النقد الانطباعي أو التأثري أقدم منهج للنقد ظهر في التاريخ القديم ، ولم يختف قط ، بل ظل قائما وضروريا حتى اليوم .وهو نقد له ارتباط وثيق بالقيمة ، لذلك فهذا النوع من النقد غير مستقل عن المدح أو الذم (1). ويقوم به أناس اعتادوا بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب على ما يقرؤون بالجودة أو الرداءة .

والطابع الغالب على نقد الشعر في المغرب هو النقد الانطباعي ، ولا غرابة في ذلك ، لأن الناقد في المغرب ؛ وتأثرا بالنقاد القدامى ؛ كان يشعر بأنه قاض وحكم ، ومهمة القاضي تنتهي دائما بإصدار الحكم ، " وأبسط صورة للحكم هي أن يعبر الناقد عن رضاه عن العمل الأدبي أو نفوره منه، فيقول مثلا إنه جيد ، أو إنه رديء ، وقد يقول إنه حسن أو إنه قبيح "(2) .

ويقوم النقد الانطباعي على أسس واضحة هي الذوق وتغليب العاطفة والإحساس على العقل. والسمات الأساسية للنقد الانطباعي يمكن أن تلخص في أربع نقط هي :
- 1 - التقريظ - 2 - التجريح - 3 - التستر - 4 - الخصومة .

وسنكتفي في هذا المقال بالبحث في النقطة الثالثة التي لها ارتباط وثيق بظاهرة التستر وراء أسماء مستعارة أو مرموزة .

من سمات النقد الانطباعي التستر والاختفاء وراء أسماء مستعارة أو مرموزة . وهي تنقسم إلى ثلاثة أنواع :
أولا : توقيعات أقرب إلى الاسم الحقيقي للناقد : أبو مدين الشافعي – أبو نصر الفارابي – التادلي – الحسن بن محمد – (ربيعة – ن ) – (ع – س – حجي ) – الفرقاني – ( لطيفة – ع ) – ( محمد – أ – غ ) – (محمد – غ ) – محمد قصارة – المكناسي – الهاشمي – الهلالي – الهواري – الوزاني -
ثانيا : أسماء مستعارة يصعب معرفة أصحابها : ابن أبيه – ابن البنين – ابن البهجة – ابن تاشفين – ابن جلا – ابن حامد – ابن حزم – ابن الحسن – ابن حماد – ابن خلدون الصغير – ابن الشاطئ – ابن عباد – ابن عبد الله – ابن العربي – ابن عصام – ابن عمار – ابن قيس – ابن ياسين – أبو إدريس – أبو بكر – أبو جمال – أبو حامد – أبو خالد – أبو خليل – أبو الربيع – أبو رجاء – أبو سعد – أبو سلام – أبو الطيب – أبو عبد السلام – أبو عبد الله – أبو عثمان – أبو عمر – أبو فائق – أبو فارس – أبو فراس – أبو كمال – أبو مالك – أبو المحاسن – أبو مروان – أبو نادية – أبو الهدى – أبو الوفا – أبو يوسف – أديب – الأديب – أسامة – أسماء – أمين – الأمين – إنسان – باحث – الباحث – بن عاشور – بوزانبو – التباع – جامعية صريحة – جمال الدين – حاتم – خالد – خبير – الخطيب – الراوي – الرقيب – السمير – شاب – الصاحب – صحافي – صخر – صديق – صديق الأدباء الناشئين – صلاح الدين – عابر سبيل – عادل – عاكف – عبد النبي – عروة – عصام – ( ع – صديق شيبوب ) – علام – عنترة – فتى الحي – فتى العاصمة – فؤاد – قال إني عبد الله – لبيب – متأدب – مخبر أمين – مدرس – المراسل – مصطفى – ملاحظ – الملثم – مندوب العلم – المنصور – ناقد – ناقد غيور – نقاب – النذير – هائم – همام – هو – وادع – الواعظ ..
ثالثا : أسماء مرموزة : ( أ – ب – ح ) – ( أ – س ) – (ب – ش ) – ( ج – س ) – ( ح – ب – م – س ) – (ح – ق ) – (ح – و ) – (د) – ( د – ب – ج) – ( ر – ش ) – ( ر – ف ) – ( س –ع ) – ( ع ) – ( ع – ب ) – (ع – ع ) – ( ع – ق ) – ( ك – ب) – ( ل – ج – ع ) – ( ل – ع) – ( م ) – ( م – غ )

إن التقسيم أعلاه يبرز بشكل واضح أن الأسماء المستعارة هي الغالبة ، وتأتي بعدها الأسماء المرموزة . أما الأسماء القريبة إلى الاسم الحقيقي فهي قليلة جدا لا تتعدى العشرة . بالإضافة إلى ذلك وجدنا تركيبة أخرى من الأسماء تجمع بين الأب والابن ، أو الاسم والرمز ، أو الحرف الأول والحرف الثاني – وقد يتعداهما ، أو اللقب والكنية .

والقارئ للأسماء السابقة يلمس دلالات كثيرة منها :
- دلالة تراثية : ويمكن التمثيل في هذا المجال بالأسماء المستعارة التالية : ( الصاحب ) - (ابن عباد) - ( عنترة ) - ( أسامة ) - ( أبو الطيب ) – ( ابن عمار ) – ( عروة ) – ( ابن حزم ) . فمرجعية هذه الأسماء التراثية واضحة تعود إلى شخصيات عربية ؛ تاريخية وأدبية ؛ يشهد له التاريخ ببطولاتها ومواقفها الشجاعة والنبيلة . وهو ما أراد الوصول إليه الموقعون بهذه الأسماء .

إن الانتساب إلى التراث موقف حضاري من جهة ، وتموقع للرؤية من جهة ثانية . فالاختيار لم يكن صدفة ، بل كان مبنيا على حسابات دقيقة للكتابة ومستوياتها . وفي هذا السياق تلعب العناوين الفرعية دورها في إبراز الهدف من الكتابة ما دام ( ابن عباد ) لا يكتب إلا ( لذعات بريئة ) ينبه فيها الأدباء ، ويوجه من خلالها الشعراء مقنعا بأن السلف استمرار للخلف (3) .

دلالة أخلاقية : ويمكن التمثيل هنا بالأسماء المستعارة التالية : متأدب – واعظ – النذير – ناقد غيور – وادع – الأمين …

دلالة بيئية أو محلية : ونمثل لها بأسماء مثل : ( ابن الشاطئ ) – ( فتى الحي ) – ( فتى العاصمة ) – ( ابن البهجة ) – ( فتى المغرب ) – ( ابن تاشفين ) -

- دلالة حرفية : ولعل أهم ظاهرة في هذه المرحلة تجسدت في التوقيع بالحرفين الأولين من اسم الكاتب ولقبه . وللأمر مبرراته ( الرقابة الاستعمارية – الرقابة الذاتية – حساسية الموضوعات وجدتها .. الخ ) آنذاك . يقول عبد الرحيم مودن : " إن الرسم للحرفين يخلق لدى القارئ متعة الإثارة والاكتشاف ، فضلا عن شد الانتباه وإثارة الأسئلة حول المقال الموقع بالأحرف الأولى ذات البعد الرمزي " (4) .

إن الكتابة عند نقاد المغرب كانت مرادفا للجهاد بكل دلالاته العميقة ، فسيان إن كانت هذه الرموز أو الأسماء المستعارة حاملة لمرجعيتها التراثية أو الأخلاقية أو البيئية أو اللغوية . فالاسم الوارد على أعمدة الصحافة الوطنية آنذاك كان يبنى من أتون المعارك ، ويعيش تحولاته عبر تقاطعاتها العميقة .

وهذه الرموز أو الأسماء المستعارة لا تعني أبدا أن كل كاتب مقالة كان يلجأ إلى هذا الضرب من التستر . فكثيرة هي المقالات الموقعة بأسماء أصحابها . ولا يمنع هذا القول أبدا من أن هؤلاء لم يوقعوا بأسماء مستعارة . كما لا تعني هذه الرموز أن الناقد كان يختص بتوقيع معين، يعرف به دون سواه . بل على العكس من ذلك كان الناقد يوقع بأسماء عديدة ؛ مرموزة أو مستعارة ؛ وهو أمر يجعل التستر والتخفي مزدوجا ، فقد تكتشف توقيعه الأول ، ولكن كيف لك أن تتعرف على الثاني أو الثالث أو الرابع . ويكفي للتدليل على ذلك أن نذكر توقيعات بعض الأدباء المعروفين ..
اسم الناقد أسماؤه المستعارة أو المرموزة
أحمد زياد ابـن الحسن – أبو طـارق –– أحمد بن الحسن - عبد الـمؤمن – هو – ( أ – ز) – أبو صيحة ( فيما بعد ) -
عبد الله القباج الشاعر المطبوع – قال إني عبد الله
عبد الله كنون أبو الوفا – أبو المهدي – متأدب
علال الفاسي أبو المحاسن – ( ع – ف )
محمد بن العباس القباج ابن عباد – الصاحب -
إدريس الجاي عابر سبيل

ولم تكن الأسماء المستعارة أو المرموزة هي الشكل الوحيد للتستر ، فقد لجأ ( ابن عباد ) – وهو اسم مستعار – إلى طريقة جديدة في النقد تعتمد على التقية لأن صوت الناقد لا يظهر بشكل واضح ، بل يظهر في شكل ( متفرج ) أو ( شاهد ) ، ويعوض الناقد غياب صوته بتسخير نقاد يحركهم لمحاكمات الشعراء (5) .

وتختلف تبريرات الدارسين والنقاد بخصوص هذه القضية . فهناك من يقول إن للرقابة الاستعمارية دورا كبيرا في لجوء نقاد المغرب إلى هذه الظاهرة اللافتة للنظر(6) . وإذا كان الأمر يصدق على النقاد الذين كانوا في مواجهة مع الشعراء المنتقدين فإنه لا يصدق على أولئك الذين كانوا يوقعون مقالاتهم بأسماء مرموزة ، وهم يكتبون عن شعراء لا يعاصرونهم حتى يخشوا ردودهم .

وترجع طائفة ثانية ؛ وأغلبها من النقاد ؛ سبب تسترها ؛ إلى الخوف على سمعتها . ويصدق هذا الأمر على علي الصقلي الذي كتب نقدا لقصيدة ( صرخة الجزائر ) لمحمد الحلوي فقال مبررا توقيعه المستعار : " إن رئيس تحرير هذه المجلة - ( يقصد دعوة الحق ) – ليعلم أني بحكم ما أعرفه عن السيد الحلوي في هذا الباب قد اعتذرت اضطرارا عن تذييل مقالتي باسمي الصريح ، وآثرت تذييله بإمضاء ( ملاحظ ) صونا لكرامتي "(7) .

أما محمد بن العباس القباج الذي كان يوقع لذعاته باسم مستعار هو ( ابن عباد ) ، فإنه يعتبر فعله هذا إعراضا عن الشهرة والألقاب ، يقول مخاطبا الشاعر محمد البيضاوي الشنقيطي في هذا الشأن : " ونحن لا نريد أن نذكر له ترجمة إنسان متواضع يعرض عن الشهرة ، ويأبى أن يكون من عشاق الألقاب والإمضاءات تحت كل سطر يكتبه "(8) .

وإذا كانت هذه مبررات النقاد فإن للشعراء رأيهم الخاص ، فالشاعر محمد البيضاوي الشنقيطي يرفض تبرير القباج ويدعوه إلى كشف نفسه ، يقول : " .. ومنه هذه التوقيعات المستعارة بدعوى التواضع ، وصاحب الدعوة والإرشاد لا يختفي ، فإن كنت من أهل العلم فعرف بنفسك ليعرف قدرك ويعتمد ما تكتب ، وإلا فلا يمنعك الحياء أن تتعلم ، فإن الحياء في هذا الباب مذموم "(9) .

وهناك من يقول إن هذا الاختفاء أو التستر يمكن أن يعزى إلى انعدام الشجاعة عند الناقد، وهذا ما نلمسه في مخاطبة عبد القادر الصحراوي الناقد قائلا : " إن هذه الإمضاءات المزورة توحي بعدم الثقة . وإلا فما يمنعك ككاتب مؤمن بما تقول ، وواثق من صدق الفكرة التي تدافع عنها من أن تسفر عن وجهك ، وترفع من صوتك ، وتترك للقارئ بعد ذلك حق مناقشتك إذا لم يجد من نفسه الاستعداد الكافي للتسليم بما تلقي إليه "(10) .

إن عبد القادر الصحراوي ؛ من موقع رئيس المجلة ؛ يرفض هذا النوع من التواضع الذي يدعيه بعض النقاد ، ولا يتردد في أن يستنكر ذلك التستر ، إذ لا موجب – في نظره – لهذا التشدد في الحجاب ، ولا موجب لهذا التستر والتكتم والتواضع المصنوع لأن من واجب الناقد أن يفصح عن رأيه دون خوف أو خجل ، ومن حق القارئ عليه أن يكون على علم بمن يكلمه ، يقول مفصلا ما سبق : " إن من حق كل واحد أن يعلن عن رأيه ، ومن واجبه ألا يخجل وهو يفعل ذلك، وألا يقف وراء الباب ويحكم إغلاق النوافذ قبل أن يقول هذا الرأي . وإن من حق القارئ أيضا أن يعرف من الذي يكلمه ويكتب له ، ويحاول أن يقنعه . ومن الظلم للقارئ والتجني عليه أن تتمكن بما تنشره لك المجلة من التأثير في عقله وأن تتركه هو – وهو يقرأ لك – يتخبط ويناقش شخصا مجهولا لديه كل الجهل ، لا يعرف من أمره شيئا "(11) .

أما الشاعر محمد الحلوي فيعتبر أن الذي يتولى مهمة النقد بهذه الطريقة ؛ طريق التقية ؛ هو واحد من اثنين : إما أن يكون ضعيف الثقة بما يقول ، شاكا في صحة ما يراه ، وإما أن يكون متملقا للصداقة ، مجاملا للعواطف على حساب الأدب والصراحة التي تزيد الحق وضوحا والنقد قوة واعتبارا (12) .

لقد ساهمت كثرة التوقيعات المستعارة ، وإلحاح الشعراء ؛ الشيوخ بالخصوص ؛ على ضرورة وضوح الهوية الاجتماعية والسياسية والأدبية للنقاد ؛ الشباب منهم على الخصوص ؛ ولجوئهم إلى أساليب وطرق ملتوية في تعثر مسيرة النقد لأنها انشغلت بتبرئة الذات من ادعاءات ومزاعم الخصم الأدبي(13) .

الهوامش :
- الأدب وفنونه : محمد مندور – ص : 128 – دار نهضة مصر للطبع والنشر – القاهرة – (دون تاريخ ) .
2- الأدب وفنونه : عز الدين إسماعيل – ص : 108 – دار الفكر العربي – ط 6 – 1976 .
3- الاسم والاسم المضاد في الصحافة الوطنية : عبد الرحيم مودن – جريدة العلم – ع 16938 – 26 ربيع الثاني 1417 – 11 شتنبر 1996 – ص : 19 .
4 - نفسه .
5- نقصد بذلك سلسلة : ( شعراؤنا في قفص الاتهام ) المنشورة بجريدة الوداد في سنوات الأربعين .
6- الخصومات النقدية بالمغرب في الثلاثين : محمد أحميد – ص : 10 – رسالة مرقونة بكلية الآداب – الرباط – 1991 .
7- رد على تعقيب -دعوة الحق – ع 1 – س 2 – ربيع الأول 1378 - شتنبر 1958 – ص: 81.
8 - شعراء الشباب – مجلة المغرب – ع 7 – 8 – س 3 – يناير – فبراير 1935 – ص : 12 .
9 - أساء سمعا فأساء جابة – مجلة المغرب – ع 4 – س 3 – أبريل 1935 – ص : 10 .
10 - دعوة الحق – ع 10 – س 1 – أبريل 1958 - ص : 50 - 51 .
11- دعوة الحق – ع 10 – س 1 – أبريل 1958 – ص : 50 – 51 .
12 - تعقيب على هامش صرخة الجزائر – دعوة الحق – ع 1 – س 2 – ربيع الأول 1378 - شتنبر 1958 – ص : 77 .
13 - الخصومات النقدية بالمغرب في الثلاثين : محمد أحميد – ص : 5 – 6 – رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب بالرباط .