وراء السراب ... قليلا/ 15

الفصل الأخير

رواية

ابراهيم درغوثي / تونس




الباب الخامس عشر


الباب الأخير





بروي تفاصيل إضراب الأربعين يوما ، وكيف أن الرب لم يخلق هذه الدنيا من أجل شخص واحد.
ويتحدث عن عنف إدارة الشركة وطيبة قلوب العمال عربا وأعاجم.
1

كان مدير الشركة يزمجر كالأسد بعد أن ضرب بيديه بلور طاولته الفخمة ففتته قطعا صغيرة:
- سأجعلكم تأكلون فتات الخبز المنثور تحت أقدامي يا أولاد القحاب. ستموتون جوعا بعد ثلاثة أيام.
ستأتون كالكلاب الجائعة تبصبصون بأذنابكم وتطلبون العفو مني.
ولن أرحمكم.
وقتها سأدوس على رقابكم.
وسأخرج زبي لأبول عليكم.
ولن أهدأ حتى أطردكم من مكتبي عراة حفاة.
وأطوف بكم شوارع " فيليب توماس " داخل أقفاص مسيجة بالحديد.
سأجعلكم فرجة يا كلاب.
سأجعلكم أضحوكة هذا العصر.
وعاد إليه الهدوء شيئا فشيئا فراج يجلس وراء طاولته بعد أن أطرد مندوبي عمال منجم المتلوي الذين جاءوا يعرضون عليه مطالبهم فخرجوا من عنده وهم يهددون بالويل والثبور وبعظائم الأمور.
وتمسك كل واحد من الجماعة بطرف الحبل رافضا التسليم أو الدخول في هدنة إلى أن أعلنت النقابة الوليدة بعد ثلاثة أيام من اللقاء مع المدير الدخول في إضراب مفتوح ودعت منخرطيها عربا و أوروبيين إلى الامتناع عن العمل فلبى ثلاثة آلاف عامل النداء وهم يرددون صرخة الإيطالي " زاري " : " لم يخلق الرب هذه الدنيا من أجل شخص واحد وإنما أعطى للجميع حقوقا متساوية ".
إنه الإضراب الأول من نوعه الذي شارك فيه عمال من جنسيات مختلفة من شمال إفريقيا.
قالوا سننطح الصخر برؤوسنا ولن نهاب الموت.
وسنجتاز الصحراء ولن نخاف العطش.
وسنأكل تمرة واحدة ولن نجوع طول اليوم.
ولكننا لن نركع.
ورد مدير الشركة على الإضراب بعنف. وقف يصرخ فوق بناية البرج مواجها الساحة التي اجتمع فيها العمال المضربون:
- أنا ربكم الأعلى يا شذاذ الطرق. سأرفع عنكم رحمتي انطلاقا من هذه الساعة. وأمر بطرد المحرضين على الإضراب ، فزاد فتيل النيران اشتعالا. ولم تجد تهديدات هذا الرب نفعا ، إذ تجمهر المضربون يوم 18 أفريل أمام محطة القطار مبتهجين بقدوم " زاري " إلى المتلوي. وأعلنوا في كامل البلاد أن هذا الأسبوع سيكون أسبوع الفرح الدائم . وزينوا المحطة بالشرائط الملونة وأعلام الأولياء الصالحين . وجلبوا الطبول والمزامير والبواريد وبدأ الرقص والتطبيل والتزمير منذ الصباح الباكر. ووصل القطار ، فعلت هتافات أكثر من ألف عامل تصرخ منادية بحياة " زاري " . وجرى رجل غليظ ، عريض المنكبين فأركب النقابي على كتفيه وبدأ يرقص وسط حلقة من المحتفين بالرجل. رقص على رجليه ثم على رجل واحدة والأصحاب يهللون ويكبرون مرددين بأصواتهم العالية :
" لضراب يا محلاه * جابلنا لحقوق معاه "
والإيطالي يرد على تحياتهم رافعا قبضته في وجه من ادعى أنه الرب الأعلى . وأنزله الرجل من على كتفيه فاحتضنه النقابي وقبل جبهته وهو يصيح مع الصائحين.
وطاف المضربون مصحوبين ب" زاري " أحياء " المدينة الجديدة " فاستقبلتهم النساء أمام الأبواب سافرات ، مزغردات ومغنيات أعذب الألحان البدوية.
وكان " زاري " يقف للتحية أو لرد التحية ، ثم يواصل تجواله محفوفا بجمع غفير من مريديه ، إلى أن هبط الليل فذهب إلى دار " ليدا " . ولكنه لم ينم تلك الليلة ، فقد تواصل الحفل في هناء وسرور وغناء وحبور إلى أن طلع الصباح فدعا " زاري " إلى اجتماع عام تداعى له الخلق من كل الجهات. فأعلن عن حل النقابة لأن الشركة أطردت أعضاءها من العمل وشطبت أسماءهم من سجلاتها وأبدلها بلجنة إضراب تتركب من فرنسيين وأربعة إيطاليين وستة مغاربيين .
وعاد الطبل إلى الرزم ، فارتفعت هتافات الاحتجاج إلى عنان السماء.

2

وامتلأ قلب مدير الشركة بالقيح ونغلت فيه الديدان ، فحرك جنود الجندرمة فانداحوا يملأون الشوارع بالخراطيش الفارغة وبنباح الكلاب. واحتلوا منافذ المعمل خوفا من أن يخرب المضربون الأنفاق. وشددوا الحراسة على سكة الحديد وعربات وقاطرات الشركة ومخازن الديناميت والمقتصدية.
ولكن العمال لم ياتفتوا لكل هذه الأشياء بل واصلوا اجتماعاتهم في الساحات العامة وفي الشوارع وأمام الإدارة . تحدثوا عن عرقهم الذي شربه التراب وعن جهدهم الذي رحلته الشركة في عربات تذهب إلى ميناء " صفاقس " ملأى بالتعب والإرهاق وتعود محملة بالخيرات السبعة التي تعرض في فيترينات المقتصدية : موز وأناناس ، وعنب وفراولة ، وجوز وإجاص ، و " هات الفرنك يا متعوس ، أو شوف وموت بقلبك ".
يشاهد العمال وأطفالهم هذه الخيرات ولكنهم لا يقدرون على لمسها فيكتفون بالنظر إليها من بعيد والحديث معها من وراء الزجاج ووصفها إلى الأهل والأحباب وتخمين طعمها والحلم بها في ليالي الشتاء الطويلة.
وسب العمال جشع الشركة بكل لغات العالم من العربية إلى الفرنسية مرورا بالأمازيغية والإيطالية والبولونية. وتهجموا على مديرها الذي ظن نفسه هابطا من السماء. ولده الرب هناك وأنزله إلى الأرض بسلالم من ذهب ليتحكم في رقاب الخلق بتوكيل شخصي منه.
ومر المدير مرة قريبا من المضربين فرموه بالطماطم الفاسدة والبيض ، فتعثر في مشيته وارتبك وضاعت خطواته بين مد وجزر فضحكوا في قفاه وقهقهوا وهو ينسحب خاسئا لا فرق بينه وبين بقية بني آدم.
وإنه إنسان مثلهم وإن تفرعن وادعى الربوبية وسكن في قصر بنته الشركة بمقدار من المال كفيل برفع الفقر عن كاهل ألف عامل من عمالها.
يعد أسبوع من الاجتماعات عاد زاري إلى تونس . ولكنه قبل أن يمضي إلى هناك أوصى لجنة الإضراب بعدم الرد على نباح كلاب الشركة وبالامتناع عن توبيخ صوة صافرة المنجم التي تدعو كل صباح بزعيقها المزعج السواعد إلى ظلام الأنفاق.




