أحسَن الكلام وخير الفعَال

من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتي
- لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد . . .
- في التأني السلامة . . .
القناعة كنز لا يفنى . . .
- المركب التي فيها ربانان تغرق . . .
أقوال حكيمة . . وأمثال شعبية راسخة لم تأت اعتباطا . . . ولم ترسخ وتحيا إلا بحكم واقعيتها وصحتها ونجاحها على مر الزمن . . .
صحيحة وخاطئة
وجميعها صحيحة ...
وجميعها خاطئة أيضاً ...
وهي صحيحة وناجحة في ظروفها وتوقيتها المناسب . . وهي خاطئة وفاشلة في غير ظروفها وموعدها المناسب . . . فعامل الزمن . . . وحساب الظروف هي الضوابط التي تقرر ذلك . وقابلية المراوغة والتبرير أو خداع الذات هي التي تؤدي ببعض الناس إلى اسادة استعمالها وإلى الاتكال عليها والاحتماء بها لتبرير السلوك والعمل والفكر . . (فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد) عندما تكون موظفا في دائرة ومسئولا تجاه معاملات المواطنين المراجعين الذين يتوافدون على مشاكلهم وإنجاز أمورهم . . .
ولا تؤجل عملك وأنت عامل أو فني أو فنان عندما تكون مطالبا بانجازه في فترة معينة وتتمكن من انجازه فعلا . . .
ولا تؤجل عملك وأنت أستاذ وممتحن وباحث وطالب إذا كان من المفروض عليك إكمال متطلبات محاضرة أو تقديم أسئلة إلى مدير مدرسة أو تطوير البحث أو مراجعة درس معين والبحث عن قاموس أو مرجع . . .
ولا تؤجل منحة ومكرمة وإحسانا عزمت عليه وباستطاعتك أداؤه وتقديمه لان التأجيل إلى غد لا تحمد عقباه ولا يعرف مصيره . . لأنه لو حدث لك خطب أو شاغل أو مرض مفاجئ . . فستفوتك فرصة الإحسان والثواب .
ولكن عليك أن تؤجل بعض الأشياء لأن في العجلة الندامة . . أي أن تتروى وتتريث . . وفي التريث حكمة ومنفعة وعدل . . فلا تستعجل الحكم على الناس من مظهر أو بادرة منفردة . . ولا تستعجل العقوبة على مرؤوسيك وأنت غير مستوف جوانب التحقيق وظروف المخالفة والتقصير . .
ولا تستعجل في الحب . . وفي الزواج . . وتريث وتردد كثيرا إذا أقدمت على طلاق أو انفصال أو خصام . . .
ولا تستعجل وتستبق الحوادث وتبن عليها المشاريع العاجلة السريعة ، بل دعها في ذهنك مستقرة هادئة لتنضج الحلول معها . . .
ولا تستعجل في الإدانة والاهانة والعراك . . .
وجوه مختلفة
- (والقناعة كنز لا يفنى) . . . ولكنها أحيانا لا هي بالكنز ولا هي بالباقية . . القناعة واجبة في الأزمات . . وفي المحن . . وعندما يمر الوطن والناس في ظروف عصيبة من كوارث طبيعيـة أو موجة جفـاف وسنوات عجاف واقتصـاد صعب مقنن .
والقناعة واجبة أمام حكم الله والأقدار والأمراض والمصائب ، عندها يدرك الإنسان أن السعادة ليست احتكارا لأناس ومحرمة على آخرين . . وأن البشر جميعا معرضون للمرض والمصائب وأقسى الحوادث والمحن . .
والقناعة مفتاح الصبر . . . والصبر مفتاح الفرج . . فهي إذن دليل الصلابة والصمود والانتظار والتأهب للمعركة والكفاح . . .
أما القناعة الذليلة فهي خسارة وليست بكنز . . القناعة التي تخدر الإنسان . . وتجعله آلة بشرية جامدة ترضى بكل شيء ولا تتطلع إلى العمل والتقدم وتحسين الأحوال هي مرض اجتماعي وعلة خبيثة تشل الإنسان وتجمده ..
القناعة التي تقتل روح النقاش والنقد والنصح هي الخرس الفكري الذي يعيق الحضارة ويعرقل المجتمع . . .
والقناعة بالحاضر لن تطور المستقبل . . والقناعة بما وصلت إليه العلوم لن يدفعها إلى الاستزادة من معرفة الكون وأسرار خلق الله واستكشاف المجاهيل . . .
و (السفينة التي فيها قبطانان تفرق) لان بعض المواقع والمواقف تتطلب قرارا من شخص واحد وإدارة من مصدر مركزي هو المدبر والمدير والمنظم .
ولكن (سفينة الأسرة) لا يمكن أن تسير بإدارة شخص واحد . . وبقرار تعسفي إما الزوجة الآمرة الناهية المسيطرة . . أو الزوج الطاغية الأناني ، وكل منهما يريد أن يقود الأسرة وتربية الأطفال وإدارة شؤون البيت حسب أهوائه ومزاجه فكلاهما خاسر . . والسفينة ستقف أو تعطب أو تتعثر في إبحارها . . . فإدارة الأسرة يجب أن تتكون بالمشاركة والديمقراطية والاعتراف بحقوق الآخرين .. ديمقراطية الأبوين وتفاهمهما هي رمز الأسرة الناضجة .. واتفاق رئيسين أو ثلاثة في البيت هو الضمان لسير العجلة . . .
يقول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
(من شاور الرجال . . شاركها في عقولها . .) . . . وهناك مئات من الأقوال والأحاديث والحكم ينطبق عليها نفس التحليل ولها نفس الازدواجية والتناقض ألظرفي وليست التناقض الداخلي . . .
فالقول الصائب هو الذي ينطبق على الظرف الصائب . . والفعل الجيد هو الذي يتم في الوقت المناسب . .
والتناقض الظاهري (ألظرفي) بين مجموعة من الأفعال والحكم المتناظرة - المتقابلة هو في من يستخدمها وليس في حد ذاتها . . .
سلاح ذو حدين :
لماذا إذن هذا التناقض ؟ . . ولماذا نحتار في أيهما أصح وأدق ؟ . . السبب واضح جدا . . لان هناك صنفين من الناس :-
الصنف الأول : هو الذي يريد أن يهزأ بالآخرين ويدير عقولهم فيستخدم الأمثال والحكم في إقناعهم وتسييرهم وفق مشيئته وهو يدرك بمكر وذكاء أن الحقيقة خلاف ذلك .
وتنطلي هذه الحيلة الحياتية على السذج والبسطاء والأتباع .
والصنف الثاني : لا يخدع غيره بقدر ما يخدع نفسه من خلال آلية عقلية لا شعورية هي آلية التبرير فعندما يجد الإنسان نفسه أمام عقبة أو معضلة لا يستطيع النفاذ فيها أو حلها أو التغلب عليها فانه يتراجع ويتخذ سلوكا آخر . . ولكنه يبرر هذا الفشل بعذر مقبول لديه ولدى الآخرين وبذلك (يحفظ ماء وجهه) . . . فإذا لم يدخل في مغامرة أو صفقة تجارية مربحـة . . قال :
(إن القناعة كنز لا يفنى) . . وإذا قيل له ، كان الحل الفلاني أمامك للقضاء على المسألة الفلانية أجاب (الرتق كبير . . والرقعة صغيرة . .) . وإذا وجد نفسه متأخرا في عمل ما قال (في العجلة الندامة) . . وإذا انهال عليه اللوم لتعجله الأمور ، ولم يتحل بصبر وروية أجاب (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد) . . . مثل الثعلب الذي لم يستطع أن يصل عنقود العنب الناضج ليأكلـه . . . فنكص على عقبيـه وهو يقول إنه عنب حامض نيئ ( حصرم ) . . .
أدب القرآن والفقه ، براهين مضيئة :
. . . وفي الآيات القرآنية دلائل دامغة على أهمية زمان الكلام ومكانه . . . فقوله تعالى : (. . لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .) كان أمرا مرحليا مناسبا من الناحية النفسية والعقلية لتطور الدعوة النبوية . ولا يصح أن نستشهد به بعد مرحلته لشرب الخمر في غير وقت الصلاة لأنه أصبح من المحرمات بعد ذلك بزمن قصير . . كذلك لا يصح الأخذ بجزء من آية قرآنية ونتجاهل تتمتها ومناسبتها ومعناها وأبعادها . . . ولكن من الناس (في كلا الصنفين اللذين ذكرناهما آنفا) من يكتفي بالجزء الأول أو الثاني أو الأخير من آية ليجعلها ملائمة لأهوائه . . كأن يستشهد بالجزء الأول من الآية الكريمة في قوله تعالى (ويل للمصلين . . الذين هم عن صلاتهم ساهون . .) فيأخذ بالجزء الأول (ويل للمصلين . .) .
أو يستشهد بالجزء الأول من الآية الكريمة في قوله تعالى . . (إن الله لا يستحى / أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) ..
فيأخذ بالجزء الأول . . ولا يستحى هو أن يجاهر بذلك كالحمقى تماما . . .
وأخيرا . . فان فلسفة الأمثال الشعبية والحكم ، والأحاديث النبوية الشريفة من الكنوز ما يفي بأغراض حياتنا المعاصرة من جميع جوانبها . . فهي حلى فكرية نزين بها عقولنا وسلوكنا . . ولكن الحلية يجب أن توضع في مكانها . . وأن تأخذ حجمها ولونها المتناسق مع الإنسان ذاته . . بشخصه وعمره وملبسه ومركزه وزمانه ومكانه . . . وكل ذلك يحتاج إلى حاسة خاصة . . يدعوها البعض (بالحاسة ألعامة) .