وراء السراب ... قليلا /13
رواية

ابراهيم درغوثي / تونس

الباب الثالث عشر



في ذكر تعلق رجال البدو بالشيخ الطرابلسي المطرود من قرية " فيليب توماس".
كما فيه تفاصيل عن دخول الفرنسي " لويس " إلى دين الله الحنيف . وغرائب وأعاجيب وملح وطرف تتعلق ب" سلاطين " الإنس والجان الذين أنجدوا جيش فرنسا فانتصرت على الألمان في الحرب الكبرى الأولى.

1

اشتد نباح الكلاب وهريرها فخرج رجال الدوار يزجرونها ويستطلعون الأمر. رأوا حمارا يتقدم بخطى وجلة نحوهم. ترقبوا حتى سكت عواء آخر كلب واقتربوا منه.
كان الشيخ المقرئ قد استعاد بعضا من رباطة جأشه فسلم على الرجال الذين سمعهم يهمهمون وهم يقتربون منه . رد عليه الرجال السلام بعد أن عرفوه من خلال صوته فخفوا ينزلونه من على ظهر الحمار. وتداعوا فيما بينهم ، فخفت النساء بالحصر والفرش والزرابي. وانتصبت في رمشة عين خيمة للضيف المبجل الذي يحمل في صدره كلام الرب وأحاديث رسوله الكريم. وذبح الرجال خروفا سمينا ، فاشتعلت النيران وفاحت رائحة الشواء وانتصبت قصاص الكسكسي. فأكل الضيف حتى شبع وحمد الله ودعا لهم بالمطر وبأعوام الصابة. ثم نام في مكانه.
فجرا، أفاق أهل النجع على صوت المقرئ يؤذن للصلاة:
- الصلاة خير من النوم يا عباد الله.
فاجأ الصوت النائمين ، فليس من عادتهم أداء الصلاة في أوقاتها، وخاصة صلاة الفجر.
عاد المقرئ يلح أكثر من مرة :
- الصلاة خير من النوم يا عباد الله.
ثم قام يؤدي الفرض مع ثلاثة من الشيوخ وصلوا حين كاد ميعاد الصلاة يفوت.
بعد ثلاثة أيام، جمع الرجال أطفال الحي وقصدوا خيمة الشيخ . سلموا عليه ودعوا الأطفال إلى تقبيل جبينه ثم قالوا له :
- هؤلاء أولادنا ، أكبادنا ، جئناك بهم لتعلمهم ، لعل الله يفتح قلوبهم وينزع عنهم غشاوة الجهل .
وأرادوا الانصراف، فأوقفهم الشيخ بإشارة من يده وهو يردد :
- لا تنسوا الليلة صلاة العشاء. إن لي معكم شأنا معلوما.
وارتفع صوت الإمام يردد كلام الله. فردد الأطفال وراءه الآيات البينات حتى انتصف النهار وانتصبت السماء في كبد السماء. فسرح الشيخ أطفاله وأخرج سبحة وانهمك في الذكر والتسبيح.
قبل صلاة العشاء بقليل ، ملأ رجال القبيلة المكان فخرج لهم الشيخ. سلم وصلى على النبي ثم طلب منهم أن يحضروا أبناءهم بعد الصلاة. وذهب يتوضأ . وركبت الحيرة الرؤوس لكنهم نفذوا طلب الإمام. ساقوا أطفالهم أمامهم وعادوا إلى خيمة الشيخ . وترقبوا حتى اكتمل الجمع ، فقال لهم :
- لقد نسيتم دينكم حتى صرتم لا تعرفون من الإسلام سوى الشهادتين وصيام رمضان . وقد اأتمنتموني على أولادكم فدعوني أطهرهم من رجس الشيطان.
وصار يفتح صدر الطفل فيمحي من على قلبه نقطة سوداء ثم يتفل بين إصبعيه ، السبابة والإبهام ويخيط بهما جرح الصدر. ويدعو بطفل آخر إلى أن طلعت نجمة الصبح فغادر الرجال والأطفال الخيمة يسبقهم نور من السماء يضيء لهم الطريق.
قال الشيخ : " هذه كفارة عن سيئاتي ، لعل الله يتجاوز عن إهمالي الوقوف بين المتحاربين من المسلمين حتى أمنع سفك الدماء والفساد في الأرض"
وانخرط في بكاء محموم.
ومرت الأيام في النجع هادئة لا يقطع رتابتها سوى بعض الخصومات التي فضها الشيخ بالحسنى. كان يقضي بين المتخاصمين بنا يرضي الله فقط، ولا يلتفت إلى أهوائهم إلى أن وقعت الواقعة. يومها، انهمك الشيخ في قراءة أوراده فنسي الدنيا وما فيها إلى أن بلغ سمعه صياح النسوة المتفجعات، وبكاء الأطفال ونواح العجائز وهدير الرجال وصخبهم. فوضع سبحته على الرمل وأصاخ السمع إلى اللغط الذي صار يقترب شيئا فشيئا حتى وصل أمام خيمته. فرفع رأسه يستطلع الأمر.
وصله صوت شيخ القبيلة زاجرا:
- سوت تقتله وتجرنا إلى حرب لم نعد قادرين عليها. أترك الأمر للشيخ يا ولد.
ثم سلم على الشيخ ورمى بين يديه رجلا مقيد الأطراف وهو يردد :
- لقد هتك هذا الرومي عرضنا يا شيخنا .
اقشعر بدن الشيخ وحامت غمامة على وجهه ،فاصفر. وأسر لنفسه :
- ما قبل الرب توبتي فعاد يمتحنني بهذا الكافر.
وعاد الشيخ إلى الكلام :
- فاجأه الشباب وهو يتفخذ عائشة.
ثم قال وهو يضرب كفا بكف :
- الآن عرفت لماذا صامت هذه الكلبة عن أولاد القبيلة.
قال المقرئ:
- وأين هي الآن ؟ هل قتلتموها ؟
فرد شيخ القبيلة :
- هي في حماية بنادق أولادي.
وزاد الشيخ فاستفسر:
- وإخوتها ماذا فعلوا ؟
فقال سيد القبيلة :
- هم يحاصرون بنادق أولادي بعد أن اشتبكوا معهم بالأيدي والخناجر وحاولوا افتكاك عائشة بالقوة للأكل من كبدها.
وقال الشيخ :
- هذه مصيبة ورب البيت.
وارتفع صياح الشباب:
- ما حكم الشرع فيهما يا شيخنا ؟
فقال لهم :
- دمه مهدور ، وحلال ضرب عنق تلك المرأة بالسيف يا أولادي.
ووخزه شيخ القبيلة بإصبعه في خاصرته ، وهمس له :
- هل تريد أن يفني جند فرنسا شبابنا يا شيخ ؟
فقال الرجل وهو يتمتم :
- ستلاحقني لعنتك يا ابن بهية إلى القبر .
وسكت أكثر من ساعة والرجال يتصايحون مطالبين بتنفيذ الحكم في الرجل والصبية إلى أن همهم الشيخ :
- ترقبوا قليلا ، لعل الله يجعل للأمر مخرجا.
وقام . فتعالت أصوات المحتجين متشنجة. وانهال بعض الشباب على الرومي رميا بالحجارة ورفسا بالأرجل . وحاولوا استباحة حرمة خيمة الشيخ لكنهم ولوا الأدبار وكأن رؤوس رماح تخز كامل أبدانهم.
كانت خيمة الشيخ محاصرة بأطفال صغار يحمل كل واحد منهم بين يديه لوحا ويقرأ بصوت جهير كلام الرب. فحطت السكينة على الحاضرين ثم بدأوا في الانصراف واحدا وراء الآخر.
قال الإمام لشيخ القبيلة لما بقيا منفردين مع الفرنسي :
- هل هذا الرجل متزوج ؟
فرد :
- بل أعزب يا شيخنا .
وعاد يسأل إن كان هذا الفرنسي يحسن الكلام بالعربية .
فقال شيخ القبيلة إنه يتكلمها كواحد من أبنائها . فظهر البشر على وجه الإمام وتمتم :
- لقد وجدت الحل. سأهدي هذا الكافر إلى الدين الحق، فإن أجاب إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حمى بدنه من الجلد في الدنيا ومن نار جهنم يوم الحشر.
والتفت الإمام جهة الفرنسي وتحسس الحبل الذي يغله آكلا من لحم يديه ورجليه، وحركه، فأن أنينا موجعا وسكت.
قال الشيخ المقرئ:
- ليس الآن وقت حساب وعقاب.
وتفل بين أصابعه ووضعها على الحبل فانحلت عقدته. ومسح بالأصابع على جراح الفرنسي فأبلت في الحين. وصفق بيديه فنزلت من السماء مائدة عامرة بما لذ وطاب من الأطعمة الشهية والماء الزلال. فغسل يديه وذكر اسم الله وطلب من الفرنسي أن يغسل يديه وأن يأكل من هذه الطيبات.
ثم أضاف يكلم الفرنسي :
- لا أظن أن أهل الدوار سيبعثون لنا شيئا من طعامهم هذه الليلة بعد أن أكلت من لحم ابنتهم يا ولدي.
والفرنسي مشدوه لا يدري إن كان في حضرة شيخ أو أمام ساحر. فكل ما في هذا الرجل يبعث على الاطمئنان ويملأ القلب فرحا وسعادة ولكن ما يأتي به من خوارق زعزع كياته وهز روحه القلقة. فقال وهو يمد يديه إلى الطعام المبسوط على المائدة :
- أنا لم أغتصب عائشة يا أبي. إنها تحبني وأنا أعشقها. إنني أنوي خطبتها من قومها ولا أريد بها سوءا أبدا.
- ولكن ديننا يمنع زواج المسلمة من الكافر ، فهل لك في الإسلام يا ولدي؟
- أترك لي مهلة للتفكير وستعرف رأيي غدا صباحا يا سيدي.
وانتهى الشيخ وضيفه من الطعام ، فصفق مرة أخرى فرفعت المائدة من أمامهما وارتفعت في الجو. فتابع الفرنسي طيرانها بعينيه مذهولا إلى أن صارت أصغر من قطعة نقود فضية ثم غابت عن الأنظار. وارتفع صوت الشيخ وهو يقرأ أوراده . وتلألأت الأنوار في قلب الفرنسي، فنام على الرمل كما ينام الرضيع في حضن أمه الدافئ.



2

افتقد عملة محطة القطار رئيسهم فذهبوا يبحثون عنه في بيته فلم يجدوه. رأوا الأبواب مشرعة للريح ولكن لا حياة في البيت فذهبوا إلى مقهى " داتاي " في قرية " فيليب توماس " .
كان صاحب المقهى منهمكا في حديث لا ينتهي مع الإيطاليين " بيراس " و " ليدا " . سأله أحد الأصحاب إن هو شاهد " لويس " في المقهى فلم يلتفت إليه. وعاد الصاحب يلح في السؤال فأخبره " ليدا " وهو يضحك بأنه رآه وقت الغروب يسير وراء أتان حبيبته البدوية فافتكر الجماعة فجأة قصة حبه لعائشة وخافوا أن يكون البدو قد اختطفوه . فذهبوا سراعا يخبرون رئيس مركز الجندرمة بغيابه.
ما وجدوا رئيس المركز لكنهم شاهدوا جندي الحراسة نائما ، فأيقضوه.
طلب منهم أن يترقبوا طلوع النهار لعل الرجل يعود من غيبته سالما غانما . وعاد إلى النوم . وارتفع شخيره في الحال فرجعوا إلى المحطة.
استقبلهم مراقب سكة الحديد ملوحا بعلمه الأحمر وبفانوسه وهو يرتجف من الخوف. وقدم لهم خادم شيخ قبيلة البدو المعسكرين قرب المحطة ليعلمهم بالواقعة فأقعوا على مؤخراتهم وأطفأوا الفانوس . ووصل الخبر إلى رئيس مركز الجندرمة العائد لتوه من صيد الغزلان صحبة مدير الشركة والرئيس المدير العام الذي حل البارحة بالمتلوي قادما من باريس ليتفقد أشغال تدشين الأنفاق الجديدة.
قال حامل الخبر إن البدو ذبحوا " لويس " رئيس المحطة وأكلوا لحمه وفرقوا دمه بين قبائلهم حتى لا تحمل فرنسا قبيلة واحدة وزره. ، فجن جنون رئيس مركز الجندرمة. استل مسدسه وراح يطلق الرصاص في الهواء، فزعق صاحب البوق في بوقه وجيش الجيوش.
اصطف الجنود في طابور طويل يسبقهم العلم المثلث الألوان وذهبوا صحبة رئيسهم يستطلعون الخبر. وعلا غبار الصحراء تحت أقدام الجنود. ورفرف علم فرنسا عاليا. وصاح القائد وهو يحاصر النجع من كل الجهات طالبا أن يسلموه الأسير حالا وبدون شروط. فجاوبته الكلاب بالنباح والعويل. ولعلع بارود جنود فرنسا في الهواء. فخرج الشيخ المقرئ من تحت خيمته وأشار إلى السماء فامتلأ المكان بأنوار الشهب . وتحول ليل الصحراء إلى نهار. ساعتها طلب " لويس " من الإمام أن يعلمه كيف يدخل دين الإسلام. فقال له :
- الأمر سهل يا ولدي قل معي : " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
فردد الفرنسي الشهادتين وخرج إلى الجند يطلب منهم الكف عن إطلاق الرصاص ويدعوهم إلى العودة إلى ثكناتهم لأن شيخ القبيلة استضافه الليلة ، وهو سليم معافى بين العرب الذين أكرموه وبجلوه وأطعموه من لحم طيور الجنة وسقوه من ماء نهر الكوثر. فعاد الجند من حيث أتوا وهم يلعنون الواشي الذي جعلهم يخسرون ساعان النوم الثمينة ورفعوا أعلامهم يلوحون بها في وجوه الكلاب النابحة.
وعاد الفرنسي إلى خيمة الشيخ . طلب منه يد "عائشة" وقفصا من سرب طيور الجنة وقنينة ماء من نهر الكوثر ، فترجاه الشيخ أن يترقب طلوع النهار لأن مع العسر يسرا.
إن مع العسر يسرا.


3

وانطفأت أنوار الشهب ، فخرجت الشمس من جوف العفريت الذي ابتلعا البارحة وملأت الصحراء بالنور والنار. فعادت الحياة تدب في الأرواح التي أرهقها النوم الثقيل.
وأفاق الفرنسي ، فرأى في الركن الغربي من الخيمة قفصا به سبعة عصافير ريشها من الذهب الخالص وعيونها من الزمرد الذي يخلب الألباب ومناقيرها تصدح بأعذب الألحان. تسبح لله الواحد القهار بكل لغات الطير إلى أن يصيبها العطش فتشرب من إناء من الفضة به ماء تفوح منه رائحة المسك والعنبر والياسمين.
قال شيخ العلم للفرنسي :
- هذه هديتي لك يا ولدي ، اقبلها مني وسأشكر لك صنيعك إلى أن أقابل ربي ، فأنا لا طاقة لي على حمل أوزار أخرى من بني جلدي ولا على رؤية لون الدم مسكوبا على رمال الصحراء.
وجاء الرجال فقال لهم :
- هذا الرجل صار منكم .
وطلب منه أن يقول الشهادتين على رؤوس الملإ وأن يكون من أصحاب الدين الحق، فوافق وردد الشهادتين وراء الشيخ والدموع تسيل على خديه .
وطلب من الشيخ يد عائشة زوجة له في الدنيا والآخرة ، فوافق الشيخ بعدما استشار إخوتها قائلا :
- هل توافقون على مصاهرة فرنسا يا إخوة عائشة ؟
فرددوا :
- لقد فوضنا لك الأمر يا شيخنا ولن يكون لنا رأي يخالف رأيك.
ومدوا أيديهم وقرأوا فاتحة الكتاب.
وسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.

4

وحمل الفرنسي قفص الطيور وعاد إلى داره . وبعد أسبوع تزوج عائشة . أشهد على زواجه منها شيخ القبيلة وشيخ العلم ولكنه لم يبن بها إلا بعد أن طاب جرحه ، فقد قص " الطهار " قلفته ليتمم دينه ويدخل الجنة من بابها الواسع يوم القيامة تسبقه زقزقة العصافير وتفوح من ثيابه رائحة المسك الأذفر.
وصارت قصة الرومي الذي عشق البدوية حديث القاصي والداني فسارت بها الركبان وبنى عليها الحكاؤون قصصا كثيرة تروى في ليالي الشتاء لتمضية الوقت . ولم ينسها الناس إلا بعد أن وصلت أصداء الحرب الكبرى إلى مناجم الفسفاط . فسكتوا عن هذه الحكاية ليبدأوا في سرد أحداث الحكاية الجديدة . حكاية الحرب التي شنها الألمان ضد فرنسا فأفنوا من أولادها خلقا كثيرا . وهرب البقية إلى تونس يطلبون النجدة من سلاطينها : سيدي محرز بن خلف وسيدي ابن عروس وأبي علي السني ، فوعدوهم خيرا وعقدوا جلسة بدار الديوان في مقام سيدي الصحبي بالقيروان أفتوا بعدها بجواز قتال الألمان إلى جانب رجال فرنسا الحرة.
وسمع " القياد " و " شيوخ القبائل والعروش " فتوى سلاطين البلاد فخرجوا يطوفون البلاد في الفيافي والقرى والمداشر يحشدون الشباب والكهول ويبعثون بهم إلى ميناء " بنزرت " ليلقنوا الجيش الألماني درسا لن ينساه على مدى الأيام والدهور.
قالوا لهم سيروا على بركة الله سيحميكم الأولياء الصالحون من رصاص الأعداء . ويكفيكم أن تذكروا اسم الله إذا سمعتم أصوات البنادق ، سيكون وقعها على أبدانكم بردا وسلاما .
ويا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم.
وصدق الشباب كلام شيوخهم فقطعوا البحر المتوسط وحطوا الرحال في الأرض الباردة . لم يتوقعوا أبدا أن الجليد سيفعل فيهم فعله بهذه السهولة. تجمدت أطرافهم من البرد وماتت أصابعهم قبل أن تطلق الرصاص . فدفع بهم رجال فرنسا الحرة إلى حقول الألغام المزروعة بين الطرفين المتحاربين . فطار لحمهم في الفضاء الشاسع مصحوبا بأصوات دق البنادير وروائح البخور وصيحات الدراويش في الزوايا والتكايا.
واشتدت البلية على أهالي المنجم فقد شحت المؤن وصارت مقتصدية الشركة تمنع عنهم السميد والسكر والشاي والقهوة والقمح والشعير والزيت . وصارت الأجرة اليومية للعمال لا تكفي لشراء رطل سكر أو رطلي سميد . وازدهرت السوق السوداء التي غذاها بالمؤن تجار أوروبيون . فقل إقبال الأهالي على ارتياد السوق وماتت الشهوات في قلوبهم. واشتد نهم التجار إلى الربح كلما زادت أصوات المدافع ارتفاعا في البلاد الباردة. وخلت جيوب العمال من العملات فتركوا " المدينة الحديثة " وعادوا إلى قراهم. وجدوها خالية تسكن أزقتها أشباح الموتى وتصفر في شوارعها الريح الصفراء محملة بالغبار والأوبئة.
وأغلقت أسواق البيع أمام الشركة فما عاد للفسفاط نفع في هذه الأيام المليئة بالموت والبوار. فصارت الشركة تكدس إنتاجها في المخازن وفي المنبسطات القريبة من المنجم حتى غطت الصحراء أكداس التراب البني التي امتدت على مرمى البصر. فسرحت الشركة بقية العمال وأبقت على بعض الفنيين الذين أوكلت إليهم صيانة الأنفاق حتى لا ينهار الجبل. وكادت الشركة تعلن الإفلاس لكن أصوات المدافع سكتت فجأة ، فقد حولت بركة " سلاطين تونس " الجيش الألماني إلى هشيم.
وعاد من شباب البوادي الذين ركبوا البحر أبطال يمشون على أرجل من خشب ويرطنون بلغة فرنسية فصيحة ويقولون لمن قالهم بمناسبة وبدون مناسبة: " finie la guerre " . يكررونها أكثر من مرة وهم يقلبون شفاههم ويبتسمون ببلاهة.
وحين يسألهم سائل عن بقية الصحب يقولون إنهم فضلوا البقاء في فرنسا، ويزيدون :
- ومن يبدل اللحم الأبيض المكتنز بهؤلاء البدويات العجفاوات غير المجانين من أمثالنا يا رجال.
ويضجون بضحك مجنون وهم يخبطون الأرض بأرجلهم الخشبية الشبيهة بقوائم المعيز الغبراء.


5

رجل واحد لم ينس " عائشة " . ظل حبها يشتعل في قلبه اشتعال النار في الهشيم، فرفض فتوى " الشيخ المقرئ" ولم يخف بنادق جند فرنسا.
قال لأعمامه الذين سجنوه :
- أطلقوا سراحي وسأهج في هذه الأرض.
وبكى ، فرق الأعمام لحاله وأركبوه القطار الذاهب إلى " صفاقس" ، فنزل في المحطة الأولى وعاد على قدميه إلى المتلوي.
قال يحدث الناس المجتمعين في السوق:
-ما شأن عائشة بهذا الغريب؟ وما شأن هذا الغريب بعائشة؟
يأتي من بعيد،
من وراء الجبل الأسود،،
من وراء زفير الريح والمطر الذي يبلل الأرض كل يوم،
يأتي من قلب الفجيعة،
من وسط نار القلب،
ويقطفها فاكهة طازجة.
وأنا،
أنا شداد المتيم بها ترمي بي رمل النواة في الرمل،
ولا تلتفت لدمار روحي.
وتذهب هكذا فاتحة قلبها ويديه للمجهول.
آه يا عائشة.
لن أتركك تضيعين مني ضياع الماء بين الأصابع.
أنا الذي رأيتك تكبرين بين طلوع الشمس وغروبها.
بين تفتح الزهور وذبول الأمل.
بين انفتاح شبابيك قلبي وهبوط الليل على هذا النجع في هذه الصحراء.
سمعت روحي تهتف لروحك قبل خلقنا وقبل أن تعرفي أنني ابن عمك الذي كتب عليك أن ترتبطي به لحظة الصرخة الأولى.
ما أقسى قلبك.
أيتها...
أيتها...
أيتها الفاجعة.
فليحاكمك الأهل.
لا يهمني أن تبرئي.
أما أنا فسأرمي بلحمك لذئاب الليل النابت على أكتاف هذا الجبل.
إنني أطالب بحقي فيك.
ولن أتراجع أبدا.
ومزق ثيابه ومشى في السوق عريان السوأة.
فمشت بشعره الركبان.
وغناه القوالون في الأعراس.
وبكت به النائحات في المآتم إلى يوم الناس هذا.