الرقى والتعَاويذ

من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتي
الرقى والتعاويذ وسائل وحيل غير طبية مختلفة الأنواع والأساليب ، يستعين بها الإنسان لدرء المخاطر والأذى عنه ، أو لتخفيف معاناته وعذابه من أمراض نفسية أو خبيثة .. أو لوقايته من أرواح شريرة وقوى ضارة يتوقع خطرها أو حلولها فيه والسيطرة على أفكاره وسلوكه استنادا إلى عقيدة موغلة في البدائية والقدم هي أن المآزق والاضطرابات وانجرافات السلوك والفكر والشعور – وحتى الآلام الجسمية والشقاء تعزى إلى (أرواح شريرة) تحيط بالمصاب وتهيمن عليه وتجعله عاجزا لا حول له ولا طول ، إلا إذا جابهته قوة أخرى تكمن في تعويذة أو (طلسم) أو تميمة يعدها ويصنعها شخص ذو نفوذ ديني أو سحري يدعى بصانع التعاويذ يعمل على طرد تلك الأرواح المؤذية وإبعادها بعد صراع – قد يطول أو يقصر .
ويلاحظ القارئ أنني راعيت الدقة في التعريف للأسباب والنواحي التالية :-
أ- أن الرقى وسائل (روحية) غير طبية – أو غير علمية ، إذ لم تدخل إلى الآن في عداد العلاجات الطبية والنفسية المعترف بها .. ولأنها تستخدم لعلاج شتى الاضطرابات بما في ذلك الضعف الجنسي والعشق ...
ب- وأنها مختلفة الأنواع : لأنها كثيرة ، لأنها كثيرة ، وتتراوح فيما بين مجرد دعاء وكلام وسطور مباركة ومقدسة ، إلى أعقد العمليات المنظمة المحيرة بما في ذلك من طقوس ومراسيم ..
ج- وأنها ملجأ جذاب (ومبهم في الوقت ذاته) للإنسان الذي يعتبره حصنه الموهوم عند الأخطار والأمراض أو الشعور بمداهمتها ، فهي إذن لا تقتصر على المرضى ولا تقتصر على الشخص المهدد ، بل قد تعد وتحاك ضده من قبل الأعداء والحساد ، أو (تعمل له) دون علمه من قبل ذويه ومعارفه حرصا عليه وشفاء له ..
د- .. وأن من يصنع التعويذة والتميمة شخص مختص أو (خبير) مؤهل بالوراثة الأسرية ، أو بالتعلم المهني الخاص ، أو الممارسة الروحية – التصوفية الدينية ، فيكتسب مكانة ونفوذا خرافيا ساحرا قد لا يتعمده هو أولا يرغب فيه إذا كان من نوادر من يقوم بالتعاويذ للخير والإحسان ولوجه الله تعالى لا يبتغي جزاء ولا شكورا ..
في المدلول اللغوي نقول :
عاذا به عوذا : أي التجأ إليه واعتصم به
وأعاذه بالله : حصَّنه به وبأسمائه ...
والعوذة : هي التميمية ، وجمعهما عوذ وتمائم
وعوَّذه : علق عليه العوذة ..
والرقية : يُرقى بها الإنسان من فزع أو جنون
فالرقي والتعاويذ والتمائم إذن : حماية وحرز وتحصينات للإنسان ضد شيء مؤذ أو خطير أو مرض جسيم ...
جذور وتاريخ :
لعل تاريخ الرقى والتعاويذ قديم جدا لأنها ظهرت قبل الطب القديم بزمن بعيد ، ثم عاصرته وزاملته ، وتداخلت معه في أحلاف ثنائية من صداقة وتعاون ، أو فترات من غض النظر والهدنة والترقب وعدم التحرش ... ثم واجهت علم الطب والأطباء والفلاسفة والفقهاء بمواقف وأزمات عصبية تخللها سجال ونزاع وعداء سافر – وإلى يومنا هذا ، عندما ظهرت بوادر وعلائم جديدة وأحاديث خافتة هامسة حول إمكانية صحة التعاويذ (معقوليتها) كما سنتطرق إليه !
