المعقول وَاللامَعقول في الجنون !

من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتي
في معرض الهزل والتسلية تضيع الكثير من الحقائق ، وفي مجال النفور والضجر ينكمش العلم وينزوي . وتكون النتائج وخيمة لا يلتاع لها ويكتوي بنارها إلا من يمر بالتجربة أو يصاب بمرض أو ينغمس في معالجته بحكم واجبه أو مهنته . . وقد ذكرت الهزل والتسلية بقصد وإلحاح لأسباب معروفة قد تمر دون التفات جدي لمغزاها وأضرارها .
ففي معرض الفكاهة تلجأ الصحف والمجلات العربية ، وبعض الناس من صانعي النكات والكاريكاتير إلى ابتكار قصص وطرائف بغرض التسلية وإرضاء غرائز الجمهور لكنها غير واقعية ومن نسج الخيال والتصور وكأنها ممكنة الحدوث . والنكتة التالية تصور ذلك بجلاء :
صعد مجنون هارب من المتشفى منارة بقصد الانتحار ، وحار جمهرة الناس في إقناعه بالعدول عن ذلك . . إلى أن جاءهم طبيب المستشفى بمجنون آخر ، فما كان منه إلا أن نادى المجنون الأول قائلا : (إذا لم تنزل فسأقص المنارة بالمنشار ! وسرعان ما نزل المجنون الأول راكضا طائعا هلعا !! . .
حكاية طريفة دون شك - ونكتة حارة ومسلية . . أليس كذلك ؟؟ . .
أما أنا فأقول بأنها حكاية (باردة) مصنوعة وموضوعة من قبل شخص عاقل لإدخال السرور إلى قلوب الناس على حساب المساكين التائهين ، فما أبعدها عن حقيقة تفكير من يُدعون بالمجانين ، وان دلت على شيء فعلى عدم تفهم جمهور كبير من الناس ماذا يجري في عقل المصاب وماذا يفكر به فعلا . وهذا ما ينطبق على معظم حكايات المجانين .
وسأتناول في معالجتي هذه القضية (المرض العقلي ) ونظرة الناس إليه ، وموقف المجتمع والأسرة والأقرباء من مريضهم لما في هذه النظرة والاتجاه من تأثير حيوي على جهود أطباء النفس في العلاج والوقاية .
الجنون ... والمرض النفسي :
الجنون في الحقيقة ليس إلا نوعا من الاضطراب النفسي بنظر الطب النفساني .
وللاضطراب النفسي درجات وأصناف ، لذلك يؤثر بعض العلماء تقسيم الاضطراب النفسي إلى فصيلتين كبيرتين :
أ - الأمراض النفسية (العصابية) ، وهي التي ينظر إليها الجميع على أنها اضطرابات خفيفة هينة العلاج . . (سليمة السمعة) اجتماعيا ..
ب - الأمراض الذهانية (العقلية) ، والتي تعتبر مرادفة للجنون أو العته . . العميق الأثر والأصعب علاجا . . و (السيئ السمعة) . اجتماعيا . . .
وعند الاختصاصي بالطب النفساني ، لا فرق جوهريا بين المرض النفسي والمرض العقلي من حيث الأسباب ، فالنفس هي العقل . . والعقل هو النفس . . ولا وجود لنفس وعقل في أي عضو من أعضاء الجسم عدا الدماغ . فنحن نشعر ونحب ونغضب ونستجيب ونفكر ونمرض بعقولنا . ومع ذلك فان المجنون كما هو متعارف عليه هو المريض العقلي (المصاب بالذهان) وأعراض الذهان تختلف دون شك عن أعراض العصاب النفسي بالرغم من أنها قد تشترك في كثير من العوامل فتتشابه وتختلط بين الاثنين بصورة كبيرة . وما يمكن التأكيد عليه هو أن الجنون أشد حدة وعمقا وتأثيرا في تغيير سلوك الإنسان وتفكيره وحياته ، وقد ينشأ أحيانا عن إصابة عضوية في الدماغ .
ما هو المرض النفسي ( والعقلي ) ؟
يمكن تعريف المرض النفسي بأنه : حالة من رد فعل ومجابهة لشدائد الحياة ، وآلام الذات . فالمرض النفسي هو استجابة غير طبيعية من الفرد تجاه ظروف وشدائد تقع عليـه أو تحدث فيه أو هو (الحل الأنسب) أو (الموقف الملائم) الذي يلجأ إليه المريض تجاه الصعاب ولم يوفق إلى غيره .
