ان تقدير العالم واحترامه لقراراتنا وخطاباتنا العربية المصيرية الداخلية منها والخارجية , وسلوكياتنا وتصرفاتنا السليمة والعقلانية , لا يمكن أن يأتي من قرارات وخطابات وتصرفات ولدت في ظل التفرق والتشرذم والتقزم العربي المخجل والمخزي , بقدر ما ينبع من رؤية الآخرين لتلك القرارات والخطابات والتصرفات والسلوكيات المتخذة , وهي تصدر في ظل الإجماع والوحدة والتعاون العربي المشترك , ولكن - وللأسف الشديد - فان الظاهر من الأمر بأننا - نحن العرب - , وبعد كل هذه السنوات الطويلة من التجارب السياسية والثقافية , لم نفهم بعد تلك النقطة الحاسمة في عالم الكبار , إذ لا زلنا نتصور ان خطاباتنا الفارغة ذات التجليد الفاخر , وسلوكياتنا وتصرفاتنا العنجهية العشوائية , سترفع من قدرنا ومكانتنا بين أمم العالم وشعوبه وحضاراته , وبان قراراتنا المتخذة بعيدا عن الوحدة وإجماع الصف العربي , سترفع من رصيد حساباتنا وأسهمنا التاريخية , واحترام الآخرين وتقديرهم لنا.
ونحن نقترب من نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , - وللأسف - لم يتغير فينا الكثير بعد , إذ لا زلنا نتكلم ونثرثر أكثر مما نعمل ونفعل , ونأكل أكثر مما نفكر ونقرأ , ونجامل ونداهن ونتملق أكثر مما نبني ونصنع لحاضرنا ومستقبل أبنائنا , وكما حملنا معنا لأجيال هذا القرن الكثير من خطاباتنا وقراراتنا العربية الفارغة من القرن العشرين , وهي خاوية من أي فعل ملموس , فإننا نخشى ان يستمر الفعل العربي المضارع , على ما كان عليه في الماضي خلال القرن الحادي والعشرين " لا قدر الله " , وخصوصا بأننا لا زلنا ننجرف أكثر فأكثر , الى دائرة التقزم والتشرذم والتفرق والخلافات والصراعات الداخلية المقيتة.
فإذا كانت الحقيقة الوحيدة هي تلك التي يستطيع المرء تحقيقها , فإن حقيقتنا الوحيدة - نحن العرب - هي بأننا لم نحقق بعد أي شيء يستحق بأن نمنحه وسام فخر للأجيال العربية الناشئة , ولا تلك التي لم تشاهد النور بعد , والتي كما يقول ذلك الدكتور شاكر النابلسي ستشاهد الأمة العربية وقد أصدرت خطاباتها بورق فاخر , وتجليد فاخر , ولكن لا شيء بداخلها سوى الفراغ والثرثرة والتمنطق والتفيهق والسجع , في وقت حرج وحاسم ومصيري , حيث نشاهد أمم الأرض جميعها وهي تتقدم بخطوات ثابتة نحو المستقبل , بينما لازلنا نمني النفس اننا سوف نلتقي.
فها هي فلسطين الغالية ارض الطهر والرسالات وشعبها الأبي الصابر , وبعد كل هذه السنوات من النضال والقتال والكفاح والوقوف بشرف ووطنية وإباء أمام سيل الإرهاب والإجرام الصهيوني الجارف , لا زالت تعاني الألم والقهر والظلم والحصار , ويعاني أبناءها البسطاء الشرفاء الجوع والكبت والإحباط والتشرد , في ظل التفرق والتشرذم والتقزم والخلافات الداخلية الرسمية التي أضعفت كثيرا من قضيتهم أمام المجتمع الدولي, بل - وللأسف الشديد - كانت السبب المباشر في أكثر الأحيان لما يعانيه الشعب الفلسطيني اليوم , وكل ما حصل عليه بعد كل ذلك , مجرد أكوام وأطنان من الخطابات الرسمية العربية الفارغة , وردات الفعل المخجلة , والتي لم تسمن ولم تغني من جوع.
فكيف نطالب العالم ان يتدخل لحل صراعاتنا وخلافاتنا ومشاكلنا الداخلية , ونحن أبناء الوطن الواحد , والدين الواحد , واللغة المشتركة , والتاريخ المشترك , بل ونعيش في بقعة هي من اطهر بقاع الأرض , وتحوي اشرف مساجدها وأقدسها , غير قادرين على نبذ تلك الصراعات والخلافات بيننا في الداخل , بل ونتصارع ونتقاتل على أسس طائفية وحزبية ومذهبية ومصالح شخصية في اغلب الأوقات , متناسين ان هناك ما هو أغلى وأسمى وأعظم من كل ذلك , - ونقصد - بذلك الوطن الفلسطيني العربي الغالي , وقضيتنا العربية التاريخية المصيرية التي راح فداء لها العديد من النفوس الطاهرة , وسالت على شرفها الكثير من الدماء الطاهرة الزكية , يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } صدق الله العظيم.
وفي العراق الحبيب الذي لا زال يعاني وشعبه المسلم العربي العظيم , ويلات الاحتلال الأميركي الظالم وقسوته ومرارته , بعد تاريخ مجيد وبصمات مشرفة لا يمكن ان ينكر دورها العرب والمسلمين على مر التاريخ , وفي الصومال والسودان ولبنان وغيرها من أوطاننا الإسلامية والعربية الحبيبة , والتي لا زالت تتجرع ويلات الاحتلال والاستعمار الخارجي ومرارة التشرذم والخلافات الداخلية , والانقسامات المذهبية والحزبية والطائفية , ومصالح الساسة الشخصية , ومفاسد الخونة والعملاء من الناقمين ومن سايرهم وجاملهم وداهنهم على تراب هذا الوطن العربي العظيم , ومقدرات شعبه وثرواتهم وخيراتهم التي من الله بها عليهم.
وها نحن اليوم وبعد ما يزيد عن المائة سنة , لم نحصل سوى على خطابات رسمية فارغة , وكتابات ثقافية وأدبية امتلأت بها المكتبات عن الوحدة العربية والمصير المشترك , والأمن الثقافي العربي والهوية العربية الموحدة , بينما لا زالت الحواجز الفولاذية على الحدود العربية تمنع الداخل من الخروج , والخارج من الدخول سوى بتأشيرات رسمية , ويعتبر بيننا المواطن العربي العامل مجرد أجير وافد لا فرق بينه وبين أي وافد من خارج الحدود العربية , وغيرها الكثير من مظاهر الفرقة والتشرذم والتقزم العربي الحضاري المخجل.
فكيف نريد من يد الإنسان ان تعمل وهي مقطوعة , وملقاة بعيدا عن جسمه ؟ , وكيف نريد من قلب الإنسان ان ينبض , وهو بعيد عن جسمه ؟ , نعم ... ان هذا الوضع لا يقره عقل , ولا يمكن ان يقبل به منطق , فهو وضع شاذ لا ينبغي ان يبقى يوما , فضلا عن ان يبقى أعواما , لذا فان قادتنا وساستنا ومثقفينا وكتابنا وعلمائنا ومن تعول عليهم هذه الأمة أمر قيادتها وسياستها وتوجيهنا , مطالبون بخلع قمصان النوم من على أجسادهم , فالذين لا يزالون منهم في عالم ألف ليلة وليلة , إنما يعيشون في عالم الأحلام , في بيت اوهن من بيت العنكبوت , في بيت مهدد بالإخطار , لا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم , آلا ان عهود ألف ليلة وليلة قد مضت وولت فلا يخدعن أنفسهم بها.
فهل سنجد خلال الفترة القادمة مما تبقى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , وفيما نحن مقبلون عليه من قمم عربية واجتماعات رسمية وغير رسمية , ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية , وعلى مختلف الأصعدة والجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية , أي تغيير في لهجة ونصوص الخطابات والقرارات العربية المقبلة ؟ وهل سترقى الى مستوى الفعل المضارع ؟ وهل سيعي الجيل السياسي والثقافي القادم ان الكلمات والخطابات والخطب الرنانة والثرثرة الزائدة لا تصنع الحاضر ولا تبني المستقبل , بل يصنعه الفعل والعمل , في ظل الوحدة والمصير المشترك , يقول الحق عزوجل { إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } صدق الله العظيم.