ولكن ، كيف بدأت الرقى ولماذا ؟ .. هذا ما لم يدون بدقة كالأحداث التاريخية ، إلا أن دراسة الحياة الاجتماعية كما كشفت عنها الآثار والحفريات والدراسات الانتربولوجية والتاريخية والدراسات الثقافية القديمة والحديثة (الأنتربولوجية) ألقت الضوء على سلوك الإنسان القديم ومعتقداته والأطر الاجتماعية والدينية والروحية التي كانت سائدة بين المجموعات المتفرقة من البشر بشكل قبائل صغيرة منتشرة هنا وهناك في أرجاء المعمورة – ولا تزال موجودة – في أفريقيا وجزر آسيا الجنوبية وقد تبين أن الرقى والتعاويذ احتلت جزءا مهما من السلوك البشري وأفكاره عن الكون والموت والحياة والمرضى والجريمة (الخطيئة) . فعندما كان الإنسان يدقق في نفسه وفي الكون الغامض المخيف وفي الأخطار التي لا تحصى المحيطة به ، كان يجاهد لمعرفة علة الوجود وسر الخليقة ويبحث عن تفسيرات لها . وكانت المجاهيل أمامه كثيرة تعد بالمئات والآلاف ، إلا أن ما كان يصدمه هو المرض بشتى أنواعه : المرض الجسمي والمرض العقلي وما يحيط بهما من معاني الموت والحياة والخلود والعدم .
وهكذا تحتم افتراض وجود القوى الأخرى خارج إرادة الإنسان وحسه وقواه . ولما كانت تلك القوى غير مرئية ولا محسومة ، فقد أصبحت ظواهر روحية غامضة . فلما صمموا أن تكون ملموسة أو مرئية شبهوها بالنصب والتماثيل ذات التعابير والأشكال الرمزية الغريبة لتكون (استعارة) ومجازا لصورة الآلهة أو روحها ، والطوطمية ارتبطت بفكرة الخطيئة والمحرمات التي آمنت بها بعض القبائل البدائية ، والطوطم هو نبات أو حيوان أو شيء جامد (بشكل نصب أو تمثال) تتخذه تلك القبيلة رمزا وشعارا مميزا لها (كأعلام الدول أو الفرق الرياضية المعاصرة) ، اعتقادا منها أنه يذكر القبيلة بالمحرمات وأسباب الشر والخطيئة ، كما أنه يذود عن الفرد كل خطر طالما التزم بتقاليد القبيلة .
وكانت معرفة الكهنة بعلم الهيئة (أو الفلك) واستعانتهم بالنجوم لاستجلاء الحوادث الطبيعية قد شجعتهم على استطلاع المستقبل والمصير عموما لأن الظواهر ساعدتهم على معرفة الحوادث الطبيعية من مواسم وفيضانات وكسوف وخسوف وكوارث أخرى . وأصبح علم الفلك بابا إلى علم التنجيم وفي خدمته ، وهكذا انسلخ التنجيم عن الفلك وأصبح فنا مستقلا بأيدي الكهنة وقراء المستقبل . واكتسب التنجيم نفوذا واحتراما بين عامة الناس لأنه فتح نافذة على المجهول أو هكذا تصوروا . وما يتصوره الإنسان من استقراء المجهول يبث فيه روح الطمأنينة ويهدئ من قلقه ومخاوفه .
وهكذا نستطيع أن نربط بين الفكر البدائي للطوطمة ، وكاهن المعبد والعراف وقرابينهما التي يطلبانها والعلاجات والتعاويذ ، والمنجَّم والساحر الذي يستطلع النجوم ليعرف المستقبل ويحترز من الكوارث فأصبح السحر (صنعة) خاصة بين المتطببين والدجالين الدهاة .