ونحن نعرف أن الإنسان السوي المعافى يواجه دائما مثل هذه المصاعب ويستجيب لها . واستجابته هي (تكيف ناجح) يخلو من أعراض الأمراض النفسية والعقلية ، بينما المريض النفسي يتكيف ويستجيب بشكل وصيغة هي المرض ذاته ، لأنه لم يوفق إلى التكيف الأسلم والأصح . ويرجع سبب عدم التكيف - أو سوء التكيف والمرض - إلى عوامل كثيرة :
بيولوجية - وراثية ، ومحيطية - اجتماعية ، وثقافية - خارجية .
ويمكن تقسيم كل عامل إلى عدة عوامل ثانوية . وكل من المرض النفسي
والعقلي يعني الإخفاق في التكيف مما يؤدي إلى اضطراب التناسق والانسجام الذاتي . . . أو الانسجام مع الآخرين . . أو مع المجتمع . . مع اختلاف في الحدة والعمق والدرجة ، وتكون النتيجة شقاء الذات . . أو شقاء الآخرين . . أو الاثنين معا ، هذا عدا ما يصاحب المرض من شذوذ أو تحد للعرف أو مخالفة للمعايير والقوانين السائدة .
التفكير في المرض العقلي :
من المفيد جدا أن نعرف كيف يفكر المريض العقلي . ولا أدعى أن الطب النفسي قد كشف بجلاء تام التسلسل المنطقي في تفكير المريض ، إلا أن الشيء الكيد هو أن تفكير المريض يستمد أصوله ومادته واتجاهه من تفكير الإنسان العادي أو بالأحرى من تفكيره هو وحياته قبل مرضه . فلا شيء غريبا وجديدا فيه إلا الأسلوب والصيغة المستحدثة .
وليس من العسير تفسير الأسلوب الجديد أو فهمه بالرجوع إلى تاريخ حياة المريض وما صادفه من شدائد وعقبات سواء بالتحليل النفسي أو بتسجيل وتدقيق لتطور حياته العاطفية وعلاقته مع والدته وأفراد أسرته وأقربائه وأقرانه . . ومع مواطنيه . وبالدراسة النفسية والبحث الاجتماعي يمكن وضع الأعراض الغريبة أو الشاذة في أطرها المناسبة وإيجاد التفسير المقبول لها .
فالمريض بالشك والأوهام والعداوات إنما يشعر بذلك نتيجة سلسلة من تجارب وظروف مرت به فاستجاب لها بطريقة شاذة لا يلجأ إليها غيره من الأسوياء . والذي يشعر أنه بدون اسم وشخصية وكيان ربما يتنكر لذاته ويمقتها ، أو ربما يفقد كل أثر لإرادة ذاته وحدودها . . والذي يؤمن أن عقله قد ذاب وباطنه خاو ربما لأنه يرى الآخرين قد طغوا عليه فمحوا كل شيء حيوي فيه . . والذي يعتقد أنه القوي الجبار أو الملك أو القائد الذي يأمر فيطاع وينهي فيستجاب له ربما لان شعوره السابق بالنقص والضآلة دفعاه إلى رد فعل شاذ من جنون العظمة . . وهكذا ، حتى حركات الأيدي والأصابع وقسمات الوجه ولمعان العيون هي رموز ودلائل لها مغزى ومنشأ لمن يريد أن يسبر غور النفوس قبل السخرية منها . . إذن ، فالتفكير لدى مرضى العقول هو أشبه بتفكير العقلاء مع فارق في التسلسل والشدة والنوعية والعمق والصراحة والأسلوب فالإنسان العاقل - الاجتماعي- لا يبصق على الأرض ولا ينزع ملابسه أمام الآخرين لاعتبارات كثيرة معروفة ، لكن المريض العقلي وصل إلى مرحلة أصبح فيها لسان حاله وموقفه يقول : (أنا أحتقر هذا المجتمع الزائف الظالم . . انه يستأهل البصق . . ولا يستحق التردد والخجل . . وأنا هكذا دون ملابس . . فليخسأ المنافقون والمراءون . . فلأضحك كما أريد . . ولأتكلم بصوت عال مسموع .)
يمكن القول إذن ، وببساطة أن المريض العقلي قد وصل مرحلة جديدة من توازن القوى النفسية ومن المعادلات الجديدة ومن القيم الخاصة بحيث أنه يقنع بالعيش في عالم خاص وسط عالم العقلاء . أما عند المشاهد السطحي فان عالم الجنون هو مجرد فوضى وأعمال مضحكة ومهازل تسلية . أما الدارس المتعمق - والطبيب النفساني - فيدرك أن عالم الجنون يتضمن التفكير الرمزي ذا المغزى والمعنى . . وأن ليس فيه ما يضحك بل ما يدعو للأسى والدرس والعلاج . والإنتاج الفني للمصاب بمرض عقلي يعكس أيضا جانبا من تفكيره . . واللوحات الغريبة أو السرياليـة للفنانين الاعتياديين كثيرا ما تشابـه لوحات مرضى العقول . . وبمعنى آخر إن حلقات الوصل في الإنتاج الفني لا تزال موجودة . . وأن بالإمكان فهمها أو تحليلها . .
دور المجتمع :
ان تفَّهم الناس لمأساة المريض العقلي ومعاناته ضروري جدا . بل هو دليل ومؤشر لمدى تحضر الإنسان وحبه للبشرية وإيمانه بالمبادئ الأخلاقية السامية وبالعلم . فأين الحضارة والإنسانية لدى قوم يعاملون المريض العقلي بربطه بالسلاسل وتجويعه وجعله فريسة الظلام والرعب أو وضعه في جهاز دوار يجلب له الدوار والغثيان والانهيار . وماذا يبقى للإنسان من كرامة إذا كان المرض العقلي سلاحا تهديديا يشهر ضد الإنسان للاستيلاء على ميراثه وطمس حقوقه وأفكاره ظلما وبهتانا ؟؟ . .
كان ذلك في القرون الغابرة . . أما الآن فان دور المجتمع والناس في معاملة مرضى العقول قد تغير ، وتبدل وجه المستشفيات العقلية الكئيب الرهيب ، وتحولت دور الشفاء إلى ردهات اعتيادية داخل المستشفيات العامة ، وأصبح المريض العقلي يتناول علاجه ويرجع إلى عمله ويعيش في داره وبين أفراد أسرته دون فرق . وأصبحت سياسة (الباب المفتوح ) هي السائدة في أنظمة المستشفيات العقلية - أي أن يدخل المريض المستشفى بمحض اختياره ويخرج منه متى ما أراد دون حجر وقيد إلا بقرار من لجنة طبية ولفترة معينة وبشروط وظروف خاصة أهمها الخطورة على النفس أو على الآخرين ...
ولكن هل ندعي أن هذه المرحلة قد بلغت الكمال المتواضع ؟؟ . كلا ، إذ لا نزال نلمس ردود فعل عنيفة من الأهل والأقارب ومن الناس تجاه كل ما هو مرض عقلي . والنكتة التي أوردناها في أول المقال هي واحدة من آلاف النكات التي أطلقها أولئك السطحيون على المجانين بكل قسوة وعدم اكتراث .
دور الأسرة :
ولعل دور الأسرة في المرض النفسي والعقلي من العوامل الخطيرة المهمة التي تحظى باهتمام الطب النفسي . وتتوزع هذه العوامل ونواحي ارتباطها بالمرض النفسي على ما يلي :
أ - مسببات المرض .
ب - واستمراريته أو إزالته .
ج - وعلى نجاح العلاج وفشله . .
فالصفات الوراثية ، ثم التربية والبيئة تتدخل في تهيئة الفرد للمرض النفسي أو إبرازه . . أو في زيادة حدته ، فقد نجد الاستعداد لمرض انفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا ) في شخصين ، إلا أن أحدهما يستمر في حياته الطبيعية دون أثر للاضطرابات والمرض ، بينما سرعان ما تظهر أعراض المرض في الآخر بسبب أساليب تربيته وعلاقته مع والديه وأفراد أسرته .
ولو افترضنا ظهور المرض العقلي لدى شخص ما ، فان ردود الفعل ومشاعر أفراد أسرته ووجدانها ستتدخل في مسار المرض وشدته . فالأم غير المتفهمة و الأب اللامبالي أو المشاكس ، والجهل والقسوة يعرقلون الشفاء أو ينقلون المرض إلى حالة الأزمان والاستمرار .
أما في المرحلة الأخيرة - أي عندما يكون المريض قد عولج بصورة جيدة ثم عاد إلى بيته وأسرته ، فإن موقف الأسرة سيقرر مصير المرض وسيره دون شك ، وهو ما نريد التحدث عنه : فقد وجد أن مواقف الأسرة يختلف بعضها عن بعض بصورة ملحوظة ، فهناك الأسر المعادية الغريبة الأطوار التي تضع العراقيل - بعمد أو بغيره - أمام تحسن مريضها وكأنه قد أبلَّ من زكام بسيط فلا تكترث لما هو فيه ، وهناك الأسر الواعية المتفهمة المدققة التي تجند نفسها لتكون بمثابة هيئة تمريضية عالية الكفاية تتلقن التعليمات من الطبيب المعالج بكل طاعة وتقدير .
وهكذا نجد أن ما يبنيه الطبيب النفساني في العيادة والمستشفى يتوقف مصيره على ما تقدمه الأسرة من إساءة أو خدمة ، وليس من الغرابة أن نعرف أن بعض الأسر في العالم الغربي وبعض المؤسسات الخيرية والحكومية هي أكثر خدمة وعطفا وتفهما للمريض من ذويه أنفسهم . وليس من الغرابة أيضا أن نعرف أن هنالك أسرا تستقبل المرضى العقليين الغرباء بعد إكمالهم علاجهم فتؤويهم عندها للعناية بهم مقابل أجور زهيدة ، وتقدم تقريرها للطبيب النفساني بين فترات معينة عندما يزورهم بصورة دورية ، مما يدل على مدى الحنان والتعاطف والتكاتف الإنساني .
الحكمة ... والنتيجة :
ان هذا المقال دفاع ونداء . . . . دفاع عن الإنسان الذي يقع فريسة المرض ويحتاج إلى فهم ورعاية من قبل ذويه ومجتمعه ، ونداء إلى من يتمتعون بصحة العقل إلى التروي والتواضع (والتعقل) عند تعاملهم مع مرضى العقول . فالمسألة ليست بالسهولة الظاهرة ولا بالمتعة العابرة ، ولا بالتغاضي أو الغضاضة ، لان هناك الأدلة الكافية الشافية بأن كل فكرة وحركة يقوم بها المريض العقلي لها معنى ومغزى وأصل وهدف .
ومن علماء النفس وفلاسفته من يعتبر المرض بحد ذاته مجرد (موقف) حر من ظواهر الحياة وأمورها (ومنهم الوجوديون) ، وهنالك آخرون ممن يجازفون ويغامرون - بجرأة فيقولون إنه لا وجود لمرض عقلي - مثل زاس وجماعته في الولايات المتحدة الأمريكية . ولكن الفكرة التي يجمع عليها كل علماء النفس والاجتماع أن المرض العقلي ليس فكاهة ولا تسلية ولا هو بالفوضى واللامعنى . . بل إنه يحتاج إلى بذل كل الجهود والدراسات لمعرفة أسبابه وعلاجه .
وهنالك من المرضى الذين قدموا للطب النفسي خدمة جُلَّى عندما اكتسبوا الشفاء وسجلوا كل خواطرهم وذكرياتهم أثناء المرض فأفادوا أطباءهم ومجتمعهم ، وأذكر منهم على سبيل المثال المريض (كليفورد بيرز) الذي كتب مؤلفا ضخما يحوي كل ذكرياته عن جنونه وعن أوضاع المستشفيات العقلية التي تنقل بينها في أمريكا . ثم حمل بعدئذ لواء دعوة إصلاحية لتحسين أوضاع المستشفيات العقلية ، وليكن معلوما لدى الجميع أن المريض العقلي ليس بالأبله الذي تمر به الأحداث وهو ساه عنها ، لان عقله يسجل كل شيء . . فلا ينسى اهانة ولا يغفرها . . ويعرف الجميل ويدرك الحنان والعطف . .
إن الإنسان الذي كتبت عليه الحياة وأصبح عضوا في المجتمع يكتسب كل الحقوق التي تتطلب الحفاظ على إنسانيته وعقله ودوره المفيد المنتـج في المجتمع . فالسعادة ملك مشاع للجميع ومن حقوق البشر . . ومن الاعتداء على تلك الحقوق السخرية من مرضى العقول أو عدم الاكتراث بهم أو القسوة عليهم أو استغلالهم . . .