من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتية
قيل يوما ما إن (الإنسان اجتماعي بالطبع) .. وأصبح القول مثلا عاديا لا يثير في الفرد المعاصر انفعالا أو وجدانا واعيا بخطورته أو مغزاه .. بل لعل الفرد المعاصر أصبح أشد حماسا وتجاوبا مع أنباء الغاضبين .. والثائرين .. والذين لا ينتمون في دروب الأدب ، ومسالك الحياة ومتاهات الفكر والفن . ويبدو أحيانا أن من الأصح أن يقال الآن : (كان الإنسان اجتماعيا بالطبع .. ولكنه يجـرب الآن ألاَّ ينتمي ، وهو يحث خطاه في النصـف الثاني من القرن العشـرين ! .)
إلا أن محاولات الإنسان ألا ينتمي ، أي أن ينسلخ عن دائرته وبيئته هذه ، لا يمكن أن تثبت إلا حقيقة نفسية واحدة هي أن الإنسان ينتمي بطبعه ، وأن اللاانتماء المستديم علة اجتماعية وظاهرة نفسية مرضيـة جديرة بالبحث والتحليل ، وهو ما نحاول كشفه واستعراضه في هذا المقال .
ودلائل (اجتماعية الإنسان) و (انتمائيته) وفيرة جاهزة : شعوره بالحنين للوطن والجماعة عندما ينأى عنهم .. وتذكُّره الأيام الحلوة السعيدة العابرة .. ونسيانه كل ما هو سيء وقبيح في مجتمعه البعيد عنه .. ثم شعوره بالقلق والخوف الغامض يعتصر فؤاده إذا وجد نفسه وحيدا أو بين جماعة من الغرباء .. ثم استرداده لثقته وحيويته بين خلانه وأصدقائه .. وغير ذلك كثير .. كل ذلك يؤكد بصـورة لا تقبـل الجدل أن الإنسـان مربوط بأواصـر الاجتمـاع والانتماء : جسميا (بيولوجيا) ، وروحيا (بالمثل والمبادئ) ، وعقليا (بالثقافة والتربية النفسية) .. بالإضافة إلى أواصر دقيقة أخرى لا تعد ولا تحصى ...
الانتماء البيولوجي :
والانتماء البيولوجي غذاء حيوي للإنسان لا يقل أهمية عن البروتينات والنشويات والفيتامينات التي تشكل غذاءنا اليومي .. لكنه غذاء (غير منظور) لا نحس بحاجتنا إليه إلا في المناسبات أو التجارب القاسية أو المرض ..
إن جهازنا العصبي لا يمكن أن يعمل بصورة صحيحة ما لم يتلق غذاءه من (الدفعات) الخارجية والمعلومات الحسية الهائلة . والشعور بالحياة والإحساس بالوجود ، كل هذا إنما يأتينا عن طريق وجود الآخرين النائين والمقربين . آلاف الأحاسيس الصغيرة منها والكبيرة تغذي جهازنا العصبي وتجعل أدمغتنا مهيأة للاستجابة والاتصال بالعالم الخارجي .
والمولود الجديد الذي لا يسمع ، لا يمكن أن ينطق أبداً لأن السمع غذاء المخ .. منه يتلقى الرموز والأصوات واللهجات ، وعليه أن يرد ويتكلم ، فكل أصم هو أبكم ، إذا بدأ صممه مبكرا جدا . أما الذي يسمع لفترة من حياته ثم يصاب بالطرش فإنه يتكلم استنادا على (معلوماته) السابقة التي تلقاها عن أذنيه .
ولذلك يشبه بعض العلماء العقل البشري بالعقل الإلكتروني : جهاز معقد جدا لا يمكن أن يعمل ولا أن يجيب ولا أن يحل المعضلات ما لم يتلق (غذاءه) من المعلومات الأولية ، وهي معلومات يضعها الإنسان في الجهاز . أما جهازنا العقلي فيستلم غذاءه بصورة طبيعية في كل لحظة من الزمن بصورة معلومات حسية حياتية لا تحصى من الجماعة والهيئة والمحيط والثقافة ...
في حجرة معزولة عن الصوت :
وقد اتجه علم النفس بسرعة إلى دراسة الجماعة والمحيط والثقافة وتأثيرها على نفسية الفرد ، لأنه لا تمكن دراسة الذات الواحدة والنفس المستقلة دون دراسة الإطار الذي يحيط بها أو الفلك الذي تدور في مداره . وقد أجرى أحد علماء النفس تجربة على نفسه ، إذ دخل في حجرة معزولة عن كل صوت ومبطنة بالجلد المحشو السميك ... فلم يحتمل (زنزانته) الاختيارية تلك أكثر من بضع دقائق ، وبدأ يستغيث طالبا إخراجه منها . فالعزلة الشديدة تؤدي بالإنسان إلى التخيلات وتخلق فيه هلوسات من أشباح وأضواء وأصوات وهمية . ويذكر العالم الفسيولوجي هيب أن أحد طلاب الجامعة الأصحاء تطوع لأن يعزل نفسه عن الأصوات والإحساسات الأخرى لمدة أيام .. ووصف مشاعره بعد التجربـة بأنه : (أصبح منشطرا إلى شخصين لا يدري أيهما هو .. الشخص المهلوس المشوش ، أم الشخص الخائف المنهار . وأنه أصبح عديم البصيرة قليل التمعن والتمحيص ، شديد الرغبة للإصغاء والاعتقاد بكل ما يجوس بخاطـره من سخافات !!) .
حالة انعدام الوزن :
وحالة فقدان الوزن لدى رواد الفضاء تماثل العزلة الشديدة واضمحلال الشخصية .
فالطيار لا يشعر بوزنه .. وعليه أن يتنفس بقوة ويطلق الزفير لئلا يختنق . فالهواء من حوله عديم الوزن أيضا ، وكل شيء غير مربوط يعوم في الهواء بحرية ! .. وإذا عطس أو سعل فقد يقفز بكليته من مكانه ويرتطم بجدار الكوكب الصناعي . ثم أن عليه أن يشرب من إناء بلاستيك قابل للضغط والكبس وإلا خرج الماء من فتحات أنفه ! .
هذه الحالة التي ينعدم فيها الإحساس بالوزن (وهي حاسة عقلية كالإبصار والشم ..) ... هذه الحالة الرهيبة الثقيلة الوطأة قد تؤدي ببعض الناس إلى الجنون .
السجون وانعدام الشخصية :
والمكوث الطويل في السجون بحد ذاته يؤدي إلى الارتباك واضمحلال معالم الشخصية وربما النكوص إلى دور الطفولة والتدهور الذهني والرضوخ والعجز عن التفكير الحر المستقل ويحتاج السجين إلى فترة من الزمن بعد مغادرته السجن كي يستعيد صفاء ذهنه ومقدرته السابقة ، كما يحدث للدكتور (مانيت) احد أبطال ديكنز في (قصة مدينتين) الشهيرة .. ذلك الطبيب الذي نسي مهنتة الطب في سجن الباستيل الرهيب .
وبسبب ما يقارب نفس هذه الحالة الرقود الطويل في المستشفيات بسبب مرض مزمن أو لكون المستشفى ضعيف النشاط الاجتماعي أو متدني المستوى التمريضي .
كل هذه الأمثلة الحياتية تشير إلى أن غذاء حيويا يعيش عليه الإنسان .. وهو الانتماء البيولوجي بحد ذاته دون أن يتخلله فكر أو مبدأ أو تعليم .. مجرد صلة جسمية عن طريق الحواس تربط الكائن البشري بما يحيطه من أناس وأجسام وأصوات وحر وبرد وريح ونسيم . هذا الانتماء البيولوجي مخلوق فينا .. نحياه .. ونمارسه قسرا وضرورة .. رضينا أو أبينا .
واللاانتماء البيولوجي ..
واللاانتماء البيولوجي أشبه بالمستحيل .. لأنه إن وجد فمعناه أن نفترض وجود كتلة حية لا تسمع ولا تبصر ولا تتألم ولا تنشرح . فإن سمعت وأبصرت وأحسست بشيء فلا هي تستجيب ولا تنفعل بما تحس . ولا يتم هذا إلا في الحالات المختبرية التي يختلقها العلم النفساني لغرض الدرس والبحث ، أو في بعض الحالات العقلية المريضة مثلا . وقد جرب أحد أطباء الأمراض العقلية في جامعة لندن أن يدرس مرض الفصام العقلي الشيزوفرينيا في غرف معزولة عن كل المؤثرات الخارجية فلاحظ تحسنا ملموسا في سلوكهم وأسلوب تفكيرهم .. كأن الانقطاع البيولوجي أصبح دواء لهم ، بينما كانت نفس العزلة سببا في إحداث اضطراب شديد بين الناس الاعتياديين .