وانفصل السحر عن المعبد وأصبح صنعة (مدنية) ، وانتشرت الساحرات في أوربا كما ذكرنا ، وتولين إعداد الرقى والتعاويذ والأدوية الغريبة والطقوس المذهلة للإيقاع بالناس المساكين والبسطاء الحيارى . وما لبث الوعي العلمي والتنوير ورجال الدين أن شنوا حملة كاسحة لتطهير أوربا من السحرة ، وراح نتيجة تلك الحملات المتعصبة مئات الضحايا بحكم العدالة العاجلة أو الخاطئة .. إلا أن مفهوم السحر والرقى والأساليب الروحية بقيت مغروسة وراسخة في الفكر البشري بصورة سالبة أو باهتة حتى عادت بشكل موجات شاذة وإجراءات عنيدة من ممارسة السحر والنزق والدعارة والإدمان كما حصل لدى جماعات الخنافس والهيبز في أوربا وأمريكا .. وظهر بين الجماعات رؤساء ادعوا السحر والقوى الخارقة !
ويبدو من كل ما تقدم أن الرقى وجدت لتطهير الإنسان المريض من الروح الشريرة التي حلت فيه وسببت مرضه أو لتطهيره ووقايته من الإثم والخطيئة التي تلبَّس بهما . ولكن الإثم والدنس لم يكونا واضحة المعالم ومحددين . وسنرى كيف اختلطت المشاعر البدائية بالعقائد الوثنية ، ثم بالتفاسير الدينية ثم بالتفاسير والظواهر المرضية والطبيعية الأخرى ، لتجعل من معنى الشر والإثم والخطيئة مبهما ومتشابكا مبدد الملامح .
كان الأجداد المسيحيون مثلا يتهيئون لصلاة يوم الأحد ويتطهرون حتى بأخذ العقاقير المسهلة والملينة للأمعاء وتنظيف بطونهم من الأوساخ . وكانوا إذا مكثت الفضلات في الجسم يعتقدون أنه ربما تنتقل من الجسم إلى الرأس فتؤذي الدماغ . وكان يظن أن الأنثى تتخلص من الأدران بالحيض الشهري .
ظواهر انشطارية :
وممـا يدفـع بالإنسان إلى التعلق بالرقى والتعاويـذ حدوث ظواهر نفسية – طبية غريبة كازدواج الشخصية أو انشطارها الوقتي خلال برهـة سريعة من الزمن . ففي الطب النفسي هناك ظاهرة معروفة تدعى بتبدد الواقع والشخصية أو (اختلال الآنية) تحدث في كثير من أمراض العصاب والرهاب والذهان . والمثال التالي يوضح ما هو المقصود بها :
يذكر أحد المرضى بلسانه (.. كان هناك شخصان ورأيت نفسي وحدها في المرأة ولم يكن لها وجهي .. كنت أنا وليس أنا .. والذي تكلم لم يكن أنا بل شخصا آخر .. وكنت أنظر ولم تكن ذاتي الصغيرة قادرة على التحكم في ذاتي الأخرى المنشغلة بإزعاج الآخرين .. كان موقفا رهيبا) .
مثل هذه الظواهر ورؤية الذات مواجهة وكأنها شخصية مستقلة متكاملة خارجيا تتخذ مظهرا أشد في حالات معينة من نوبات الصراع ومرض الفصام (الشيزوفرينيا) . وقد قتل مصاب بالفصام شخصا غريبا لم يعرفه قط وقال إنه رأى نفسه في ذلك القتيل فأراد أن يقضي (عليها) فيه . كذلك رأى (دوريان جراي) في قصة (اوسكار وايلد) نفسه الشريدة في اللوحة أمامه وكأنها تهجم عليه فمزقها ليقضي على ذاته ... ويصور (دوستويفسكي) في (الأخوة كارمازوف) الازدواجية على لسان (ايفان) وهو يخاطب زائره الشيطاني : (.. لم أكن أعتبرك حقيقيا ولو لبرهة فأنت كذبة .. وأنت علتي .. أنت شبح .. لا أعرف كيف أحطمك ويخيفني أن أتحملك أكثر من هذا أنت وهم أنت تجسيد لنفسي .. وبالتحديد أرذل جزء مني وأحمقه .. (ثم يعود ايفان ليخبر الوسيط متعقبا ، لكنه أنا نفسي .. كل ما هو أساسي ومحتقر ومتفسخ في ذاتي ..
ومعظم الذين كتبوا عن شخصيات مزدوجة أو منشطرة في قصصهم وإنتاجهم الأدبي كانوا قد مروا بتجارب ذاتية حقيقية مشابهة مثل دوستويفسكي المصاب بالصرع و (ستريندبيرج) المتصوف صاحب القوى الروحية الاستجلائية كما يتضح ذلك في روايته (الجحيم) ، و (ادجار ألان بو) المدمن على الأفيون .
إن تلك الظواهر المتداولة ومعاناة عدد من الناس لها ، وفي الأخص رؤية الإنسان لشبح ذاته أو ظلها أشاع الاعتقاد الشعبي بأنها من علامات الموت ، أو أن الشبح الثاني المنشطر والمشابه للذات يجب أن يموت ، وقد يتم القتل فعلا : إمَّا للذات الأصلية أو للخيالية .. أو أن يكتفي الإنسان باللجوء إلى الرقي والتعاويذ لأنه أيقن أن شبحا أو روحا لابد موجودة وتسكن فيه وإلا لما غادرته .
ومرضى الوسوسة :
ومرض الوسوسة أو (الحصر- القهري) هو أحد أمراض العصاب الذي يصور لنا بوضوح تأثير الشعور بالإثم وعلاقة ذلك بالطقوس والرقي والتعاويذ . وتتلخص الأعراض بأن المريض تراوده أفكار تسلطية غريبة وسيئة وشاذة رغما عنه ، أو يندفع للقيام بأعمال وتصرفات يعتقد أنها سخيفة ولا مبرر لها . ورغم ذلك لا يجد مناصا من تنفيذها على سخافتها : كأن يضحك في مجلس عزاء ، أو يرتفع في ذهنه قطعة من أغنية وهو في قاعة المحاضرات ، أو يلمس أعمدة الكهرباء وهو في طريقه إلى دائرته .. أو يغسل يديه كلما لمس كتابا أو صافح يدا غريبة . وقد يغسلها ثلاثا أو خمسا أو عشرا أو عشرين مرة قبل أن يطمئن ويشعر بالراحة . وهناك أعراض أكثر وأشد غرابة ... والمهم في هذا أن التفسير النفسي (الديناميكي) لمثل هذه الأعراض أنها ردود أفعال (احترازية) دفاعية يقوم بها المريض ليشعر بالأمن والراحة ضد شعور دفين (مكبوت) بالخطر أو الإثم . وقد يتولد هذا الشعور بالذنب منذ الطفولة لا شعوريا في العقل الباطن ، إما لأن تربية الوالدين كانت قاسية متزمتة ومركزة على النظافة والوقاية من الأوساخ والتطهير الشديد بعد أي عمل ، أو لأن عقاب الوالدين لهفوة بسيطة بولغ فيه إلى حدود القسوة والعصبية ، أو لأن العادات السائدة في البيت جامدة صارمة (حرفية) مقننة بحيث يجد الطفل نفسه وقد كبر وأصبح رجلا ولا يزال يشعر بالذنب لأدنى سبب وأي قول أو فعل يتوهم أنه مخالف للعرف والتقاليد أو يجرح شعور الآخرين ...
وهكذا تبدأ الوسائل الدفاعية النفسية في مرض الوسواس لتحميه من شدة عذاب الضمير أو الشرور والأخطاء ، فيلجأ إلى تلك الأفكار والأفعال والطقوس المرضية التي ذكرناها وإلى تعليق التعاويذ في رقبته أو على باب داره أو إحدى حاجاته ، أو استخدام أشياء منفردة وعتيقة كحذاء ممزق أو نعل فرس أو صورة عين أو رقى يعدها له متطبب أو شيخ أو سيد أو رجل دين وكلها وسائل دفاعية رمزية تعوض له عن شعور دفين بالخطيئة أو أن عملية طرد الأرواح الشريرة والوقاية من غضب الآلهة الناقمة بالطقوس والرقى والتعاويذ كان يقابلها منذ القدم عمليات التملك من قبل الآلهة والأرواح الطاهرة الخيرة أي أن الجماعات البشرية البدائية – وحتى بعض الناس المتحضرين والمنتمين إلى فرق دينية تقوم بطقوس خاصة من موسيقى ورقص وتصفيق وترتيل وصياح لأجل حلول الروح الطبية في الفرد (سواء أكان مريضا أم شخصاً سويا يتوق إلى مزيد من التطهر والتسامي ..)
