه .
    أقبلت أسحب ذيلي * أقول ما حالهنه .
    إذا بنات هشام * يندبن والدهن .
    يدعون عولا وويلا * والويل حن بهن .
    أنا المخنث حقا * إن لم أنيكنهن .
    أمير المؤمنين : الوليد بن يزيد الأموي


    الروح تدق على أبواب القبر
    " نار أنت يا حبابة .
    نار كنار المجوس الأبدية .
    نار يشتعل أوارها في أعماقي ، تسكنني ، تدب داخل شراييني دبيب السم في الجسد .
    صوتك المسكون بالسحر والفجيعة زرع في روحي الطفلة حب الشعر والغناء والخمرة والقول في ما يجب وما لا يجب .
    علمني سحرك أن أغفر لأبي جنونه وأن لا أذكرك بشر أبدا ".
    هكذا كان الوليد يحدث نفسه ، ويحدثني كلما اختليت به .
    كان يطلب مني أن أحكي له عن تلك المرأة التي سلبت عقل والده وجعلته يدفع فيها لآلاف الدنانير الذهبية .
    كان يردد :
    هو ذا جنونك يا سيدي أرث منه نصيبي .
    تترك دار الخلافة ، وتذهب إلى قصر في بادية الشام محملا بالأطعمة والبخمور ، وبحبابة .
    وتطلب من البنائين أن يسدوا عليكما كل منافذ القصر ، وأن يتركوك وحدك مع جنيتك .
    ما أسعدك يا أبي ، وأنت على سرير ممهد تلاعبها وتلاعبك ، تغنيها فتغنيك وحدك أشعار الغزل بعد ما كان صوتها مباحا لكل العالم .
    ما أشقاك يا أبي وهي تموت بين يديك . تأكل من رمانة ، فتشرق بحبة منها ، فتموت . وأنت وحدك في القصر . والأبواب تمنع صوتك من العبور . ولا حكيم يعينك على تخطي هذه النائبة .
    وتبقى حبابة في حضنك ثلاثة أيام بلياليها ، وأنت تتشممها وتترشفها وتمسح على شعرها ، حتى أنتنت وفاحت رائحتها .
    ولم يفدك طيب كل الدنيا .
    ويفتح البناؤون الأبواب ، فيقفون مشدوهين أمام الفاجعة .
    ويبلغ الخبركبار الدولة ، فيصلون تباعا عندك يسبقهم الشعراء وقصائد الرثاء ودموع الخنساء و ... ترفض دفنها . تتشبث بها . تنفخ فيها من روحك يا أبي . تقول إن روحها ذهبت في نزهة إلى الجنة لتتفقد القصور التي ستحتفل بكما يوم يزف الرحيل ، وإنها ستعود بعد قليل . ومن العار أن تجدها تحت الأرض .
    وتقول : أعينوني بالصبر أياما أخرى . أليس من حق الأرواح أن تضيع في دروب السماوات ؟ إنني متأكد من أنها أخطأت طريق العودة . قد تكون ذهبت إلى واحد من قصورنا في دمشق ، إذن احملوا حبابة إلى قصري بالرصافة ودعوها تنام ليلة أخرى في بيتها لعل روحها تعثر عليها هناك .
    ويسفه أعمامي رأيك ، فتقول لهم إنك تعلم ما لا يعلمون .
    ولكنك تذعن في الأخير لمشيئتهم ، فتأمر بدفنها .
    وآه من يوم الدفن أيها العزيز . هل تقدر على المشي وراء جنازتها ؟ أبدا فلا القدمان تحملانك . ولا القبر يصبر . فترفع على سرير يحمل على أعناق الرجال ، كأنما أنت الميت .
    يا الله ...
    أفي قلبك كل هذا الحب لجاريتك ولا يلحقنا منه مثقال ذرة ؟
    تتلهى بها ، فتلهيك عن دنياك والآخرة .
    وتنسى أنك أمير المؤمنين . وأن لأهلك عليك حق ، ولشعبك عليك حقوق أكثر .
    ولكن من يسألك عن هذه الحقوق يا ... أبي ؟
    تشتاق لحبابة بعد ثلاثة أيام من دفنها ، فتأمر بنبش القبر . ولا يفيد معك تضرع ولا تهديد .
    تقول : افتحوا نوافذ تطل على حبيبة القلب يا أولاد الزنى . إني أسمع دق الروح على أبواب القبر. فينبش القبر، ويكشف لك عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا .
    وتسأل : هيه ... كيف صارت ؟
    فترد على الشامتين : ما رأيتها قط أحسن منها اليوم .
    ما أحلاها ... ما أبهاها ... أخرجوها من القبر .
    وتنقرف ، فتموت وتدفن بجانبها .
    وتتركني لعمي هشام يسومني سوء العذاب . فأستجير بالخمرة أطمع في رحمتها ، فيلاحق أخوك جلساتي ويهتك ستري ، ويشيع في طول المملكة وعرضها أخباره عن كفري وفسقي ومجوني .
    وتنفخ دعايته في أبواقها ، فلا يترك وسيلة من وسائل الحط بالكرامة إلا وألصقها بي . ثم يدعوني للتنحي عن ولاية العهد ، فأرفض ، فيزيد في تعذيبي . يحاصرني بالمجانين وبالدعايات . ويمنع عني الراتب . ويقبض على أصحابي فيسجنهم أو يقتلهم .
    ويقول في مجالسه الخاصة والعامة : سأجعل الوليد يتخلى عن ولاية العهد طائعا ذليلا .
    وكنت كلما ازداد في مكره ، أزداد فجورا وكفرا ، إلى أن جاءتني الخلافة فلم أبق ولم أذر
    ويصيح :
    - اسقني يا " سبرة " أكؤسا ... اسقني بزب فرعون . فيجيء الغلام بقدح معوج فيه طول وزخرفة ، ويسقي الأمير المرة تلو الأخرى إلى أن يكرع من يديه عشرين قدحا .
    ويتنهد الأمير ، ويقول :
    - هيه ... أنت يا صاحب ستري ، هل داخلك الضيق من حديثي ؟ هل حركت أوجاعك ؟
    وأرد :
    - بلى يا مولاي .
    ثم أضيف بعد مدة :
    احمد ربك الذي جعلك خليفة وجعل رقاب هذه الأمة بين يديك .
    فيتنهد مرة أخرى ، ويقول :
    - لقد أفسد حياتي ذلك الكلب الأحول .




    هل ينسى القلب شكل المدية التي ذبحته ؟

    أتذكر الليلة يا صاحب ستري مؤدبي " عبد الصمد بن عبد الأعلى " . هل تذكره أنت أيضا ؟
    ولا يترقب جوابي ، فيواصل :
    - كان ذلك الرجل قطعة من روحي ولست ّأدري إلى الآن كيف أطعت نفسي وسلمته إلى عمي " الأحول " كي يقتله بعد أن اتهمني وإياه باللواط والزندقة .
    لقد قرأت القرآن على يدي الرجل ، وأنا ابن خمس سنين . وكبرت في حضنه توده أمي بالهدايا ، فيودني بعلمه .
    علمني الفلسة وعلم الكلام ، حين كبرت ، وخضت وإياه في علوم الدنيا والدين . كان الرجل أكبر من فقهاء هشام ، فكرهوه وأوغروا قلب الأمير عليه . وكان يحبني ، فزاد في كرهه ورماه بالإلحاد .
    ما أسهل أن تتهم إنسانا بالإلحاد يا أخي مع العلم أن الرب جلت قدرته جعلها من الكبائر لأنه وحده علام الغيوب .
    سلمت يا صاحب ستري " عبد الصمد " إلى" هشام " لأنجو بنفسي من التهم ، فما أحقرني يا صاحبي وما أبشع هذه الفعلة التي اقترفتها أنا ابن الملوك وسليل الأمراء ، أسلم خليلي إلى عدوه ليبعث به إلى " يوسف بن عمر الثقفي " عامله على العراق ليقتله صبرا .
    أخذ كلاب " هشام " الطريدة إلى الجزار ، وبقيت في الشام أتنسم الأخبار .
    كنت أرجو أن يموت الخليفة قبل أن يصل عبد الصمد إلى العراق ، فقد وعد " يوسف الثقفي " هشاما بشي مؤدب الزنديق حيا .
    ياااااااااااااااه ، ما أقسى قلبك يا وليد .
    التقت نظراتنا وهو يغادر مجلسي آخر مرة . رأى في عيني دموع القهر ، فجاء يربت على كتفي ويمسح الدموع بكفه كما كان يفعل وأنا طفل .
    قبلت الكف وأجهشت بالبكاء ، فضمني إلى حضنه ضما خفيفا مرة أولى ثم أبعدني وعاد يضمني من جديد .
    وبقينا هكذا أكثر من سبع مرات إلى أن تدخل الحراس ، فوضعوا القيد في يديه وجروه من أمامي جرا .
    هل يمكن أن أنسى يا صاحب ستري ؟
    قل لي هل ينسى القلب شكل المدية التي ذبحته ؟




    الوالي يذبح أضحيته في المسجد

    حدثني " عبد الصمد " ذات ليلة عن بطش ولاتنا بالمسجونين حتى كدت أبكي إشفاقا عليه بعدما سلمته للقتل .حكى لي عن " الجعد بن درهم " الذي كانت تربطه به علاقة صداقة حميمة أيام كان يقيم في " دمشق " ثم فرقت بينهما السبل .
    قال لي إن الجعد ترك الكتاتيب وتعليم الصبيان الكتابة والقراءة والقرآن وصار يجادل الفقهاء في أمور الدنيا ، فاختلف معهم ، فاشتكوه إلى أمير المؤمنين متهمين إياه بتحريض الغوغاء عليهم ففر الرجل من " دمشق " إلى " الكوفة " وظل متخفيا هناك إلى أن ألقى عليه حرس الوالي القبض قبل أيام من عيد الأضحى .
    خطرت للوالي فكرة لا تخطر على بال إبليس ، فقال سأنفذها وسيحفظ لي التاريخ حق الاكتشاف .
    طلب من جنده الاحتفاظ بالأسير في زنزانة انفرادية بالسجن المركزي وأكد على التشديد في الحراسة لأنه قرر أن يفاجئ جمهور المصلين في مسجد الكوفة يوم عيد الأضحى بأمر جلل .
    وظل الجعد في الحبس والوالي يشحذ سكينه كل يوم ألف مرة إلى أن هل العيد واجتمع المسلمون للصلاة والسلام على بعضهم .
    طلب الوالي أن يحضر إلى المسجد الجامع كل رجال الكوفة وأن لا يتخلف أحد ، فجاءوا من كل مكان . وجيء بالجعد بن درهم مكبلا بالأغلال .
    تركوا الرجل جانبا إلى أن صلى الأمير بالرعية ، ثم عاد فاعتلى المنبر وخطب فيهم قائلا :
    انصرفوا الآن وضحوا يقبل الله منكم . اذبحوا عجولكم وكباشكم وخرفانكم وجمالكم ومتعوا أطفالكم باللحم ، وتصدقوا على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، أما أنا فأريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم ، فإنه يقول :
    " ما كلم الله موسى ولا اتخذ ابراهيم خليلا "
    ونزل من فوق المنبر واستل سكينا من بين طيات ثيابه ، فذبح الجعد من الوريد إلى الوريد .
    ترك الرجل يتخبط فوق حصر المسجد إلى أن بردت جثته ، ثم أمر به فصلب على جذع نخلة في ساحة السوق .



    غيلان الدمشقي يبيع متاع بني أمية في السوق.

    أحببت في شبابي الأول " غيلان الدمشقي " . رأيت فيه وجها من وجوهي ولكنني كنت عاجزا ، وكان قادرا . كنت جبانا ، وكان شجاعا . كنت موسرا رغم تقتير عمي " هشام "، وكان فقيرا .
    حدثني عنه مؤدبي " عبد الصمد " أيام دعا ابن عمي " عمر ابن عبد العزيز " إلى اعتناق مذهبه ، مذهب " القدرية " الذي يقول بحرية الإرادة ومسؤولية الإنسان عن أفعاله .وأكد له أن الذي يجيء من الله هو إيضاح طريق الهداية ، ثم يبقى على الإنسان أن يختار . وقرأ على مسامعه من سورة " الكهف " : " وقل الق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " .
    فرد عليه عمر بن عبد العزيز :
    - إن الإنسان لا يقدر على شيء يا صاحبي ، وإنما هو مجبر في أفعاله ، لا قدرة له ولا إرادة ولا خيار . وإن كل ما في أمره أن الله يخلق الأفعال فيه .
    وقرأ من سورة " الأنعام " : ذلكم ربكم لا إله إلا هو ، هو خالق كل شيء فاعبدوه .
    ودامت المناظرة بين الرجلين أسابيع ، لكن " عمرا " لم يقتنع بمذهب " غيلان " . ومع ذلك طلب منه أن يعينه على إصلاح حال هذه الأمة .
    قال له :
    - لك مذهبك يا صاحبي في الاختيار ، ولي مذهبي في الجبر ، وعند الله علام الغيوب الخبر اليقين .
    فاستجاب له " غيلان " مشترطا عليه أن يرد حقوق الناس إلى أهلها وأن يبيع خزائن الأمويين ، فوافق الخليفة .
    ونادى المنادي أن تعالوا يوم الجمعة أمام المسجد الكبير.
    وتكدست في الساحة نفائس القصور : موائد من فضة وملاعق من ذهب مرصعة بالدر والياقوت ، وطنافس ، وفرش من الحرير الخالص ، وستائر مزركشة بالذهب ، وعقود ، وخواتم ، وخلاخل ، وأساور من المعادن الثمينة ...
    كان " غيلان " يمشي فوق هذه الأمتعة ، ويرفسها برجليه صائحا :
    - من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى ، وهذا متاعهم ، والناس يموتون من الجوع
    ثم يرفع صوته بالنداء :
    - تعالوا يا محتاجين إلى متاع الظلمة
    تعالوا ، فخذوا ما يروقكم واذهبوا غانمين .
    في تلك الأثناء مر " هشام بن عبد الملك " من أمام الجمع المتحلق حول " غيلان " فوقف هنيهة يراقب المشهد ، ثم قال : أرى هذا الرجل يعيبني ويعيب آبائي . والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه .


    النبوءة

    وتحققت نبوءة الأحول بعد موت أبي .
    كان غيلان قد فر إلى " أرمينية " حين اعتلى هشام عرش الأجداد .
    وازداد حبي لغيلان ، فقد ظل الرجل على حاله ينشر أخبار ظلم هشام للرعية ، ويحدث عن عيوبه الكثيرة ، ويتمنى على الناس الثورة عليه .
    وكنت مبوءا للخلافة ، فطلب مني " عبد الصمد " أن أعتنق مذهب القدرية ، وأن أتصل بقادتهم في " المزة " وفي " دمشق " .
    وراقت لي الفكرة ، فامتنعت أياما عن شرب الخمر والسهر مع أصدقاء السوء .
    وتجاذبني حبلان : السلطة والثورة على هشام والوقوف تحت راية غيلان ، أو المجون والاستماع إلى الدفافات والصناجات وضاربات الطنبور .
    وتقاطعت سبلي ، إلى أن بلغني نبأ أسر غيلان ووقوعه بين يدي هشام ، فبت في سكر وعربدة حتى الصبح .



    السياف يقطع لسان غيلان

    لما وصل " غيلان " إلى " ساحة العذاب " ، كانت الشمس تنزل على الوجوه سياطا من نار . وكان المتفرجون الذين زج بهم أعوان " هشام " في الساحة يزدادون بمرور الوقت ، فقد تجمع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بعد أن أرغمهم الجند على التحلق حول سياج ضرب وسط الساحة الكبيرة .
    كان الهرج قد اشتد . وبدأ رجال في التصفير والتصفيق معلنين ضجرهم من هذا الترقب حين وصل جنديان مدججان بالسلاح الساحة .
    قادا الجنديان " غيلانا " إلى أن وصل دكة عالية ، فأشهروه حتى يراه الناس .
    كان الرجل لابسا جبة صوف على اللحم ، وكانت لحيته تتدلى على صدره ، وكان رأسه محلوقا .
    بقي واقفا في شمس منتصف النهار أكثر من ساعة إلى أن عاد الحضور إلى الضجيج والهرج الشديد . ساعتها ، دخل السياف من وراء سور الساحة . شق طريقه وسط الجموع يسبقه سيفه اللامع تحت أشعة الشمس إلى أن وصل إلى سلم منصوب على الدكة ، فارتقى الدرجات بهدوء ملتفتا ذات اليمين وذات الشمال إلى أن وصل إلى السطح فوجد نفسه وجها إلى وجه مع " غيلان " .
    رأيت خطواته ترتبك وهو يقترب منه ، لكنه تماسك وشد على قبضة السيف بعنف ثم وخز به الرجل في خصره . فلم يتحرك " غيلان " وظل جامدا كالصخرة .
    كان " غيلان " واقفا أعلى من كل الحاضرين .
    وكان السياف المزهو بسيفه يزداد ذبولا كلما اقترب منه .
    في تلك الأثناء ، والسكون يعم الساحة ، علا صراخ طفل قرب الدكة ، فهمهمت أم تود إسكات الصوت . لكن صراخ أطفال آخرين تجاوب معه ، فعم صراخ جوقة الأطفال كل مكان .
    التفت السياف نحو كوكبة من الجند جاءت للحراسة ، فتحركت الخيول تشتت الضجيج وتملأ المكان رعبا .
    وعاد الهدوء يلف الساحة ، فكأن على رؤوس الحاضرين الطير . حينها فقط ثبت السياف قدميه على أرضية الدكة ، فقدم رجلا وأخر أخرى وأمسك السيف بكلتا يديه فرفعه عاليا حتى ظهرت سرته وضرب به كتف " غيلان " اليمنى ضربة ثناها بأخرى جعلت اليد تطير في الهواء ، ثم تسقط على الأرض مرتجفة كجناح طير قص من جذعه .
    وانطلقت من الجمهور الحاضر صيحة فزع رهيبة ، فعاد السياف إلى اليد اليسرى يفعل بها فعله باليد اليمنى .
    وعاد الحضور إلى الصراخ والهمهمة .
    وأغمي على عدد كبير من الخلق .
    وفار الدم من جراح الرجل الذي ترنح وسقط على الدكة ، فارتقى عبدان السلم الموصل إليه ، فأقاماه وأسنداه إلى سارية ثم ربطا بحبل جذعه بالسارية ونزلا من الدكة ملطخين بالدم .
    واقترب السياف مرة أخرى من الرجل . وبضربة من السيف البتار قطع الرجل اليمنى ، ثم قطع الرجل اليسرى بعدة ضربات من السيف ، فهوى الجذع على الدكة .
    حين رفع السياف رأسه ، كانت الساحة فارغة أو تكاد . فلم يبق هناك سوى كوكبة من حرس الأمير وجماعة قليلة من الرجال وجدت نفسها وسط الجند ، فلم تقو على الفرار . فظلت صامتة تتابع المشهد بذهول وقرف .
    وأفاق " غيلان " من دهشته : فقال :
    قاتلهم الله ، كم من حق أماتوه ، وكم من باطل أحيوه .
    وظل يردد هذه الجملة . رددها بهدوء في الأول ، ثم بدأ صوته في الارتفاع شيئا فشيئا حتى بلغ قصر أمير المؤمنين " هشاما " ، فسمعه .
    سمع " هشام " الصوت ، فأصم أذنيه . وأصم الوزراء وأرباب الدولة آذانهم . ومثلهم فعل كبار الأمراء وصغارهم ، ونساء القصور السلطانية ، وكبار التجار ، وباعة العبيد ، وأمناء أسواق النخاسة .
    وخاف " هشام " أن يتحول هذا " الصوت " إلى " صورة " ، فطلب من سيافه أن يقطع لسلن " غيلان " .
    برك السياف على صدر الرجل ، وأدخل يديه عنوة في الفم غير مبال بعض الأسنان . ثم بواسطة رأس السيف قطع اللسان من الجذر . لوح به هنيهة أمام الأنظار ، ثم طوح به في فضاء الساحة التي أصبحت الآن خالية من الناس ، فحتى كوكبة الجند السلطاني كانت قد أخلت المكان قبل أن يبدأ السياف في النزول من الدكة التي تحولت إلى بركة دم .



    dargouthibahi@yahoo.fr


  2. #2
    أديب الصورة الرمزية ابراهيم خليل ابراهيم
    تاريخ التسجيل
    16/03/2007
    المشاركات
    1,653
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    تقبلوا خالص تحياتي
    أخوكم


  3. #3
    أديب الصورة الرمزية ابراهيم خليل ابراهيم
    تاريخ التسجيل
    16/03/2007
    المشاركات
    1,653
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    تقبلوا خالص تحياتي
    أخوكم


  4. #4
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي الأخ / إبراهيم
    يبدو أن هذه القصة ، من قصص الفانتازيا ، الأسلوب لا شك رائع ، واللغة محكمة، رغم جود بعض الكلمات ، التي بترت بعضا من حروفها ، ويبدو أنها قد تعاطفت مع شخوص الرواية .
    بالطبع يوجد كلمات يها إسفاف غير مقبول ، كما في قصص ألف ليلة وليلة الغير منقحة ، ولا تقل أنه الفن ، فالفن يتخير الجميل والعذب من الكلمات .
    اقشعر بدني لصور حمامات الدم والتقطيع ، وقد وصلت الفانتازيا إلي أوجها ، وبالطبع الذبح في صباح عيد الأضحي ، يعيد إلي أذهاننا إعدام صدام حسين ، دون مراعاة لشعور المسلمين في أنحاء العالم ، ويبدو أن الرواية تحمل دلالات عميقة ، ولكن بالله عليك لا تستخدم تلك الكلمات التي تخدش الحياء ، وأدعو الله أن يصفو الجو في الجزء الثالث ، والخيال يمرح بين الجنان ويتمرغ في الحرير ، لننسي تلك الصور البشعة .
    تقبل مروري


  5. #5
    أديب الصورة الرمزية نزار ب. الزين
    تاريخ التسجيل
    30/09/2006
    العمر
    92
    المشاركات
    1,703
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    أخي الحبيب ابراهيم
    لم أكن أعلم أنك متبحر بالتاريخ العربي و أنك غصت في أعماق أحداثه المشرفة منها و تلك المخزية
    في انتظار بقية الرواية ، اشد على يمناك مهنئا راجيا لك دوام التألق
    نزار


  6. #6
    أديب الصورة الرمزية نزار ب. الزين
    تاريخ التسجيل
    30/09/2006
    العمر
    92
    المشاركات
    1,703
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    أخي الحبيب ابراهيم
    لم أكن أعلم أنك متبحر بالتاريخ العربي و أنك غصت في أعماق أحداثه المشرفة منها و تلك المخزية
    في انتظار بقية الرواية ، اشد على يمناك مهنئا راجيا لك دوام التألق
    نزار


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •