هذا المقال منقول عن صحيفة الحياة اللندنية ..

إبراهيم اليازجي «المعلّم»
عبده وازن الحياة
25 ديسمبر 2006


نتذكّر الأديب اللبناني إبراهيم اليازجي عشية انصرام العام 2006، وقد كان عام الذكرى المئة لرحيله. كان يستحق هذا المعلّم الكبير أكثر من لفتة أو وقفة في هذه المناسبة، لكنه بدا شبه منسيّ، هو الذي حقق إنجازاً كبيراً في حقل اللغة العربية وكذلك في ميدان التعريب بعدما نقل الى العربية «الكتاب المقدّس» في عهديه القديم والجديد. وهذه الترجمة التي فاقت ترجمة سليمان البستاني لإلياذة هوميروس مطلع القرن الفائت، جمالاً وفتنة، كانت في صميم التحديث الذي شهدته اللغة العربية بعد ما أصابها من جمود في عصر الانحطاط. كان اليازجي الابن في طليعة الحركة التجديدية التي سعت الى إحياء العربية، وقد قصر معظم حياته على هذه المهمة بعدما هالته حال اللغة في عصره، وما تكابد من ركاكة وضعف وسقامة وتفكك وانحلال. وراح «يناضل» في سبيل تطوير اللغة وتشريع أفقها على الحياة وجعلها موازية لإيقاع العصر والمدنية.
ولعل اليازجي الابن هو أول من استحدث النقد اللغوي في عصر النهضة، فراح يكتب في مضمار اللغة دراسات ومقالات، متصدياً للأخطاء والأغلاط التي تعتري الصحف والكتب، مبتدعاً ألفاظاً حديثة لأغراض ومعان استجدت حينذاك، من خلال الاشتقاق الذي كان أحد أسياده، عطفاً على المجاز والاستعارة. وفي مقالة شهيرة له عنوانها «اللغة والعصر» قال بضرورة أن تكون اللغة مرآة العصر فتجاريه في علومه ومخترعاته، وتتيح للمرء أن يعبّر بها عما يعيشه وما يبصره ويسمعه. وبلغت به حماسته اللغوية شأواً حتى راح يُعمل قلمه في معاجم مثل «لسان العرب» و «تاج العروس»، واستطاع أن يبيّن قرابة مئتي خطأ في جزء صغير من «لسان العرب».
لم يترك إبراهيم اليازجي الكثير من الأعمال، وجلّ ما ترك ينتمي الى صلب الفعل اللغوي، لكنه كتب مقالات كثيرة درج على نشرها في «البيان» و «الضياء» وسواهما من مجلات عصر النهضة. وقد أنجز شرح ديوان المتنبي الذي بدأه والده ناصيف اليازجي، مضيفاً إليه تذييلاً نقدياً، ولم يتوان عن نسبه لأبيه مع أنه هو الذي صنع مجمله، وحمل الشرح عنواناً لافتاً: «العرف الطيب في ديوان أبي الطيب». ومن مؤلفاته التي تعدّ من المراجع المهمة «تحفة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد»، وأذكر انني قضيت ساعات طوالاً أقلّب هذا الكتاب بجزئيه بحثاً عن المفردات الفريدة والمرادفات. أما ديوانه «العقد» فجُمع في الثلاثينات من القرن العشرين وضمّ منظوماته. إلا أن اليازجي لم يعُدّ نفسه شاعراً وقد أعرض عن الشعر في مقتبل حياته. ومن أشهر ما «قرض» قصيدته البائية الشهيرة التي باتت مضرب مثل عن التهاون العربي ويقول مطلعها: «تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب...». وقد لاحقته السلطات العثمانية من جرائها.
قد يكون تعريب «الكتاب المقدّس» في عهديه ذروة ما أبدع اليازجي الابن. ففي هذه النصوص تجلّت عبقريته اللغوية وذائقته النثرية البديعة. فهذا العربي الذي خبر الصناعتين، شعراً ونثراً، منذ نشأتهما حتى العصور المتأخرة، عرف كيف يوفّق في نثره بين أسلوب «المترسّلين» الذي عُرِف في العصر العباسي، والأسلوب المنمّق، الحافل بضروب البيان والبديع والبلاغة والزخرفة وسائر المحسّنات. صنّاع ماهر يلمّ بأسرار العربية وإيقاعاتها النثرية وجمالياتها. وقد جمع بين المتانة والسهولة، بين الصنعة واللطافة، بين البراعة في نسج الجمل والخبرة الجلية في انتقاء الألفاظ. وقد يوازي تعريبه لهذا «الكتاب» الضخم في عصر النهضة تعريب ابن المقفع لكتاب «كليلة ودمنة»، فالفن النثري لديه يبلغ ذروته أيضاً في ما يُسمّى «السهل الممتنع». إلا أن الصيغة التي اعتمدها اليازجي في ترجمته تنتمي الى اللغة الحديثة، المتجذرة في منابت التراث العربي والمنفتحة على العصر. وقد منح اليازجي الأسفار المتعددة في «الكتاب» ما يلائمها من صيغ وأساليب وملامح. ومَن يقرأ ترجمته للأسفار الشعرية مثل «نشيد الأناشيد» و «المزامير» و «سفر أيوب» و «مراثي إرميا» يكتشف المَلَكة اللغوية، النثرية والشعرية، التي وهِب إياها. إنه في هذه الأسفار نثّار باهر، يتخطى تخوم النثر نفسه موغلاً في الغنائية الشاسعة. بل انه شاعر بالنثر، يدرك شروط اللعبة الخطرة التي يفصل فيها الشعر عن النثر خيط ضئيل. وقد تكون هذه الأسفار في صيغتها العربية خير شاهد على الغنى الموسيقي للنثر، وعلى قدرة هذا النثر على خلق الإيقاعات الداخلية الجمة. وقد تكون هذه النصوص لا سيما «نشيد الأناشيد» رافداً من روافد قصيدة النثر العربية. فأثر هذه النصوص يتجلى مثلاً في قصائد أنسي الحاج الغنائية وفي ديوان محمود درويش «سرير الغريبة» حيث تنتحل قصيدة الحب النَفَس الإنشادي العالي.
وإن كان شائعاً أن إبراهيم اليازجي لم يترجم «الكتاب المقدس» وحده بل كان واحداً من فريق عمل على هذه الترجمة وضمّ آباء فرنسيين هم بمثابة مستشرقين، فإن ما يجب الاعتراف به أن اليازجي هو الذي تولى صوغ النصوص العربية وكتابتها بالأحرى. وهذا ما يعترف به الناشر مسمياً اليازجي وحده من الفريق قائلاً: «رافق العمل الأديبُ الكبير إبراهيم اليازجي فنقّح عبارته وزاد في ترجمته رونقاً». وقد تعلّم اليازجي اللغتين العبرية والسريانية لهذه الغاية، وتطلبت منه الترجمة تسع سنوات. وصدرت هذه الترجمة قبل نحو اربع سنوات من الترجمة البروتستانتية التي تعاون فيها أكثر من أديب وفي مقدمهم المستشرق فان دايك.
في الذكرى المئة لغياب هذا الكاتب الكبير الذي ذكرنا به الناقد محمد دكروب من خلال دراسته الشاملة التي خصّه بها ونشرها في إحدى الصحف اللبنانية على دفعتين، لا بد من الإشارة الى أن «دار المشرق» المسؤولة أصلاً عن «الكتاب المقدس» استبدلت ترجمة اليازجي بترجمة حديثة أنجزها آباء يسوعيون انطلاقاً من الأولى واكتفت بها، من دون أن تعيد نشر الترجمة اليازجية، ما يعني اختفاء هذه الترجمة الفريدة من السوق الأدبية. وهذا خطأ فادح جداً يسيء أولاً الى الدار نفسها مثلما يسيء الى اليازجي والى الذاكرة الأدبية والى هذا الحدث الجليل الذي لم يشهد عصر النهضة ما يماثله في فرادته وقوّته.