ويلقب الشخص الذي تحل فيه الروح الطيبة (بالمأخوذ) ولا تزال تجري هذه الطقوس بين قبائل جنوبي السودان وفي جزر هايتي وترينداد وفي كينيا وزمبيا والبرازيل والولايات المتحدة ، حيث ينتهي الاحتفال (الديني) بالذهول والإغماء والارتخاء والاستلقاء على الأرض ثم الإفاقة في حالة نشاط وفعالية وشعور بالصحة والعافية والطهر – أي الخلاص من الأدران (وامتلاك) الروح الطيبة .
وتجري إلى يومنا هذا في مقاطعة (كارولينا الشمالية) في أمريكا طقوس ملامسة الأفاعي وتناولها واللعب بها – وبعضها سامة – اعتقادا بما جاء في (إنجيل مرقص) من أن الإيمان يحمي الإنسان من الشر .
دور الأديان السماوية :
إن الأديان السماوية أنقذت البشر المهتدين من ضلالة الجهالة وأدخلت في قلوبهم الإيمان والطمأنينة بعزوها ظواهر الكون والحياة والسلوك إلى القوة الآلهية الواحدة ، وبذلك حاربت الخرافة والوثنية والسحر والدجل .. بل شجعت بصورة مباشرة أو غير مباشرة التفكير العلمي ، وكان واضحا في الدين الإسلامي الذي لم يتعارض بجوهره مع العلم ولم يدخل في أزمة خفيفة أو كبيرة معه .
ومع ذلك ، فإن بعض الأفكار والاجتهادات والوقائع – وربما الانحرافات – بعد مرور مرحلة الرسل وحياتهم ، شجعت الناس على اللجوء إلى الرقي والتعاويذ ، ولإيضاح ذلك نذكر ما حدث في المسيحية : فالشخص من الأدران والآلام والتوصل إلى الطهر والعفاف جاءت مؤكدة لفكرة الخطيئة الأولى التي انتعشت في المسيحية ودعمتها الكاثوليكية بعدئذ بالاعترافات وتوسط القساوسة بين الإنسان والرب ، كما جعلت رجل الدين في مكانة العراف القديم الذي يساعد على رفع الخطيئة وتخفيفها .
وقد ساد في الكنيسة المسيحية مفهوم إمكانية طرد الأرواح الشريرة من الناس الذين سيطرت عليهم . وقد طرد المسيح نفسه الشياطين بكلمة وأمر منه .
وكان ذلك علامة حلول مملكة الرب ، وتبع ذلك قانون كنسي بطرد الشياطين باسم المسيح . وفي الغرب يحتم القانوني الكنسي الحصول على موافقة الكاردينال قبل إجراء التعويذة على المصاب (وليس من الضروري تحصيل الموافقة في حالة العزائم على الأمكنة) وقد تسرع وانتظم إجراء طرد الأرواح الشريرة في القانون الكنسي منذ عام 1151 .. وهو اعتراف ضمني من الكنيسة بأن عملية طرد الأرواح تتخللها خطورة أو ينتج عنها ضرر للمصاب بالعلة . ولا يشترط في القائم على التعويذة أن يكون رجل دين أو قسيسا .
أما الإسلام ، فإنه أكد على أن الأنبياء بشر مثلنا ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ساحرا وأن الشفاعة هي استرحام ورجاء من الله عز وجل .. وأن الإنسان له من العقل ما يميز به بين الخير والشر .. أما الجن والشياطين فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم . ومعصية إبليس وخطيئته الكبرى .. ثم إغواؤه هو وأعوانه من الجن للإنسان أعادت للفكر البشري ذكرى الأرواح الشريرة واحتمال أضرارها بالإنسان والإيقاع به فعلا .
وانتشرت بعدئذ عادة زيادة الأضرحة المقدسة وكذلك تقديم التبرعات والحسنات درءا لعين الحسود أو جلبا للطالع الحسن ، وتطور ذلك إلى عقد الأشرطة ونتف الملابس الشخصية على جدران الأضرحة وأسوارها هنا وهناك ، وإلى تعليق القلائد والعلب الصغيرة الحاوية على أوراق مكتوب عليها آيات من الذكر الحكيم أو الكلام المقدس تيمنا وبركة .
