إلهام الصنابي

(الجزء الاول)

جسد نيل المغرب للاستقلال سنة 1956م حادثا وطنيا اعتبر نقطة الفصل بين عهدين، عهد الحماية والاستعمار والاستغلال البشع لثروات المغرب وإمكاناته الثرية وإذلال السلطة المالكة، وعهد جديد استبشر فيه المغاربة خيرا واعتبروه المستقبل بكل امتياز خصوصا مع ظهور التجربة الديموقراطية التي تمثلت في دستور 1962م وما ألحقه من ظهور لمؤسسات عززت العملية الديموقراطية في شكل أحزاب سياسية حاولت تأطير الطبقات الجماهيرية وبث روح الوعي بالمرحلة وبالظروف الجديدة التي أصبح عليها المغرب، إلا أن حماسة الانتصار هذه لم تعمر طويلا بحيث ظهرت الثغرات التي خلفها المستعمر مجسدة في بعض المناطق الوطنية التي لم تستكمل بعد تحررها ولم تحقق بعد انتماءها الكلي للوطن، وهنا نشير بالتحديد إلى مدينتي "سبتة" و"مليلية" في الشمال التابعتين للنفوذ الإسباني، و"الأقاليم الصحراوية الجنوبية" للتراب المغربي التي ظلت إلى أمد غير بعيد مفصولة عن المغرب بحدود وهمية رسمتها السلطة الاستعمارية الإسبانية، وظهور المجموعة الانفصالية التي تحاول تأسيس دولة مستقلة، بالإضافة إلى بعض المناوشات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى بين المغرب والجزائر بسبب جدالات حول رسم الحدود وغيرها.
وانطلاقا من كل هذا نرى أن الاستقلال لم يكن في حقيقته إلا جلاء ظاهريا للمستعمر العسكري، وهذا ما جسد نقطة التحول عند الجماهير المغربية التي اعتبرت وجود ذيول استعمارية نقطة مشينة في تاريخ المغرب المستقل، فقامت هذه الجماهير ثائرة في وجه كل نوع من أنواع الاستغلال والقمع، لتصطدم بقوة أعنف تمثلت في النظام البوليسي الذي مارس كل أنواع القهر والاضطهاد ضده، مما أدى إلى ظهور انتفاضات جماهيرية في مدن المغرب الكبرى كان أهمها تظاهرات الدار البيضاء في مارس سنة 1965م ومدينة فاس، لتشكل انعطافة جديدة في مسيرة المغرب الديموقراطي بعد الاستقلال ووضع الدستور، وقد أعطى انطلاقة هذه المظاهرات "تلاميذ الثانويات وطلبة الكليات والعمال الغاضبين فووجهت بصرامة شديدة من طرف قوات النظام التي كان يسيرها الجنرال أوفقير الرجل القوي للنظام فسجن وقتل مئات الأشخاص"( )
إن البحث في المتن الشعري المغربي يستلزم منا البحث في العلاقة الجدلية التي تربط بين الإبداع بوصفه فنا إنسانيا ذاتيا، وبين الواقع الاجتماعي والسياسي بوصفهما مرجعيتا الشاعر، خصوصا أن كثيرا من الشعراء المغاربة كانوا منضوين تحت لواء أحزاب سياسية وكانوا يناضلون باسم التغيير والحرية معتنقين مواقفهم النضالية في تجربتهم الشعرية، بحيث لا نكاد نفصل السياسي عن الشاعر والشاعر عن السياسي، ونموذجا على هذا الشاعر محمد الحبيب الفرقاني الذي كان ينتمي إلى الحركات التقدمية المغربية لأنه وجد فيها عوالم جديدة تسعف في التوفيق بين المواقف النضالية والعوالم الشعرية، فهو يقول في مقدمة ديوانه "نجوم في يدي"، "إن الحركات السياسية التقدمية هي التي أثرت في شعرنا الحديث تأثيرا عميقا، وأفرغت عليه لبوسا من الطرافة والجدة، دفعت إلى التحرر شيئا فشيئا من النزعة الارستقراطية الذي ظل يساق إليها سوقا بعد الاستقلال... فكان الشاعر الجديد أن يجد نفسه وشعره في غربة عن عواطفه الصادقة، وعن الشعب المتظلم من حوله إذا لم يضع شعره وعواطفه في خدمة الحرية، وخدمة الأهداف الحيوية للشعب"( )، وقد جاء شعره في معظمه ثوريا مباشرا، فديوانه مثلا "دخان الأزمنة المحترقة" عبارة عن شعارات وهتافات تبشيرية تارة وانهزامية تارة أخرى، ونفس الأمر ينطبق على الشاعر محمد الوديع الآسفي والشاعر محمد علي الهواري في ديوانه "صامدون".
إلا أن هناك شعراء آخرين اعتبروا أن الالتزام بالمواضيع الاجتماعية والسياسية ليس مسوغا للتقريرية واعتبروا القصيدة ليس مجرد منجز أدبي مرتبط بالإلهام والغيبيات، وإنما القصيدة هي المبدع ذاته هو الإنسان/الفرد الذي ينتمي إلى جماعة إنسانية يفكر داخلها ومن خلالها ويتصرف وفقا لقواعدها مهما كان شاذا عنها أو غير راض عن هذه القواعد، فهو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الإنسانية وهو بإبداعه الشعري يساعد في الدخول إلى عوالم التأريخ الأدبي للواقع التأريخي.
وتعد قصيدة "ملصقات على ظهر المهراز" وثيقة تاريخية أدبية أرخ فيها المجاطي الأحداث الجماهيرية والطلابية التي عرفتها المدينة وعلى شاكلتها باقي المدن المغربية الكبرى، إثر الثورة الطلابية التي جاءت ضدا على الدستور الجديد معلنين رفضهم لكل أنواع الاضطهاد الفكري والجسدي، ورافعين شعار "لا" للظلم والقهر ولا للكبت التعبيري و"نعم" للحوار والحرية، بحيث عمد المجاطي في هذه القصيدة إلى الارتكاز في بعض الصور البلاغية على المرجعية القرآنية، ارتكازا بعيد الملمح قريب الدلالة كقوله مثلا:( )
هذي هُتافاتنا تملأ الرَّحب،
فاسترق السمع إنْ شئتَ
أو فادْع نادِيك المتمركِز في الحرمِ
الجامعي استرح لحظةً
ثَمَّة ابْتدأَ الزَّحفُ
كانُوا خِفافا
تَعالَت أَكفُّهمْ
أَطلَقوا النَّار
فانْفتَحتْ* ثغْرة فِي صفُوف الخَوارِج
قِيل اهْبطُوا
"كُلُّ عشرٍ بزِنزَانةٍ مُسْتقلَّة"
هَكذَا صَار لِلشَّايِ في مقْصفِ
الحَيِّ طعْم المَذَّلةْ.

هذا المقطع الشعري تمت فيه المزاوجة الفنية بين المرجعية الدينية في شقها القرآني وبين الأحداث السياسية والاجتماعية، فأما الشق القرآني فهو متجل في قوله عز وجل ﴿فَلْيدْعُ نَادِيهُ*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾( )، وكذلك من قوله تعالى ﴿فأَزَلهُما الشَيطانُ عنهَا فأخْرَجَهُمَا ِمَما كَانَا فِيه وقُلنا اهْبطُوا بَعضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ وَلكم في الاََرضِ مسْتَقَرٌ وَمتَاعٌ إِلى حِينٍ﴾"( )، إن الفضاء المؤثث لهذه القصيدة كلها هي فضاء الجامعة التي كانت مجالا مفتوحا للعلم والمعرفة، وفضاء متعدد الأنشطة كان يشترك في إعدادها الطلبة والأساتذة والطبقة المثقفة من المجتمع المغربي، وكانت مجالا حرا لاستعراض المواقف السياسية اتجاه الحكم والنظام واتجاه الانتماءات الحزبية المتأرجحة بين اللين تارة والشدة تارة أخرى، وفي الوقت الذي عرفت فيه الطبقة الحاكمة والموالون لها غنى فاحشا عرف فيه باقي الشعب المغربي فقرا استشرى بين صفوفه، لذا جاءت نداءات الطلبة والمتعلمين وهتافاتهم وكانت ثوراتهم تملأ الرحب كما قال الشاعر أبو العلاء:( )
صَاحِ! هذي قبُـورنا تملأ الرحْـ ***ب فأيـنَ القبـورُ من عهـد عـاد؟ِ
خفِف الـوَطء! ما أظُـن أديـم ال** أرْض إلا مِـن هــذِه الأجـســادِ

فلا حياة في ظل الفقر والقمع ولا يمكن لفئة أن تستحوذ على الثروة كلها في حين تفتقد فئة عريضة أبسط حقوقها في المال العام للوطن، هذا الإحساس بالقهر وانعدام التوازن بين أبناء المجتمع هو ما جعل الجماهير تثور في وجه من تراه يسلبها حقها ومالها فقررت الخروج عن صمتها لإعلان حالة العصيان الجماعي، فالمجاطي يلقي إلينا قصيدته هذه وقد تلبسها ضمير "أنتَ" المخاطب المفرد الخفي الظاهر في آن واحد، وهي تقنية المجاطي الفنية في إبراز الثنائيات الضدية في كل مستوياتها "فاسترق السمع" إنه يخاطب ضميرا مفردا مجهولا لدى المتلقي، هذا الضمير الذي يندس خفية بين الجماهير الطلابية لابسا لباس الطلبة المناضلين مخفيا عنهم –أو على الأقل محاولا أن يخفي- حقيقته التجسسية ووظيفته التي كلفه بها النظام البوليسي، وهذا ما تدل عليه عبارة "أو فادع ناديك المتمركز في الحرم الجامعي"، الشاعر يقذف بعبارته هذه بكل قوة اتجاه هذا الضمير المجهول، واتجاه الموالي له المنتشر في مساحة الحي الجامعي لتلقف أخبار الطلبة وتحركاتهم داخل الجامعة وخارجها ونواياهم النضالية قصد إبلاغها للسلطة وإحباط كل محاولة تظاهرية.
يبدو أن السياسة القمعية لم تكن مجرد ستار أو واجهة ترهيبية، وإنما هي حقيقة موجودة فعلا، تجلت في سلسلة الاعتقالات في صفوف الطلبة والمتظاهرين، والقصيدة كلها تدل على ذلك وتؤرخ له "قيل اهبطوا كل عشر بزنزانة مستقلة" لقد استعمل المجاطي لفظة "اهبطوا" بكل حكمة شعرية، فالهبوط في القرآن الكريم له دلالة مادية ومعنوية، فالهبوط المعنوي يتجلى في النزول درجات من العز والكبرياء والعفة التي كان عليها آدم وزوجه في الجنة ومعهما عدو البشر إبليس اللعين، إلى مكانة أحقر وأذل، ثم هو هبوط مادي كذلك إذ تفيد هبط يهبط هبوطا أي نزل في الدرجة بعدما كان في السماوات العلا أصبح في الأرض وكل هذا يتأطر في إطار الإيذان "بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها بين الشيطان والإنسان إلى آخر الزمان"( ) وهذا المعنى هو الذي تشير إليه عبارة المجاطي، فبعدما تم القبض على الطلبة المناضلين بمساعدة الجواسيس الذين تم زرعهم في الحرم الجامعي، تم إنزالهم في "زنزانة" يتكدس عشرة في مكان واحد بائس حقير عديم من كل وسائل الكرامة الإنسانية وأضحى حينها "للشاي طعم المذلة" بعدما كان له طعم النشوة.
إن النص انطلاقا من هذا التوجه يعلن عن موقف ثوري تعزز عند الشاعر بمرجعية إيديولوجية اكتسبها من معايشته للصدمات العربية ابتداء من الاستعمار إلى نيل الاستقلال، والآفاق التي كان يرسمها الشعب المغربي بعد نيل العزة والكرامة التحرر، ومن ثمة يصبح النص الشعري هو الشاعر نفسه في استجلائه لمبادئه سواء أكانت معارضة أو مهادنة، واليسار المغربي باعتباره حزبا معارضا راهن كثيرا "على الحركة الطلابية "وهو" الذي أفضى إلى تشكيل الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين والتي قادت الحركات الاحتجاجية داخل الجامعة منذ 1970"( )
لقد أدى الواقع المأساوي المجاطي إلى التعبير عنه بأسلوب يترنح بين الانهزامية والانكسار السياسي، وبين التساؤل حول دور الثورة/ الحياة/ الإرادة في وجه السلطة /القوة / النفوذ العسكري والبوليسي، وهذا ما حاول تجليته في قصيدة "الدار البيضاء"، فهو يصرح بداية باسم المكان في العنوان مما يستدعي وقفة للسؤال حول خصوصيات المكان والعلاقة بين الشاعر وبين المدينة باعتبارها مكانا يستوعب كل متناقضات الحياة العصرية المغربية، فالدار البيضاء هي مرتع السماسرة ورجال الثروة والأعمال وهي كذلك مقبرة الفقراء وسليلي القهر الاجتماعي، يقول:( )
كان القطار يفتت وجهيَ
يَرسُم في كُلِّ شِقٍّ
هُويهْ
تَساءلتُ:
هَل أنتِ عاشِقتِي
لِمَ لَمْ تزْرعِينِي فِي رحِم الأَبديَّةِ؟
أَو تَزرعِينِي بَينَ التَّرائِب
وَالصُّلبِ
ظلَّت عيُونِي شَاخصَةً
كُنتِ حبلَى
احْتوتْني الزَّنازِنُ
أَبصَرتُ أحبَاب قلبيَ
أبصرت أحباب قلبيَ
قَتلَى
وهَا أَقبلَ الصَّيف يَطرقُ بالشَّمس وَالدَّمِ
أبْوابكِ المقفلهْ

بنى المجاطي الحقل المعجمي لهذه القصيدة على مفردات تكاد تتفق كلها حول دلالات التشظي والضياع والحيرة "يفتت- في كل شق- شاخصة- قتلى- الدم- الأبواب المقفلة" وهو معجم يعكس تصور الشاعر للوضع العام للذات المتكلمة باعتبارها فردا وللذات الجماعية المجسدة في المجتمع القريب من الشاعر والذي يعبر فيه و من خلاله، إنه وضع يرزخ تحت وطأة الوعي بالواقع من جهة ورغبته في تحويل هذا الواقع من جهة أخرى، وما بين الشقين مسيرة من الدم والقتل، وهذا ما أطلق عليه عزيز الحسين بالموقف الحائر/الصراع بين الأمل واليأس( )وعبر عنه المجاطي بقوله: "كان القطار يفتت وجهي يرسم في كل شق هوية" لقد تداخلت كل أوجه المدينة في بعضها البعض فأصبح السياسي دليل الاجتماعي والاجتماعي دليل الثقافي، وتحولت نظرة المثقف الى فيلسوف تائه بين الحقيقة والواقع.
لم يرد الشاعر من كلمة "هوية" التساؤل عن الهوية الكبرى التي ينتمي إليها ألا وهي الانتماء إلى الوطن "المغرب"، وإنما كان غرضه من التساؤل عن الهوية هو الانتماء السياسي في ظل تعدد الأحزاب السياسية واتفاق مبادئها أو اختلافها، فالقصيدة جاءت عقب انهزام اليسار المغربي الذي كان يرتكز في إدارة شؤونه العامة على مقومين اثنين هما "المقوم الأول يتمثل في الواجهة الداخلية وذلك بطرح المسألة الديموقراطية سواء من حيث مستواها الاجتماعي وذلك بإقامة ديمقراطية اجتماعية تغرف من المبادئ الاشتراكية أو من حيث مستواها السياسي وذلك بتحديد دقيق للسلطة والمسؤوليات أمام الشعب وإقامة مؤسسات شعبية حقا، (أما) المقوم الثاني (ف) يرتبط بالواجهة الخارجية وذلك بمناهضة الإمبريالية التي تكفل القضاء على مظاهر السيطرة الأجنبية والتبعية في الميادين الاقتصادية والمالية والثقافية"( ).
المجاطي شاعر إثبات وشاهد من أهل المدينة، لذا تتأزم نفسيته وتحتار في هذه المعشوقة التي لم تزرعه نطفة بين الترائب والصلب، هذه الصورة الانبعاثية مأخوذة من قوله عز وجل ﴿فَلْيَنظُرِ الْاِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ*إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾( ) فإذا كان الزرع الأول في رحم الأبدية هو كناية عن الخلود، فإن الزرع الثاني هو إيذان بالخلق والولادة، وقد جاء في التفسير أن الإنسان يخلق من ترائب المرأة وهي عظام صدرها، ومن صلب الرجل وهو ظهره، وقد أثبت الطب الحديث هذه الحقيقة الإلهية وعرف أن "في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان"( ) لكن هذا الزرع مسكون بهاجس السؤال "لِمَ لَمْ تزرعيني بين الصلب والترائب"، بمعنى أن إمكانية الولادة غير متحققة وغير ممكنة في غياب الفعل "الزرع"، وباعتبار السياق الكلي للقصيدة الذي جاء محاطا بمعجم انهزامي سوداوي قاتم، "فتجربة الشاعر السياسية غالبا ما تتكثف وتترمز في المدينة، لأنها مكانه وقيده وشاهد هوانه، وهذا ما يجعل تحليل التجربة السياسية الشعرية عميقة الارتباط بمشكلة المدينة والحرية وثيقة الصلة بالاغتراب السياسي، ولذلك فان المدينة التي تحارب الحريات مدينة كريهة وكراهيتها نابعة من النظم السياسية التي تحجر على الحريات"( ).
ويظل التعبير عن الثورية المنهزمة عند المجاطي مرتبطا بالقانون التراثي الذي ينطلق منه ليؤسس البعد الانهزامي، والذي تجسد بكل عمق في قصيدة "الفروسية" حيث سعى الشاعر إلى فكرة الفروسية باعتبارها إحالة على الانتصار والقوة والشجاعة، وتعبيرا عن النشوة الكامنة وراء البطولة و"البارود"، وتكون الفروسية عند المجاطي كبوة جماعية يقول:( )
مُنتظِرا مازلتُ
أَرقبُ العَصا
تفسخُ جلدَ الحيةِ الرقطاءِ
أَلقيتُهَا عَلى الثرى
فلمْ تَفِضْ
أخشابُها باللحْم والدِماءِ
مُنتظرًا
تُفلِتُ مِن أصابِعي الثَوانْ

ويسْتفيض البَرص الأبلقُ
في رجَائِي
يستعين الشاعر هنا في هذا المقطع بقصة موسى عليه السلام باستخدام آلية الدور، فرغم أن اسم موسى عليه السلام لم يرد في النص ظاهرا صريحا فإن أحد قرائنه هي التي تؤسس هذا النموذج المقترح، إنها العصا الموسوية -المعجزة الإلهية- التي أرسل الله تعالى بها هذا النبي إلى بني إسرائيل، يقول عز وجل ﴿وَمَا تِلْكَ بيمِينكَ يَـــمُوسى*قَال هِي عَصايَ أَتَوَكَأُ عَليها وأهُش بهَا علَى غَنَمِي ولِيَ فيها مَآربُ أُخْرى*قال ألقها يَـــمُوسى*فألْقاها فإذَا هي حَيةٌ تسعَى*قال خُذها ولا تَخفْ سَنُعِِيدُها سِيرتَها الاُولَى*واضْمُمْ يدكَ إِلى جَناحِك تخرُج بيْضَاء منْ غَير سُوءٍ آية أُخرى* لِنُريكَ مِن آياتِنا الكُبرَى﴾( )، لقد تحولت عصا موسى من مجرد خشبة جامدة إلى كائن حي بمعجزة إلهية بهرت أعتى السحرة وأقواهم تجبرا، إلا أن عصا المجاطي ظلت خشبية لم تتحول عن خشبيتها ولم تتعرض لقوة جبارة تحيل الجماد حيا، فالمجاطي يقدم هنا تصورا للحاضر الغارق في أتون البؤس والانهزام، وكما أن الفروسية باعتبارها موسما احتفاليا قد تحولت عند المجاطي إلى مأتم جنائزي يرثي فيه البطولة اليائسة، فلا غرو إذن أن تكون العصا فاقدة لكل حياة أو بذرة إعجازية، "فلا أحد ينكر اليوم أن الطليعة الثورية قد فصلت عن قضيتها بالرعب وبالإرهاب، والاعتراف بذلك ضرورة يفرضها الوعي وتقتضيها أية محاولة جادة للنهوض من الكبوة وفي هذه القصيدة اعتراف بالكبوة وإدراك واع للهزيمة، هزيمة الطليعة الثورية المفصولة عن قضيتها بالرعب والإرهاب"( )
لقد حاول المجاطي في قصيدة "الفروسية" تقديم مقاربة للوضعية السياسية المغربية في مرحلة الستينات، وهي المرحلة التي حاولت فيها الطبقة الحاكمة الدفاع عن وضعيتها بكل الوسائل المتاحة ومن بينها قتل أي حركة مضادة في مهدها أو مخالفة لتوجهاتها، وهنا قدم المجاطي حالتين شعوريتين متناقضتين، تتمثل الأولى في تصوير حالة الفرحة والنشوة في الفروسية باعتبارها لعبة تجسد للفروسية والشجاعة، وأما الحالة الثانية فتتمثل في طعم الهزيمة الثورية عند الطبقة الطليعية التي كانت تحاول الانطلاق نحو فروسية جديدة في الواقع السياسي، لتفاجأ بأعتا الممارسات القمعية، ومن ثمة تحقق "الفروسية" عند المجاطي المعنى المضاد في الواقع الجماهيري المغربي، ويجسد الشاعر هذه المفارقة عندما يستدعي "الثعبان" في القصيدة مرتين وفي قصتين مختلفتين تماما، الأولى وهي الثعبان الذي يعد أحد مكونات قصة الغواية الأولى في قصة آدم وحواء، وأما الثعبان الثاني فهو الثعبان المعجزة الذي تحول بأمر إلهي من عصا خشبية إلى كائن عظيم، هذا التضاد المعنوي هو نفسه ينطبق على "الفروسية" الحالة التراثية والسياسية، فإذا كانت الفروسية تعبيرا عن الشجاعة والنشوة في المجتمع المغربي، فهي عند المجاطي اكتسبت بعدا انهزاميا وحِجرا على حريات المجتمع المغربي في التعبير عن رأيه في السياسة الحاكمة.


- شعر الطليعة في المغرب لعزيز الحسين، ص: 33
2 - نجوم في يدي لمحمد الحبيب الفرقاني، دار النشر المغربية، 1965، ص: 42.
3- قصيدة "ملصقات على ظهر المهراز" لأحمد المجاطي، " ضمن مجلة المشكاة، عدد 24-1996، ص:116
*- وردت في النص الأصلي ضمن مجلة المشكاة خطأ "فانفخت" والصحيح هو "فانفتحت" انظر ديوان الفروسية ص:49
4 - سورة العلق 18-19
5 - سورة البقرة 35 و37 وانظر كذلك سورة الأعراف 23.
6- سقط الزند لأبي العلاء المعري، دار صادر بيروت، 1992، ص: 7.
7 - في ظلال القرآن الكريم لسيد قطب، 1/58
8 - الأحزاب السياسية المغربية لمحمد ضريف، ص: 234.
9- الفروسية لأحمد المجاطي، قصيدة "الدار البيضاء"، (الديوان) ص: 83-84-85.
10- شعر الطليعة في المغرب لعزيز الحسين، ص: 174.
11 - الأحزاب السياسية المغربية لمحمد ضريف، ص: 225.
12- سورة الطارق آيات 5-6-7-8.
13- في ظلال القرآن لسيد قطب، 6/3878
14- المدينة في الشعر العربي المعاصر لمختار على أبو غالي، منشورات عالم المعرفة، عدد 196، ص: 166
15- الفروسية لأحمد المجاطي، قصيدة "الفروسية"، (الديوان)، ص: 28- 29.
16- سورة طه آيات من 16 إلى 23.
- مقدمة قصيدة الفروسية، ضمن مجلة المشكاة، ص: 98