آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: المقارنة الأدبية عندالعرب فى العصر الحديث

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي المقارنة الأدبية عندالعرب فى العصر الحديث

    المقارنة الأدبية عندالعرب فى العصر الحديث
    د. إبراهيم عوض


    تتخذ الكتابات المقارنة عندنا فى العصر الحديث وضعا آخر يختلف ‏عنه لدى العرب القدماء: فعددها أكثر بما لا يقاس، كما أن حصادها أغنى ‏وأشد تنوعا، علاوة على أننا أصبحنا نعى أن هناك فرعا معرفيا يدعى: ‏‏"الأدب المقارن" له شخصيته وملامحه وأبعاده وغاياته. ولأننا لا نستطيع أن ‏نستقصى كل من أدلى بدلوه فى هذا المجال فسوف نكتفى بالتوقف عند بعض ‏المحطات الهامة. وإذ أردنا البدء فإن ذهنى فى الواقع لا يستطيع أن يفكر فى ‏أحد قبل رفاعة الطهطاوى. وسوف تكون محطتى هنا هى كتابه: "تخليص ‏الإبريز فى تلخيص باريز"، الذى ألفه فى النصف الأخير من ثالث عقود القرن ‏التاسع عشر، وهو الوقت الذى أنشئ فيه أول كرسى للأدب المقارن فى ‏فرنسا، إذ عُيِّن أبل فرانسوا فيمان (‏Villemain‏ ‏Abel-Francois‏) ‏أستاذا لهذا التخصص بجامعة السربون سنة 1928م، ولم يكن قد مر على ‏وصول رفاعة إلى باريس إلا عامان (انظر، فى تاريخ إنشاء هذا الكرسى، د. ‏على شلش/ الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية/ 9). و"التخليص" ‏كتاب عجيب لا يمكن تجاهله أبدا إذا ما أردنا الكلام عن بدايات عصر ‏النهضة فى مصر، إذ يبدو وكأنه يحتوى على كل شىء يتعلق بذلك العصر. ‏المهم أن كاتبنا قد خصص بضع صفحات من ذلك الكتاب على درجة عالية ‏من القيمة فى المقارنة بين اللغتين الفرنسية والعربية، وكذلك بين أدبيهما.‏
    ففى عدة مواضع من ذلك الكتاب نراه يعقد مقارنة بين لغتنا ولغة ‏الفرنسيس، وبلاغتنا وبلاغة الفرنسيس، فيقول مثلا إن لكل لغة قواعد خاصة ‏لتنظيم استعمالها والتفاهم بها، وإنه إذا كانت أقسام الكلمة فى لساننا ثلاثة ‏هى الاسم والفعل والحرف، فإنها فى الفرنسية هذه الثلاثة المذكورة مضافًا إليها ‏الضمير وحرف التعريف والنعت واسم الفاعل واسم المفعول والظرف وحروف ‏الجر وحروف الربط وحروف النداء والتعجب ونحوه، وإن الكلمة قد تكون ‏حرف جر فى موضع، وظرفا هى نفسها فى موضع آخر، لأنها إذا جاء بعدها ‏اسم كانت حرفًا، بخلاف ما لو استقلت بنفسها فإنها تكون حينئذ ظرفًا، ‏وذلك كقولنا: جئت قبل زيد أو بعده، وجئت قبلا أو بعدا... إلخ. ومما ‏قارن به بين اللسانين والبلاغتين أيضا قوله إنهم فى فرنسا لا يعرفون نَظْم العلوم ‏كما هو الحال عندنا فى الألفية مثلا، وهذا راجع إلى اتساع العربية وضيق ‏المجال فى لغة الفرنسيين (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز/ وزارة الثقافة ‏والإرشاد القومى بالجمهورية العربية المتحدة- الإقليم المصرى/ 1958م/ 278- ‏‏280). وبالمثل تكلم عن الفرق بين العَرُوض العربى ونظيره الفرنسى قائلا إن ‏لكل لغة عَرُوضها الخاصّ بها، وإن النثر الفرنسى لا يعرف التقفية، أى أنهم لا ‏يلجأون إلى السجع بخلاف الحال عندنا حيث يُسْتَخْدَم السجع فى الرسائل ‏والخطب والتاريخ وما إلى ذلك حسبما يقول (المرجع السابق/ 280- 281). ‏كما أن المؤلفين الفرنسيين يهتمون بالتدقيق فى ألفاظهم وعباراتهم ويعملون على ‏أن يجىء ما يكتبونه واضحا لا يُحْوِج إلى معاناة فى الفهم والتعلم ولا إلى ما كان ‏يسمى عندنا بــ"فَكّ الألفاظ". ومن ثم فليس للكتب الفرنسية شروح ولا ‏حَوَاشٍ، اللهم إلا إذا استلزم الأمر بعض التعليقات السريعة لمزيد من الضبط ‏والإتقان (السابق/207- 208). ‏
    وبالمناسبة فلم يقصد رفاعة بالملاحظة الأخيرة أن هذا عيب ملازم للغة ‏العربية كما يُفْهَم من كلام د. جابر عصفور فى قوله عن شيخنا الطهطاوى: ‏‏"يبدو أن هذا الحرص على إيقاظ النيام هو الذي دفعه إلى الاهتمام باللغة ‏الفرنسية من حيث قدراتها الأدائية التي لا يُتَلاعَب فيها بالعبارات ولا ‏بالمحسنات البديعية اللفظية، "وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عُدّ ‏ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيين". ويتصل بذلك ما ‏ينتهي إليه من أن سهولة اللغة الفرنسية تعينهم على التقدم حيث إنه لا التباس ‏فيها أصلا، فالألفاظ مبينة بنفسها، والقارئ لكتاباتها لا يحتاج إلى تطبيق ‏ألفاظه على قواعد أخرى بَرَّانِيّة من علم آخر، وذلك "بخلاف اللغة العربية ‏مثلا، فإن الإنسان الذي يطالع كتابا من كتبها في علم من العلوم يحتاج إلى أن ‏يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقِّق في الألفاظ ما أمكن، ويحمّل العبارة معاني ‏بعيدة عن ظاهرها". وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس ‏لكتبها شُرَّاح ولا حَوَاشٍ... فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم ‏كان تفرَّغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكّة الألفاظ" (جابر ‏عصفور/ دهشة رفاعة الطهطاوي/ صحيفة "الحياة"/ 25 فبراير 2004م).‏
    ‏ ذلك أن رفاعة إنما قصد طريقة التأليف على عهده وفى الكتب التى ‏كانت تُدْرَس بالأزهر لا غير، وهى كتبٌ كَزَّةٌ يُدِلّ أصحابها بالإيجاز المرهق ‏والغموض واحتمال كلامهم فيها أَوْجُهًا عِدّةً لا معنًى واحدا، كما جرت العادة ‏أن يقوم الشارحون بتفصيل الموجَز وتوضيح المُشْكِل والتعليق على كل صغيرة ‏وكبيرة فى الكلام وإعرابه، ولم يقصد رفاعة اللغة العربية فى ذاتها بأى حال، ‏وإلا فقد كان القدماء يكتبون فيَفْهَم عنهم قراؤهم دون حاجة إلى شرح أو ‏حاشية، كما أننا الآن نقرأ ما يُكْتَب فى عصرنا دون أن ننتظر شيئا من هذا ‏كى نفهمه، فضلا عن أن كتب رفاعة كانت ولا تزال مفهومة من تلقاء نفسها ‏لوضوحها وجَرْيها على سَنَن المؤلفين القدماء الواضح القويم. وكيف يقصد ‏الطهطاوى ما فهمه الدكتور جابر أو ما أراد الدكتور جابر أن نفهمه، ولسان ‏الضاد إنما هو لسان البيان والجمال والدقة، كما افتخر رفاعة بلغة القرآن فى ‏كتابه مرارا وعَدّ المحسنات البديعية فيها من مزاياها التى لا تشاركها فيها لغة ‏فولتير؟
    وعلى نفس المنوال يمضى رفاعة مقارنا بين البلاغة لدينا والبلاغة لدى ‏الفرنسيين، فيقول إن هذا الفن موجود فى كل اللغات، ومنها الفرنسية بطبيعة ‏الحال، بيد أنه فى لغتنا أكمل منه فى لغة الفرنسيين، كما أن علم البديع يوشك ‏أن يكون خاصا بالعربية. وهو فى هذه النقطة يختلف مع تلك الطائفة من ‏الكتاب العرب القدماء ممن عرضنا فيما مضى لما قالوه من خلوّ اللغات الأخرى ‏من التشبيهات والاستعارات والمجاز وما إلى ذلك ورددنا عليه فى حينه. ‏
    ويضيف الطهطاوى قائلا إن من الصور البيانية ما تستحسنه الأذواق فى ‏كل اللغات، ومنها ما يستحسنه بعض منها دون بعض. مثال ذلك تشبيهنا ‏الرجل الشجاع بالأسد، فهو تشبيه مقبول ومستحسَن من الجميع، بخلاف كلام ‏الشعراء العرب عن ريق الحبيبة، إذ لا يفهمه الرجل الفرنسى ويعجز عن تذوقه ‏قائلا إنه بُصَاق، والبصاق يبعث على النفور لا التلذذ (السابق/ 288).‏
    وقبل ذلك رأيناه يعرض فى شىء من التفصيل للغة الفرنسية فيتكلم عن ‏تصريف أفعالها وتاريخها وأصولها، وبخاصة الأصل اليونانى الذى يكاد ‏يستغرق فيها مصطلحات العلوم كلها. ثم يعرّج على البديع قائلا إنه غير ‏مستعمَل ولا مستحسَن عندهم، اللهم إلا التورية فى كتاباتهم الهزلية فحسب، ‏بخلاف الجناس، فهو غير مقبول لديهم البتة، وبمجرد ترجمة ما هو موجود منه ‏فى لغتنا تذهب ظرافته فى الحال (السابق/ 126- 127). ومع هذا فإنه ‏يؤكد أن العربية هى أفصح اللغات، كما يقرر بقوة أن من كان عالما بقواعد لغته ‏متبحرا فيها يكون عالما بالقواعد فى جميع اللغات بالقوة على الأقل، وهى لفتة ‏عقلية عجيبة سبق بها زمنه، إذ ليس لكلامه هذا من معنى سوى أن هناك ‏قواعد نحوية عالمية تتمثل فى الخطوط العامة لقواعد اللغات المختلفة، وهو ما ‏يقول به علم اللغة الحديث. كما أشار، ضمن ما أشار، إلى كتاب فى نحو اللغة ‏العربية وصرفها وضعه أحد المستشرقين الذين عرفهم فى باريس يختلف فى ‏ترتيبه عن كتب النحو والصرف عندنا (السابق/ 132- 133).‏
    ‏ والسبب فى هذا هو، حسبما لاحظتُ، أنهم يضعون الطالب الفرنسى ‏فى اعتبارهم حين يؤلفون مثل تلك الكتب، فيتوسعون فى بعض ما نراه نحن ‏واضحا بذاته لتشربنا كثيرا من أوضاع لغتنا تلقينا منذ الصغر، على عكس ‏الدارس الفرنسى مثلا الذى نشأ على أوضاع معينة فى لغته فلا يفهم ما يخالفها ‏فى اللغة العربية وأمثالها بسهولة، كما أنهم يراعون الذهنية الفرنسية والأوربية ‏عموما فى تبويب مادة النحو والصرف حتى تكون متسقة مع ما يعرفون عن ‏نظام القواعد فى لغتهم، فلذلك كان لا بد، عند تأليف كتاب فى النحو العربى ‏لطلابهم، من مراعاة هذا الاعتبار. ‏
    وبالنسبة للشعر الفرنسى يقول رفاعة إنه يجرى على عادة الجاهلية ‏اليونانية التى تعرف لكل معنى من المعانى ولكل شعور من المشاعر إلها خاصا، فتراهم يقولون: إله الجمال وإله العشق... إلخ، وهذا كفر كما صرّح، وإن أضاف أنهم لا يعتقدون فى شىء من هذا، بل هو مجرد تمثيل. ‏وهو يحكم على الأشعار الفرنسية بأن الكثير منها "لا بأس به" ‏(السابق/ 135). ولا ريب أن هذا حكم جرىء يستغربه الأديب العربى ‏الحالى الذى قد يرى أن الآداب الأوربية أرقى من الأدب العربى. أما رفاعة ‏فرغم إعجابه بجوانب كثيرة من مدنية الفرنسيين كان يرى أننا متفوقون عليهم ‏فى أمور الدين والاعتقاد، وكذلك فى ميدان الشعر والبلاغة. ومن الطريف ‏قوله عن ترجمته لإحدى القصائد من الفرنسية إلى العربية: "أخرجتُها من ‏ظلمات الكفر إلى نور الإسلام"، ثم تعقيبه على جهده فى ذلك بقوله إن الترجمة ‏تَذْهَب بحسن الأصل الأدبى فى أية لغة: يستوى فى ذلك أن تكون القصيدة ‏منقولة من الفرنسية للغتنا أو العكس (السابق/ 135، 127).‏
    وبالنسبة للنقطة الأخيرة وما تستدعيه للذهن من قوة الثقة بالذات ‏الحضارية التى تكمن وراءها أود أن أستشهد هنا بالسطور التالية من مقال ‏للدكتور حسام الخطيب بعنوان "الأدب المقارن في عصر العولمة: تساؤلات باتجاه ‏المستقبل"، وهذه السطور تضرب من المسألة التى نحن بصددها فى الصميم ‏وتساعدنا على أن نرى كيف كان رفاعة، رغم التخلف الشديد الذى كان ‏يُشِلّ حركة الحياة إلى حد بعيد فى مصر وسائر بلاد العالم الإسلامى أوانئذٍ، ‏بعيد النظر واسع الأفق راسخ الثقة بماضيه الحضارى والثقافى، ولم يكن ‏كأولئك المثقفين العرب المنبهرين بكل ما هو غربى، بل المتطوعين بالقيام بدور ‏‏"كاسحة الألغام" التى تحاول أن تزيح من أمام الهجوم البربرى الغربى، ‏والأمريكى منه بالذات، قوى المقاومة والتصدى لمخططاته الشيطانية فى كل ‏المجالات، وأولها مجال الفكر والثقافة والذوق. يقول د. الخطيب: "على أنه ‏ينبغي الاعتراف بأن الذي تغير اليوم هو الوعي العالمي العام بأن النموذج الغربي ‏متفوق حقا في مختلف مجالات الثقافة والعلم والإنتاج والقوة المادية والاتصال ‏وغزو الفضاء، ولكن له مشكلاته ونقائصه وتناقضاته، ولاسيما بين المثل ‏الأعلى المعلن والمثل غير الأعلى للهيمنة والسيطرة والاستلاب، ولذلك ينبغي أن ‏يكون الموقف منه حَذِرًا وانتقائيًّا وغير مبنيٍّ على الانبهار والتسليم ‏الأعمى. كما أن هناك شيئا آخر مهمًّا قد تغير في مجال المقارنة مع المركزية ‏الأوروبية، وهو الاعتراف الضمني أو الصريح بعظمة حضارات العالم القديم في ‏إفريقيا وآسيا، والتسليم بما قدمته هذه الحضارات، ومنها الحضارة العربية ‏الإسلامية، من إسهام مباشر أو غير مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية. ‏
    وهنا أيضا يقتضي الإنصاف منا الإشارة أن عددا لا يستهان به من ‏مثقفي الغرب وعلمائه وأدبائه أسهموا في دعم هذه الفكرة ونشرها. وإلى ‏جانبها فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن في بلدان العالم القديم (أو بلدان ‏الجنوب)، وضرورة وضعه في واجهة لائحة التثقيف اليومي للأجيال من جهة، ‏والاستعانة به من جهة أخرى لترسيخ النزعة الإنسانية والفطرية لدى جمهرة ‏المتلقين في العالم. ومثال ذلك رسالة منظمة اليونسكو، ولا سيّما في مجال إحياء ‏الثقافات المستضعَفة وإعادة بناء قائمة الروائع الأدبية العالمية بحيث تشمل ‏منجَزات العالم القديم (الثالث). وكل هذه التغيرات تصب في صالح المقارنة ‏لتجعل منها رافدا فعالا من روافد الصبوة العريقة للاتجاه نحو بناء حضارة ‏إنسانية منسجمة مع ذاتها ومُثُلها وغير قائمة على التناقضات والتمييز بين الأنا ‏والآخر" (‏‎ 35/p.75www.nizwa.com/volume‏).‏
    وفضلا عن ذلك هناك صفحات فى "التخليص" يجتهد فيها رفاعة، رحمه الله، فى وصف "المسرح" وما يمثَّل فيه من مسرحيات متنوعة ‏الأشكال والأغراض، وكذلك الفوائد العلمية والأخلاقية والاجتماعية ‏والسياسية التى تعود على المشاهدين من ورائها، وإن لم يُخْلِها مع ذلك من ‏الانتقاد لما تشتمل عليه من "كثير من النزغات الشيطانية" حسب تعبيره. وهو ‏فى كل ذلك يبذل جهده على آخر وُسْعه فى الشرح والتقريب كى ينقل لمواطنيه ‏ما كان بالنسبة إليه شيئا جديدا كل الجِدّة، وإليهم هم شيئا مجهولا تماما، ‏محاولا البحث عن الألفاظ التى ينبغى أن تُسْتَعْمَل للدلالة على كل شىء فى ‏هذا المضمار، سواء كان هذا الشىء هو خشبة المسرح (التى كان يسميها: ‏‏"مَقْعَدًا") أو المقاصير التى يحتلها المشاهدون ("الأُوَد" كما قال) أو ‏المصطلحات الخاصة بذلك الفن (كالتياتر والسِّبِكْتاكْل، اللذين يجمعهما على ‏‏"تياترات" و"سبكتاكلات") أو الطرق والحيل الفنية التى يلجأ إليها الفنيون ‏لإخراج المسرحية وعرضها... إلخ، ومقارنا بين كل ذلك وما قد يشبهه عندنا ‏خارج نطاق المسرح رغم الاختلاف الشديد بين الأمرين، لكنها الرغبة فى ‏التقريب من أجل التفهيم والمفاضلة. ويحس القارئ بمدى المعاناة التى يقاسيها ‏رفاعة فى ذلك السبيل (تخليص الإبريز/ 165- 167). لقد اجتهد رفاعة هنا ‏فى التعريف بفنّ أدبى لم يكن للعرب به عهد، اللهم إلا بعض المشاهد التمثيلية ‏البدائية التى كانت تقتصر على مجال الممارسة العملية لا الكتابة الفنية والإبداع ‏الأدبى، وما عَمِله هو فى الحقيقة نوع من أنواع التلقيح الثقافى الذى يُرَاد به ‏إغناء الأدب العربى وتوسيع نطاقه والخروج به إلى مجالات أرحب وأكثر تنوعا.‏
    وكل ذلك فى الواقع هو "أدب مقارن" أصيل رغم أن كاتبنا لم يسمع ‏بشىء اسمه "الأدب المقارن" كما هو واضح، وإن كان قد أنشئ فى ذلك ‏الوقت كرسى لهذا التخصص فى جامعة السربون بباريس كما سلف القول ‏عُيِّن فيه أول ما عُيِّن أبل فرانسوا فيمان، الذى نشر فى العام الدراسى 1828 ‏‏–1829م كتابا من أربعة أجزاء بعنوان "صورة الأدب الفرنسى فى القرن الثامن ‏عشر". كما لم يعرف العربُ ذلك العلم بمصطلحه الذى يدل عليه إلا بعد أكثر ‏من قرن، إذ لم يُسْتَخْدَم مصطلح "الأدب المقارن" قبل سنة 1936م على يد ‏خليل هنداوى حسبما أكد د. حسام الخطيب، فى مقاله: "الأدب العربي ‏المقارن: العنوان الأول والنص الأول" (المنشور بمجلة "فصول" القاهرية/ فبراير ‏‏1991م/ 257- 264). لقد كان بين يَدَىْ رفاعة التراثُ العربىّ الثرىّ الهائل ‏الذى عثرنا وسط كنوزه على كثير من المقارنات الأدبية، فلم يكن غريبا إذن ‏أن ينبعث رفاعة لإجراء تلك المقارنات، وهو الذى كان له اطلاع جيد على ‏ذلك التراث وتطلع توّاق إلى معرفة ما يجهل. وساعده على هذه الالتفاتة ‏العقلية ما قام بينه وبين من احتك بهم هناك من المستشرقين من حوارات ‏ومناقشات. وبالمناسبة فمعظم كتاب رفاعة هو فى الأدب المقارن بمعنى من ‏المعانى، وإن لم يكن على الطريقة الفرنسية التى تشترط وجود صلات بين ‏الأدبين اللذين يقارن بينهما الدارس. أليس يقدم لنا فى المقام الأول صورة عن ‏فرنسا والأمة الفرنسية من وجهة نظر مثقف عربى مسلم فى أواخر الثلث ‏الأول من القرن التاسع عشر الميلادى؟ أليس هذا بابا من أبواب الأدب ‏المقارن؟
    ‏ كذلك ففى مقدمته للترجمة التى نقل بها رواية فنلون عن تليماك ‏ومغامراته نراه يربط بين ذلك العمل القصصى وبين مقامات الحريرى ناظرا إلى ‏فصول الرواية الفرنسية على أنها تشبه المقامات، وإن لم يفصّل القول فى ذلك ‏‏(رفاعة الطهطاوى/ الأعمال الكاملة/ تحقيق د. محمد عمارة/ المؤسسة ‏العربية للنشر والتوزيع/ بيروت/ 1973م/ 5/ 348. وانظر كذلك د. إبراهيم ‏عوض/ نقد القصة فى مصر: 1881- 1980م/ مكتبة زهراء الشرق/ ‏‏1418هـ- 1998م/ 15). أى أن جهود رفاعة فى المقارنة بين العربية ‏وبلاغتها وأدبها ونظير ذلك عند الفرنسيين قد تمت قبل أن يسطر أديب ‏إسحاق وأحمد فارس الشدياق وسليم البستانى وغيرهم ما سطروا فى هذا ‏الموضوع ممن أشار إليهم د. حسام الخطيب فى كتابه: "آفاق الأدب المقارن ‏عربيا وعالميا" ونَوَّهَ بجهودهم فى هذا المجال بشىء من التفصيل، على حين ‏اكتفى بإشارة عامة إلى اهتمام رفاعة فى كتابه عن باريس بالمقارنة بين الشرق ‏والغرب (المقارنة بإطلاق لا فى ميدان الأدب على وجه الخصوص)، إذ يقول: ‏‏"يُعَدّ كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" اللَّبِنة الأولى فى فكرة المقارنة بين ‏الشرق والغرب التى أصبحت، فيما بعد، أساسا لسلسلة من الأعمال ‏الإبداعية والجدالية" (د. حسام الخطيب/ آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ ‏دار الفكر المعاصر ببيروت، ودار الفكر بدمشق/ 1992م/ 117). ولا شك ‏أن فى هذا الحكم بخسًا شديدًا لجهود هذا الرائد الكبير فى مجال الدراسة ‏الأدبية المقارنة فى ذلك الوقت المبكر! ‏
    وأرجو من القارئ أن يتنبه إلى أن رفاعة حين قارن بين بعض جوانب ‏بلاغتنا وأدبنا وبين نظيراتها فى الأدب الفرنسى لم يهتم بالبحث عما إذا كان ‏هناك أية صلة بين الطرفين، فضلا عن أن هذه الصلة لا وجود لها فى الواقع. ‏ومن الواضح أن ما كتبه الطهطاوى فى هذا المجال يجرى فى نفس المجرى الذى ‏تجرى فيه الكتابات المقارنية فى تراثنا العربى. لا أقصد أنه كان يتعمد هذا أو ‏على الأقل: كان يعيه، بل كل ما أريد قوله هو أن الاتجاهين واحد، وهذا كل ما ‏هنالك. وهذا ما أصبح يسمى: "المدرسة الأمريكية" رغم أنه أقدم من تلك ‏المدرسة بقرون طوال، وإن كان الأمريكان قد أصَّلوا ما يفعلون ونظَّروا له، على ‏حين اكتفى العرب قديما وحديثا بالممارسة دون تأصيل أو تنظير، بل ربما دون ‏أن يتنبهوا أنهم يمارسون علما خاصا، بل كانوا، فيما أتصور، يكتبون من غير ‏أن يعنّوا أنفسهم بتصنيف هذا الذى يكتبون، وهو ما يصدق على كثير مما ‏أبدعوه. وكما نعرف فليست العبرة بالتصنيف، بل بالإنجاز. وقد أنجز أسلافنا ‏فى هذا المجال إنجازات كبيرة، ولم يهتموا بالنص على ذلك الإنجاز. وها نحن ‏أولاء نحاول تصنيف ما أنجزوه ووضعه فى موضعه الذى يستحقه. وهذا ‏الذى فعله رفاعة يصدق على عدد من المقارنين العرب التالين له كما سوف ‏نرى فيما يلى من صفحات.‏
    وهناك كاتب معاصر لرفاعة كانت له مساهماته فى مجال الدراسات ‏الأدبية المقارنة، وهو الكاتب اللبنانى أحمد فارس الشدياق، صاحب "الساق ‏على الساق" و"الواسطة فى أحوال مالطة" و"كشف المخبَّا عن فنون أوربا" ‏و"الجاسوس على القاموس" و"غُنْيَة الطالب، ومُنْيَة الراغب" (كتاب مدرسي ‏في النحو والصرف) و"الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية" و"سَنَد الراوي ‏في الصرف الفرنساوي" وديوان شعر من نظمه يشتمل على اثنين وعشرين ألف ‏بيت، ومُتَرْجِم الكتاب المقدس، وإن لم تشتهر ترجمته وتنتشر، إذ لم يُعَدْ طبعها ‏بعد ذلك سوى مرة واحدة تم فيها تصويرها من الإصدار الأول فى طبعة ‏محدودة، نظرا لاعتناقه الإسلام فيما بعد. وهو فى كتابيه: "الساق على ‏الساق" و"كَشْف المُخَبَّا" كثيرا ما يقوم بالمقارنة بين اللسان العربى وآدابه ‏ونظيريهما عند الإنجليز والفرنسيين، إذ نراه مثلا فى الكتاب الأخير يقارن بين ‏الطريقة العربية فى كتابة الرسائل ونظيرتها فى لغة الإنجليز، حيث يطيل العربى ‏فى صدر رسالته ويكثر من ذكر ألقاب المديح عند مخاطبته لمن يبعث بخطاب ‏إليه كقولهم: "الأَجَلّ والماجد والأكرم والمفخَّم" وغير ذلك، على حين يوجز ‏الإنجليزى هنا ويطيل فى ختامها فيقول مثلا: "أنا ياسيدى عبدك الأحقر ‏المطيع"، بخلافنا إذ نكتفى فى النهاية بأن نقول: "الداعى فلان" أو "عبدك ‏فلان" (كتاب الرحلة الموسومة بــ"الواسطة فى أحوال مالطة" و"كشف المخبّا ‏عن فنون أوربا"/ مطبعة الدولة التونسية/ 1382هـ/ 146). وهنا، كما هو ‏واضح، يقارن الشدياق بين طريقتين فى كتابة الرسائل وما يُتَّبَع فيها من قواعد ‏ورسوم.‏
    وعن شعر المديح عندهم وعندنا يقول إنه "لم تجر العادة عند ملوك ‏الإفرنج بأن يقرأوا قصائد مدح فيهم ولا غيرها أيضا مما يخاطَبون به، وإنما يقرأ ‏ذلك كله كتّاب أسرارهم، وهم يجاوبون عنها المخاطب بحسبما يرَوْنه ‏صوابا... ثم إنه لا شىء أفظع عند الإفرنج من أن يرَوْا فى قصائد المدح ‏تغزلا بامرأة ووصفها بكونها رقيقة الخصر ثقيلة الكَفَل نجلاء العينين سوداء ‏الفرع وما أشبه ذلك، فشعرهم كله خَصِىّ. وأفظع منه التشبيب بغلام. وأقبح ‏من هذا وذاك نسبة شىء من صفات المؤنث إلى المذكر كقول الشاعر: "كأنْ ‏ثدياه حُقّانِ". ولما ترجم موسيو دوكات قصيدتى التى مدحتُ بها المرحوم ‏أحمد باشا باى تونس وطبعها مع الترجمة كان بعضهم يسألنى: هل اسم الباشا ‏سعاد؟ وذلك لقولى فى مطلعها: "زارت سعادُ، وثوب الليل مسدولُ". فكنت ‏أقول: لا، بل هو اسم امرأة. فيقول السائل: "وما مدخل المرأة بينك وبين ‏الباشا؟"، وهو فى الحقيقة أسلوب غريب للعرب... ‏
    ‏(و)كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة كذلك ينكرون المبالغة فى ‏وصف الممدوح، فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب ويجعلونه ‏ضربا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعى الممدوح ومقاصده وفضله على من ‏تقدمه من الملوك بتعديد أسمائهم. أما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد والطَّوْد ‏والبدر والسيف فذلك عندهم من التشبيه المبتذَل، ولا يعرضون له بالكرم وبأن ‏عطاياه تصل إلى البعيد، فضلا عن القريب. فهم إذا مدحوا ملوكهم فإنما ‏يمدحونهم للناس لا لأن يصل مدحهم إليهم" (كتاب الرحلة الموسومة بــ"الواسطة ‏فى أحوال مالطة" و"كشف المخبّا عن فنون أوربا"/ 302- 303). وكما نرى ‏فالشدياق هنا يوازن بين أسلوبين مختلفين للمديح فى أدبنا وأدب الإنجليز، وهذا ‏من صلب موضوعات الأدب المقارن، وإن لم يكن على الطريقة الفرنسية التى ‏تشترط وجود صلات بين الأدبين اللذين يقارن بينهما الدارس كما سبق أن ‏نبهنا.‏
    ليس ذلك فقط، بل تعرَّض الشدياق أيضا فى كتابه هذا إلى الحكم ‏النقدى على "كلستان سعدى"، الذى أهداه إياه أحد مواطنيه فلم يرتح حتى ‏أبدى رأيه فيه بعد أن قرأه، قائلا: "تعرفت حينئذ بالخواجا ميخائيل المخلع، ‏فقد كان قَدِمَ إلى لندرة لمعاطاة التجارة... وقد أهدانى نسخة من كتاب ‏‏"كلستان"، الذى ترجمه أخوه من الفارسية إلى العربية. فلما تصفحتُه وتأملتُه ‏حق التأمل ظهر لى أن خُبْره دون مخبره، إذ لم أجد فيه من المعانى المبتكرة ما ‏أوجب احتفال العجم به هذا الاحتفال العظيم، فإنه عندهم بمنزلة "مقامات ‏الحريرى" عندنا، غير أن عربيته فصيحة. فلما قابلته المرة الثانية وجرى ذكر ‏هذا الكتاب قلت له: لقد طالما سمعتُ بذكر "كلستان"، غير أنى لم أجده ‏يستحق هذه الشهرة. وقد حدثتنى نفسى بأن أنشئ كتابا على نسقه ألتزم فيه ‏الهزل. قال: فافعل. فأنشأت فى اليوم القابل هذه الحكايات الآتية، ولما قرأتها ‏عليه وقت الاجتماع قال: قد أفرطتَ فى تحدّيه، وهو فوق ذلك. وأبى إلا ‏التنويه به" (المرجع السابق/ 306). ‏
    ولقد عرفنا من قبل كيف قارن رفاعة الطهطاوى بين "مغامرات تليماك" ‏لفنيلون و"مقامات الحريرى"، وهذا هو الشدياق يجعل المقارنة هذه المرة بين ‏‏"مقامات الحريرى" و"كلستان" سعدى. أى أنه وضع المقامات هنا إزاء جنس ‏أدبى مختلف، وينتمى أيضا إلى أدب مختلف، وهى نقطةٌ حقيقةٌ بالدراسة. ‏وبمناسبة رأى الشدياق فى "كلستان" سعدى فقد أذكر أنى قرأت فى كتاب ‏المُحِبّى: "نفحة الريحانة فى رشحة طلاء الحانة" وكتاب ابن معصوم: "سلافة ‏العصر فى محاسن الشعراء بكل مصر" أن الطبيب الشيرازى أبا الحسن إبراهيم ‏قد عارض بأبياته التالية:‏
    ‏ ‏كشف ‏الصبـحُ ‏اللثامـــــا ‏*‏ وجلا ‏عنا ‏الظلاما
    ‏ ‏فَاجْلُ ‏لي ‏الكاس ‏ونبِّه ‏ ‏‏*‏ أيها ‏الساقي ‏الندامَى
    ‏ عَلَّنا نقضي كما رمــــــــــــــــنا من الأنس المراما
    ‏ ما ترى الوُرْق على الأيْــــــــــــــــــك يجاوبْن الحَماما
    ‏ وزهور الروض أصبحــــــــــــــــــن يفتّقن الكماما
    ‏ والحيا يبكي عليهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنّ فيضحكن ‏ابتساما
    ‏ ووميض البرق قد سَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلََّّّّّ على الأفق ‏حساما
    ‏ ‏وحبيب ‏النفس ‏قد ‏لا ح ‏لنا ‏بدرا ‏تماما؟
    ‏ ‏أى ‏عذر ‏لك ‏إن ‏لم ‏ ‏‏*‏ تصل ‏الراح ‏مُدَاما؟
    ‏ ‏فاغنم ‏الأنس ‏وبايِنْ ‏ ‏‏*‏ مَنْ ‏لَحَا ‏فيه ‏ولاما
    أبيات بلديّه الشيخ سعدي الشيرازي التى يقول ‏فيها:‏
    يا ‏نديمي، ‏قم ‏بليلٍ ‏ ‏‏*‏ واسقني ‏واسق ‏النداما
    خلني ‏أسهرُ ‏ليلى ‏ ‏‏*‏ ودَعِ ‏الناس ‏نياما
    اسقياني ‏وهدير ‏الر عد ‏قد ‏أبكى ‏الغماما
    في ‏أوانٍ ‏كشف‏ ‏الور د ‏عن ‏الوجه ‏اللثاما
    أيها ‏المصغي ‏إلى ‏الزهّـــــــا دِ، ‏دع ‏عنك ‏الكلاما
    وهو شاهد آخر على اهتمام أدبائنا القدامى بما كانت تصل إليه أيديهم ‏من آداب الأمم الأخرى، كما أن المعارضة التى نحن إزاءها الآن هى مما يمكن ‏أن يكون موضع مقارنة أدبية ينطلق منها أحد الدارسين فيضم إليها أمثالها من ‏معارضات أسلافنا لما عند الفرس من أشعار ويجعل كل ذلك بحثا من بحوث ‏الأدب المقارن.‏
    وكمثل رفاعة فى وقوفه عند المسرح، الذى كان يراه للمرة الأولى، يفعل ‏الشدياق فيصف لنا المسرح ليعرّف قراءه به. وبطبيعة الحال نحن الآن نعرف ‏عن المسرح وإمكاناته ووسائله وتاريخه ما لم يكن يخطر على بال الشدياق، ‏لكن يبقى لكلامه فى هذا الباب أهميته من الناحية التاريخية، بوصفه كلاما ‏رائدا فى الموضوع، وكذلك من ناحية المقارنات الأدبية، إذ يعرّف رحمه الله ‏القراء العرب (ربما لأول مرة) بالمسرح كما شاهده فى بريطانيا بعد أن عرّفهم ‏رفاعة بمسارح باريس. قال الشدياق: "واعلم أن التمثيل فى الملهى يتجاذبه ‏نوعان من التاريخ والأدب وإعادة الحوادث والوقائع الماضية فتصير كأنها ‏مشاهَدة بالعِيَان، وفيه تُنْشَد الأشعار الرائقة والقصائد البليغة ويقع من ‏المحاورات الأدبية جِدًّا وهزلا ما يُسَرَّى به عن الثَّكْلَى حزنها. وكل ما يقال فيه ‏فهو من الكلام الفصيح الذى تستعمله علماؤهم وأدباؤهم، فإن أعظم شعراء ‏الإفرنج ألّفوا فيه، وما من خطيبٍ مِصْقَعٍ أو أديبٍ بارعٍ إلا ودَوَّن شيئا من هذه ‏المحاورات. ومن طريقة اللاعبين فيه أن يخصصوا كل شخص منهم بحال: فمن ‏كان مديد القامة جهير الصوت أَبْتَع خصّصوه بأن يمثل الأمور التى فيها الحماسة ‏والوعيد والتذمير، ومن كان لطيفًا رَخْصًا خُصَّ بما شأنه الاستشفاع مثلا ‏والملاطفة والتملق، ومن كان حُزُقّة خُصَّ بالأمور السخرية المضحكة... ‏وقس على ذلك. ‏
    ولو عرفت قدر ما يسرده هؤلاء اللاعبون عن ظهر القلب لأعظمتَه ‏جدا، فإن كلا منهم يحفظ من القصص والنوادر ما يكون أكبر حجما من ديوان ‏المتنبى، ولا يكاد أحدهم يتلعثم فى عبارة. وقد يوارون شخصا بيده الكتاب ‏الذى تُحْفَظ منه تلك الحكايات فى مكان، حتى إذا ذهل المتكلم عن شىء ‏ردَّه، ولكن وقوع ذلك نادر... وهذا التمثيل على نوعين: الأول تمثيل ما يُحْزِن ‏من نحو الحروب وأخذ الثأر، ويقال له عندهم: تراجيدى. والثانى، وهو ‏عكسه، ويقال له: كوميدى. وكلاهما يُعَدّ من الأدبيات، غير أن النوع الثانى ‏يكثر فيه التوريات والمواربات والتجنيس... ‏
    وأول من ألّف فى هذا الفن من اليونان أوروبيديس، وذلك قبل الميلاد ‏بأربعمائة وثمانين سنة. فأما فى تمثيل المُحْزِنات ونحوها وفى خفة الحركات ‏واللباقة فالمزيّة لأهل فرنسا، والإنجليز تبعٌ لهم. وأما فى المضحكات فهؤلاء هم ‏المتبوعون، وذلك لسعة لغتهم... على أن ارتجال الشعر عند أى جيل كان من ‏الإفرنج هيّن لأن كلامهم كله مجزوم، أى خالٍ من الإعراب، وليس بين الكلام ‏المتعارَف عليه عند خاصتهم وبين كلام الكتب من فرق كبير" (كتاب الرحلة ‏الموسومة بــ"الواسطة فى أحوال مالطة" و"كشف المخبّا عن فنون أوربا"/ ‏‏327، 329).‏
    وينبغى ألا يفوتنا فى هذا النص تسمية الشدياق للمسرح بــ"الملهى"، ‏وهى تسمية عربية لم يستعملها الطهطاوى، وكذلك قوله عن الممثلين: ‏‏"اللاعبون"، وهى أيضا مما ينبغى الالتفات إليه، إذ هو استعمال، فيما يبدو، رائد. ومثله استخدامه لمصطلح "المحاورات"، وهو اصطلاح موفَّق كُتِب ‏له الشيوع والبقاء: إما هكذا وإما باستعمال الصيغة الأخرى لذات ‏ المصدر، وهى صيغة "فِعَال": "الحِوَار". وبالمثل لا يصح أن ننسى استعماله ‏كلمتى "وقائع" و"حوادث"، اللتين أضحتا مصطلحين من مصطلحات فَنَّىِ ‏الرواية والمسرحية، وإن عَنَى الشدياق بهما أحداث التاريخ، لكن ذلك لا يضرّ، إذ ورد كلامه فى سياق الحديث عن تمثيل تلك الأحداث على خشبة ‏المسرح، فالأمر إذن قريب من قريب. ومما يلفت النظر تفرقة الشدياق بين ما ‏نسميه الآن: "المأساة" و"الملهاة"، وإن كان قد أبقى لهما المصطلحين الأجنبيين ‏كما هما دون ترجمةٍ مَرّةً، وترجمهما على نحو غير مباشر مرةً أخرى حين ذكر ‏‏"المحزنات" و"المضحكات". كما نلاحظ تنبُّه الشدياق لمهمة "الملقِّن ‏المسرحى"، وهو مما لم يتحدث عنه الطهطاوى، وإن لم يحاول مؤلفنا أن يسكّ له ‏مصطلحا يُعْرَف به. وتلك كلها، وغيرها فى بقية النص التى لم أنقلها، مسائل ‏تهم دارس الأدب المقارن جدا، فضلا عن أنها هى نفسها جزء أصيل من ‏الدراسات المقارنة بكل جدارة، فالشدياق هنا يحاول جهده أن يعرفنا بفن ‏أدبى جديد، مضيفا إلى التعريف به أشياء لم نجدها عند الطهطاوى من قبل، ‏وسَاكًّا (أو على الأقل مستعملا) مصطلحات فنية لم ترد فى "تخليص الإبريز". ‏وينبغى ألا نُغْفِل عامل الزمن، فقد كتب الشدياق كلامه هذا بعد الطهطاوى ‏بعدّة عقود، إذ نشر الطهطاوى رحلته الباريسية فى 1834م، ونشر الشدياق ‏كتابه الذى نحن بصدده فى 1863م، وليست هذه المدة فى تلك الظروف ‏بالزمن القليل. ثم نختم هذا التعقيب بلفت الأنظار إلى التفرقة التى نبه إليها ‏الشدياق بين فصحانا وفصحى الإنجليزية وأمثالها من اللغات الأوربية وما ينتج ‏عن ذلك من سهولة الارتجال فى المطارحات الشعرية عندهم وضيق مجاله ‏عندنا، وهى تفرقة مهمة كما نلاحظ. ‏
    وهناك روحى الخالدى، الكاتب والسياسى الفلسطينى الذى عاش ‏عشرين عاما فى فرنسا طالبا وأستاذا وقنصلا عاما لدولة الخلافة العثمانية ‏تشرب أثناءها ألوانا متعددة من الثقافة الفرنسية والأوربية وحصل على طائفة ‏من الأوسمة والجوائز. وكان يتقن الفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية، وله ‏فى مجال الأدب المقارن سلسلة من المقالات فى مجلة "الهلال" فى 1902- ‏‏1903م سرعان ما نشرها فى كتاب سنة 1904م بعنوان "تاريخ علم الأدب ‏عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو" (فى مطبعة "الهلال" أيضا)، لكن دون ‏ذكر اسمه على الغلاف صريحا. وبسبب هذا الكتاب يُعَدّ روحى الخالدى ‏عند البعض الرائدَ التاريخىّ للأدب المقارن العربى. وفيه يتناول موضوعات من ‏ذلك التخصص، وإن لم يستخدم لها هذا المصطلح. ومن تلك الموضوعات ما ‏ترجمه العرب فى إبّان نهضتهم على أيام العباسيين، وتأبّيهم (رغم كثرة ما ترجموه ‏من اللغات المختلفة) على التأثر بأشعار الأمم الأخرى، وكذلك ما أخذه ‏الأوربيون (أو "الإفرنج" حسبما يقول) منا أيام النهضة المذكورة، وتأثُّر شعر ‏التروبادور بالتقفية الموجودة فى الشعر العربى وموضوعاته من مديح ونسيب ‏وهجاء ومُلَحٍ وأمثال، واقتباس الإفرنج كثيرا من قصصهم وفكاهاتهم ‏وخرافاتهم من العرب، ومعرفتهم لشعر المدح عندنا وإنشادهم له، والمقارنة بين ‏‏"أغنية رولان" وسيرة عنترة بن شداد، وبين "الكوميديا الإلهية" و"رسالة ‏الغفران"، وبين مسرحية "طرطوف" لموليير وأبيات لشاعر المعرّة تُشْبِهها فى ‏المضمون، وكذلك بين فكتور هيجو والمعرى أيضا فى بعض نواحى إبداعهما ‏الأدبى، واستفادة ذلك الشاعر الفرنسى ونظيره الألمانى ولهلم ولفجانج جوته ‏من شعر حافظ الشيرازى وغيره من شعراء الإسلام، وانقلاب الوضع فى ‏العصر الحديث ودوران العجلة فى الاتجاه المعاكس حيث أضحى الإفرنج عادةً ‏هم المؤثرين، وأضحينا نحن المتأثرين، كما هو الأمر فى حالة بوالو الشاعر ‏الفرنسى الذى تأثر به ضيا باشا وسواه من شعراء الترك على سبيل المثال. ‏وهو، فى بعض الأحيان، يقدم أدلته على وجود اتصال بين الطرفين اللذين يقارن ‏بينهما، وفى أحيان أخرى يكتفى برصد أوجه التشابه فيهما دون أن يتطرق ‏للحديث عن وجود مثل تلك الاتصالات. ‏
    ومن مقارناته التفصيلية فى الكتاب المذكور ما قاله عن البلاغة عموما ‏وبلاغة العرب على وجه الخصوص، إذ كان رأيه أن بلاغة القول هى ما يعبر ‏عنه المثل القائل بأن لكل مقام مقالا، وهو ما يصدق عليها فى أية لغة: إنجليزية ‏كانت أو فرنسية أو تركية أو فارسية، وإنْ فضَّل لسانَ العرب لسببين: لاشتماله ‏على الإعراب، الذى لا يتوفر فى أى من اللغات الأوربية ما عدا الإغريقية ‏واللاتينية، ولما يكثر فيه من أنواع التشبيهات والاستعارات والكنايات وألوان ‏البديع. وفى مجال العروض والقوافى نراه يؤكد أن الفرنسيين مثلا، قبل ‏اختلاطهم بالعرب فى الأندلس، لم يكونوا يعرفون التقفية فى أشعارهم فأخذوها ‏عنهم. ومما تكلم فيه أيضا فى كتابه المذكور نشاط المستشرقين فى تدريس ‏اللهجات العامية العربية، مع التحذير من ذلك وإبراز مخاطره السياسية وما ‏يمكن أن يترتب عليه من تمزق شمل العرب، والتنبيه إلى أن الفرنسيين، رغم هذا ‏النشاط الاستشراقى فى العمل على إحلال العاميات العربية محل الفصحى، لا ‏يسمحون بإنشاء صحيفة تتخذ من أية لهجةٍ فرنسيةٍ لغةً لها. وتحدث الخالدى ‏أيضا عن مكانة سوق عكاظ فى تاريخ الأدب والثقافة العربية مشبِّها إياه بهايد ‏بارك فى لندن، حيث يلتقى الخطباء من كل لون ومذهب ودين فيتكلمون بحرية ‏لا يوجد لها شبيه فى أى مكان آخر. وهو يؤكد أن العرب قد تعرفوا إلى ‏هوميروس وأشعاره فى كتاب "المنطق" لأرسطو، لكنهم لم يُعْجَبوا به ولا بشعر ‏أى شاعر إغريقى أو رومانى، ولعلهم خافوا على الجمهور من الرجوع للوثنية ‏تأثرا بما فى هذ الأشعار من كلام عن الآلهة والأرباب. وفى المقارنة بين أنشودة ‏رولان وسيرة عنترة يشير إلى ما تشبه الأولى به الثانية من امتلائها بالمبالغة ‏وتجسيم الحرب، مما جعل من رولان "عنترة زمانه" كما يقول. ومن الطريف ‏تصنيفه أبا العلاء المعرى ضمن الرومانسيين (الرومانيين بتعبيره)، والجاحظ بين ‏الكلاسيين (أو المدرسيين فى اصطلاحه)... وغير ذلك، وهو كثير.‏
    ‏ ولعل القارئ قد تنبه إلى تأكيد الخالدى معرفة العرب بشعر هوميروس، ‏وهو ما سقنا فى الفصل السابق بعض النصوص التراثية الدالة عليه، إلا أن قوله ‏إنهم لم يُعْجَبوا بشعره هو كلام يحتاج إلى توثيق وإلى تفصيل أكبر، إذ يبدو لى ‏أنهم لو كانوا اطلعوا على تلك الأشعار حق الاطلاع ولم تقتصر معرفتهم على ‏بعض معانيها الحِكْميّة كما رأينا فى موضع آخر من هذا الكتاب لكانوا عَرَضوا ‏لما فيها من وثنياتٍ وكفرٍ وانتقدوها وسَخِروا منها. ولعل القارئ لاحظ أيضا ‏تأكيد الخالدى خلوّ اللغات الأخرى من التشابيه والاستعارات والمحسِّنات ‏البديعية، وهو ما لا نتفق معه فيه، اللهم إلا فيما يخص المحسنات، التى لا نقول ‏مع ذلك إنها مزية تنفرد بها لغة الضاد، بل كل ما نستطيع أن نزعمه هو أنها ‏توائم لغتنا أكثر من سواها، وتكثر فيها كثرة لا تُضَاهَى. ‏
    وقد تكلم عن دور الخالدى ومكانته فى ميدانى النقد والأدب المقارن ‏عدد من النقاد ومؤرخى الأدب منهم د. عبد العزيز الدسوقى فى كتابه: ‏‏"تطور النقد العربى الحديث"، ود. عصام بهىّ فى كتابه: "طلائع المقارنة فى ‏الأدب العربى الحديث"، ود. حسام الخطيب فى كتابه: "آفاق الأدب المقارن ‏عربيا وعالميا"، ود. عز الدين المناصرة فى مقاله: "الرائد التاريخى للأدب ‏المقارن فى الوطن العربى" المنشور فى كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: ‏روحى الخالدى، إدوارد سعيد، عز الدين المناصرة، حسام الخطيب".‏
    ومن المحطات المهمة على طريق الدراسات المقارِنة عندنا فى العصر ‏الحديث أيضا تلك المقالاتُ التى كتبها فخرى أبو السعود فى مجلة"الرسالة" فى ‏ثلاثينات القرن الماضى (من سنة 1934م إلى سنة 1937م) فى المقارنة بين ‏الأدب العربى ونظيره الإنجليزى، إلا مقالين فقط: أحدهما فى المقارنة بين أدبنا ‏والأدب الغربى بإطلاق، والثانية بين أدبنا والأدب اليونانى. وكنت اطلعت على ‏تلك المقالات لأول مرة وأنا فى أوكسفورد فى أواخر السبعينات من ذلك القرن ‏أدرس للحصول على درجة الدكتورية فى النقد الأدبى، فكان علىّ أن أمسح ‏الصحف والمجلات المصرية على مدى قرن تقريبا حتى عام1980م، ‏فاصطدمت بتلك المقالات التى بدت لى غريبة وجريئة وطموحة، وبدا لى ‏أسلوب كاتبها قويا محكم الأسر رغم أنه متخصص فى اللغة الإنجليزية لا فى ‏الأدب العربى، وكان متزوجا من امرأة بريطانية ويمارس رياضة التنس فيما ‏أذكر، فهو إذن يعيش حياته عيشة عصرية، ثم اكتشفت أن له شعرا قويا يجمع ‏بين قوة الأسلوب القديم ومتانته وبين مضامين عصره. ولذلك حين ظهر الكتاب ‏الذى يضم هذه المقالات (وغيرها من مقالاته النقدية) فى مصر فى التسعينات ‏من القرن المنصرم سارعت إلى شرائه، وها هو ذا بين يدىّ الآن.‏
    والمقالات الخاصة بالأدب المقارن فى الكتاب المذكور تتجاوز الأربعين ‏مقالا. وهناك مقالات أخرى كثيرة لا تندرج تحت هذا البند، ولذلك لا أقف ‏عندها فى هذه الدراسة. وتجرى عناوين كل المقالات التى تقارن بين أدب ‏العرب القديم وأدب جون بول على النحو التالى: "الموضوع الفلانى بين الأدبين ‏العربى والإنجليزى"، وقد خصص صاحبها لكل موضوع من موضوعات المقارنة ‏مقالا مستقلا: فَذَا للخرافة بين الأدبين، وهذا للقصة فى الأدبين، وذاك للدِّين ‏فى الأدبين، وهذاك لأثر الترف فى الأدبين، وذلك للطير والحيوان فى ‏البلدين... إلخ. ولا شك أنه من الطموح الشديد، إن لم نقل: الجامح، أن ‏يحاول شاب فى الثلاثينات من عمره وغير متخصص فى أدب العرب المقارنةَ ‏بين الأدب العربى والأدب الإنجليزى على إطلاقهما على مدى قرون طوال، وفى ‏كل الموضوعات تقريبا. إن مثل هذا العمل ليحتاج إلى لجنة كبيرة، وربما لا ‏تستطيع مثل تلك اللجنة مع ذلك أن تنهض كما ينبغى بهذا العبء الفادح. بيد ‏أن لكل طموح شديد ثمنه وثغراته ونتائجه التى لا تخلو من الإساءة والتقصير، ‏وهو ما ينبغى أن يعزينا عما يمكن أن يقع فيه أبو السعود أو غيره من أخطاء ‏وتجاوزات. ثم إن الرجل لم يكن مجرد كاتب واغل، بل كان شاعرا كبيرا وقارئا ‏واسع الاطلاع وصاحب ذوق مرهف وحرص كبير على اللغة العربية مع ذلك ‏ووطنيا متأجج الوطنية يناصب الإنجليز الذين أصهر إليهم وتعلم فى بلادهم ‏العداء الجارف. ومثله يحسن أن نصغى إليه بكل آذاننا واثقين بأننا لا بد ‏خارجون فى النهاية بزاد نقدى وأدبى من الطراز الرفيع حتى لو كانت النتائج ‏التى ينتهى إليها (ولسوف تكون كذلك بكل تأكيد) لا توافقنا أو لا نوافق ‏عليها. ‏
    وقد كتب د. محمود على مكى، المتحمس للكاتب الشاب، فى المقدمة ‏التى مهد بها للكتاب المذكور أن أبو السعود فى مقالاته الثلاث الأولى "يصدر ‏أحكاما على الأدب العربى فيها كثير من القسوة، فهو يتهم الشعر العربى ‏بالتقصير فى فن التصوير، وإن كان يستثنى بعض النماذج مثل بعض أوصاف ‏امرئ القيس والمتنبى، ويَنْعَى على الأدب العربى قلة ما استفاده من الاحتكاك ‏بالأدب اليونانى، الأمر الذى جعله يخلو من الأنواع الأدبية كالملحمة والفن ‏المسرحى والأدب القصصى كله. وكلامه عن السلبيات يتسم بالتعميم، ‏فمقالاته هذه لا تبدو دراسات متعمقة، وإنما هى خواطر أرسلها إرسالا، ‏وكأنه كان يُعِدّ العُدّة فى هذه الأثناء لجمع مادة نقدية وفيرة هى التى كان ‏يستعد لطرحها بعد ذلك فى دراسات أكثر تفصيلا". وهو تقريبا نفس الحكم ‏الذى أصدره على سائر مقالاته التى تتجاوز الأربعين كما ذكرنا، إذ قال: "وفى ‏هذه المقالات عَرَض المؤلف لكثير من الموضوعات أبرز فيها وجوه الاختلاف ‏بين الأدبين. وهو فى كل هذه الموازنات يلح دائما على ما فى أدبنا من سلبيات ‏ووجوه نقص، فالأدب الإنجليزى هو الذى تَرْجَح كِفّته دائما، على حين تَشِيل ‏كِفّة أدبنا العربى، حتى إنه ليبلغ فى ذلك مبلغا لا يصل إليه بعض غلاة ‏المستشرقين ممن كانوا يَنْعَوْن على أدبنا ما ينسبونه إليه من فقر فى الفكر وضيق ‏فى الخيال واهتمام ببَهْرَج الألفاظ نأت بهم عن العناية بالمعانى والأخيلة".‏