ثمانية أسباب :
وهكذا نجد من محصلة الجذور الدينية والتاريخية والثقافية والدراسات النفسية والطبية الحديثة التي استعرضناها أن الإنسـان لجأ إلى الرقى والتعاويذ – وكذا العزائم – لأسباب مختلفة .
1- الوثنية الجاهلية كما نعرفها بوضوح أكثر في عصر ما قبل الإسلام عندما لجأ الناس إلى الآلهة المختلفة وعبدوها خوفا أو تطيرا أو تفاؤلا ، وأضفوا على الحيوان والجماد قوى سحرية حيوية تكمن فيها من مصائب وخير وشر ...
2- التطير والتفاؤل من علامات ورموز وأسماء وحيوانات وظواهر تحدث في الحياة اليومية وتتوارثها الأجيال لتصبح مصدر قلق ورهبة وتثير في الإنسان نوازع الحذر والدفاع والحيطة سواء بالنذور أو بالعبادة والعزائم ، أو بزيادة الأماكن المقدسة بإعداد الرقي والتعاويذ من قبل شخوص متنفذة روحيا أو دينيا أو ذوي سمعة شعبية (سحرية) .
3- واستمرت هذه الأفكار الموروثة على قوتها ونفوذها رغم أن الإسلام حارب التطير واعتبره النبي محمد (ص) نوعا من الشرك .
4- ومن هذا التطهير والتشاؤم ظلت الخرافات القديمة سائدة بشكل أو بآخر تتزيا بزي العصر وتحتفظ بروح القدم أو البراءة . فالشعور بالإثم والاهتمام بالظواهر الطبيعية الخارقة (الفلكية) .. والهلع من حوادث معينة كان موجودا من عهد الفراعنة والبابليين والآشوريين منذ آلاف السنين . وكان الفرد البابلي إذا شعر بخطر موهوم أو بمرض هرع إلى الكاهن والمعبد ليقدم ويطلب البركة والعزائم والرقي والتمائم .
5- الخوف من المرض أو الرغبة في الشفاء لأن المرض النفسي لا يزال من المجاهيل العلمية . كما أن المرض الجسمي المستعصي يثير الرهبة والوسوسة ويدفع الإنسان إلى الإلحاح بالتفكير في أسباب خارقة وغامضة أو بعوامل شيطانية وخبيثة مرتبطة بمفاهيم الخير والشر والعقاب والتفكير .
6- وهي وسيلة للهجوم من أجل الدفاع .. أي أن التميمة قد يعدها الإنسان ضد غيره لتلبسه بالمشاكل والمضاعفات فيتقي شره أو ينتقم من عدوه . وهنا يبرز دور الدعاة من السحرة والمشعوذين ...
7- أو أن التميمة وسيلة طمأنينة للإنسان تقيه الكوارث والأزمات – لو حدثت – وتجلب له الخير دون أن يكون مصابا بشيء في ذلك الحين . وقد يتمادى في هذا المنحى إلى العمل على إحلال الروح الطيبة فيه بالجذب والتوسل والطقوس الخاصة والتعاويذ ...
8- ولا نستغرب ، حسب نظرية بونج في علم النفس ، أن الإنسان المعاصر قد يحمل كل ما ذكرناه من دوافع ويختزنها في عقل (سلالي – أثري) هو أعمق من اللاشعور الفرويدي .
تفسير نفسي للتعاويذ :
رغم تطرقنا إلى دوافع الإنسان للتعلق بالرقي فإنها عسيرة – من حيث كيفية عملها وتأثيرها – على علم النفس الحديث والطب النفسي .
