النبيّ صلى الله عليه وسلم فى شعر العلامة إقبال
النبيّ صلى الله عليه وسلم فى شعر العلامة إقبال
أ . د . إبراهيم محمد إبراهيم
محمد إقبال هو أفضل مثال نستطيع تقديمه نموذجاً للشاعر الذى ظهرت فى أشعاره شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كأوضح ما تكون بكل صفاتها وفضائلها، ولكن بصورة تحقق الهدف العظيم الذى نشده قادة مسلمى شبه القارة الهندية ومصلحوهم من مثل إقبال . هذا الهدف هو بث الروح فى المسلمين من جديد، وتبصيرهم بما آل إليه حالهم، وحثهم على النهوض والاستعداد لتحرير النفس والوطن، واستعادة الأمجاد الضائعة ، وتحقيق خلافة الله فى الأرض .
وأهم ما يميز إقبال هو أنه شاعر على درجة عالية من الثقافة خلقت عنده سعة فى الأفق والإدراك، وقوة للتحكم فى عواطفه وتوجيهها الوجهة الصحيحة . فهو كشاعر حباه الله بإحساس مرهف ونفس شفافة وعواطف رقيقة ، وهو ملهم موهوب متدفق فى شعره، لكن تحت سيطرة كاملة منه على هذا التدفق الإلهامى ، فلا يسمح لنفسه بنظم شعر يرى فيه ولو قليلا من المخالفة الدينية حتى ولو اعتمل هذا الشعر بداخله وأجبره على صوغه فى ألفاظ وتراكيب، فإن فعل ذات مرة فإنه يحذفه من ديوانه ولا يسمح بطبعه أو نشره، ولم يكن يتسنى لإقبال كل هذا لولا ثقافته الشاملة العميقة، إضافة إلى فطرته التى هذبها البيت والعائلة وخاصة والده، كما أن ثقافة إقبال هذه ساعدته على تحديد هدفه واستيضاح طريق الوصول إليه. فإقبال إذن لا ينساق وراء الإلهام الشعرى، وإنما يخضعه لسيطرته، فيطلقه إن كان موافقا لشريعة ربه، ويحجمه إن كان غير ذلك .
لقد كان حب إقبال لرسول الله صلى الله عليه وسلم محور حياته ومرتكز شعره، وظل هذا الحب يسيره ويوجهه حتى لاقى ربه . وهو يرى أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فحوى الدين وخلاصته، وأن ما عدا ذلك هو عكس ذلك، يقول :
• صل نفسك بالمصطفى، فالدين هو ذلك، وإن لم تفعل فأنت أبو لهب (1) .
إذن محور شعر إقبال هو قوله تعالى : ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ) (2)، فهو يريد أن
يرى المسلمين فى مكانتهم اللائقة بهم كأمة لخير البشر، ويؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المثال الكامل لكل مسلم، وأن اتباعه يجب أن يتم على أكمل وجه. وهو كما قلنا شاعرمثقف وصاحب رؤية محددة فيما يخص المسلم، وليس شاعرا تقليديا ينشئ القصيدة مدحا لمجرد المدح، وإنما يبغى من وارءها تحقيق الهدف الذى كرس حياته وشعره من أجله بالتأسى بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع طريقه ونهج هداه . فمجد المسلمين وماضيهم التليد لا يفارقان خياله، وتعليمات المصطفى صلى الله عليه وسلم راسخة فى ذهنه، ولذا فإنه عندما يوجه النقد إلى ما آل إليه المسلمون فى عصرنا لا يكتفى بذلك، وإنما يحلل أسباب هذا التدنى وسوء الحال، ويضع الحل الأمثل للخروج من هذه الدائرة الرهيبة التى أحاطت بالمسلمين من كل جانب، دائرة التخلف والاستعباد والانحطاط . ولكى يحقق هذا الهدف فإنه يلجأ إلى مدح النبى صلى الله عليه وسلم بطريق غير تقليدى، فيمدح خير المخلوقات صلى الله عليه وسلم من جانب، ومن جانب آخر يحث الناس على التأسى به من خلال الحادثة أو الشخصية التى يكتب عنها .
والحقيقة أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى أشعار إقبال الأردية تظهر أمامنا بطريقين :
الأولى : من خلال أشعار المديح التى كتبها إقبال قاصدا هذا الفن أو هذا الغرض بعينه، بمعنى أنه كتب هذه الأشعار قاصدا بها مدح النبى صلى الله عليه وسلم .
الثانية : إظهار شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال النظريات والأفكار التى عالجها على مدار أشعاره كلها سواء أكانت فارسية أم أردية .
أما النوع الأول فهو قليل نادر، ولا نكاد نجد قصيدة أو منظومة أو غزلية فى أشعار إقبال الأردية خصصها لمجرد مدح النبى صلى الله عليه وسلم بالشكل التقليدى الذى تعارف عليه الشعراء قبلا، وإنما هى أبيات متفرقة فى قصائد متفرقة جاءت لتكمل مع بقية أشعار القصيدة هدفا وفكرة أخرى أراد إقبال إيصالها إلى السامع أو القارىء. وبرغم ذلك فأشعاره هذه تمثل قمة فن المديح النبوى فى الشعر الأردى حيث لم تكن نمطية خالية من الروح والحركة، وإنما كانت تمتلئ إخلاصا وحبا يشعر به القارئ ويحسه فى أعماق قلبه، ولم يكن هذا إلا لأن قلب إقبال يعشق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمنى لو استطاع المسلمون استلهام الروح المحمدية بداخلهم فصبغت حياتهم بصبغة الإسلام التى أرادها الله لعباده، وبذا استطاع إقبال أن يهيئ لفن المديح النبوى فى اللغة الأردية سعة فكرية وفنية على السواء، فوفق بين مديح النبى صلى الله عليه وسلم وبين الحياة السياسية والحضارية للأمة الإسلامية، وفى نفس الوقت نظم أشعار المديح فى هيئات وقوالب شعرية جديدة تختلف عن القوالب التى اعتاد من سبقه من الشعراء نظم هذا الغرض فيها، ويكفينا تدليلا على ذلك تقديم بعض نماذج من قصيدته " جواب شكوه " لتدلنا على تصور إقبال لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يمدحه. يقول على لسان الله تعالى موجها الحديث إلى المسلم ما ترجمته :
• ارفع بقوة العشق كل وضيع، وانر العالم باسم محمد .
• فلولا هذه الزهرة " محمد " لما كان ترنم البلبل، ولما كان فى الدنيا مجلس للتوحيد ، ولما كان لك وجود .
• فخيمة الأفلاك مستقرة باسمه ، ونبض الحياة باق باسمه .
• اسمه فى الصحراء وفى أحضان الجبال والوديان، فى البحار وفى أحضان الموج وفى الطوفان .
• فى مدن الصين وصحراء مراكش، ومضمر فى إيمان المسلم .
• وسترى أنظار الأمم هذا المشهد دائما .
• وستعرف عظمة شأن " ورفعنا لك ذكرك " (3) .
• فى وسط الأرض أو فى الدنيا السوداء (4) ، هذه الدنيا التى تربى شهدائك .
• هذه الأرض التى أنضجتها حرارة الشمس، هذا العالم الهلالى .
• هذه الأرض التى يطلق عليها العاشقون العالم " البلالى " .
• إنها تضطرب كالماسة من اسمه ، وتغوص فى النور مثل شعاع النظر من اسمه .
• أيها المسلم، العقل مجنك، والعشق سيفك .
• أيا درويشى ، إن خلافتك تسود العالم وتكبيرك نار تحرق ما سوى الله، وإن كنت مسلما فتدبيرك هو القدر .
• إن كنت وفيا مع محمد فنحن لك ، واللوح والقلم لك وليس الدنيا فقط (5) .