إن اللاانتماء البيولوجي أشبه برائد الفضاء وهو يمر بحالة فقدان الوزن ، وهذا حال لا يوجد في مجتمعنا الأرضي بالطبع .
والانتماء الروحي والعقلي ..
هو عين ما قصده العلماء في قولهم إن الإنسان اجتماعي بطبعه . فالإنسان يستمد أسلوب تفكيره وأنماط سلوكه وحدود حرياته ومعالم القيود والمحرمات والتقاليد والمثل ... يستمدها رويدا رويدا من أبويه وأسرته وحلقته الاجتماعية في البيت والشارع والقرية والمدينة والمجتمع الأكبر . ويتلقى الفرد تلك التعاليم سطرا سطرا ، ويحتسي الثقافة المحلية جرعة جرعة .. ويتدرج في العادات الجارية خطوة تلو الأخرى . وتبدأ حياكة المجتمع للفرد منذ أيام الطفولة الأولى ... ولا يتضح مدى خطورتها له إلا في الأزمات والصدمات والأمراض . فوجوده بين جماعة ينتمي إليها يجعلها تصبح غذاء روحيا وعقليا ونبعا خالدا يبعث فيه طاقات الحياة والحب والدعة والاستقرار . فبين الفرد وجماعته علاقة سلوكية وطيدة ، وتعايش حيوي مستديم . لذلك وجد علماء النفس أنهم إذا أرادوا تغيير اتجاه الفرد الواحد ، فإن من الأسهل جدا تغيير جماعته قبل تغييره هو فإذا ما حصل التحوير في الجماعة الصغيرة تبع الفرد جماعته تلقائيا . فالفرد إذن ينفذ دورا خالصا في تلك الجماعة . وهكذا اكتشف (ثريشر) مثلا أن أحسن السبل لإحداث إصلاح في جماعة من الجانحين والمجرمين يكون بتغيير زعيم العصابة وإصلاحه لكي يطرأ التبدل على الجماعة ، ومن الجماعة إلى أعضائها فردا فردا ، واتبع (كرت ليفن) نفس الطريقة وأثبت أن الاتجاه الفردي يتبدل بتبديل أفكار الجماعة بصورة عامة . والعلاج الجماعي النفساني مثال على كيفية شفاء المرضى عن طريق الجماعة بالمناقشة والتثقيف والتوعية النفسانية ، وهي الطريقة الناجعة في المدمنين على المخدرات والسايكوباثيين .
فالانتماء إلى الجماعة والتمسك بها يدرأ عن الفرد عديدا من المشاكل والأزمات والاضطرابات النفسية ، والانصياع للجماعة والاندماج بها يخفف من القلق والتوتر الداخلي ، وقد أشار إلى ذلك فرويد وأطلق عليه (فروم) اصطلاح المسايرة الآلية ودعته كارين هورني بـ (الخضوع العصابي) ، فلسان حال الفرد المنقاد لروحية الجمـاعة يقول : (أنا مثلك تمامـا .. وسأكون كما تودين أن أكون .. لكي تحبيني بدل أن تمقتيني) .
وقد تكون للفرد آراؤه ونظرياته الخاصة التي لا تنسجم كليا مع جماعته ، لكنه يتعايش في إطارها ويقف عند حدودها العامة لأن أرباحه النفسية أكبر من خسائره الشخصية ، فهو إذن لا يزال منتميا جزئيا إلى جماعته ومقتديا بها .. وقد لا ندرك بجلاء خطورة الانتماء إلا إذا تطرقنا إلى بعض أمراض عدم الانتماء والتنصل ، تلك الأمراض التي يعانيها اللامنتمي أثناء انسلاخه أو ابتعاده أو قطع صلته بجماعته ..
أمراض اللاانتماء ..
من المتفق عليه بين عديد من علماء النفس أن معنوية الطفل وتوازنه النفسي يستندان إلى انتمائه وتماسكه مع أسرته وعلى طبيعة علاقته العاطفية مع والديه .
والبعد عن البيت والأم في السنين الأولى من حياته يبعث نوعا من القلق يدعى بقلق الفراق ، كما أن البعد الطويل أو القطيعة بين الطفل ووالديه حتما يولد فيه ميولا عدائية واكتئابية ونزعات إجرامية . وهذا ما حدث لمجموعة من أطفال الحرب العالمية الثانية الذين اضطروا إلى البعد عن ذويهم بسبب الغارات الجوية أو لموت أحد الوالدين أو كليهما . فتحطم العلاقة الانتمائية الأولى بالأسرة زرع في أولئك الأطفال استعدادا للاكتئاب أو المشاركة المرضية النفسانية (السايكوباثية) أو الإقبال على تناول المخدرات .
كذلك ، فإن التماسك مع المجموع واحترامه والاقتداء به يقلل من وطأة الصدمات والأزمات .. حتى الانتحار ترتفع نسبته بين المغتربين والمنعزلين والامنتمين الذين وهنت صلاتهم بجماعتهم ...
ونحن ما نفتأ نعثر على أناس يعيشون في مدن كبيرة .. يسيرون بين آلاف المارة .. يسبحون في بحار من الضوضاء والحوادث .. لكنهم مع ذلك يعيشون لأنفسهم ، ويصنعون عوالمهم الخاصة ، ولا تحركهم مجريات الأمور حواليهم . ونعثر على كثير من أمثال هؤلاء في المستشفيات العقلية بين مرضى الفصام ، الشيزوفرينيا . هؤلاء الذين لا ينتمون لمفاهيم العقلاء وتعاليمهم ...
والعلاقة المهلهلة ، والانتماء الكسيح بين المحارب وفرقته وأمته وزملائه المحاربين هي الطريق الأكيد لانهزامه وانهياره .. بينما المحارب الصعب المراس يتدرع باندماجه وإيمانه بمبدئه وأهداف جماعته . فهو يحارب بعزم ، ويقاوم شدائد الأسر ومحن الاعتراف ...
وغير هذه الأمراض كثير وكثير .. نستدل منها على أن العزلة واللاانتماء ظاهرة مرض ، وأن التبعية والعيش والاحترام المتبادل بين الجماعة والفرد تعزز من معنوياته وتمده بطاقة الحياة والعمل والكفاح . فهل يوجد (لا منتم) سويّ بحق ؟ وماذا يمكن أن يكون ؟
من هو اللامنتمي ؟ ...
هو الذي انتحي ناحية قصية من محيطه ، ثم ينظر إلى جماعته .. ويقارنها باتجاهاته وميوله ورغباته ، فيقرر أن يفصم أواصره بها ، ويطمس معالمها من عقله ، ويمحو بصمات ثقافتها في روحه ويمج ما رضعه منها من مثل أو تقاليد . وقد يفعل اللامنتمي ذلك في نوبة من تحد أو طيش أو حماقة صبيانية .. أو بدافع من الشعور بالخلو والحيرة والفوضى .. وقد يفعل ذلك لأن ناحية أو أكثر فيها لا تلائم ذوقه فيتركها استنكارا ليس إلا .. وقد يفعل ذلك لأنه يعتقد أن عليه أن يحدث تغييرا أو إصلاحا في تلك الجماعة فيتركها فترة من زمن أو يهاجمـها ناقدا ..
فاللاانتماء إذن لا يتعدى أن يكون رغبة في التعبير عن السخط والثورة ، أو مظهرا من مظاهر الضياع والفوضى ، أو رغبة في الإصلاح والتغيير . واللامنتمي يشعر (بالغربة) قبل كل شيء .. واستقلاله يتركه وحيدا .. ووحدته لا تنهي قلقه ... والقلق يصنع أشياء كثيرة : أشياء عظيمة .. أو حقيرة ..
فالمصلح يغترب ويعتزل ويفكر ليعود إلى جماعته فيحاول تغيير ما بها .. هو يعبر عما قاله أرخميدس يوما : (أعطني مكانا خارج الأرض ، وأنا أحرك الأرض) . أي أنه لا ينتمي لفترة من زمن لكي يحرك ويفيد ، وهكذا يحرك الممتازون عجلة التاريخ .
والساخط والمتمرد يغترب ويعتزل .. أو يستنكر ناحية خاصة في مجتمعه ، لكنه يعود إليه ويعبر عن سخطه ولا انتمائه في (أدب ساخط) أو (فن متمرد) بشكل قصة أو بهيئة مقالة أو بديوان شعر أو بمسرحية ..
ويبتعد بعض الساخطين عن جماعتهم لمجرد نزوة طارئة أو مكابرة أو حبا في الشذوذ .
وآخرون لا منتمون ، أثارتهم النظم الموضوعة وأقلقتهم الحياة المادية وأفزعتهم الآلة والرتابة والعلوم والحروب .. وشعروا بالخواء والفراغ والضياع ... لم يجدوا أجوبة على تساؤلاتهم ، ولم يرضخوا للأجوبة المعروفة .. ثاروا على الأبوة والأمومة والأسرة والمدرسة .. اعتزلوا مجتمعهم .. وابتكروا لأنفسهم مجتمعا خاصا مليئا بالغرائب والعجائب والمتناقضات : موسيقى خاصة أو لباسا متميزا أو تسريحة شعر ولحية ، أو تناول المخدرات والعقاقير ، أو سكنى بقع وأحياء منعزلة من الأرض وحتى الخيم والمعسكرات . وهؤلاء هم مجموعة الشباب الساخط التائه من أمثال (الهيبيز) والبروفوك ، والخنافس ، والرولرز والبيتنك ، والقردة ، الخ .. من المسميات . ولعل أدعى شيء للسخرية أنهم لا منتمون من غير إصلاح أو نقد بناء أو فكر عميق ..
بقي عندنا اللامنتمي المصلح الهادف .. هو إذا ابتعد عن المجموع فإنه لم يقطع أواصر عطفه وشعوره بالمسؤولية ، وابتعاده عن المجموع ارتفاع وتحليق لكي ينظر إليه نظرة الطير من عل ، نظرة الشمول والتدقيق والنقد الرامية إلى الأحسن والأصلح ..
ونعود إلى إثبات ما بدأنا به في أول المقال من أن اللاانتماء المستديم أشبه بالمحال ، وأنه لا يحصل إلا بين المرضى أو في أروقة المختبرات والأبحاث ...
استحالة اللاانتماء ...
إنه مستحيل ، بمعنى أن اللامنتمي إذا خرج عن جماعته فلا يلبث أن ينتمي إلى جماعة أخرى عندما ينفصم الفرد عن جماعته ويبتر وشائج التعاطف وروابط المسؤوليات .. أو عندما يحاول قلع جذورها التاريخية فيه ، فإنه لا يلبث أن يجد نفسه بين جماعة غير تلك التي تركها .. بل سرعان ما يدرك أنه خلع بزة ليرتدي أخرى ! ..
فالأديب الساخط ، والمفكر الوجودي الذي شعر وافتخر بوجوده وفاعليته وعظمته في ذاته ، راح يهتم بوجود (الآخرين) وتوسيع آفاقهم الفكرية . فهو يكتب وينتج لغيره .. وهو يتمنى لو أن غيره آمن بما يقول .. وهو يتلمس وجود الآخرين ومؤازرتهم له من خلال التلاحم والتمازج الفكري .. ولا أخاله يتمادى في نشوته وسعادته إذا أدرك يوما أنه يكتب لنفسه فقط ، وأن مسرحيته لم تمثل ، وأن مقالته اختفت في طي النسيان . فإن لم تسوؤه كل تلك المنغصات .. فلعله يعيش على أمل دفين هو أن الأجيال القادمة ستهتف له . فللأديب الساخط والوجودي واللامنتمي (جماعة) ما ، في بقع من المعمورة .. وهذا هو نوع من الانتماء إلى جماعة ! .
ولاعب الكرة ينتمي إلى فريقه ويستمد منه الاعتداء والفعالية .. بل إنه يلعب مع رفاقه ولهم ، ويهمه ألا يخيب ظنهم وظن مشاهديه وأفراد ناديه أو محلته أو بلده أو دولته ..
والمتدين المنتمي إلى مذهب أو طائفة ، إذا ما رأي استبدال مذهبه ، فإنه سيلجأ إلى مذهب آخر أو إطار آخر من تفكير أو عبادة . والمستقل ، يجد كثيرا من غيره من المستقلين .. والمستقلون (جماعة) تلقائية . والمستقبل من ناحية مرتبط من نواح حياتية أخرى لا ريب فيها ..
والصبي الشقي ينتمي إلى جماعة الأشقياء من أمثاله . والمجرم يمتثل لأوامر عصابته ولا يستطيع أن يقدم على مخالفاته اللااجتماعية والإجرامية إلا بتعزيز وتأييد من عصابته . حتى هؤلاء الغاضبون المتمردون اللامنتمون الذين يدَّعون أنهم قد تحرروا وحطموا القيود وداسوا على التقاليد .. أين هم الآن ؟ إن كل فرد فيهم ينتمي إلى جماعة ويحتذي بها ويفخر بالانتماء إليها ، ويتلقب باسمها . وأسماء الفرق والجماعات ما هي إلا أولى علامات الانتماء ، وأسماء الخنافس والهيبز والبيتنك ترمز إلى جماعة معينة لها تقاليدها وعاداتها . والهيبز الفتى (أو الفتاة) يقوم بدور المنتمي للجماعة دون أن يدري : فهو يمارس طقوسها وعاداتها .. ويتناول مخدراتها .. ويصغي لموسيقاها ويتذوق رقصاتها وحفلاتها .. ويتمتع بممارساتها الجنسية .. ويستطيب قذارتها .. ويرتدي بزاتها !! ... وهذا هو الانتماء بأجلى معانيه وأبشع صوره .!
وينتمي الفلاح إلى أرضه .. وطالب البعثة إلى وطنه وهو على بعد آلاف الأميال منه ، فالانتماء لايعترف بالزمان أو المكان ..
أما المصلح ، أما محرك التاريخ .. فإنه إن كان قد تجرد وتباعد عن الجماعة فلكي يغير ما بها . وغالبا ما اعتزل الرسل والأنبياء مجتمعاتهم لفترات متقطعة كي يتأملوا ويفكروا ويصلحوا ، فالحكيم والمصلح يقوم بدور القيادة ويخلق له أتباعا ومريدين ، وتنشأ جماعة جديدة تنتمي له وينتمي إليها . فإذا كان قد توصل إلى إحداث التغيير بـ (لا انتمائه) الوقتي ، فإنه ما لبث أن عاد ثانية إلى انتماء جديد . وكل جماعة يربو أعضاؤها على الثلاثة هي رابطة انتمائية من نوع خاص ..
فإلى أين وصلت بنا الأمثال السابقة ؟ .. وصلت بنا إلى أن الانتماء . موجود في كل دروب الحياة وشتى ميادينها . قد يكون انتماء نسبيا أو جزئيا أو وقتيا .. وقد يكون انتماء إصلاحيا أو أخلاقيا ، أو فاسقا أو إجراميا أو ساخطا أو متمردا .. لكنه انتماء في كل الأحوال ، والانتماء تبعية ورابطة ، والتبعية ذات حدين أو وجهين : انتماء .... والتزام .
الانتماء ... والالتزام :
والالتزام وجه آخر من الانتماء وزميل حميم له . فالمنتمي ملتزم ، والتزامه ضريبة انتمائه . فالحكيم والموجه الذي خلق كيانا جديدا من جماعة وأتباع يلتزم أمامهم بما دعا إليه . والمشرع الكبير الذي يضع القوانين للمجموع يلتزم بتنفيذها وإطاعتها . والأديب الساخط والمسرحي العابث ملتزم بعبثه وأفكاره . والقروي الذي يقتل (غسلا للعار) إنما يلتزم بمفهوم سائد عريق بين جماعته . وعضو النادي الفلاني يلتزم بروحية ناديه وأنظمته ومقاصده إن كان ناديا للألعاب الرياضية أو للدعوات الأخلاقية . والمجرم يلتزم بخطط عصابته الإجرامية ، والشباب الخنفس أو الغجري يلتزم بعادات جماعته وسلوكها .
فالالتزام يمكن أن يكون التزاما أخلاقيا أو إجراميا أو فوضويا .. وعندما نتحدث عن (الأدب الملتزم) فإنما نعني به أن يؤدي الأدب واجبه نحو الجماعة التي يكتب لها أو ينبع منها ، وعندما يدعو البعض إلى مبدأ الالتزام ، فإنما يُذكرون الغافلين بواجباتهم الطبيعية ، لأن الفرد الذي يعيش بين جماعة ويحتمي بها ويعيش عليها بيولوجيا وروحيا وعقليا .. ثم يصمت ويغفل ويغفو .. إنما يقوم بدور الطفيلي الذي يأخذ ولا يعطي . والتبعية التي لا فكاك منها يجب أن تخرج عن نطاق الاتكال والتكاسل ، والالتزام هو العطـاء مقابـل الأخذ أو الانتماء ...
بقي أن نقول إن البشرية يهمها أن يكون الانتماء إنسانيا رفيعا ، وأن يكون الالتزام أخلاقيا نافعا ، ولا جدوى من ادعاء اللاانتماء إذ هو وهم يتخيله المتمردون أو الحائرون أو المتطفلون .