صحيح أن المصائب البشرية والأخطار المحدقة والمرض العقلي والنفسي تدفع الإنسان المتحضر في القرن العشرين أحيانا إلى البحث عن الاحتراز والخلاص في تعويذة يستلمها من صانع الرقي ، إلا أن علينا تفسير ذلك في ضوء علم النفس الحديث وكيف تنجح الرقي أحيانا في شفاء البعض وهل لذلك نصيب من أي علم معروف لدينا إلى الآن أو نكتفي بذريعة الصدفة ؟
1- إن دور الإيحاء لا يمكن تجاهله في مفعول التعويذ . فمعروف في الطبابة أن بعض الأدوية تنجح (نفسيا) قبل أن تعمل بمفعولها الكيميائي في الجسم كما أن معاملة الطبيب الإنسانية وكلامـه الرقيق وعطفه يريح المريض قبل الدواء ، ويمكن أن نعزو إلى حمل الرقي من قبل الإنسان دورا إيحائيا مطمئنا يبث فيه روح المقاومة والشجاعة واللامبالاة تجاه مسببات القلق وعواقبه الأخرى .
2- إن الرقى والتعاويذ وما يصاحب العزائم من إجراءات وطقوس تضع الإنسان في موقف التوجس والترقب والتوتر الذي يؤدي إلى نوع من عملية (التطهير) أو التنفيس ، أشبه بالتنفيس خلال الاعترافات الدينية أو خلال العلاج النفسي أو حفلات الزار والرقص البدائي العنيف عند القبائل القديمة . فالتعويذة تطلق العنان للانفعالات الحبيسة – وبذلك يتم الشفاء ..
3- وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى ثار الجدل بين علماء النفس (براون) من جهة و (مكدوجل ويونج) من جهة أخرى عن كيفيـة علاج الازدواجية . وكان المثل الذي أصبح مدار النقـاش هو (ما ملأ القلب سال من الفم ..) واتفقوا أن الحادث المؤلم العنيف يؤدي إلى الانشطار أحيانا وأنه يظهر في الحلم كحيوان شرس أو شبح مخيف . واقترح مكدوجل أن يكون العلاج بالتئام الانشطار وجبره وإعادة المزوج إلى الواحد . وتوصل (فرويد) إلى هذا الرأي قبله وذلك بتنبيه أسلوب التحليل النفسي في الكشف عن العقد المكبوتة والتطهير . ولعل في آلية التعويذة وأسلوبها من الجبر والالتحام حلا لعقدة الكبت كما يبدو ...
4- يمكن القول أن التعويذة تنجح فقط عندما تؤدي إلى نوع من التفاهم والوئام بين الشخص والآخرين الذين كان يشعر نحوهم بالغربة نتيجة شعوره بامتلاك التعويذة ، أما أنها تطرد الروح الشريرة فهو ما لا يمكن التكهن به والجزم بصحته ...
نظرة نقدية للرقى :
وبعد ، فلا بد أن نتساءل عن موقف الفكر البشري من الرقى والتعاويذ وخصوصا في حقل علوم النفس والاجتماع والفيزياء ... ؟
لقد جرت ندوة حول الموضوع في الإذاعة البريطانية عام 1979 شارك فيها أطباء نفسيون وروحانيون وباحثون اجتماعيون ومرضى (مأخوذون) ، وما سأذكره هنا نتف مما جرى ونتف مما أرى ويراه غيري من المهتميـن بالموضوع . ولنتناول الموضوع بالمنطق والحياد والعلمية المتيسرة لدينا حسب التدرج التالي :
أ- إن الظواهر الازدواجية والانشطارية في مجال الطب النفسي وذكر الشياطين ، والجن في الأديان السماوية .. والأزمات النفسية الحادة .. والوسوسة الشديدة .. لا يمكن أن تقنع الإنسان أو تمنعه عن التفكير باحتمال وجود أرواح شريرة وطيبة ...
ب- إن ممارسي الرقى والتعاويذ من الرصينين الخيرين يعتقدون فعلا بوجود الروح الشريرة ويفرقون بين ما هو (روحي) وما هو (نفسي) وماذا في جعبتنا لدحض هذا الادعاء واثبات عدم وجوده ؟ حتى العلم يعجز عن تفسير كل ظواهر الكون المعروفة والمدركة من كهرباء ومغناطيس وسرعة وحركة .. أفلا ينطبق ذلك إذن على شخصية الإنسان ؟ ...