وربما تكن ترجمة الشيخ الصاوى على شعلان – رحمه الله – للأبيات السابقة أكثر تعبيرا وتأثيرا ، فهى لشاعر مخلص عبقرى ترجمها شاعر مخلص عبقرى أيضا :-
• فباسم " محمد " شمس البرايا .. أقيمت خيمة الفلك المنير .
• تلألأ فى الرياض وفى الصحارى.. وفوق الموج والسيل المغير .
• ونبض الكون منه مستمد .. حرارته على مرالعصور .
• ومن " مراكش يغزو صداه ... ربوع " الصين " بالصوت الجهير .
• وما مشكاة هذا النور إلا .. ضمير المسلم الحر الغيور .
• ورفع الذكر للمختار رفع ... لقدرك نحو غايات الكمال .
• فكن " إنسان عين " الكون واشهد .. مقامك عاليا فوق المعالى .
• بخنجر عزمك الوثاب لاحت .. على الأعلام أنوار الهلال .
• نداؤك فى العناصر مستجاب ... إذا دوى بصوت من " بلال " .
• وعقلك فى الخطوب أجل داع .. وعشقك خير سيف للنضال .
• خلافة هذه الأرض استقرت .. بمجدك وهو للدنيا سماء .
• وفى تكبيرك القدسى يبدو .. صغيرا كل ما ضم الفضاء .
• فيا من هب للإسلام يدعو .. وأيقظ صدق غيرته الوفاء .
• سترفع قدرك الأقدار حتى ... تشاهد أن ساعدك القضاء .
• وقيل لك احتكم دنيا وأخرى .. وشأنك والخلود كما تشاء (6) .
إن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم فى مدائح إقبال تصبح بمثابة رمزاً بالغ الدلالة فى تاريخ الكائنات، فإقبال يراها سببا فى خلق الموجودات كلها وعلة فيه، كما يؤمن بأن الروح المحمدية تسرى دائما فى أصل نظام الكائنات مثلها فى ذلك مثل جريان الدم فى العروق (7) ، وأن اسم " محمد " عليه الصلاة والسلام ليس مجرد اسم فقط، وإنما هو قوة تستطيع أن تنير العالم وتغير نظامه .
أما القسم الثانى من أشعار إقبال الأردية والتى تظهر فيها شخصية النبى صلى الله عليه وسلم فهو القسم الأعظم والذى يضم عددا من المنظومات على مدار دواوينه الأردية كلها (8) وفيها يجعل إقبال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليماته ومعجزاته وخصاله رمزا تدور حوله فلسفته ويطوف حولها فكره فيقدم من خلالها نظرياته إلى القارئ، ولهذا قدم إقبال ضمن ما قدم من نظريات نظرية الرجل المؤمن نموذجاً للمؤمن الحق الذى يشكل شخصيته حب الرسول صلى الله عليه وسلم والإقتداء به، ومن هنا كانت شخصية الرسول صلى عليه وسلم دائما ماثلة أمام ناظري إقبال حين يتحدث عن الرجل المؤمن ويبرزه فى شعره، فشخصية الرجل المؤمن إذن ما هى إلا انعكاس لشخصية النبى صلى الله عليه وسلم المستقرة فى قلب إقبال وعقله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جامع لمكارم الأخلاق، والرجل المؤمن عليه أن يتحلى أيضا بمحاسن الأخلاق مستمدا ذلك كله من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والحق أن إقبال قد صور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإبراز عظمة الرجل المؤمن وصفاته وأخلاقه فى أشعاره وفى ثنايا حديثه عن الدين والتوحيد والرسالة والقرآن وكل عناصر الدين الإسلامى، فلقد قرر إقبال أن العشق مكون أساسى من مكونات شخصية الرجل المؤمن، والعشق فى رأيه هو قلب المصطفى ورسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الله ونفس جبريل . يقول ما ترجمته :
• العشق نفس جبريل، والعشق قلب المصطفى، والعشق رسول الله، والعشق كلام الله (9) .
• ويقرر أيضا أن العشق يقود إلى كل عمل عظيم، وما بدر وحنين إلا بعض إبداعاته . يقول :
• صدق الخليل عشق،وصبر الحسين عشق،وفى معترك الوجود"بدر وحنين"أيضا عشق (10).
وتربية الذات هى الطريق لبث الروح من جديد فى المسلم الخامل، وتعتمد اعتمادا كليا على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وضبط النفس بحيث تسير وفق أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى الأشعار التالية يصف إقبال الرجل المؤمن وكأنه يعكس فيه شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته فيقول ما ترجمته :
• للمؤمن فى كل لحظة شأن آخر وعظمة أخرى، فهو برهان الله فى حديثه وسلوكه .
• هذا العبد الترابى جار جبريل الأمين، ووطنه ليس بخارى أو بدخشان .
• القوة والتسامح والطهر والجبروت، إن اجتمعت هذه العناصر خلق المسلم .
• لا يعرف أحد السر بأن المؤمن، يبدو قارئا، لكنه فى الحقيقة قرآن .
• عزائمه محك أهداف الفطرة، فهو ميزان فى الدنيا وفى الآخرة ميزان .
• هو القوى الذى يثلج قلوب الشقائق، وهو الفيضان الذى يرتعد منه قلب النهر (11) .
ويقول أيضا :
• يد العبد المؤمن هى يد الله،غالبة وخالقة ومساعدة ومواسية (12) .
هذه الأشعار وغيرها تحضر إلى الذهن بمجرد قراءتها شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته صفاته دون أن يصرح إقبال بذكره ليدفع القارئ إلى التحلى بهذه الصفات ونيل هذه المكانة ، وهو ما يمثل فى الحقيقة هدف إقبال من وراء أشعاره . ومن أحسن ما كتب إقبال عن الرجل المؤمن الذى يتحلى بتقليد واتباع الإنسان الكامل " محمد صلى الله عليه وسلم " هذه الأبيات التى تتجلى فيها شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله، يقول ما ترجمته :
• يتلألأ فكره مثل شمس الصباح، حديثه بسيط وسهل .
• لكن معانيه دقيقة ورؤيته متفرد عن باقى زمنه، ولا يعرف أحواله مشايخ الطرق (13) .
لقد تناول كثير من الشعراء – قبل إقبال – واقعة المعراج، ونظموا فيها الكثير، لكنهم جميعا وقفوا حديثهم على الحادثة بذاتها ووصف ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة المباركة، أما إقبال فقد تناول الحادثة من زاوية أخرى تماما، فجعل منها رمزا وعلامة على نعمة العشق التى إذا أنعم الله بها على أحد استطاع تحطيم قوانين الجسد الترابى . يقول ما ترجمته :
• الذرة التى يمنحها العشق لذة الطيران، تستطيع تسخير الشمس والقمر .
• فيا رفاق الرياض : إن انتصار طائر الدراج فى معركة الصقر ليست صعبة، شرط أن تمتلئ أنفاس الدراج بحرارة العشق .
• المسلم سهم وهدفه الثريا، و" المعراج " خلاصة سر خلوة الروح .
• فلا عجب إن لم تفهم معنى"والنجم" ، فما زال مدك وجزرك محتاجا " للقمر "(14) .
فالله قد أنعم على رسوله صلى الله عليه وسلم – وهو بشر – بالمعراج إلى حيث لا يمكن للشمس ولا للقمر الوصول، كذلك فإن من يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستبعد أن يمنحه الله القدرة على التحرر من قوانين الجسد، وتستطيع الشعوب الضعيفة أن تتغلب على الأمم القوية، ولكن شرط أن يملأ العزم صدور أبناءها، وأن يستعدوا للمعركة، وأن لا يسمحوا للخوف أن يعتريهم . وفى البيت الأخير يلوم إقبال المسلم إن لم يفهم المعنى المقصود من حادثة المعراج، إذ أن هذا يعنى أنه لم يستطع أن يتشرب تعليمات النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يزال يعتمد على الأسباب المادية التى لا تستطيع أن تصل بالإنسان إلى الكمال .
ومن بين الموضوعات التى تناولها كثير من الشعراء قبل إقبال من خلال مدائحهم النبوية " المدينة المنورة "، وقد وصفوها فأحسنوا وأجادوا، لكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه إقبال حين وصف المدينة بأنها مكان التجلى لرسول الله عليه وسلم تماما مثل جبل الطور الذى تجلى عليه الله تعالى لموسى عليه السلام، ففى قصيدة له بعنوان " بلال " رضى الله عنه نشرت فى سبتمبر عام 1904م فى جريدة مخزن (15) يتحدث إقبال عن المدينة المنورة مقر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تمثله بالنسبة لبلال رضى الله عنه، فهى له كالطور بالنسبة لموسى عليه السلام، حيث أتيح لموسى عليه السلام الحديث إلى الله فوق جبل الطور، وأتبح لبلال رضى الله عنه رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة . يقول ما ترجمته :
• كانت المدينة نورا لعينيك، وكأن هذه الصحراء لك بمثابة جبل الطور (16) .
وفى قصيدة أخرى بعنوان " بلاد إسلامية " نشرت فى إبريل عام 1909م فى جريدة مخزن يخاطب إقبال مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا ما ترجمته :
• يا مثوى المصطفى، أنت الأرض التى تعتبرها الكعبة أعظم من الحج الأكبر .
• أنت متلألأة كالفص فى خاتم الوجود، وعلى أرضك ولدت عظمتنا .
• وفيك استراح ذلك السيد المعظم الذى وجدت أمم الدنيا فى جواره الأمن والأمان .
• ذلك الذى صار من يحمل اسمه ملكا للعالم وخليفة قيصر ووارث جشميد .
• لو أن للقومية الإسلامية مكانا بعينه، لم تكن الهند هى ذلك المكان، ولا فارس ولا الشام .
• آه يا يثرب ! أنت وطن المسلم ومأواه، وأنت محور إشعاعات الأحاسيس .
• وسنبقى نحن فى الدنيا ما بقيت فيها أنت، فأنت الصبح فى الحديقة ونحن فيها الندى (17) .
فإقبال يرى المدينة مركزا للمسلمين، وهى قبلتهم، وحول كعبتها يتحلقون، وهى رمز عظمتهم، وفيها تم الدين الإسلامى واكتمل، وشرفها من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بها . ولا تقتصر نظرة الإحترام والتقديس عند إقبال على المدينة المنورة فقط، وإنما يخص بها أيضا شبه الجزيرة العربية كلها وخاصة الحجاز حيث أمير القافلة الإسلامية محمد صلى الله عليه وسلم . يقول ما ترجمته :
• أيتها الأرض الطاهرة، بذلنا حياتنا فداء لحرمك، ولا تزال دماؤنا تجرى فى عروقك .
• وأمير قافلنا هو سيد الحجاز صلى الله عليه وسلم، وراحة نفوسنا باقية ببركة اسمه (18) .
والمدينة المنورة فى نظر إقبال ليست مجرد مكان، والذهاب إليها وقت الحج ليس مجرد إتمام شعيرة من شعائر الدين، وإنما يكون الذهاب إليها وتحمل المشاق فى سبيلها إظهارا لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهدف هو المثول بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارته مهما كان فى ذلك بذل للروح والمال ، وهذا هو فحوى إحدى قصائد إقبال تحت عنوان " حاج فى الطريق إلى المدينة " ، وتحكى قصة أحد الحجاج نجا من الموت عندما هاجم اللصوص القافلة التى كان يسير معها فى طريقه من مكة إلى المدينة فقتل من قتل ونجا من نجا . وعاد الناجون مرة أخرة إلى مكة، وبقى هذا الحاج مصمما على إكمال المسير حتى المدينة، وهذه ترجمة لبعض أبيات القصيدة :
• يقول الخوف "لا تذهب إلى يثرب وحدك"، ويقول الشوق " إنك مسلم، فامض بشجاعة" .
• هل أعود إلى بيت الله دون زيارة(الروضة الشريفة)،وكيف أرى وجهى للعشاق يوم الحشر.
• لا يخاف السائرون فى صحراء الحجاز على أنفسهم شيئا، هذا هو السر الخفى فى هجرة المثوى فى يثرب (19) .
ولا يفوت إقبال أن ينسب نفسه كمسلم إلى الحجاز ويفخر بهذا النسب، فيقول فى قصيدته " شكوه " التى قرأها فى اجتماع جمعية حماية الإسلام فى أبريل عام 1911م ما ترجمته " :
• إن كان دنى عجمى فإن خمرى حجازى، وإن كانت أغنيتى هندية فلحنها حجازى (20) .
وكم أحسن الشيخ الصاوى على شعلان فى ترجمة هذا البيت إلى العربية شعرا إذ قال :
• أنا أعجمى الدن لكن خمرتى ... صنع " الحجاز" وكرمها الفينان .
• إن كان لى نغم " الهنود " ولحنهم .. لكن هذا الصوت من " عدنان " (21) .
وهكذا فإن أشعار إقبال الأردية تمتلئ بالحديث عن الأراضى المقدسة، ولكن بأسلوب يثبت فى ذهن القارئ ما يريد إقبال بثه إليه من فلسفة تهدف إلى إيقاظ المسلم من سباته وتعريفه بذاته وحثه على التمسك بدينه . ومن بين أشعار إقبال الأردية نصادف قصيدته " فى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم" التي يناجى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبثه شكواه مما نزل بالمسلمين من مصائب على يد المستعمر، وقد نظم إقبال قصيدته هذه فى الفترة التى هاجم فيها الإيطاليون ليبيا (22) ، ويتخيل إقبال فى هذه القصيدة حوارا يجرى بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول ما ترجمته :
• عندما ثقل عليّ ما يحدث فى العالم، حزمت أمتعتى ورحلت منه .
• ورغم أنى مكيل بقيود الصباح والمساء، لكنى لم أوطد علاقتى بنظام هذا العالم العتيق .
• اصطحبتنى الملائكة إلى مجلس رسول الله ، أخذونى إلى حضرة من صفته رحمة العالمين .
• قال لى المصطفى يا عندليب روضة الحجاز! احترقت البراعم من حرارة أنغامك .
• وقلبك دائما منتش بشراب المحبة، وتواضعك تغبطك عليه السجدات الخاشعة .
• لقد طرت من قاع الدنيا إلى الأفلاك، وعلمتك الملائكة التحليق فى الأعالى .
• جئت من حديقة الدنيا كالشذى، فماذا أحضرت لنا من الهدايا .
• قلت : يا سيدى ، لا أجد فى الدنيا راحة ، والحياة التى أبحث عنها لم تتيسر لى .
• ومع أن رياض الوجود تمتلئ بآلاف الورود والزهور، لكنى لم أصادف ذلك البرعم الذى تفوح منه رائحة الوفاء .
• إلا أنى أحضرت إبريقا زجاجيا هدية لك، وما فيه لا يوجد حتى فى الجنة ،
• فيه تتلألأ حرمة أمتك، فيه دماء شهداء طرابلس (23) .
أما إقبال نفسه فقد كان يتمنى أن يلقى ربه فى أرض الحجاز، وإن لم تتحقق هذه الأمنية فروحه دائما كانت معلقة بها . يقول ما ترجمته :
• إنى أبحث عن الموت فى أرض الحجاز (24) .
هذا والأشعار التى كتبها إقبال – رحمه الله – فى هذا المجال كثيرة جدا ولكننا نكتفى بما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر وتجنباً للإطالة فى البحث .
وهكذا يتضح لنا أن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم فى الشعر الأردى عموماً تظهر أمامنا فى ثلاث صور تتصل ببعضها البعض :
1 - الصورة الأولى هى صورة الشعر الصوفى، وفيها مدح النبى صلى الله عليه وسلم وإبراز شخصيته وأوصافه بهدف شرح نظرية أو تبليغ عقيدة .
2 - أما الصورة الثانية من غرض المديح النبوى ، ونجده عند معظم شعراء الأردية مسلمين وغير مسلمين اتخذوا منه تقليدا عاما التزموا به فى دواوينهم ومثنوياتهم على وجه الخصوص، وهو أن يبدأ الشاعر ببعض أشعار فى حمد الله والثناء عليه، وبعض أشعار فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم، ثم بعض الأشعار فى بيان مناقب الصحابة الكرام وخاصة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ثم يلى ذلك بعض الأشعار فى مدح سلطان العصر، وبعدها يبين الشاعر سبب منظومته ، ثم يدخل إلى المنظومة مباشرة، ولم يشذ عن هذا التقليد إلا القليل . وبالتالى فإن المدح كان تقليديا لا جديد فيه، بل ولا يظهر شخصية النبى صلى الله عليه وسلم بشكل واضح مؤثر، وإنما شخصية مقدسة مباركة معجزة – وهذا حق – دون أن يتطرق الشاعر كثيرا إليه صلى الله عليه وسلم كشخصية نزل عليه وحى من السماء بالرسالة لتحرير الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قد كلفه الله بتبليغ هذه الرسالة، وأن على المسلمين العمل بها واتباعها، وأن من لم يتبعها فقد باء بالخسران المبين، وهو ما حدث للمسلمين فى إحدى الفترات التاريخية وهى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حيث رزح العالم الإسلامى كله تقريبا تحت نير الإستعمار الغربى والشرقى على السواء نتيجة إهماله الرسالة النبوية وبعده عن اتباع النبى صلى الله عليه وسلم والتأسى به ونسيان دوره كقائد للعالم كله إلى طريق الخير والرشاد .
3 – الصورة الثالثة التى تظهر فيها شخصية النبى صلى الله عليه وسلم هى الصورة التى التي نجدها عند إقبال والتي أراد بها تبليغ رسالة معينة أو فكرة خاصة إلى المسلمين من أهل شبه القارة الهندية خاصة، وإلى المسلمين كافة ، وهذه الصورة تتميز عن سابقتيها بأنها صورة حية تجرى فيها الروح وتملؤها الحركة والحياة، فالشاعر فى الصورة الأولى يكون تركيزه على النظرية الصوفية التى يقدمها، وفى الصورة الثانية يكون همه الأكبر هو إتمام تقليد جرى عليه العرف الشعرى، أما فى الصورة الثالثة فإن تركيز الشاعر يكون على دراسة شخصية النبى صلى الله عليه وسلم ليقدم من خلالها نموذجا للمسلمين يحتذوه فى دنياهم ويسيروا على نهجه فى حياتهم مع تأكيد مسبق بأن هذا النموذج هو الأمثل والأفضل، وليس ما قد يفرض عليهم من نماذج بشرية أخرى تبهر أنظارهم ببريقها الزائف مثلما هو الأمر مع المدينة الغربية .
والحق أن نظم الشعر فى الصور الثلاث جميعا يربط رباط مشترك وهو حب النبى صلى الله عليه وسلم باعتبار أن حبه جزء من الدين وأساس فيه، فسواء أكان الشاعر صوفيا أو من شعراء المديح النبوى أو من الشعراء أصحاب الرسالات فإنهم جميعا يشتركون فى هذا الحب، ولا نستطيع نفيه عن بعضهم حتى ولو كان ما يكتبه مجرد تقليد ونمط جرى عليه العرف الشعرى فى فترة ما .
أما الفارق بين الشعراء أصحاب الصور الثلاث فهو نفسه الفرق بين نظرياتهم وشخصياتهم وعصورهم، فالصنف الأول من الشعراء – أى المتصوفة – تتسم أشعاره عن النبى صلى الله عليه وسلم ببعض المبالغات التى قد تجافى فى بعض الأحيان حقيقة ما جاء به الدين كما رأينا فى بعض الأمثلة من خلال هذا البحث .
أما الصنف الثانى فيعبر عن مشاعره الشخصية تجاه النبى صلى الله عليه وسلم والمدينة المنورة والروضة الشريفة وغيرها، وقد نرى تطرفا فى هذه المشاعر أحيانا، لكنه تطرف غير متعمد دفعه إليه حبه للنبى صلى الله عليه وسلم أو تقليده لشعراء سابقين .
وأما الصنف الثالث من الشعراء فتتميز أشعاره بالتوازن فى العاطفة والالتزام فى الموضوعات والتمسك بالحقائق وعدم الحياد عن التاريخ، وهذا – فى الواقع – هو الفارق الأساسى بين الأصناف الثلاثة من الشعراء وهو فارق الثقافة والعلم بينهم جميعا، فالصنف الثالث يتفوق فى هذا المجال، إذ أن شعراءه على قدرعظيم من الثقافة والتعليم ، ودراساتهم متنوعة عميقة ومعرفتهم كبيرة بحضارتهم الإسلامية والشرقية جنبا إلى جنب مع إلمامهم بالحضارات الأخرى قديمها وحديثها مما جعل شعرهم أكثر دقة وتحديدا، ويتجسد كل هذا فى الشاعر العظيم محمد إقبال . وبالتالى فإننا نرى أن إقبال هو أفضل من أبرز شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى شعره الأردى من خلال دواوينه الثلاثة : صلصلة الجرس، وجناح جبريل ، وضرب الكليم ، ونصف ديوانه هدية الحجاز، وقد قلد إقبال فى هذا الميدان كثير من الشعراء الذين جاءوا بعده .
هوامش
1- كليات إقبال، فارسى – أرمغان حجاز – ص 278 .
2- سورة الأحزاب، الآية 21 .
3- تضمين للآية الكريمة فى سورة الشرح آية 4 .
4- يشير الشاعر إلى القارة الأفريقية .
5- كليات إقبال ، اردو – بانكـ درا – جواب شكوه – ص 107 – 208 .
6- د. أمجد حسن ، د . إبراهيم محمد إبراهيم ، شاعر الشرق محمد إقبال – القاهرة – مصر – ص 68 – 69 .
7- دكتور رياض مجيد ، أردو مين نعت كوئى – ص 428 .
8- وهى " بانكـ درا " : صلصلة الجرس – بال جبريل : جناح جبريل – ضرب كليم : ضربة الكليم – ونصف ديوانه ارمغان حجاز : هدية الحجاز .
9- كليات إقبال، اردو – بال جبريل – ص 128 .
10- المرجع السابق، ص 128 .
11- كليات إقبال ، اردو – ضرب كليم – ص522 .
12- كليات إقبال ، اردو – بال جبريل – مسجد قرطبة – ص 389 .
13- كليات إقبال ، اردو – ضرب كليم – ص 522 .
14- كليات إقبال ، اردو – ضرب كليم – معراج – ص 479 .
15- جريدة مخزن كان يصدرها فى الهند الشيخ عبد القادر وهو أحد أصدقاء إقبال .
16- كليات إقبال ، اردو – بانكـ درا – بلال – ص 81 .
17- كليات إقبال ، اردو – بانكـ درا – بلاد إسلامية – ص 146 .
18- كليات إقبال ، اردو – بانكـ درا – ترانه ملى – ص 159 .
19- كليات إقبال ، اردو – بانكـ درا – ايكـ حاجى مدينه كـ راستـ مين – ص 161 .
20- كليات إقبال ، اردو- بانكـ درا – شكوه – ص 170 .
21- د . أمجد حسن ود . إبراهيم محمد إبراهيم ، شاعر الشرق محمد إقبال – ص 62 .
22- غلام رسول مهر ، مطالب بانكـ درا – ص 247 .
23- كليات إقبال ، اردو- بانكـ درا – حضور رسالت مآب مين – ص 197 .
24- كليات إقبال ، اردو- بانكـ درا- شفا خانه حجاز – ص 198 .
رد مع اقتباس
المفضلات