3

وبدأت المؤونة تنفذ في بعض المنازل فشكل المضربون لجنة لجمع القمح والسكر والشاي والزيت والدقيق والشعير والبطاطا والفول والحمص والقهوة . وتفرق الرجال داخل أحياء الطرابلسية والمروك والسوافة والجريدية وذهبوا إلى مضارب البدو: أولاد بويحيي وأولاد سيدي عبيد وأولاد سلامة فرجعوا محملين بغرائر القمح والشعير وبزغاريد البدويات وبدعاء الشيوخ بالفوز والنجاح.
واقترح الحاج مرابط على لجنة الإضراب الإشراف على طهي الطعام فاتفقوا على أن تتكفل النساء بالطهي لكل حي على حدة وأن يأكل الكبار ما يسد الرمق ليوفروا للأطفال حاجاتهم. وصار تحضير الطعام مناسبة أخرى للفرح والرقص والجنون وسب جد جد هذه الشركة الملعونة.
ودخل الإضراب أسبوعه الثالث دون أن تظهر بوادر انفراج للأزمة . وصار مدير الشركة يهدد بطرد كل العمال الذين لن يلتحقوا بالعمل قبل يوم 3 ماي ويرمي أدباشهم خارج المساكن التي وفرتها لهم الشركة. وكبر التحدي في عيون النساء. صارت الأم تهدهد طفلها الصغير على ركبتيها وتغني له :
" نني، نني ... جاك النوم " وتدفع الحطب تحت القدر لتلتهب النيران ويرتفع اللهب ويطير البخار إلى سابع سماء.
والأم تطهو في القدر الحصيات والحجارة.
والطفل الصغير ينام...
وينام الطفل الكبير...
وينام الطفل الأكبر...
فتضع الأم القدر على الأرض وتهرق الماء السخن.
وتستخرج من الطمي الحجارة والحصيات.
تخبئ الأم الحصيات ذخيرة لليلة القادمة.
وتربط حجرا على بطنها وتنام.
وتظل الجدة يقظة ترعى نجوم السماء.
حتى يصيح الديك.
ووصلت إعانة العمال الحديديين: ثلاثة آلاف فرنك، إعانة للمحتاجين ، من صفاقس وعنابة . ولكن هل تقدر قطرة ماء على ري الأفواه العطشى ؟ فقد بدأت بوادر المجاعة بالظهور في جهات عدة من أحياء المنجم. ولكن الرجال أصروا على تحدي الشركة . ذهبوا إلى المقتصدية يشترون بمال الإعانة طعاما للأطفال فوجدوا أبوابها مغلقة.
وسألوا عن السبب فقيل لهم إن الشركة ترفض البيع للمضربين فاضطروا للشراء من السوق السوداء وبأسعار خيالية.
وبدأت نيران المواقد في الانطفاء.
وزاد عدد الأمهات اللاتي يطبخن في قدورهن حصى للأطفال . وارتفعت نبرة السب ، فأغلقت الشركة مقهى " داتوي " . قال له كوميسار المتلوي : " لقد تحولت مقهاك إلى وكر للمخربين وهذا أمر من المقيم العام بإغلاقها ".
وجاء البناؤون فسدوا أبوابها بالحجارة والإسمنت وذهبوا دون أن يلتفتوا وراءهم.
وتحركت أعداد كبيرة من رجال الجندرمة في عدة القتال: الخوذة على الرأس، والترس في اليد وهراوة غليظة في اليد الأخرى، والبندقية على الكتف.
تجول الجندرمة في الشوارع وفرقوا الرجال المتجمهرين وطالبوهم بالبقاء في المنازل.
وتحدى البعض هذه الأوامر فزج بهم في السجن.
وارتفعت الاحتجاجات عاليا في سماء قرية المتلوي.
كانت عواميد من الاحتجاجات ترتفع كل ليلة في السماء على شكل نيران كبيرة تحرق فيها أطنان من الخشب المعدة لشد سقوف الأنفاق. تطقطق النيران مصحوبة بالدخان الأسود واللهب فيسمع زفيرها على بعد عدة كيلومترات.
ويهرب النوم من سرير المدير.
ويمتلئ بيت نومه بأنات الجوعى.
وصرخات الجوعى.
وبكاء الأطفال.
وبعويل الثكالى.
وبنظرات الموتى تحت الردم ساعة إخراجهم من رحم الأرض.
وانزعج المدير.
وصارت عيون موتى انهيارات الجبل تحاصره من جميع الجهات. أنى يلتفت يرها تجملق فيه مفجوعة بالموت الذي فاجأها من حيث لا تدري.
عيون بربرية خضراء من جبال جرجرة الأطلسية.
وعيون سوداء كحيلة من طرابلس الغرب.
وعيون زرقاء تضطرب داخلها أمواج بحر طنجة.
وعيون عسلية بلون رمال السراب.
رأى داخل تلك العيون خرفانا ترعى في السهول الخصبة أيام الربيع.
ورأى ضفائر الصبايا تترقب دق الطبول.
ورأى جمالا ترعى وقت الضراب ساعة الصابة.
فنادى مساعديه. طلب منهم أن يستعدوا للسفر إلى توزر.
وقال لهم : لم يبق لنا سوى زيارة مقام سيدي المولدي لعل ابنه سيدي بوبكر يتوسط بيني وبين هؤلاء الرجال فيفكون الإضراب.
في الحال أعد قطار ألحقت به عربة درجة أولى أثثت بما يريح المدير وأحد مساعديه ومترجما يتقن العربية والفرنسية وشيوخ الزوايا المعتمدين لدى شركة صفاقس/قفصة. وتحرك القطار يقطع المهم الفاصل بين المتلوي وبلاد الجريد. والمدير يعجب لهذه الرحلة الغريبة ولصروف الدهر التي جعلته تحت رحمة هؤلاء الشيوخ المعممين ذوي الوجوه الشبيهة بوجه ابن آوى.
هكذا كان المدير يحدث نفسه وهو في مقصورته يستمع إلى قراءة القرآن والاستغفار وذكر رب المسلمين إلى أن طالعته رؤوس النخيل وأهلة المآذن. وعلا صوت الآذان على هدير القاطرة فترجل المدير وسحب من الحزن تغطي وجهه وتملأ قلبه بالكآبة.
وجد " عامل " * توزر في استقباله فسلم عليه وأمر جنود " الصبايحية " فحركوا نحوه حصانا أصيلا يرفل في أبهى زينته.
امتطى المدير الحصان وسار الموكب إلى الزاوية القادرية تحف به وجوه القوم من جميع الجهات.
وجد المدير أمام الزاوية خلقا كثيرا ، وأعلاما ترفرف ، وبنادير تقرع ، ورجالا يقرأون البردة والمنفرجة . ورأى الحواة من مريدي سيدي بن عيسى يلتهمون العقارب حية ويقبلون الأفاعي ويبقرون بطونهم بالسكاكين والسيوف دون أن يحدث لهم ذلك ألما. ويحرقون وجوههم بالنيران ويتمرغون على المسامير ويمشون على الجمر حفاة.
" فرجة " قال المدير ، ليتها كانت بمناسبة عيد من أعياد فرنسا المجيدة.
واستقبل سيدي بوبكر المدير بترحاب كبير . وأهرق على كسوته قارورة عطر ، فامتلأت الساحة بروائح الطيب . وتهلل وجه المدير فقال إنه يحترم الزوايا ويقدر القائمين عليها حق قدرهم . وقد جاء اليوم للسلام على " الشيخ " ولتقديم هبة لهذه الزاوية توزع على فقراء الجريد.
ودعا " الشيخ " إلى التوسط بين " الشركة " وعمالها لأن صوته مسموع بينهم ودعوته مجابة.
فجأة اكفهر وجه " الشيخ " واسودت سحنته وقال بصوت يخنقه الغضب : " نحن قوم لا دخل لنا في السياسة يا رجل . نحن فقراء نعبد الله ولا نشرك به أحدا . رعيتنا ممن ترى من خلق الله. لنا عليهم حق السمع والطاعة فيما لا يغضبه سبحانه وتعالى. أما رعيتك فدونك وإياها. أحسن إليها تسمعك وأعطها حقها تطعك."
وذهب الشيخ في حال سبيله ، فسكتت البنادير وسكنت الحركة . فكأن على رؤوس الحاضرين الطير.
قال المدير لمساعده : " تعال بنا نعود إلى المتلوي فلا أمل لنا في هذا الرجل يا صديقي"

4

مرة أخرى انتفخت بطون الأطفال واستطالت أرجلهم وغارت عيونهم داخل المآقي وغامت نظراتهم واقترب الموت منهم خفية في بادئ الأمر . كان يختطف في اليوم ولدا واحدا أو بنتا رضيعة ثم صار يتجرأ على الأهل في واضحة النهار فيختار من الأطفال من يشاء ويذهب في حال سبيله دون أن يدفع ثمنا للوالد المفجوع والوالدة الملتاعة.
وتهرأت غرائر القمح . وجفت خوابي الزيت . ونفد السكر والشاي. وصارت نظرات من بقي حيا من الأطفال تطعن في قلوب الأهل بلا رحمة فتدميها. والإضراب عن العمل يقترب من الأسبوع الخامس. ورب الشركة عاد إلى مواقعه القديمة. والمقبرة امتلأت بالقبور الصغيرة. والمدير غلف قلبه بشر مستطير. أحس بالإهانة التي كالها له شيخ الزاوية القادرية فلعن من دله عليه. ولعن نفسه التي انساقت وراء تلك النزوة الرعناء. واعتزل مستشاريه . وأحرق سفنه . وتمترس وراء رفض الحوار مع النقابة. شعاره عودة لا مشروطة إلى العمل وطرد المحرضين على الإضراب.
وجاءته النجدة من المراقب المدني الذي أصدر قرارا يمنع " زاري " العائد لتوه من تونس من الاجتماع بالعمال. ويهدده بإطلاق النار على المتظاهرين إذا خرجوا إلى الشارع .
وأسقط في أيدي الرجال . وبدأ اليأس في التسرب إلى القلوب بعد أن انطفأت آخر نيران المواقد فخرج " السوافة " إلى السوق يعرضون أسمالهم للبيع وبيوتهم للرهن لعلهم يقدرون على توفير ثمن تذكرة تعود بهم إلى مداشر وادي " سوف ".
وعاد " الجريدية " إلى أوطانهم مشيا على الأقدام.
وتفرق " المغاربة " و " الطرابلسية " في الفجاج إلى أن وصلوا إلى " المكناسي " وإلى زياتين الساحل. فقر قرارهم هناك وراحوا يترقبون ساعة الفرج.
ورب الشركة يزمجر هادرا :
- ألم أقل لكم إنني الجبار ، المتكبر ، المانح ، المانع . وإنني شديد العقاب.
فيتردد صوته في الوهاد والجبال. ويرتفع إلى عنان السماء. ثم يبدأ في الفحيح والتلاشي إلى أن يذوب في ملكوت الرب.

5

دام الإضراب أربعين يوما ، ثم انفرط العقد.
واحدا وراء واحد ، تسلل العمال إلى المنجم.
ذهبوا ليلا حتى لا يفضحهم نور الشمس. وظلوا واقفين أمام أبواب الأنفاق الموصدة بقضبان حديدية غليظة. ولم يفتح لهم أحد الأبواب، فعادوا بحسرة ما بعدها حسرة.
الخزي يلطخ وجوههم.
والعار يمشي بين خطاهم.
وأقسموا أن لا يعودوا إلى الوقوف أمام تلك الأبواب مرة أخرى. ولكنهم ، في الليلة التالية كانوا يقفون أمامها وبأعداد أكبر.
ولم يلتفت أحد إلى وقوفهم.
وظلوا يذهبون ليلا ويعودون في الصباح الباكر إلى الديار دون أن تئز الأبواب التي ركبها الصدأ في وجوههم، إلى أن كاد الهلاك يحط على القلوب.
كانوا يتخبطون كالعميان ، حتى نادى المنادي يعلن أن الشركة ستنتدب عمالها من جديد وأنها لن تقبل إلا من ترضى عنه الإدارة.
والحاضر يبلغ الغائب.
في الصباح ، كان طابور من العمال يقف أمام باب الإدارة .
الطابور طويل، طويل ، أطول من يوم القيامة.
والباب قصير، قصير لا يزيد ارتفاعه عن المتر الواحد.
وكان الحاجب الواقف أمام الباب يجبر العامل المار فوق السراط على الإنحاء حتى تكاد جبهته تلمس الأرض. ثم يطلب منه أن يلعن النقابة ثلاثا وبصوت عال.
كان الرب واقفا بجلاله وراء شرفة الإدارة يراقب من وراء الزجاج الطابور وهو يتقدم بخطى بطيئة.
ظل يراقب المشهد كامل النهار وشبح ابتسامة باهتة مرسوم على شفتيه.


* العامل: مسؤول بدرجة وال في العصر الحالي


أم العرائس/ قفصة
تونس
ديسمبر 2001