ج- إن التعاويذ نقطة التقاء بين الطب وعلم النفس والدين وما وراء الطبيعة ، فهي تؤكد أولا وجود الله ، وثانيا وجود كيان غير مادي يدعى بالروح ، وثالثا أن للأرواح حرية التنقل من مكان إلى آخر . ولو شئنا معرفة أصناف تلك الأرواح لجاز أن نقول إنها من صنفين :
- أرواح صرفة (نقية) كالملائكة والشياطين ...
- أرواح (منسلخة) عن كيان مادي سابق (مخلوق) كانسان أو حيوان ... وإذا جاز لنا تفسير تنقلها وتواجدها في أماكن مختلفة (ممنوعة وغير ممنوعة) فهو على نوعين :
- تنقل في أماكن تعاودها وتزورها وعندئذ يطلق على ذلك المكان بأنه (مسكون) ..
- تنقل وحلول في إنسان أو حيوان .. وعندئذ يطلق على ذلك المخلوق بأنه (مأخوذ) ..
د- وجاء ذكر الروح والأنس والجن والشياطين في القرآن الكريم ولا يمكن أن نطبق المعايير الحسية والعلمية القاصرة المحدودة على قضايا المعرفة الآلهية الواسعة العظيمة . كذلك فإن مسألة الحياة بعد الموت .. والبعث .. والآخرة وانسلاخ الروح عن الجسد هي أمور دينية وليست مجرد فلسفة ميتافيزيقية ، إذن لا يمكن نفيها أو دحضها .
ﻫ- أما موقف الطب النفسي وعلم النفس فواضح تجاه الشعوذة والخرافة والدجل ، ومختبرات العلوم الطبية مشغولة بمحاولة الكشف عن تغيرات كيمياوية وعصبية مسببة للمرض العقلي ودور الوراثة والجينات فيها ، فلا نتوقع منها أن تستسلم بسهولة وتعزو المرض النفسي إلى الأرواح الشريرة ، ففي ذلك رجوع إلى نظريات وعقائد قديمة ترعرعت في مراحل غير علمية . إلا أن الشيء المنطقي الوحيد الذي يربط بين علم النفس الحديث وعالم الأرواح وغير المحسوسات هو فرع جديد دعي بعلم النفس الجانبي أو الخوارق (الباراسايكولوجي) لأنه يبحث في قضايا الإحساس والإدراك والأفعال غير الاعتيادية كقراءة الأفكار (التخاطر) ورؤية الأشياء على أبعاد شاسعة والتنبؤ بالمستقبل وتحريك الجماد عن بعد .. الخ ..
و- لذلك يعلق بعض علماء النفس على قضايا الأرواح ووجودها بأنها قد تكون ميدانا آخر يشابه الباراسايكولوجي ، وأننا لا نعرف عنه ما فيه الكفاية ، ولا يمكننا نفيه قطعا . فالحقيقة أكبر من حصرها في إطار معرفتنا الحالية ، والقوانين المتعارف عليها هي ليست كل القوانين ، إن البعد المادي والقياس الحسي ليس البعد الوحيد . وإذا كانت الأمراض النفسية والعقلية مسميات وعناوين لأعراض وظواهر ، فلماذا لا نعترف بأننا نجهل حقيقة ما يجري داخل العقل ولماذا لا يجوز الحلول الروحي في الشخصيـات المزدوجة أو ذوي الوساوس ؟ ...
كل هذه الملاحظات النقدية الهادئة يجب ألاَّ تقلقنا من ناحية ولا تقعدنا عن مواصلة البحث العلمي أو التساهل في محاربة الدجل والخرافة من ناحية أخرى ، لأن المنهج العلمي لا يتنكر للظواهر الشاذة أو غير المألوفـة فورا ، وانفعالا ، ولا يتجاهلها تغابيا وعجزا ... لكنه ككل تنظيم وتشريع حضاري معاصر يحارب استغلال الإنسان للإنسان بحجة احتمال (شيء) في خدعة الناس بالرقى والتعاويذ ... ولا يمكن أن تسترسل أكثر من هذا ، فما هو مجهول أكثر بكثير مما هو معروف في هذه المجالات .