    ومضى الأستاذ الدكتور يَعْرِض للعوامل التى رأى أبو السعود أنها هى ‏المسؤولة عن هذا الضعف المزعوم فى الأدب العربى، فأشار إلى اختلاف ‏الأصول العرقية بين الأمتين، إذ "العرب أمة ساميّة ترعرع أدبها تحت سماء ‏الصحراء، والإنجليز أمة آريّة شاركت فى تراث الإغريق والرومان"، وهى (كما ‏يقول الدكتور) "مقولة طالما رددها المستشرقون الغربيون من منطلق إيديولوجية ‏عنصرية استعمارية". ثم يطرح الدكتور مكى السؤال التالى: "هل لنا أن نتهم ‏فخرى أبو السعود صاحب هذه الأحكام القاسية على الأدب العربى وما ‏تطرق إليه من إدانة للنظام السياسى والاجتماعى للدولة العربية بعد صدر ‏الإسلام بالتبعية للمستشرقين فى مطاعنهم على الأدب العربى الذى كان مرآة ‏لحياة الأمة الاجتماعية والسياسية؟"، ليجيب بأن أحكام أبو السعود التى ‏تبدو جارحة مستفزة إنما تُفْهَم فى سياقها السياسى والاجتماعى حيث كانت ‏أوضاع البلاد آنذاك سيئة إلى حد بعيد، وهو ما دفع بُغَاة الإصلاح والتجديد ‏إلى مثل هذا اللون العنيف من النقد الذاتى (انظر مقدمة د. محمود على مكى ‏لكتاب فخرى أبو السعود: "فى الأدب المقارن ومقالات أخرى"/ سلسلة ‏‏"الألف كتاب الثانى"- العدد 278/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ القاهرة/ ‏‏1997م/ 17، 19، 21).‏
    سيقول بعض النقاد إنه ليست هناك صلة بين الأدبين، بل إن الكاتب ‏نفسه يعى هذا ويقوله ويكرره فى مقالاته، لكنى لا أرى بذلك بأسا على ‏الإطلاق كما سبق أن وضحت، إذ إنى لا أذهب مذهب من يشترط من ‏دارسى الأدب المقارن أن تكون هناك مثل تلك الصلات. والأستاذ الدكتور ‏كاتب المقدمة من المناصرين لهذا الرأى، إذ يقول إن المدرسة الفرنسية تنفى ‏هذه المقالات من دنيا الأدب المقارن، إلا أنها بمنطق المدرسة الأمريكية إذا ‏طُعِّمَتْ بالنزعة الإنسانية الحقيقية "تكتسب مشروعية كاملة فى انتمائها للأدب ‏المقارن" (المرجع السابق/ 24). وهنا نجد الدكتور عطية عامر يؤكد، ببساطةٍ ‏وثقةٍ وعن حَقٍّ، أن أبو السعود قد سبق بذلك أوستن وارن ورينيه ويليك ‏رائِدَىِ المدرسة الأمريكية أنفسهما (د. عطية عامر/ دراسات فى الأدب ‏المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ 78). ونضيف نحن أن كثيرا من ‏الكتابات المقارنة فى تراثنا العربى تنحو هذا المنحى فلا نجدها تهتم بالبحث ‏عن مثل تلك الصلات، بل تكتفى بعملية المقارنة دون أن تعنّى نفسها بشىء من ‏هذا. ذلك أن كل ما يهمها هو الإنجاز، أما التنظير والتصنيف فلم يكن من ‏هِجِّيراها.‏
    وإذا كان أبو السعود، كما لاحظ الدكتور مكى، قد قَصَر اهتمامَه فى ‏تلك المقالات على رصد أوجه التشابه والاختلاف مع تغليب الاهتمام بالجانب ‏الأخير (نفس الصفحة)، فإن هذا فى حد ذاته هدف عظيم، إذ من خلال ‏مثل هذا الرصد نستطيع أن ننظر إلى تراثنا الأدبى والنقدى بعين غير العين التى ‏ألفنا النظر بها إليه، وحينها تكون لدينا فرصة أفضل لرؤية مزاياه وعيوبه. ‏وحتى لو كانت النتائج التى يتوصل لها أبو السعود وسواه غير دقيقة أو ‏متسرعةً أو نيّئةً فإنها لكفيلة رغم هذا باستفزاز أذهاننا وعواطفنا ودفعنا ‏دفعا للتعمق فى دراسة هذا التراث وإعادة النظر فيه وبلوغ زواياه البعيدة ‏وخفاياه المظلمة المتربة التى لم يُنْفَض عنها الغبار منذ زمن طويل ومحاولة الطّبّ ‏لعيوب أدبنا والنهوض به وجعله قادرا على مساماة أعظم آداب العالم... ‏وهكذا. وبالمناسبة فأبو السعود، فيما رصد الباحثون، هو ثانى ناقد عربى ‏يستخدم مصطلح "الأدب المقارن". وكان ذلك فى سبتمبر 1936م بعد خليل ‏هنداوى الكاتب السورى الذى سبق رصيفه المصرى بنحو ثلاثة أشهر (د. ‏حسام الخطيب/ آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ دار الفكر المعاصر ‏ببيروت ودار الفكر بدمشق/ 1413هـ- 1992م/ 152- 158، ومقدمة د. ‏محمود على مكى لكتاب فخرى أبو السعود: "فى الأدب المقارن ومقالات ‏أخرى"/ 25)، وإن كان الأخير قد شفع هذا بتلك المقالات الكثيرة الشاملة ‏فى المقارنة بين الأدبين العربى والإنجليزى ماكثا فى هذه الدراسة أسابيع بعد ‏أسابيع، وهو ما لم يحدث مثيله فى حالة هنداوى، رحمة الله على الاثنين!‏
    ولسوف أقف قليلا عند مقال أبو السعود عن "الخرافة بين الأدبين العربى ‏والإنجليزى" (ص 84- 90) أتخذه شاهدا على ما قلته هنا. ورأيه أن حظ ‏أدبنا العربى من الخرافة مقارَنًا بأدب الإنجليز هو حظٌّ جِدّ ضئيل، وذلك رغم ‏إقراره بأن العرب فى الجاهلية، مَثَلُهم فى ذلك كمَثَل أية أمة أخرى فى طور ‏تخلفها وبدائيتها، كانت لهم خرافاتهم وأساطيرهم. إلا أنه سرعان ما يضيف ‏قائلا إن الإسلام، بحثّه المسلمين على استعمال العقل وحملته الشديدة على ‏أساطير الأولين وتحريمه الخمر وعمله على أن يكون الذهن المسلم صاحيا ‏مشرقا دائما، قد ساعد على وأد النزعة الخرافية عند العرب والمسلمين، ‏بخلاف الوضع عند الإنجليز، الذين لم ينبذوا خرافاتهم وأساطيرهم بعد انتقالهم ‏من حياتهم المتخلفة إلى طور العلم والتفكير المنهجى، بل أضافوا إليها فى ‏آدابهم خرافاتٍ أخرى استحدثوها، فضلا عما استعاروه من أدب الإغريق ‏واللاتين من أساطير حمّلوها ما يريدون بَثّه فى إبداعاتهم الأدبية من مضامينَ ‏ورُؤًى. وعلاوة على ذلك فإن الطبيعة الصاحية الضاحية فى بلاد العرب لا ‏تعين على خلق الخرافات والأساطير، على عكس الحال فى بلاد الإنجليز حيث ‏الغابات والجبال والضباب مما يشاكل عالم الخرافات والأوهام بظلامه وخفاياه.‏
    ‏ والواقع أن ما يقوله أبو السعود يحتاج إلى إعادة نظر، إذ الميل إلى الخرافة ‏جزء أصيل من تركيبة فطرتنا البشرية سرعان ما ينشط إذا توفرت دواعيه، ‏وإلا فكيف كانت تشيع فى طفولتنا قبل أن يغزو النور ليل قرانا الحالك تلك ‏‏"الحواديت" المرعبة عن العفاريت والجانّ والندّاهة، والوحش الذى يتربص ‏بالأطفال فى الجبّان ويلتهم من يسوقه قدره العاثر هناك ليلا، والقِرْبة التى ‏تتدحرج فى الأزقة المظلمة وهى تئنّ وتتحرش بك وتحاول إيذاءك، والأرانب ‏التى تقابلك فى حارات القرية فى هزيع الليل المتأخر، وأنت عائد وحدك ‏للبيت، وقد نام الناس منذ وقت طويل، فتعبّئها فى حِجْرك وأنت فرح سعيد ‏بهذا الرزق الذى ساقه الله إليك على غير تعب منك ولا انتظار، لتفاجَأ بعد ‏وصولك إلى بيتك أن حِجْرك فارغ ليس فيه أرانب ولا يحزنون، وكذلك الحمار ‏الذى يقابلك بذات الطريقة فلا تجد مندوحة من ركوبه وسَوْقه إلى دارك، ‏لكنك تجد نفسك بغتة محمولا على ظهره مُصَعِّدًا فى الفضاء، لولا المِسَلّة التى ‏يتصادف أن تكون فى جيبك لأنك (أو "لأنى أنا"، حتى لا تغضب) تشتغل ‏بصناعة القُفَف والغُلْقَان، والتى تخرجها فى الحال وتغرزها فى جنبه فيئنّ ‏ويتطامن وينزلك إلى الأرض لتطلقه تخلصا من شره فيعدو متباعدا عنك وهو ‏يحييك من مؤخرته بضُراطه الهازئ؟ ومعروف أن قرانا لا غابات فيها ولا ‏جبال ولا ضَباب ولا هباب، لكن كان فيها الظلام الدامس والجهل الفاحش ‏والفراغ الطويل الذى لا بد من قضائه ليلا على أى حال فى حكاية "الحواديت" ‏وأخبار العفاريت من كل لون وجنس وتخصص، إذ لم تكن هناك مِرْناءاتٌ ‏تُشَاهَد ولا مَذَايِيعُ تُسْمَع ولا كتبٌ تُطَالَع ولا صحفٌ تُقْرَأ، لأن الأمية كانت ‏فاشية!‏
    ثم إن لدينا على سبيل التمثيل "رسالة التوابع والزوابع" و"رسالة حى بن ‏يقظان" و"قصة النمر الثعلب" وغيرها من قصص الحيوان، كما أن فى أدبنا غير ‏الرسمى ما يسمى بــ"السير الشعبية" و"ألف ليلة وليلة" مثلا، وكلها من الخيال ‏الخرافى فى الذروة، وهو نفسه يُقِرّ بها، علاوة على ما فعله بعض روائيينا فى ‏العصر الحديث حين استلهموا قصص العرب التى تختلط فيها الوقائع التاريخية ‏بأوهام الخرافات وأخرجوا منها إبداعا ذا نكهة جديدة. أما دعواه بحملة ‏القرآن الشديدة على "أساطير الأولين" فلا أدرى من أن أتى بها، إذ الكفار هم ‏الذين كانوا يَقْرِفون القرآن بأنه هو تلك الأساطير لا العكس، مع ملاحظة أن ‏كلمة "أساطير" هنا إنما تعنى أساسا ما "سَطّره" القدماء فى كتبهم وجاء ‏الرسول حسب زعم الكافرين وردده فى القرآن بوصفه وحيًا من السماء، فهى ‏‏"أُسْطُورة" على وزن "أُفْعُولة" بمعنى "مفعولة". حتى علماء الدين الذين هم ‏مظنّة الانصياع الشديد لأوامر الدين لا تخلو كتاباتهم من الخرافات والأساطير، ‏ومن ذلك ما يقوله بعض المفسرين مثلا عن "نون" فى أول سورة "القلم" من أنها ‏لقب حوت اسمه "بهموت" يحمل الأرض على ظهره... إلخ، أو ما قاله ‏القرطبى عن الساحر الذى كان على أيام الأمويين وكان يدخل من دبر الحمار ‏ويخرج من فمه، والحكم الشرعى فى عقوبة أمثاله من السَّحَرة... وهلم جرا ‏‏(انظر كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ‏ومذاهبه/ دار الفكر العربى/ 1421هـ- 2000م/ 313- 316).‏
    أما فى المحطة التالية فسنتوقف عند الكاتب السورى قسطاكى ‏الحمصى، الذى أفسح فى الجزء الثالث من كتابه: "منهل الوُرّاد فى علم ‏الانتقاد" (وهو الجزء الصادر عام 1937م) فصلا كبيرا مكونا من مائة صفحة ‏تقريبا، هو آخر فصول الكتاب، وعنوانه: "بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران، ‏وبين أبى العلاء المعرّى ودانتى شاعر الطليان"، تناول فيه تأثر دانتى إليجيرى ‏بـــ"رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرى، التى يرى أن الشاعر الإيطالى قد اطّلع ‏عليها، إذ لا بد أن تكون قد تُرْجِمَت مع ما تُرْجِم من آثار العرب والمسلمين إلى ‏اللاتينية، إن لم يكن قد قرأها فى لغتها الأصلية فى قرطبة. ‏ولكى يدلل على رأيه نراه يلخص كتاب المعرى مركزا على ما فيه من ‏روعة وخيال عبقرى، كما يلخص أيضا الملحمة الدانتيّة رادًّا كل شىء فيها ‏تقريبا إلى "رسالة الغفران"، ومؤكدا أن صاحبها قد سرق عمل أبى العلاء، وليس له فيها من شىء أصيل، فقد أخذ الفكرة والخيال من المعرى، ‏لكنه لم يصل مع ذلك إلى الشأو الذى بلغه شاعرنا المسلم ولا استطاع إنتاج ‏عمل متماسك، وإن لم يمنع هذا من استعانته ببعض آيات الكتاب المقدس ‏ومعتقدات اليونان وأساطيرهم وعادات قومه وأمثالهم وحوادث السياسة فى ‏بلاده حينذاك، فضلا عما أخذه من أوصاف الجحيم كما وردت فى الروايات ‏التى كانت شائعة عندهم فى ذلك الوقت عن صعود بعض القديسين فى العهود ‏الأولى للنصرانية إلى السماء أو هبوطهم إلى جهنم حسبما ذكر بعض من كتبوا ‏عن عمله، رغم أن الحمصى يرى هذا الوصف أردأ جوانب ذلك العمل، إذ ‏ليس فيه من الإبداع شىء حسب رأيه، فهو لا يزيد عن أن يكون كلاما مبتذَلا ‏مما يردده العجائز والعوام. ‏
    ومن هنا كان وصفه للكوميديا الإلهية بأنها لا تزيد عن أن تكون ‏مجموعة مفككة من الحوادث أو كشكولا صغيرا يحتوى على عدد من أسماء ‏المشاهير والمجاهيل، وليست ذلك العمل العبقرى الذى يفاخر به الغربيون على ‏بكرة أبيهم عادّين صاحبه ثالث شعراء الدنيا، فى الوقت الذى يغضّون فيه من ‏قدر الشعر العربى ولا يلتفتون إليه عادةً لَدُن الكلام عن الشعر والشعراء. ‏وبالمناسبة فقد حَمَل الحمصى على دانتى وشَدَّد النَّكِير عليه بسبب تهوره فى ‏الإلقاء "بكل من يمر فى باله أو تحت رأس قلمه من مخالفيه فى الرأى أو فى ‏الدين" فى الجحيم، "حتى إنه يقذف بنبىٍّ دعا الوثنيين وهداهم إلى عبادة إله ‏دانتى نفسه، وليست دعواه النبوة دون دعاوى سواه من الأنبياء الوافرى ‏العدد". وواضحٌ مَنْ هو النبى الذى تصوَّر دانتى الغبىّ أنّ بمقدوره الإساءة ‏إليه، غافلا عن أنه بذلك إنما أهان نفسه ولم يهنه صلى الله عليه وسلم (انظر ‏الفصل المذكور فى كتاب "منهل الوراد فى علم الانتقاد"/ تحرير وتقديم د. ‏أحمد إبراهيم الهوارى/ المجلس الأعلى للثقافة فى مصر/ 1999م/ 471 ‏فصاعدا، وبخاصة ص 479، 483، 487، 494، 502، 513، 517، ‏وكذلك ص 30- 34 من مقدمة المحرر).‏
    ‏ هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن الحمصى، حين قام بالمقارنة بين عَمَلَىِ ‏المعرى ودانتى، إنما كان ينطلق مما كان يُعْرَف عند نقادنا القدماء بــ"الموازنة" ‏الشعرية، لا مما كان الغرب قد عرفه آنذاك بــ"الأدب المقارن"، وهذا واضح فى ‏أنه قد كتب الفصل الذى نحن إزاءه على نحوٍ يُومِئ بأنه امتداد لما كان عَقَدَه، ‏فى آخر الجزء الأول (ابتداء من ص 345) وطوال الجزء الثانى من كتابه ذى ‏الأجزاء الثلاثة، من "موازنات" بين قصائدَ لشعراءَ عربٍ فى أغراض الشعر ‏المختلفة. بل لقد أعطى أيضا الفصل الذى كَسَره على هذه المقارنة عنوان ‏‏"الموازنة بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران وبين أبى العلاء المعرى ودانتى ‏شاعر الطليان". فكأنه كان يرى أن ما يقوم به فى المقارنة بين المعرى ودانتى لا ‏يزيد عن أية موازنة ينشئها بين شاعرين عربيين، كل ما هنالك أنه قد مد آفاق ‏الموازنة لتتسع لشعراء من غير العرب فى مواجهة شعرائنا. إلا أنه، كما رأينا، ‏كان حريصا على أن يثبت اطّلاع دانتى على "رسالة الغفران" بحيث تكون ‏المشابهة بين العملين سرقة لا مجرد تشابه قائم على المصادفة. والواقع أن ‏الدراسة التى وضعها مؤلفنا فى هذا الموضوع هى دراسة مفصلة فى المقارنة ‏التطبيقية، ولعله لم يسبقه أحد فى وضع مثل هذه المقارنة طولا وتطبيقا ‏وتحليلا واستقلالا فى الرأى والاستنتاج، وإلا فقد سبقه إلى تناول الشبه بين ‏العملين دون تفصيلٍ عددٌ من الكتاب العرب منهم عبد الرحيم أحمد وروحى ‏الخالدى وسليمان البستانى وجرجى زيدان.‏
    ‏ وقد تناول هذه النقطة الكاتب السودانى أحمد محمد البدوى فى مقال ‏له بالمشباك على الرابط التالى: "‏www.nizwa.com/volume22/p221‎‏" ‏بعنوان: "سياق معركة رسالة الغفران والمعرى"، ومن ذلك قوله: "في عام ‏‏1897م انعقد مؤتمر المستشرقين في باريس، وحضره باحث عربي يدعى عبد ‏الرحيم أحمد صمتت المراجع من بَعْدُ عن الاحتفال بسيرته وإسهامه العلمي، ‏على الأقل فيما يتصل بهذه القضية الحيوية. وكنا نعرف أنه قدم بحثا في ذلك ‏المؤتمر عنوانه "لمحة عن أبي العلاء وآثاره"، وقد حفظ لنا مرجعٌ "مهمٌّ" نصًّا من ‏ذلك البحث حيث قال: عبد الرحيم أحمد اطلع على رسالة الغفران لأبي ‏العلاء المعري، وهي مخطوطة يومئذ لأن طبعها لم يَتَسَنَّ إلا من بعد ذلك ‏بسنوات، وفي عام 1902م على وجه التحديد، ثم وصفها وقارنها بكوميديا ‏دانتي فقال: "إنها مؤلف ثلاثي يشبه تقريبا مؤلف دانتي. أقول: تقريبا، لأنه لا ‏يختلف عنه إلا بروح النقد، ذلك أن سياق الأثر وهدفه متفقان". هذه أول ‏إشارة إلى مسألة الأثر والتأثير. وفي عام 1902 تنشر مجلة "الهلال" في القاهرة ‏سلسلة مقالات تحت عنوان "علم الأدب عند الإفرنج والعرب" بقلم "كاتب ‏فاضل" ضمَّها من بَعْدُ كتابٌ يحمل العنوان نفسه. "كاتب فاضل" سنعرف من ‏بعد أنه الكاتب الفلسطيني روحى الخالدى 1864-1913. وفي إحدى تلك ‏الحلقات يقول روحى الخالدى: "الكوميديا الإلهية أو المضحكة الإلهية أشبه ‏برسالة الغفران التي حررها المعري قبل تأليف الكوميديا بأكثر من قرنين". ومن ‏بعد روحي يأتي باحثان مشهوران ومتميزان: أولهما سليمان البستاني الذي ‏ترجم "إلياذة" هوميروس من اليونانية القديمة إلى اللغة العربية ترجمة ضافية، ‏وصدَّرها بدراسة متعقمة ومجوَّدة جعلها مقدمة لها، وطبعها أول مرة عام ‏‏1904، جاء فيها: "وإنّ من أحسن ملاحم المولدين ملحمة نثرية جمع فيها ‏صاحبها شتيت المعاني، وأوغل في التصور حتى سبق دانتي الشاعر الإيطالي ‏ومِلْتُن الإنجليزي الى بعض تخيلاتهما، ألا وهي رسالة الغفران لأبي العلاء ‏المعري". وثانيهما جرجي زيدان، صاحب دار الهلال الذي نشر عام 1907 ‏مقالا في مجلة "الهلال" دون أن يَعْزُوَه إلى نفسه صراحة، ثم ظهر المقال نفسه من ‏بَعْدُ ضمن كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" المنسوب صراحة إلى مؤلفه جرجي ‏زيدان، وقد جاء فيه : "إن ما صنعه المعري في رسالة الغفران يشبه ما كتبه ‏أعظم شعراء الطليان في روايته المسماة: "الرواية الالهية". ويشبه ذلك ما كتبه ‏مِلْتُن الشاعر الإنجليزي في روايته "ضياع الفردوس واسترجاعه"، ولكن هذين ‏الشاعرين متأخران في الزمان عن أبي العلاء، فإن دانتي تُوُفِّيَ سنة 1321م ‏‏(نحو740هـ)، وأبو العلاء تُوُفِّيَ 449هـ، فهو قبل دانتي بنحو 300 سنة، فلا ‏بِدْع إن قلنا إنهما اقتبسا هذا الأسلوب عن شاعرنا المعري". إن كل من تناولوا ‏القضية لم يفيضوا في تناول أمر التأثير والتأثر مفصَّلا، وإنما اكتفَوْا بالكلمة الجامعة ‏واللمحة الدالة".‏
    على أن المقارنة الأدبية فى كتاب الحمصى لا تقتصر على ما سطره فى ‏موضوع "الكوميديا الإلهية" ومشابهتها لــ"رسالة الغفران"، بل تعدت ذلك إلى ‏فن الروايات، إذ يقول إن معرفة العرب به لا تتجاوز "كليلة ودمنة"، الذى ‏ينحصر مراده فى الوعظ والنصح، أو"مقامات" الحريرى، التى تخلو من تحليل ‏أدب النفس أو تصوير عادات القوم آنذاك إلا قليلا جدا، أو"ألف ليلة وليلة"، ‏التى ينبغى إبعادها عن البيوت والأيدى لما فيها من فحش وتحسين للرذيلة، ‏بعكس الأوربيين الذين يتولى هذا الفن منهم "جماعة من بلغاء كتابهم عرفوا ما ‏فيه من فسيح المجال لسوابق الأفكار، ومن بعيد المدى لتصوير الأحداث ‏النفسانية والأهواء الإنسانية وما يتبطن ذلك من البحث عن العلل والأسباب، ‏وما ينبعث عنها من دراسة الطباع البشرية". وكان مبتدأ ذلك بداية القرن ‏التاسع عشر، وبلغ من تقدم هذا الفن لديهم أن "يختار كل كاتب منهم الفن ‏‏(القصصى) الذى يرى نفسه إليه أميل، وتبحُّره فيه أوفر، فيؤلف روايته ويجعل ‏نتيجة بحثه فيها الموضوع الذى توجَّه إليه تفتيشه وعلمه وخصّص له اجتهاده، ‏لا يقف فى سبيل ذلك تعدد شخوص الرواية أو قلتهم أو اختلاف الحكاية التى ‏يبنى عليها الموضوع أو غير ذلك، إذ على المؤلف أن يَرْتق الفتق وأن يصل ‏المقطوع" (ص 381- 382). ‏
    ويبدو أن مصطلح "الروايات" عند المؤلف يشمل كذلك المسرحيات ‏حسبما يكشف كلامه فى الباب الرابع من الجزء الثالث والأخير من كتابه ‏‏(وعنوانه "فى مادة فن الروايات")، فإن يكن كذلك فلا ريب أن العرب لم يعرفوا ‏فن المسرحية كما هو معلوم. أما القصص الطويل والقصير فإنهم قد عرفوه، وإن ‏كان فنهم يختلف عن فن الأوربيين فى العصر الحديث كما تقضى بذلك سنة ‏التطور واختلاف البيئات. وقد ذكر كاتبنا من بين الأسباب التى رآها مسؤولة ‏عن تخلف الفن الروائى فى تراثنا الأدبى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء ‏عند العرب قديما، هذا الاختلاط الذى يتيح للأديب أعظم فرص المراقبة ‏للنفوس والتصرفات، مما تقوم عليه الكتابة الروائية حسبما يؤكد (ص 387- ‏‏393)، وهو ما نخالفه فيه بكل قوة، وإلا فكيف كتب العرب "ألف ليلة وليلة"، ‏وكثير من قصصها يدور حول الحب والشهوات والمرأة وعلاقتها بالرجال؟ أو ‏كيف نَظَموا الأشعار فى نفس هذه الموضوعات وضمنوها القصص العاطفية ‏والجنسية؟ كذلك وجدت للحمصى فقرة يقارن فيها بين الشعر الملحمى لدى ‏الإغريق والرومان وبين الشعر الغنائى عند العرب القدماء، وينتصر للشعر ‏الملحمى، إذ هو شعر لا يستهلك صاحبُه نفسَه فى حكاية قصة غرامية أو ‏ندب طلل داثر أو شكوى زمان جائر وشِبْه ذلك من الموضوعات الطارئة التى ‏سرعان ما تُوَلِّى وينقضى الاهتمام بها، بل يستثمر قريحته فى تناول تاريخ الأمة ‏ووصف البلاد وما يسودها من عادات وأخلاق وما تستهلكه من ملابس ‏ومطاعم وما لها من أفراح وأتراح وما خاضته من حروب وملاحم وغير هذا ‏مما يقدم للقارئ دنيا حية متكاملة (ص 425). لكنه يستثنى المتنبى، مؤكدًا أنه ‏لو جُمِع شعره فى سيف الدولة ونُسِّق بعضه مع بعض لكان بحق "ملحمة ‏العرب"، وإن افترقت هذه الملحمة عن ملاحم الأمم الأوربية بأنها ستكون فى ‏مَلِك واحد وزمن قصير (ص 427). وهذا كله كلام فى الدراسات المقارِنة ‏من الصميم موضوعُه المقارنةُ بين الأجناس الأدبية عند أمّتين مختلفتين أو أكثر، ‏وهو باب من أبواب الأدب المقارن.‏
    ولعل كتاب "التوجيه الأدبى" الذى وضعه طه حسين وأحمد أمين وعبد ‏الوهاب عزام ومحمد عوض محمد لطلبة السنة الأخيرة بالمرحلة الثانوية فى أول ‏الأربعينات بمصر هو أول كتاب مدرسى يعرض لموضوعات الأدب المقارن ‏بشىء من التفصيل، إذ خصص مؤلفوه فصوله الثلاثة الأخيرة لدراسة ‏الموضوعات التالية: "الآداب الأجنبية التى اتصلت بالأدب العربى" و"أثر الأدب ‏العربى فى الأدب الأوربى الحديث" و"كيف اتصل الأدب الأوربى بأدباء العرب ‏المحدثين وأثّر فى أدبهم شعرا ونثرا؟" (انظر "التوجيه الأدبى"/ مطبعة لجنة ‏التأليف والترجمة والنشر"/ القاهرة/ 1359هــ- 1940م/ 284- 327). ‏ويبدو أن كاتب هذه الفصول هو د. أحمد أمين كما يظهر من اللغة وطريقة ‏التناول.‏
    وفى هذه الصفحات التى تنوف على الأربعين يجرى كاتبها على العرض ‏التاريخى والتوثيقى لما يشير إليه من التأثيرات كلما واتاه الدليل وأسعفته ‏النصوص، فيذكر الأسماء ويحدد التواريخ ما استطاع إلى التحديد سبيلا، ويضع ‏يده على مظاهر التأثير والتأثر، مبرزًا (على قدر ما يستطيع) العوامل التى ‏كانت وراء ذلك برغم ضيق المجال المخصص فى الكتاب لمعالجة مثل هذه ‏الموضوعات. والكاتب هنا أقرب للمدرسة الفرنسية بوجه عام فى الدراسات ‏المقارنة، تلك المدرسة التى لا تكتفى برصد جوانب التشابه بين الآثار الأدبية ‏فى الآداب المختلفة، بل تشترط أن تكون هناك مسالك معروفة للاتصال بين ‏تلك الآثار الإبداعية. ومع ذلك فإننا نقرأ فى مواضع أخرى من تلك الصفحات ‏ما يفيد أن الدليل على ما يرجحه الباحث من وقوع التأثير الفلانى أو قيام ‏الصلة العلانية غير متاح، غير أنه لا يجد فى هذا ما يمنعه من المضى فى ‏البحث ولا تقديم النتائج التى يرجّحها بناء على شواهد الحال حتى لو لم ‏تسعفه النصوص والوثائق. وهو فى هذه الحالة الثانية أقرب ما يكون إلى ما ‏يسمى بــ"المدرسة الأمريكية"، حيث لا يُشْتَرَط قيام اتصال بين الأدبين أو ‏الأثرين اللذين نبتغى إخضاعهما للدراسة المقارنة.‏
    يقول الكاتب بعد أن مهد لكلامه بالحديث عن صعوبة العثور على ما ‏يؤكد تأثر الأدب الأوربى الحديث بأدبنا القديم بسبب ضياع الوثائق وتعصب ‏الباحثين الأوربيين ضد الفكر والأدب العربى: "ولئن كان من الصعب علينا ‏اليوم أن نرسم صورة كاملة لأثر الحضارة العربية فى الثقافة الأوربية الحديثة فى ‏ميدان العلم والفلسفة والفنون فإن إيضاح أثر الأدب العربى منظومه ومنثوره فى ‏الآداب الإفرنجية أشقّ وأعسر. ويرجع هذا إلى أن العلوم والمعارف كانت تنتقل ‏بالتأليف والترجمة، وكثير من المؤلفات العربية قد وصلت إلينا ترجمتها ‏اللاتينية. وكذلك لا يستطيع أحد أن ينكر أثر الفنون والصناعات العربية التى ‏تظهر بوضوح فى المقارنة مثلا بين آثار العمارة العربية ونظائرها فى الأقطار ‏الغربية. ولئن جاز لإنسان أن ينكر أثر العرب فى الموسيقى الأوربية فلا بد من ‏الاعتراف بأن بعض الآلات الموسيقية التى شاع استعمالها قد أُخِذَتْ عن ‏العرب، وبعضها مثل العود لا يزال يسمى باسمه العربى فى جميع اللغات ‏الأوربية: "‏The lute‏".‏
    أما فى الأدب فتعوزنا هذه الآثار المادية الملموسة إذا أردنا أن نبحث ‏عن أثر الأدب العربى فى الآداب الأوربية لأن ترجمة الآثار العلمية فى العلم ‏والفلسفة قد لقيت إقبالا شديدا وتعضيدا كبيرا هيهات أن تظفر بمثله الآثار ‏الأدبية، فإن عامل المنفعة والفائدة العملية كان قويا فى الأولى، ضعيفا فى ‏الثانية. وبعض الباحثين قد اضْطُرّ لأن يفترض أن بعض الآثار الأدبية لا بد أن ‏يكون قد تُرْجِم أيضا إلى اللاتينية أو إلى بعض اللغات الشعبية، ولكن ليس فى ‏أيدينا اليوم دليل على هذا. ولذلك فإن الباحث عن أثر الأدب العربى فى ‏الأدب الإفرنجى يتبع فى بحثه طريقة أخرى، وهى طريقة المقارنة والمضاهاة بين ‏الأدبين وملاحظة وجوه التشابه التى لا يجوز أن تجىء عفوا.‏
    فالباحث الذى يرى تشابها دقيقا بين أشعار دانتى وبعض مؤلفات ‏المعرى مضطر لأن يفترض أن بعض آثار المعرى قد تُرْجِم إلى اللاتينية أو ‏الإيطالية، وإن لم نعثر على تلك الترجمة بعد. كذلك الباحث الذى يرى أن ‏استخدام القافية فى الشعر قد انتقل إلى أوربا بواسطة العرب قد تُعْوِزه الأدلة ‏المادية على تأييد هذه النظرية، ولكنه مضطر لأن يرجّح أن للأدب العربى شأنا ‏كبيرا فى مثل هذا التطور لأن الآداب الأوربية القديمة، وعلى الأخص الأدب ‏اليونانى واللاتينى الواسع الانتشار كانا خاليين من القافية. ونحن نلحظ أن ‏القافية تأتى سهلة طيّعة فى الشعر العربى، ولا تأتى بنفس السهولة فى اللغات ‏الإفرنجية. فمن المعقول أن يكون ظهورها فى العصور الوسطى الأوربية نتيجة ‏للمؤثرات الأدبية العربية" (ص 311- 313). ‏
    وتطبيقًا لهذا الكلام يضرب الكاتب أمثلة من التأثر والتأثير بين الأدب ‏العربى وغيره من الآداب فى القديم والحديث، منها ما تركه أدبنا من آثار على ‏الأدب الفارسى، وما تركته الآداب الأوربية فى أدبنا الحديث. فعن الأدب ‏الفارسى نراه يقول: "كانت العربية وحدها لغة الدواوين المالية، فقد بقيت ‏بالفارسية إلى زمان عبد الملك بن مروان... وصارت العربية وحدها لغة ‏الدين والعلم والأدب إلى أواخر القرن الثالث الهجرى حينما ظهرت مقدمات ‏الأدب الفارسى الإسلامى وشرع الشعراء يمدحون ملوك إيران بالفارسية، ‏وشرع الأمراء يُعْنَوْن بترجمة الكتب العربية إلى لغتهم. فلما ظهر الأدب الفارسى ‏الحديث ظهر أدبا إسلاميا يحتذى الأدب العربى فى موضوعاته وأساليبه، ‏وكُتِب بالحروف العربية لا الفهلوية، واستعار من العربية ألفاظا كثيرة...‏
    تناول الشعر الفارسى موضوعات الشعر العربى من المدح والهجاء ‏والغزل والوصف، وامتاز بموضوعين عظيمين: القصص والتصوف. فأما ‏القَصَص فقد أُغْرِم به شعراء الفرس فى كل عصر، فنظموا قصصا دينية ‏كيوسف وزليخا، وقصصا عربية كقصة ليلى والمجنون، وقصصا فارسية كقصة ‏خسرو وشيرين، ونظموا كثيرا من وقائع التاريخ الإيرانى وأساطيره... وأما ‏الشعر الصوفى فقد بلغوا فيه الغاية ونَظَموا فيه منظومات قصيرة وطويلة حتى ‏نظم فريد الدين العطار زهاء أربعين منظومة فيها عشرات الآلاف من ‏الأبيات... وأما ألفاظ الشعر الفارسى ففيها كثير من الألفاظ العربية. ‏و"الشاهنامه"، التى تُعَدّ أقل المنظومات ألفاظا عربية حتى قيل إن ناظمها ‏تعمّد ألا يُدْخِل فيها لفظا عربيا، تشتمل على كثير من الكلمات العربية... ‏وأما الوزن فقد حاكَوْا فيه الأوزان العربية وسَمَّوْها بأسمائها وأخذوا ‏اصطلاحات العروض كلها... وأما النثر الفارسى فأثر العربية فيه أبين من ‏الشعر، والألفاظ العربية فيه أكثر، وقد تُسَاوِى الألفاظ العربية الألفاظ ‏الفارسية حينا وتَكْثُرها حينا، ونثر الرسائل والمقامات أقل ألفاظا عربية من ‏نثر الكتب التاريخية. ويكثر فى هذا وذاك آيات وأحاديث وأمثال وأبيات ‏عربية، وقد طُبِّقَتْ قوانين البلاغة العربية والمحسنات البديعية على الشعر والنثر ‏الفارسى، وأخذت الاصطلاحات كلها... وأما السجع والمحسنات اللفظية ‏والمعنوية فتتشابه فيها الكتابة الفارسية والكتابة العربية فى مختلف العصور" ‏‏(ص 294- 299).‏
    أما بالنسبة لكلامه عن تأثير الأدب الأوربى فى أدبنا الحديث فنقتبس ‏هذه السطور التى تتحدث عن تصارع النزعتين التراثية والتجديدية فيه: "هاتان ‏الحركتان تتقاربان وتمتزجان وتؤثر كل منهما فى الأخرى أثرا كبيرا أحيانا، ‏وضعيفا أحيانا، ويكاد يكون هذا الامتزاج ظاهرا فى كل تعليم وكل نتاج ‏أدبى: فالذين تثقفوا ثقافة أجنبية واسعة عميقة إذا أنتجوا إنتاجا عربيا ‏استخدموا اللغة العربية، وهى عنصر عربى، وكثيرا ما يكتبون فى موضوعات ‏مصرية أو شرقية حتى يكون لنَتَاجهم قيمة ذاتية. كما تأثروا بالآداب الأجنبية ‏فى طريقة العرض وطريقة الفن... ولكل من الثقافتين الأجنبية والعربية مِزاجٌ ‏خاص وطابَعٌ خاص، فمزاجُ الثقافاتِ الأجنبيةِ الحريّةُ أمام المشاكل الاجتماعية ‏والسياسية، وطبيعتها وثّابة تُعْنَى بالحياة الواقعية وتجارى الزمن وتنظر ‏للمستقبل. ومِزاجُ الثقافةِ العربيةِ القديمةِ المحافَظَةُ فى الاجتماع وفى السياسة، ‏وطبيعتها هادئة تُعْنَى بالماضى أكثر مما تُعْنَى بالمستقبل...‏
    فالشعر القديم كان مناسبا للذوق القديم، فلما تطور ذوق الأمة رأى ‏أمامه شيئين مختلفين تمام الاختلاف، وكلاهما غير مناسب لذوق الجيل الحاضر: ‏فأما أحد الشِّعْرين فشِعْرٌ على النمط القديم فى أوزانه وقوافيه وأغراضه ‏ومعانيه، وهذا لم يَعُدْ غذاء كافيا لأن ذوق الأمة اجتاز هذا الطَّوْر. وشِعْرٌ ‏أَمْعَن فى تقليد الشعر الإفرنجى فى معانيه وأسلوبه وصوره وأخيلته فجاء نابيا ‏عن الذوق الشرقى، ولم تعجبه صياغته ولا أَلِفَ تعبيراته كـ"الشاطئ المجهول" ‏و"مقابر الفجر" ونحو ذلك... وهذا السبب الذى دعا إلى تأخر الشعر هو ‏بعينه الذى دعا إلى نجاح النثر، وبخاصة فى بعض نواحيه كالمقالة، فالكتّاب ‏استطاعوا أن يتحرروا من كثير من قيود الماضى كالإغراق فى المحسنات ‏اللفظية والسجع ونحو ذلك، واقتبسوا من الغربيين محاسنهم كالتحليل الدقيق ‏والبساطة فى التعبير، وتَمَشَّوْا فى تعبيرهم وموضوعاتهم مع رقىّ عقلية ‏المثقفين، فنجحوا حيث لم ينجح الشاعر... على أن النثر الجديد لم يكن كله ‏وليد الحركة الأجنبية، بل كان وليد الحركتين معا: فأساليب قادة الكتّاب نَتَاج ‏مطالعات فى كتب الأقدمين ومطالعات فى كتب الغربيين، ولكنهم نجحوا فى ‏التخير ومقدار التحرر. قرأوا ابن المقفَّع و"الأغانى" وأمثالهما وانطبعت فى ‏أذهانهم صور الأساليب الرائعة، ثم قرأوا الأدب الغربى فتشبعوا بموضوعاته ‏وأساليبه أيضا، واشتقوا منهما نمطا جديدا لا شرقيا خالصا ولا غربيا ‏خالصا، بل هو شرقى غربى معا، وهذا هو السرّ فى نجاحه... وكان من ‏أوضح أثر الحركة الأجنبية فى الأدب العربى الحديث القصص والتمثيل" (ص ‏‏321- 326).‏
    ‏ وقبل أن أغادر هذه النقطة لا بد من أكرر القول بأن القَصَص ليس ‏شيئا جديدا على أدبنا الحديث على عكس ما يقول الكاتب، فقد كان ‏قدماؤنا يمارسونه ويبدعون فيه، وكل ما هنالك أنه قد تطور كما تطور الشعر. ‏وكما لا نقول بأن الشعر فنٌّ حادثٌ فى أدبنا الجديد، فكذلك لا ينبغى أن ‏ندَّعى هذه الدعوى بالنسبة للفن القصصى. وأما المسرح فهو فعلا فن دخيل ‏على أدبنا، إذ لم يعرف العرب من قبل إلا بعض حوارات ومشاهد تمثيلية ‏ساذجة لا تُسَمَّى مسرحا.‏
    ‏ ولعل أول كتاب جامعى فى الأدب المقارن فى الوطن العربى هو كتاب ‏د. إبراهيم سلامة: "تيارات أدبية بين الشرق والغرب- خطة ودراسة فى ‏الأدب المقارن"، الذى صدر فى العام الجامعى 1951- 1952م. وكان ‏الأستاذ الدكتور قد عُهِد إليه تدريس هذه المادة فى كلية دار العلوم قبل ذلك ‏بنحو خمس سنوات، وكانت هى الكلية الوحيدة فى مصر التى أدخلت هذا ‏المقرر فى مرحلة الليسانس آنذاك، فكان إبراهيم سلامة يحاضر الطلاب دون ‏أن يكون هناك كتاب يرجعون إليه لاستذكار المادة، إلى أن حدث ما بعث ‏الأستاذ الدكتور إلى وضع هذا الكتاب. وقد أخبرنا الدكتور الطاهر أحمد ‏مكى بتفصيلات الأمر برُمّته فى كتابه الذى سلفت الإشارة إليه، وهو كتاب ‏‏"الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه"، قائلا إن إبراهيم سلامة قد اعتمد ‏على كتاب فان تيجم: "الأدب المقارن"، الذى كان قد تُرْجِم قبل ذلك بقليل، ‏وإن محاضرات سلامة كانت شائقة جذابة، بيد أن الاستفادة منها دراسيا لم ‏تكن متيسرة فى البداية نظرا لعدم وجود كتاب فى أيدى الطلاب، إلا أن الأمر ‏قد تغير بعد وضع الدكتور لكتابه المذكور (د. الطاهر أحمد مكى/ الأدب ‏المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ دار المعارف/ القاهرة/ 1987م/ 182- ‏‏188). لكن هاهنا تساؤلا مشروعا، وهو: كيف يقال إن الدكتور سلامة كان ‏يعتمد على كتاب فان تيجم وإن كتاب فان تيجم هذا كان موجودا، ثم يقال مع ‏ذلك إن الاستفادة من المحاضرات لم تكن متيسرة لأنه لم يكن بين أيدى الطلاب ‏كتاب يرجعون إليه؟‏ ثم مضى د. مكى فحلَّل الكتاب وقوَّمه قائلا إن الدكتور سلامة قد ‏أحسن التفرقة بين الأدب وتاريخه وبين الأدب المقارن، كما عرض لما يسمى: ‏‏"قوانين التقليد" ومدى تطبيقها على ذلك الأدب، وإنْ رأى أن ذلك لا يتصل ‏بالأدب المقارن اتصالا قويا، وكذلك عرض لتلاقى مدنيتين من المدنيات وتأثير ‏أقواهما فى الأخرى مطبّقا كلامه هنا على التقاء مدنية البطالسة فى مصر ‏بمدنية اليونان وغيره، وتحدث عن أثر الأدب الفارسى فى نظيره العربى... ‏إلخ.‏
    ‏ وفى هذا العرض يميل الدكتور مكى إلى القول بأن فى الكتاب مباحث ‏أدبية مقارنة، وأخرى لا تمتّ للأدب المقارن بصلة، بل للنقد المقارن، إن لم يكن ‏للنقد فقط. ومع ذلك ينبغى ألا يغيب عن بالنا، حتى لو وافقنا الأستاذ ‏الدكتور على حكمه هذا الذى أراه ظالما إلى حد ما (على الأقل لما فى تلك ‏المباحث من عمق وعلم ودقة وسياحة فكرية فى عدد من الثقافات)، أن ما ‏صنعه الدكتور سلامة يمثل الخطوة الأولى فى هذا الطريق، ومعروفةٌ صعوبةُ ‏الخطوات الأولى فى أى مجال، وبخاصة أن هذا المقرر كان شيئا جديدا على ‏معاهدنا العلمية، كما أنه لم يسبق للعرب أن ألّفوا فيه على هذا النظام وبهذا ‏المفهوم، بل نقلوه نقلا عن مناهج التعليم الغربية، مثلما كانت دار العلوم هى ‏الكلية الوحيدة فى مصر التى تدرس هذا المقرر. كذلك فما قاله د. مكى هو ‏أفضل كثيرا مما فعله الدكتور غنيمى هلال، الذى خَلَف الدكتور سلامة فى ‏تدريس هذه المادة بعد أن عاد من بعثته التى درس فيها الأدب المقارن فى ‏فرنسا، إذ سكت تماما عن جهود إبراهيم سلامة فلم يَعْرِض لها بذِكْرٍ، وكأنها ‏لم تكن، فخرج بالصمت عن "لا" و"نعم".‏
    إلا أن كتاب سلامة لم يشتهر اشتهار "الأدب المقارن" الذى ألفه محمد ‏غنيمى هلال والذى ينظر إليه الدارسون بوجه عام على أنه أول كتاب عربى ‏يتناول ذلك الموضوع منظِّرًا ومطبِّقًا ومؤرِّخًا بهذا الاتساع والتفصيل للاتجاه ‏المقَارِن فى مجال الأدب ومدارسه وأعلامه فى الغرب، مع التركيز على المدرسة ‏الفرنسية، وما ينبغى لمن يتصدى له من استعدادات لغوية وثقافية عالية. ‏ويشرح د. الطاهر مكى الأمر مبيّنًا أن هلال (الذى تخرج من كلية دار العلوم ‏بجامعة القاهرة عام 1941م) قد أُرْسِل ضمن أعضاء أول بعثة فى العالم العربى ‏كله لدراسة الأدب المقارن، وكان من نصيبه الدراسة فى جامعة باريس حتى ‏عام 1952م حيث تمكن من إتقان الفرنسية والفارسية، إلى جانب الإنجليزية ‏والإسبانية، مستكملا بذلك العُدّة اللغوية والثقافية المطلوبة من دارسى الأدب ‏المقارن حسبما أشرنا قبل قليل. وحين عاد أُوكِلَتْ إليه مهمة تدريس هذا ‏التخصص، فكان أنْ ألف كتاب "الأدب المقارن" الذى سلف ذكره والذى كان ‏فى البداية بحثا موجزا (لكنه شافٍ) فى ذلك الموضوع، مازجًا فى تأليفه بين ‏الاستفادة من المراجع الفرنسية فيه ككتابَىْ فان تِيجِمْ وجُويَار وبين خبرته فى ‏تدريس المادة، ثم مطورا له بعد ذلك ومضيفا إليه بعض مباحث النقد الأدبى ‏فى ذات الوقت، فضلا عن تأليفه عدة دراسات هامة فى مجال المقارنة ‏التطبيقية. ‏
    ويُقَوِّم الدكتور مكى عمل غنيمى هلال بأنه أفضل كتاب فى بابه "حتى ‏هذه الساعة" على حد تعبيره، منبِّهًا إلى أن هناك أشياء كثيرة جَدّت على ‏الساحة استدعت وضع كتابه هو: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ‏واتجاهاته"، الذى سلفت الإشارة إليه، لأن الدراسات التى عَقَبَتْ كتاب د. محمد غنيمى هلال ليست، حسب كلامه، سوى مذكرات طلابية لم ‏تفعل أكثر من مجرد النقل عنه (ص 189- 191)، وذلك رغم أن هناك كتبا ‏عربية غير قليلة ظهرت فى هذا الموضوع قبل كتاب الدكتور مكى بعضها هو ‏بكل يقين أكبر كثيرا من أن يكون مجرد نقل عن المرحوم محمد غنيمى هلال، ‏وبعضها شىء مختلف عما ألفه رحمه الله، ومن هذه الكتب كتاب د. جمال ‏الدين الرمادى: "فصول مقارنة بين أَدَبَىِ الشرق والغرب"، وكتاب عبد الرحمن ‏صدقى: "الشرق والإسلام فى أدب جوته" (1967م)، وكتاب محمد مفيد ‏الشوباشى: "رحلة الأدب العربى إلى أوربا" (1968م)، وكتاب ريمون طحان: ‏‏"الأدب المقارن والأدب العام" (1972م)، وكتاب د. إحسان عباس: "ملامح ‏يونانية فى الأدب العربى" (1977م)، وكتاب د. طه ندا: "الأدب المقارن" ‏‏(1980م)، وكتاب د. صلاح فضل: "تأثير الثقافة الإسلامية فى الكوميديا ‏الإلهية لدانتى" (1980م)، وكتاب ناجية مرانى: "آثار عربية فى حكايات ‏كنتربرى" (1981م)، وكتاب د. أحمد درويش: "الأدب المقارن- النظرية ‏والتطبيق" (1984م)، وكتاب د. على البطل: "شبح قايين بين إيدث سيتول ‏وبدر شاكر السياب" (1984م)، وكتاب أحمد الطويلى: "مظاهر من الاتصال ‏الفكرى والأدبى بالغرب" (1986م)، وكتب د. سعيد علوش: "إشكاليات ‏التيارات والتأثيرات الأدبية فى الوطن العربى- دراسة مقارنة" (1986م)، ‏و"مكونات الأدب المقارن فى العالم العربى" (1987م)، و"مدارس الأدب ‏المقارن- دراسة منهجية" (1987م)، وكتاب د. أحمد محمد البدوى: "أوتار ‏شرقية فى القيثار الغربى" (1989م)، وكتاب د. عطية عامر: "دراسات فى ‏الأدب المقارن" (1989م)، وكتاب د. محمد السعيد جمال الدين: "الأدب ‏المقارن- دراسات تطبيقية فى الأدبين العربى والفارسى" (1989م)، وكتاب ‏د. مكارم الغمرى: "مؤثرات عربية وإسلامية فى الأدب الروسى" (1991م)، ‏وكتاب د. حسام الخطيب: "آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا" (1992م). ‏وهذه مجرد أمثلة مما يوجد معظمه فى مكتبتى الخاصة من المؤلفات التى ‏سبقت ظهور الكتاب الكبير القيم الذى وضعه الأستاذ الدكتور، وهى ليست ‏بالمكتبة الغنية فى هذا المجال. وبعض هذه الكتب تطبيقى، وبعضها يركز على ‏قضية أو قضايا بعينها لا على تخصص الأدب المقارن بكل قضاياه كما هو ‏الوضع فى كتاب الأستاذ الدكتور أو فى كتاب المرحوم محمد غنيمى هلال ‏مثلا، وبعضها أيضا يتناول الأدب المقارن بكل قضاياه مثل كتاب الدكتور مكى ‏وكتاب الدكتور هلال.‏
    ويقع كتاب محمد غنيمى هلال فى أكثر من 450 صفحة بما فيها ‏الفهارس، وهو مكون من بابين: الأول، وعنوانه: "تاريخ نشأة الأدب المقارن فى ‏الغرب وفى الجامعات المصرية"، ويغطى نحو ثمانين صفحة (ص 27- 104)، ‏والثانى بعنوان "بحوث الأدب المقارن ومناهجها"، ويغطى ثلاثمائة صفحة تقريبا ‏‏(ص 105- 410)، فضلا عن تمهيد صغير فى بداية الكتاب للتعريف بالأدب ‏المقارن، وخاتمة أصغر فى آخره (ص 411- 418) لَخّص فيها المؤلف ما ‏عرضه تفصيلا على مدار كتابه كله. ومن القضايا التى تناولها، رحمه الله، ‏تاريخ نشأة الأدب المقارن فى أوربا، والوضع الحالى للدراسات المقارنة فى ‏الجامعات هنا وفى الغرب، وعُدّة الباحث وميدان البحث فى الأدب المقارن، ‏وعالمية الأدب والعوامل التى تقف وراءها، والأجناس الأدبية من ملحمةٍ ‏ومسرحيةٍ وخرافةٍ وقصةٍ ومناظرات، والصياغة الفنية لبعض الأجناس الأدبية، ‏والصور الفنية، والمواقف والنماذج البشرية، وتصوير الآداب القومية للبلاد ‏والشعوب الأخرى، والمقارنة بين ذلك عندنا وفى بعض الآداب الأخرى. ثم ‏تتالت كتب الأدب المقارن بعد ذلك وكثرت، مع بروز كتاب الدكتور مكى ‏بروزًا قويًّا وسطها رغم الملاحظات التى أبديناها عليه.‏


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية غادة فؤاد
    تاريخ التسجيل
    30/09/2006
    المشاركات
    75
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: المقارنة الأدبية عندالعرب فى العصر الحديث

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بارك الله فيك أستاذى الغالى و زادك علما و رقيا
    و أستسمحك أن توضح لى ماهى أسس و مبادئ الأدب المقارن و ما الكتب التى لابد أن أتطرق إليها إذاتناولت الأدب المقارن بين الأدب الفارسي و الأدب العربى
    ولك جزيل الشكر


  3. #3
    شاعر
    نائب المدير العام
    الصورة الرمزية عبدالله بن بريك
    تاريخ التسجيل
    18/07/2010
    العمر
    62
    المشاركات
    3,040
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: المقارنة الأدبية عندالعرب فى العصر الحديث

    لك الشكر الجزيل دكتور "إبراهيم عوض".
    موضوع كثير الفوائد ،مستفيض الشرح.
    مع المودة.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •