آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: أتصمت العصافير ؟ - 2 -

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية خليف محفوظ
    تاريخ التسجيل
    19/12/2008
    المشاركات
    130
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي أتصمت العصافير ؟ - 2 -

    وظلت صورة جدتي محمولة على الأكتاف ، مغطاة بالحائك الاحمر، لاتبرح عيني ،وجهها وقد تصلب ، صوتي الذي رددته جدران البيت ...
    في الليل كنت ألتصق بظهر جدي ، أخاف أن تدخل علي جدتي بحائكها الأحمر و عينينها المطفأتين .
    وكانت حسرة عارمة في قلبي ، كيف تحولت جدتي - نبع الحنان الدافق- إلى ذلك الكائن المرعب ؟
    لم أطلع جدي على مخاوفي ، كان سينهرني لأن الرجل لا يخاف ، و أنا رجل في نظره.
    كنت أخاف الليل ، أخاف الذئاب حين تتعاوى و تتنادى، أخاف نباح كلبنا "سحاب" حين يتغير صوته بالليل .
    وكان جدي يحاول أن يصنع مني بطلا ، كان يقسو علي من غير هوادة ، يعلمني كيف أغسل ثيابي و كيف أخيطها ، كيف أعد الدراهم ، كيف أكون حذرا إذا ما نبح « سحاب " في الليل، فأخرج ولو مرة واحدة أتفقد الغنم .
    كان يأخذني معه إلى السوق ، ندورفي رحبة الغنم ، يغرز أصابعه الخشنة في ظهر الكبش ، ثم يساوم البائع في غلاظة :
    - كم أعطوك في هذا ؟
    - خمسين .
    - بع ، ستحمى الشمس و تنفض السوق .
    و أتساءل مع نفسي ، ما دخل جدي في الرجل ؟
    و يلتفت إلي :
    - الغنم غالية اليوم يا سي سعد ، السوق القادم نأتي بالكباش .
    نشتري مؤونة أسبوع من قهوة و سكر و زيت و غيرها ، ثم نعرج على مقهى متطرفة ، فيجلس جدي إلى أناس لا أعرف منهم إلا سي السعيد الذي بقي مع جدي إلى المساء يوم موت جدتي . يتحدثون ساعة ثم يستأذن جدي ونعود إلى البيت على البغلة الشهباء ، نخرجها من الإصطبل العمومي محملة بأغراض الأسبوع ، يردفني خلفه و ينخرط في حديث متشعب مع جماعة المتسوقين يقطعون به الطريق ، و أنشغل أنا بعد أعمدة الهاتف المتسلسلة مأخوذا بحفيف الأسلاك و بتلك الفناجين المرصوصة في رؤوس الأعمدة !! من يشرب بها القهوة ؟
    حتى إذا وصلنا كانت المسافة التي قطعناها قد أنهكت قواي فيعفيني جدي يومها من مشاركته أشغاله.

    وكانت الأيام الأخرى تتكرر، أخرج بالغنم صباحا مع "سحاب " إلى المرج ، ويبقى جدي يعمل بالبستان ، أو يكنس الزريبة ، و يعد الغداء . حتى إذا انتصف النهار جاءني يسوق معي الغنم إلى الزريبة.
    كانت الأيام بلا طعم ، في المرج مع الغنم تنقبض روحي ، يزيدها انقباضا مشهد الغربان تحوم على مقربة مني ، ثم تحط بعيدا على هضبة جرداء .
    كنت أكره الغراب ، أود لو أمسك يوما غرابا فأحرقه ،إذ كان يخيل إلي أن الغراب كائن شرير ، و أنه حين ينعب إنما يريد أن يقول شيئا ما ، شيئا لا أعرفه بالتحديد ، ولكنه شيء كريه لا يطاق .
    و سألت جدي مرة :
    - ما الذي يقوله الغراب عندما ينعب ؟
    فتذمر قائلا:
    - وهل أنا سيدنا سليمان حتى أفهم لغة الطبر ؟
    ثم أمسكني من أذني :
    - اسمع أيها الأحمق ، دع عنك الأسئلة الفارغة ، اسألني عن الأمور الهامة ، عن القيمة التي يبلغها الكبش في السوق القادم مثلا ، عن الأنسب ، بيع الكباش أم النعاج ؟ حدثني حديث الكبار يا سعد.
    و لما أرخى أصبعه كان ظفره قد انغرز في لحمة أذني ، تدفق الدم غزيرا فاندهشت ولم أبك .
    ابتسم و قال في زهو :
    - هكذا أريدك شجاعا ، اذهب اغسل أذنك.
    كان جدي يقتل في طفولتي بمطرقة من خشب ، تماما كما يفعل بالعجل عندما يقتل فحولته كي يغدو ثورا . و مع ذلك كنت أحبه ، لم يكن في وسعي إلا أن أحبه ، كان الإنسان الوحيد في حياتي ، لم أكن أعرف من العالم إلا جدي و "سحاب" و الغنم .
    كانت المدينة القريبة منا عالما مستغلقا لا أدخله إلا أيام السبت مع جدي . أما القرية المتوسدة سفح الجبل فكانت لي دائرة غامضة ، أرى فيها أطفالا يتسلقون الشجر يصيدون أفراخ العصافير ، ولم أكن أقترب منهم . كان البيت المبتدأ و المرج المنتهى ، بينهما الجدول و بستان جدي .
    كانت القرية تجذبني بسحرها ، بأطفالها ، بضبابها الفضي و خضرتها الداكنة ، أهيم وجدا إذا أصبح الضباب يلف القرية بغلالته الشفافة ، تأخذني نشوة غامضة فأود لو يخلق لي الله جناحين فأطير مع العصافير أحوم حول القرية ، فوق المدينة . كنت أحب العصافير ، أتخيلهم ملائكة الجنة التي حدثتني عنهم جدتي فطوم إذ قالت لي بأن للملائكة أجنحة مثل العصافير ، فأثارت في حبا مبهما للطير .
    كان جدي يتضايق من وقوفي الطويل صباحا أمام الجدول مستقبلا القرية فيصيح بي :
    - دع عنك الخمول ، يجب أن تكون شاطرا ، أن تكون كالمقص في يد الحلاق الماهر.
    كان قاسيا معي مثل المحراث ، مثل يديه المشققتين .
    وتذكرت وعده لي عشية الرجوع من دفن جدتي بأنه سيكون الذي ألعب معه فامتلأت ثورة على إخلافه الوعد .
    كان عالمي موحشا ، و بروحي انقباض ، وبالغ جدي في قسوته حتى كدت أتخيله الرجل الشرير الذي يمكن أن يكونه الغراب . ربما أخفى وراء قسوته رحمة و حنانا ، لكن المؤكد عندي أن الأمان ضاع منذ أن غاب الظهر المحدودب إلى الأبد.


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية قطر الندى
    تاريخ التسجيل
    22/11/2008
    العمر
    38
    المشاركات
    260
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 2 -

    أسجل حضوري

    دمت بأمان


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية خليف محفوظ
    تاريخ التسجيل
    19/12/2008
    المشاركات
    130
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 2 -

    [quote=قطر الندى;303787]

    أسجل حضوري

    دمت بأمان
    [/quote

    قطر الندى ، أنعم به من حضور

    سأنزل الجزء الثالث بحول الله ،

    و اسمحي لي بأن أهديه لك .

    تحيتي و تقديري.


  4. #4
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 2 -

    رائع ما قرأته في هذا الفصل .. أحلام الطفولة وأمنياتها .. وهذه الوحدة الكئيبة التي تلف الطفل المحتاج إلى حب المرأة وعطفها .. وددت أن أقرأ هذا العمل ورقيا كي تزيد متعة القراءة .


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •