آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: وراء السراب... قليلا/ 11/ /درغوثي

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية ابراهيم درغوثي
    تاريخ التسجيل
    04/12/2006
    المشاركات
    1,963
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي وراء السراب... قليلا/ 11/ /درغوثي

    وراء السراب ... قليلا

    رواية

    ابراهيم درغوثي / تونس

    الفصل الرابع


    بغايا لعموم عملة شركة فسفاط قفصة


    الباب الحادي عشر


    وفيه حديث عن حب" ميلود الطرهوني" ل " حسيبة النائلية"و كيف منع رجال " القبائل " نساء الماخور عن العمال الطرابلسيين . و أعاجيب تتعلق بنبوءة عرافة التقت الطرهوني في الصحراء . و ملائكة نزلت من السماء لتواري في ثرى " المتلوي " قتلى الفتنة الطرابلسية الخ... الخ ...


    و كبرت حكاية " الشق" و جنده ، فشغلت هذه البلية الكبار و الصغار مدة طويلة إلى أن طفت على السطح أحداث الفتنة التي أشعلها " ميلود الطرهوني " بين " الطرابلسية " و " رجال القبائل " فهزت هذه الأحداث القرية هزا عنيفا و تناسى الخلق حكايات الجن .
    و لكن إلى حين...
    كان معاوني " ميلود الطرهوني " طرابلسيا غريب الأطوار. رجل يخاطر بحياته في كل الأوقات دون أن يطرف له جفن. ولكنه يفلت دائما من براثن الموت في اللحظات الأخيرة. أخرجناه ثلاث مرات من تحت الردم . قي المرة الأخيرة يئسنا من عودته إلى الحياة و بدأنا نبكيه ، لكن صديقة " صالح البوسيفي" ظل ينفخ داخل حنجرته إلى أن رمشت جفونه و حرك شفتيه. فتركناه في مكانه وعدنا نمد سكة الحديد داخل النفق و نملأ العربات الصغيرة بالتراب و نخبط البغال على أردافها و نزجرها حتى تجر العربات و تسرع في العدو. و عند نهاية الوردية عاد معنا إلى حي الطرابلسية ليشرب الشاي و يسب ككافر و يعد لسهرة الليل و لمجلس الخمر. فهو ينفق فرنكاته على النساء و الخمر. شعاره : " اللي جابه النهار يديه الليل " مبذرا ليلا ما يكسبه نهارا قائلا لمنتقديه:
    - من يضمن لي منكم أنني لن أترك مخ رأسي غدا على صخور النفق؟
    فتكفهر الوجوه و ينفض من حوله لائموه، فيشيعهم بقهقهات و شباب مشين.
    البارحة ، عندما قابلاه في الحانة ، كان على غير عادته حزينا و مهموما. عابثته و حدثته عن " حسيبة النائلية " فلم يتجاوب مع عبثي. فعرفت أن الأمر خطير فتركته لشأنه و بدأت أبتعد. لكن صوته المشحون بالفجيعة ردني إليه:
    - يعال يا " عزيز "! . ما عهدتك تضجر مني بهذه السرعة!
    فقلت له :
    - حالك البائس لم يشجعني على مواصلة الحديث معك!
    فقال :
    - أعرف أنني سأكون سبب بلاء شديد لأهلي و لكن لا راد لقضاء الله!
    فقلت له مازحا:
    - و لم ذلك يا براقش؟
    فقال :
    - منعتني جماعة من رجال " القبائل " الجزائريين من الوصول إلى " حسيبة " و هي كما تعرف أغلى عندي من روحي .
    فقلت :
    - و لماذا يمنعونها عنك و هي تعمل في الماخور و أنت تدفع ما فيه الكفاية؟
    قال :
    - رجال القبائل قرروا ذلك و انتهى الأمر.
    قلت :
    - و ماذا قرروا؟
    قال :
    - سيمنعون بناتهم على بقية الرجال في هذا المنجم بدعوى أنهن جزائريات و أن شركة الفسفاط جاءت بهن من جبال " جرجرة " للترفيه عن العمال الجزائريين فقط.
    و ضرب كفا بكف وهو يتأوه:
    - يمنعون عني "حسيبة" هؤلاء الأوباش . و الله لن يمتعني عنها أحد و سأقاتل من أجلها ملك الموت و سأقتله.
    و صار يخبط رأسه على الحائط .فهدأت من ثورته و قلت :
    - قم بنا إلى دار بنات " أولاد نائل " فقد اشتقت أنا أيضا إلى غنائهن و رقصهن و نكاتهن البذيئة.
    فظل صامتا مدة ثم قام وهو يقول :
    -لا فائدة يا أخي.فلن تنفع وساطتك مع هؤلاء الأوباش.
    و مشينا باتجاه الماخور. حاذينا حي " السوافة " بقبابه البيضاء التي يكثر تحتها الفساد و تقل البركة و اقتربنا من الحب " الأوروبي " فلفحنا هواء منعش تفوح منه روائح الورد و الياسمين. وواصلنا المسير حتى وصلنا حي " المحطة " فرأينا القطارات جاثمة فوق سكك الحديد كأنها وحوش أسطورية خرجت من باطن الأرض. وحوش تنفث دخانا أسود و تطلق بين الحين و الآخر زعيقا و خوارا.
    رأيت نساء البدو القاطنين في المداشر القريبة يتقاتلن قرب صهاريج الماء و يتقاذفن بالسباب و السطول و الكلام البذيء و لا يهدأن إلا حين يطل ناظر المحطة بكسوته الشبيهة بلباس الجندرمة فينهرهن و يطردهن بعد أن يحكم إغلاق حنفيات الماء.
    و غير بعيد عن المحطة تسكن بنات أولاد نايل. عشر بنات جاء بهن واحد من متعهدي الانتدابات الذين أرسلتهم السلطات الفرنسية لجلب العمال من الجزائر و المغرب ، فعاد و معه هؤلاء البنات. و أعجبت الفكرة مسؤولي الشركة فأقطعتهن دارا بعيدة عن الأحياء المأهولة بالسكان المسلمين و ألزمنهن بالعمل لفائدة الشركة و بعدم الامتناع عن كل طالب لذة على أن يدفع بالحاضر و مسبقا.
    و سارت الأمور على أحسن حال مدة سنة و بعض السنة . كانت البنات فيها قرة أعين العمال العرب و الكفار من فرنسيين و طليان و روس و أسبان و مالطيين و بلغار و بولونيين و الناس أجمعين.
    تفنن متعدو الانتدابات في إحضار الجميلات من البنات إلى الميغى ، فاختاروا الطويلة و السمينة بعد أن عرفوا ميل العرب إلى البدينات . و أفرطوا في التجديد . صاروا يسفرون القديمات و يعودون بغيرهن كلما أحسوا بملل مرتادي الحي و ضيقهن من نساء الماخور.
    وكان أكثر مريدي هذه الدار من العمال الطرابلسيين . هناك يسكرون و يعربدون و لا يعودون إلى مساكنهم البائسة التي بنتها لهم الشركة إلا فجرا ، فينامون بضع ساعات يفيقون بعدها على عواء صفارة المنجم. فينتفضون كالضباع و يهرولون باتجاه القطارات التي تحملهم كل صباح قريبا من أبواب الأنفاق.
    كان الجو هادئا و نحن نقترب من الماخور . و كانت أضواء خافتة تجاهد للخروج من وراء زجاج النوافذ حين اقتربت من الباب ففاجأني صوت غليظ:
    هيه ! أنت قف مكانك !
    التفت أبحث عن صديقي الطرهوني فوجدته يقف غير بعيد مني.
    و خرج لنا من الظلام عشرة رجال مسلحين بهراوات و سكاكين ،و صار قائدهم يلوح بمسدس و يدور حولنا.
    عرف القائد ميلود الطرهوني ، فزجره :
    ـ ألم أطلب منك الابتعاد عن هذا المكان و عدم الاقتراب من هنا مرة أخرى؟
    و دفعه في صدره بجمع يده .
    حاولت الوقوف بينهما ، فانهالت على صدغي لكمة لم أعرف مصدرها . و سمعت الطرهوني يصيح :
    ـ أريد إن أقابل حسيبة يا أولاد الكلب !
    و صمت بعد أن دكّته الركلات دكا، فهوى على وجهه مغشيا عليه، فجره وجلان من رجليه و رميا به قريبا من محطة القطار ، فتحاملت على نفسي و لحقت به.
    ظللت أرشه بالماء و أضرب برفق على وجنتيه حتى أفاق و عاد إليه وعيه فصار ينهنه و يبكي بصوت خافت
    فقلت له :
    ـ كف عن هذا البكاء يا رجل، فعهدي بك رابط الجأش شجاعا!
    فرد:
    ـ لقد أبكتني مذلتي في هذه البلاد الغريبة. لو كنت في البلاد لما قدر عليّ هؤلاء الزعران يا أخي!
    عد بنا ، ليخرجن ّ الأعزّ منها الأذلّ!
    ثم اتكأ على كتفي و يممنا طريق العودة .
    وصلنا فجرا إلى حومة الطرابلسية فقصدنا المسجد الجامع .
    البناية مسقوفة بجريد النخل و سعفه ، يقوم على الخدمة فيها رجل ضرير ، مقرئ للقرآن يدرب الصبيان في الصباح على القراءة و الكتابة و حفظ بعض الآيات من قصار السور و يصلي بالمؤمنين الصلوات الخمس كل يوم . صوته العذب يقرأ به الذكر الحكيم آناء الليل و أطراف النهار ، و يرفع به الآذان في ميقاته.
    دفع ميلود الطرهوني باب الخشب و دخل إلى المسجد . أفاق الرجل الضرير على صوت الباب و هو ينفتح فاعتدل في جلسته و أصاخ السمع . نزع الطرهوني حذاءه و مشى على الحضر التي تغطي الأرضية حتى وقف عند رأس الرجل. بقي جامدا في مكانه دون أن يتفوه بكلمة إلى أن قال الضرير:
    ـ أخيرا جئت يا ابن بهية ! إني أشم في رائحتك نذر الموت و البوار !
    فقال ميلود الطرهوني :
    ـ لقد أهان أجلاف بلاد القبائل كرامة رجال الصحراء . و لا بد من الانتصار لكرامتنا يا شيخنا!
    فقال الرجل الضرير:
    ـ أعرف أنك منذور للدم يا رجل ، و لكن سأحاول أن لا تعلو كلمتك على الحق هذه المرة يا ابن بهيجة و غلا فلن تقوم لكم قائمة بعد اليوم يا أمة الخراب.
    و تركنا واقفين و ذهب يرفع آذان الصبح بعد أن اعتلى حائطا قصيرا.
    قي الصباح ، تجمع الرجال كعادتهم في السوق . بدو جاءوا من تخوم الصحراء و رجال هاربون من الخدمة العسكرية و عياق و قتلة مازالت ثيابهم ملطخة بدم ضحاياهم ، جاءوا إلى هذه الأصقاع المنسية يخبئون جرائمهم داخل أنفاق الجبل و يموتون دون أن يعرف أحد أسماءهم الحقيقية أو البلاد التي جاءوا منها. كانوا يعملون في منجم من مناجم قفصة شهرا ليغادروه إلى منجم آخر ، فيبدلون أسماءهم و شخصياتهم و يتزوجون أو يطلقون و يدفنون ابنا أو بنتا في جبانة يستحدثونها في التو و الساعة يحفرون بضعة أشبار في الأرض الصلدة و يوارون الطفل الثرى دون أن يقرأ أحد على روحه شيئا من كلام الرب و يغادرون المكان ليخرج من ذاكرتهم بعد أن يختفوا وراء أول هضبة. و تطل الكلاب السائبة على الوليمة ، تتعارك فيما بينها ثم تنبش التراب و تتخاطف اللحم الطري و تنهش الجثة في طرفة عين ثم تعوي و تختفي داخل شعاب الجبل.
    كان ميلود الطرهوني ذاهلا وهو يكلم أبناء ملته من الطرابلسية و يحرضهم على الأخذ بالثأر من رجال القبائل . و يذكرهم بالقتلى الذين ماتوا في حضيرة العمل التي أشرف عليها حمو القبائلي و بالمهندس الفرنسي الذي طرد أكثر من عشرين عاملا من ذويهم جراء وشاية ابن عمه بوشعيب.
    و راح يعدد المظالم التي ارتكبها رجال القبائل في حق الطرابلسية وحلقة المستمعين تكبر . و الهمهمة تعلو.و اللغط يرتفع. و نذر الشر تطير في الجو و ترتفع بارتفاع حرارة النهار إلى أن صارت لا تطاق . فقال قائل :
    ــ الليلة سنذهب مرة أخرى على دار بنات أولاد نائل و سنتحدى رجال القبائل . نحن لا نطلب أكثر من حقنا في هؤلاء القحاب!
    و نسي الرجال حمو القبائلي و ابن عمه بوشعيب ليذكروا الغبن الذي لحقهم جراء غلق أبواب الماخور في وجوههم !
    و ضربوا موعدا للقاء بعد صلاة العشاء.


    في الموعد المحدد جمع الطرهوني أصحابه و قصد المحطة . الشوارع خالية . و عواء الكلاب يأتي من بعيد من وراء دواوير البدو الساكنين على تخوم البلدة الحديثة يملأ المكان بشر مستطير، فمشى الرجال بحذر خوفا من أن تباغتهم حجارة رجال " تيزي وزو " . و لكن خاب ظنهم ، فقد ظل الهدوء سيد الموقف إلى أن وصلوا أمام باب الماخور.
    اقترب الطرهوني من الباب و رفع مطرقة صغيرة من النحاس على شكل يد مضمومة . اليد معلقة على صدر الباب فوق يد حديدية مبسوطة . اليد معلقة على صدر الباب فوق يد حديدية مبسوطة. دقها الرجل ثلاث دقات كعادته أيام كان سيد هذه الدار. لكن لم يجيه أحد رغم اللغط المكتوم في الداخل. فعاد يدق بعنف أكبر اليد المقبوضة على اليد المبسوطة . و يهدأ قليلا ثم يعود إلى الدق من جديد إلى أن انفرج الباب. من خلال الفتحة الصغيرة أطلت حسيبة. لم يصدق الطرهوني عينيه . و لم تعرفه المرأة من النظرة الأولى فالظلام دامس خارج البيت . ظل الرجل و المرأة صامتين لإلى أن نهنه الطرهوني:
    - ها أنذا أظفر بك أخيرا أيتها الحبيبة.
    ارتمت حسيبة في حضنه وهي غير مصدقة أنها في حضرة مجنونها وظلت ترتجف إلى أن هتف صوت أجش:
    - من بالباب يا حسيبة ؟
    ولم يحصل على جواب ، فقام واقفا فجذب المرأة من حضن الرجل وهو يصرخ :
    - هكذا إذن أيتها الفاجرة ، تتركين مجلسنا و ترتمين في أحضان هذا المخنث!
    و ضرب برجله ما بين فخذي الطرهوني . جاءت الضربة مباغتة فلم يستطع تفاديها . ولم يسمع أصدقاءه سوى آه مجروحة ، ثم تكوم على الأرض . وجر الدب حسيبة إلى الداخل وأغلق الباب وراءه بعنف.
    أبعد الرجال الطرهوني من أمام الماخور ، ثم انهالوا على الحوش رجما بالحجارة. قذفوا الدار بكل ما قدروا عليه من حصى وعصي . و أخرج أحدهم مسدسا وأطلق في الهواء عدة طلقات ثم بدأوا يدكون الباب بخشبة أحضرها أحدهم من حضيرة بناء قريبة من المكان. فعلا صراخ النسوة وعويلهن واختلط بسباب الرجال الهاجمين على الحوش وبزعيقهم وبذاءتهم . وحضر رجال الجندرمة . أخطرهم ناظر المحطة بالحادث فجاءوا . أخرجوا بنادقهم وصوبوها نحو وجوه الرجال ورطنوا بلغتهم الفرنسية المخلوطة بكلمات عربية نابية
    ثم بدأوا في إطلاق الرصاص في الهواء فانسحب الرجال في كل الاتجاهات وذابوا داخل الأزقة الملتوية .
    وعاد الطرابلسيون إلى السوق يحرضون رجالهم على قتال أجلاف جبال الجزائر ويذكرونهم بمحاباة مهندسي الشركة وإطاراتها لهؤلاء الرجال ويدسون في حديثهم حكايات كثيرة وقعت لهم داخل أنفاق المنجم مع هؤلاء المجرمين الذين يدفعون بالطرابلسية إلى الأماكن الخطرة ويكلفون العمال حديثي العهد بالخدمة بتفجير المفرقعات دون دربة أو دراية بمخاطرها . فأهلكوا خلقا كثيرا و تمتعوا بتقدير مدير الشركة فكلفهم بقيادة الحضائر وزاد في رواتبهم وأجزل لهم العطايا على حساب الرجال الذين أكلهم الردم داخل الأنفاق.
    وبيت الطرابلسية لأمر خطير ، قالوا :
    - الليلة سنهاجم حي " القبائل " ونطردهم من هذه الديار كما يطرد الموبوؤون ونسبي نساءهم لنجعل منهن بغايا لعموم عملة شركة الفسفاط ، عربا و أعاجم . و أقسموا على ذلك بأغلظ الأيمان ثم تفرقوا يجمعون الأسلحة ويجيشون الرجال ويمنعون عملة وردية الليل من الالتحاق بالعمل.
    وبلغ رجال " القبائل " الخبر فتمترسوا داخل حيهم وحولوا منازلهم إلى قلاع حربية. وجمعوا أكداس الحجارة فوق السطوح وأقاموا الحواجز على الأزقة وباتوا يترقبون الغزو وهم يكزون على أسنانهم ويعضون على الحديد.
    وتنادى الطرابلسية من كل مكان فجاء الجعافرة وورفلة وأولاد الطرهوني وأبوعجيلة والتاجوري والغرياني وعسكروا قريبا من الحي ، فأولم لهم التجار . ذبحوا الخرفان والنعاج وأحضروا من مقتصدية الشركة قوارير الخمر فأكلوا وشربوا وعربدوا . وجيء بالطبل والزكرة فرقصوا وتهتكوا إلى أن هبط الظلام.
    فقال قائلهم:
    - لن نهجم الساعة ، فرجال القبائل لا محالة على أهبة الاستعداد . سنفوت عنهم هذه الفرصة ولن نترك لهم الأمل في النيل منا.
    ونام الجميع وكأن شيئا لم يكن. ثم عادوا في الغد إلى صنيع الأمس ، هجروا العمل في المنجم وأحضروا الشراب ونحروا الذبائح وشووا اللحم وسكروا وغنوا ورقصوا . ودامت الوليمة ثلاثة أيام متتالية. وبدأ التراخي يدب في عروق المدافعين عن حي " القبائل " فقالوا :
    - هؤلاء الطرابلسية أجبن من أن يهاجموا حينا.الليلة سنعود إلى العمل وسنترك حامية منم الشباب تدافع عن المنافذ، واستعدوا لوردية الليل.
    ولم يسكر الطرابلسية ذلك المساء . تجمعوا في دور الأقارب يحرضون بعضهم بعضا على الأخذ بالثأر والانتقام للدم المسفوك في كهوف مناجم الفسفاط . قالوا إن أرواح القتلى الذين تسبب حمو القبائلي في سحقهم تحت الصخور تطير كل ليلة فوق منازل الحي ـ تلبس ريش طيور البوم وتظل تنعب فوق الرؤوس تنادي بثأرها وتلعن جبننا وتخاذلنا . الليلة سنجعل طيور البوم ترتوي من دم رجال القبائل.
    ومع مغيب شمس اليوم بدأت طلائع المهاجمين تحوم حول حي الأعداء. زرعوا عيونهم في كل مكان وتأكدوا من أن الرجال قرروا العمل في دورية الليل. فعادوا يخبرون أصحابهم بذلك مستبشرين بأن ساعة الانتقام قد أزفت.
    في الهزيع الأخير من ليلة الأحد 5 ماي 1907 هاجم الطرابلسية حي القبائل من الجهات الأربع. كان الشباب المكلفين بالدفاع عن الحي قد ناموا وكانت غالبية الرجال يعملون في النفق. اندفعت جموع المهاجمين بعنف داخل الحي فسحقوا الحواجز وهشموا الأبواب وسعوا في الأرض فسادا. وأفاق الشباب من ارتباكهم فرفعوا المشاعل على خط طوله أكثر من كيلومترين ، من آخر بناية في الحي إلى باب النفق. إنها الإشارة المتفق عليها بين المدافعين عن الحي والرجال الذين ذهبوا للعمل في وردية الليل . وعلت أصوات النذير مخلوطة بالظلام والفجيعة.
    - أكل الذئب النعجات، إلى فؤوسكم يا رجال القبائل.
    وفي رمشة عين غادر أكثر من ألف رجل باب النفق والتحقوا بساحة المعركة مسلحين بالهراوات والبنادق والديناميت والمسدسات. كانوا كلما وصلوا مشعلا أطفأوه ليعلم المدافعين عن الحي مكان وجودهم إلى أن وصلوا ، فحاصروا الحي من جميع الجهات. وارتقت النساء السطوح فانهالت الحجارة على رؤوس الطرابلسية وأكل من لحمهم رصاص البنادق والمسدسات. فلم يجدوا حلا لورطتهم وقد أصبحوا بين نارين سوى إشعال فتيل اللهب في جدران البيوت الخشبية . فاختلط لحم الأطفال المشوي بالزيت والدقيق والسكر والشاي . وسال الدم يلطخ الجدران بلون الأقحوان.
    كان رجال القبائل كلما أمسكوا طرابلسيا رموه في اللهب المشتعل ومنعوه من الخروج منه وهم يرجمونه بالحجارة والعصي وقطع الخشب . وتفنن الطرابلسيون في إيذاء النساء وفي هتك أعراضهن . ووصل رجال الجندرمة ، أحاطوا بالحي وظلوا ينظرون دون أن يطلقوا رصاصة تخويف واحدة.
    وتمكن جماعة من ميلود الطرهوني ، حاصروه في زنقة فحاول القفز على حائط فلم يفلح. وظل يقاوم ويحاول الإفلات من الأيدي الكثيرة إلى أن هده الإعياء فاستسلم لهم. قادوه إلى ساحة الحي وحفروا له حفرة ثم دفعوه فيها . تركوا رأسه وصدره عاريين ودفنوا بقية الجسد . ثم جمعوا أطفال الحي وقالوا لهم :
    - ارجموا الفاسق.
    وانهالت الحجارة على الرأس والصدر فشدخت الرأس وأحدثت رضوضا رهيبة في الصدر . ولم يتأوه الطرهوني ، ولم يفه بكلمة استرحام واحدة إلى أن سال مخه على ثيابه مخلوطا بالدم والألم المكتوم.
    وأحدث الطرابلسيون فجوة في الحصار ففروا من خلالها تاركين وراءهم القتلى و الجرحى وحيا اشتعلت النيران في كل منازله.
    وسيطر رجال القبائل مرة أخرى على الحي ، فجمعوا قتلى وجرحى الطرابلسية في الساحة. كدسوا الجميع كومة واحدة وابتدأت عملية الفرز. أبعدوا الأحياء عن الأموات وشحذوا السكاكين إلى أن صارت تبرق ثم بدأوا في جذع أنوف الأسرى وفي قص آذانهم. ومروا إلى الأموات ففعلوا بهم ما فعلوه بالأحياء والجرحى. وطلبوا خيطا وإبرة فشكلوا بالآذان والأنوف المقطوعة عقدا زينوا به عنق حمار . وجاء الشباب فساقوا الحمار حتى مشارف حي الطرابلسية ، ثم عادوا إلى حيهم فرصوا الأموات مع الجرحى وأحضروا أصابع كثيرة من " الديناميت " فوضعوها في جيوب الأحياء وفي أفواه الموتى وداخل بطونهم . وتجرأ أحدهم فدس إصبع ديناميت في دبر ميلود الطرهوني . وربطوا هذه المتفجرات بخيط أوصلوه إلى صاعق وأشعلوا النيران بالخيط وابتعدوا... فانفجر كدس اللحم وطارت الجثث مشكلة صورة فقاعة كبيرة جذعها في الأرض ورأسها في قلب السماء. ثم تفتتت وتناثرت فوق مساحة واسعة على شكل هباءات من اللجم والدم.
    ووصل الحمار إلى حي الطرابلسية . كان الجميع في هرج ومرج فلم يلتفت أحد إلى عقد الآذان والأنوف الذي يزين الحمار إلى أن تحلق حوله جمع من الصبية وهم ينظرون إلى هذا العقد العجيب. نزع أصغرهم العقد وراح يعد الأنوف والآذان. ويغلط ، فيعود من جديد إلى العد : واحد ... اثنان .. ثلاثة .. ويغلط فيعود إلى العد ويعود إلى الغلط إلى أن اقتربت منهم ففروا في كل الاتجاهات تاركين العقد على الأرض . تأملت هذه الأعضاء الآدمية في حزن ورهبة : أنوف مختلفة الألوان و الأشكال وآذان صغيرة كآذان الأطفال وأخرى كبيرة ومفلطحة. كلها أذبلها الموت . كنت قريبا من المسجد الجامع فقلت :
    - لماذا لا أحمل هذا العقد إلى الشيخ الضرير ؟
    ودفعت الباب. سمعت الرجل يقرأ من قصار السور ، فسلمت عليه لكنه تجاهلني. ظل يرتل الآيات البينات إلى أن انتصف النهار وأنا واقف في مكاني.
    وسحرني صوته وسلبني عقلي فانهمكت في القراءة معه في سري إلى أن هم بالقيام يريد وضوء الظهر، فرميت العقد في حجره. مرر الرجل أصابعه على قطع اللحم وقال :
    - فعلها ابن بهية؟
    فقلت :
    بلى يا مولانا -
    فعاد يجلس . وبدأ في عد الآذان والأنوف . عدها أكثر من مرة . وكان وجهه يزداد شحوبا كلما أنهى العد. ثم همس :
    - ثلاثون أنفا وستون أذنا
    وأضاف بعد مدة :
    - لكنني لا أجد أذنا لابن بهية . أعرفها مثقوبة ، ظل يتأرجح في شحمتها قرط من الذهب إلى أن بلغ .
    فهل فر من ساحة المعركة بعد أن أشعل نارها؟
    قلت :
    - لا يا مولانا، أكلت الطيور لحمه حين طار فتافيت في أرجاء السماوات السبعة.
    قال الشيخ ، وظل ابتسامة باهتة يرتسم على شفتيه:
    - لقد أنستني الأيام الطويلة أن عرافة قالت له ، لن تجد لك قبرا حين تموت يا ملعون
    كانت القافلة قد توسطت الصحراء حين خرجت لنا تلك العرافة من حيث لا ندري . تفرست في وجوهنا واحدا واحدا ثم طلبت يده . دفرها الطرهوني ، ولكنها ألحت في الطلب
    فقال لها : أغربي عني يا أخت الشيطان
    ورماها بقطعة من الفضة.
    التقطت المرأة القطعة ودستها في جيبها وعادت تطلب يده، فمدها لها . أفردتها أمامها مدة وبدأت تقرأ في خطوطها ، فارتاعت. اصفر وجهها وزاغت عيناها وبدأت ترتجف ثم فجأة التقطت قفتها وعصاها وفرت.
    جرت كمن تجري وراءه كلاب الجحيم.
    الجمت المفاجأة ميلود الطرهوني في الأول فتركها تبتعد ثم جرى وراءها جري السلوقي وراء أرنب شارد ، إلى أن أمسك بها بعد لأي ومشقة.
    كانت المرأة تضطرب وتهذي :
    - هاك فضتك يا رجل واتركني فلن أقول لك ما يخبئ لك الغيب.
    لكنه طمأنها :
    - لا تخافي يا مباركة . قولي ما رأيت وأنت آمنة فلن أمسك بسوء مهما قلت.
    وعادت تلحف في طلب الأمان ، فأمنها عن مالها وعرضها وروحها .
    فقالت له : ستكون موتتك شنيعة يا أخي ولن تجد لجثتك قبرا في هذه الأرض الوسيعة ، وسيأكل لحمك طيور السماء وهوام الأرض.
    وعوض أن يصيب الفزع ميلود الطرهوني ، بدأ في الضحك والقهقهة . ضحك حتى سالت الدموع من عينيه والمرأة تنظر إليه مدهوشة إلى أن هدأ. فذهبت وهي تلتفت وراءها غير مصدقة أنها نجت من الموت . ترها تبتعد خطوات ثم ناداها :
    - تعالي خذي ثمن بشارتك يا ملعونة
    وأفرغ في يدها كل ما في جيبه من نقود فضية ونحاسية.
    وعاد إلى الضحك والقهقهة.
    بعد مدة قال الشيخ :
    - لا تذهب. ترقبني حتى أعود من الميضأة.
    فجلست قريبا من المنبر البسيط المصنوع من خشب النخل وأنا محاصر بصور أصحاب هذه الآذان والأنوف ، إلى أن هاد الضرير.
    استقبل القبلة ، وطلب مني أن أضع العقد بين يديه ففرق بين الآذان والأنوف وبسط أمامه قطعا من القماش الأبيض النظيف. صار يضع أنفا على الكفن ويختار له بدقة أذنين من الآذان المعروضة عليه ويقول :
    - هذا صالح بن بوزيد البوسيفي
    ويقيم على روحه الصلاة.
    ثم يمر إلى روح أخرى.
    كنت في كل مرة أحفر مقدار شبر في ساحة المسجد ثم أضع هذه القطع الآدمية في الكفن الذي أعده الشيخ وأهم بدفنها فيشير الرجل برأسه أن ترقب قليلا إلى أن هبط الليل فقام ودعاني إلى الوقوف وراءه . قرأ سوري يس سبع مرات فتحولت الحفر الصغيرة إلى مقابر . ونظرت فإذا داخل كل قبر جسما آدميا كامل الصفات . وعاد إلى سورة يس يقرأ من آياتها ، فامتلأ المسجد بأصوات تردد القرآن . رأيت رجالا يشع النور من وجوههم يهيلون التراب على القبور ثم يمسحون الأرض بأيديهم فتعود إلى حالتها الأولى.
    ودعاني الشيخ إلى صلاة الجنازة فصليت معه على القتلى صلاة جماعية ، وغادرت المكان.
    رأيت طيورا تحوم فوق رأسي . طيور سوداء و بيضاء شبيهة بطائر الخطاف . رأيتها تحط على الأرض التي سوتها الأيدي النورانية . وحين التفت مرة أخرى وأنا أقترب من الباب ، اختفت الطيور فكأن الأرض ابتلعتها.
    في الخارج جمع الطرابلسيون ما خف وزنه وغلا ثمنه ويمموا وجه المحطة فامتلأت العربات بجموعهم الغفيرة. وزمجرت القاطرات ونفثت دخانها الأسود ثم تحركت عجلاتها وهي تئز وتعوي.
    وابتلعها سراب شهر ماي وقد وصل مبكرا هذه السنة .
    بعد صلاة العشاء وصلت طلائع رجال القبائل إلى حي الطرابلسية . اقتربوا من المكان بخطى الذئاب وهم يرفعون الفؤوس والهراوات. ولكن هدوءا غريبا كان يعم الحي فاقتحموه من الجهة الغربية القريبة من السوق. كانت الدكاكين موصدة، وكانت كلاب سائبة تمرح قرب حانوت الجزار وتلعق بقايا عظام جمل نحر البارحة. شجع الهدوء المهاجمين فاندفعوا داخل الحي . وجدوا أبواب المنازل مفتوحة والبيوت على حالها. الفرش في بيوت النوم تترقب النائمين. والنار تشتعل تحت القدور . ورائحة الشاي المحروق تفوح من البراريد التي تفحمت.
    كان الحي قفرا كأن لم يكن منذ حين يعج بالحياة ، فجاس الرجال داخله إلى أن وصلوا قرب المسجد الجامع فسمعوا صوت المؤدب يجرح الهدوء . يعلوا حينا وينخفض حينا آخر. فوقفوا وراء الباب صفا واحدا مدة ثم اندفعوا فجأة داخل الصحن. ولكن صوت المقرئ زاد فارتفع وعلا على أصوات جلبتهم وضجيجهم.
    قال قائلهم :
    - ماذا سنفعل بهذا الطرابلسي ؟
    فرد آخر :
    - سأضع حد السكين على عنقه وأحزه.
    واعترض ثالث :
    - هذا لن يكون في المسجد . نحن على كل حال مسلمون ولن نقتل هذا الرجل بجريرة غيره.
    فقال حكيمهم :
    - عندي فكرة ، سنطرده من المدينة وكفى المؤمنين شر القتال.
    وأعجبت الفكرة الجميع فأخرجوا الرجل من المسجد . أركبوه حمارا وقادوا الحمار خارج البلدة ومشوا حتى بلغوا سكة الحديد التي تتجه شرقا. تركوا الحمار قريبا من السكة وعادوا دون أن يلتفتوا إلى الوراء.
    وبدأت كلاب البدو الذين نصبوا خيامهم قريبا من خزانات ماء الشركة في النباح.


  2. #2
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: وراء السراب... قليلا/ 11/ /درغوثي

    أتذكر أني قرأت نهاية ميلود الطهروني في الفصل الحادي عشر بسرد مختلف ، وبصورة أقل عنفا .. وقد تكون هذه معالجة مختلفة لنفس الفصل ؟!


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •