مستويات التناص ودوره في البناء والدلالة
قراءة في رواية : " وراء السراب ... قليلا " لإبراهيم درغوثي

أ.عبدالرزاق سليم




تصدير:
ضاقت بنا الكلمات أو ضقنا بها وشردنا الصدى وإلى متى سنطير ؟
قال الهدهد السكران إن غايتنا المدى ، قلنا وماذا خلفه ؟
قال المدى خلف المدى خلف المدى

من قصيدة " الهدهد "
مجموعة " أرى ما أريد "
محمود درويش




تعتبر الرواية في عصرنا جنسا مهيمنا قد افتكت موقعها من خلال " الأطر الاجتماعية للمعرفة * " التي فرضت انتشارها ، فلم تعد مجرد خطاب سردي مغلق محكوم بشروط موروثة عن المشافهة بل " نصا مفتوحا " ** على جميع المرويات الأخرى، وتجاوز ذلك إلى أجناس أخرى غنائية كالشعر والمسرح .
ولما تعقد النص الروائي بحكم تراكب النصوص فيه أصبحت قراءته تتطلب مهارات من القارئ . وأصبح النص الروائي " إنتاجية " (1) Productivité
على حد عبارات جوليا كريستيفا في كتابها " نص الرواية "
والرواية ككل نص إبداعي مهما اشتغلت في فضاء الخيال فإنها تظل نصا محكوما بسياق ثقافي ينتجه زمانا ومكانا وأحداثا وشخصيات . وإذا كل هذه الأركان تحيل إلى تصورات وذهنيات يعبر عنها بتعدد اللهجات والأصوات داخل الرواية المعاصرة وهي رواية حوارية بالضرورة .و " الرواية الحوارية تفترض مشاركة فعالة وفاعلة للقارئ في العملية الإبداعية باعتباره طرفا أساسيا لا يقل أهمية عن الكاتب لأن البعد الدلالي للنص يبقى رهين قدرته على الحفر في أعماق العمل المقروء ( 2 ).

1) الرواية :
" وراء السراب... قليلا " رواية من الحجم المتوسط لإبراهيم درغوثي ، تمتد على عشر ومائتي صفحة . وهي رواية تسربل فيها التاريخي بالواقعي وتلبس فيها السرد الروائي بالسرد الخرافي حتى تساكنا في نسجها في صيغة فنية مميزة وإخراج روائي طريف ، إذ لا نجد لها توأما في الأدب التونسي وإن وجدنا في " الزيني بركات " لجمال الغيطاني على سبيل المثال شبيهة بها من حيث تضافر التاريخ والرواية فيها.
ف " وراء السراب ... قليلا " مشروع للرواية المثقفة تتمازج فيها النصوص السردية في نص جامع بعبارة " جيرار جينات ". وإذا النص راشح بأبعاد اجتماعية نقدية ، حضارية ، تاريخية وإنسانية. وقد توالدت هذه الأبعاد جمة في الرواية التي أرادت أن تكون جنسا مهيمنا على نصوص منها الخرافي والقصصي والإخباري والسير الشعبية حيث تصاقبت كلها في فضاء الرواية التي صارت دائرة قطبية بينما صارت بقية النصوص دوائر تنزاح عن الدائرة المركز ، فهي تنسل من صلب نص مورث Génotexte ولكنها تبدو في شكل نصوص وليدة Phéno-texte بتحولات طارئة يلهث القارئ وراء سرابها ليجد المعنى الكامن عند السراب ذاته. فإذا " وراء السراب ... قليلا " اسم ينطبق على مسماه إلى حد بعيد . ولعل الكشف عن مكونات الرواية وبعض خصائص بنيتها ولو بصفة عامة قد يكشف عن لعبة السراب وما وراءه ولو قليلا.
فكيف بنيت الرواية ؟
وما قيمة ذلك في تموضع الدلالات فيها ؟
تتكون الرواية من ستة فصول مرقمة ترتيبا من 1 إلى 7 خطأ ، إذ تتكون من ستة فصول فقط. ويتكون كل فصل من بابين أو مجموعة أبواب موزعة كالآتي :
الفصل الأول : ستة أبواب
الفصل الثاني : بابان
الفصل الثالث : بابان
الفصل الرابع : باب واحد
الفصل الخامس : بابان
الفصل السادس : بابان.
فيكون المجموع خمسة عشر بابا . ويكون الفصل الأول، بذلك ، أطول الفصول بستة أبواب وأقصرها الرابع بباب واحد . أما سائر الفصول فمتساوية.
ونلاحظ أن التقسيم إلى فصول ليس بدعة في الرواية ، ولكن أن يقسم الفصل إلى أبواب فهذا أمر طارئ لم نألفه في الروايات ، إذ هو من خصائص كتب الأخبار والتفسير التراثية . وهذه البدعة في التقسيم وما وصل بها من العنونة والحواشي والشروحات يجعل هيكلة الرواية موضع اهتمام في مشروع قراءتها ، إذ لا يمكن أن نأخذ العناوين وما لحقها على أنها " الدرجة الصفر للكتابة " على الأقل في الإبداع . ولعل التنبيه الذي جاء متأخرا بصفحة عن الفصل الأول ، وهو تنبيه من الكاتب يجعلنا أكثر إصرارا على قراءة هذا النسغ من الهيكلة لأن الكاتب قد مارس دون أن يشعر ربما خطابا حجاجيا يجرنا إلى الاستعلاء عن التنبيه ويورطه في لعبة مقروئية نص روايته غير مجزئ إذ لا يمكن أن نقرأ ما بين الفصل والفصل، وما بين الباب والباب ونمر على الحواشي، وإلا عرفنا الدار بعد توهم.
نقرأ على سبيل المثال حاشية الباب الأول: " باسمك اللهم أدخل هذه القرية آمنا ". هذه الجملة الدعائية تصلنا بضمير المتكلم فمن يكون قائلها ؟ السارد أم الكاتب وقد اتخذ لبوس السارد ؟ وهو ما يناقض تنبيه الكاتب إلى ما جاء في حواشي الفصول وما يتبع الحواشي أن لا دخل لساردي النص فيه.
ونزعم أن قراءة الرواية لا بد أن تمر حتما عبر قراءة صلة هذه الحواشي والشروحات بمحمول الفصول ، إذ هي مواضع الدلالة في النص الروائي.
هذه الرواية، إذ هي رواية متعددة الأصوات Roman polyphonique يحتاج قارئها إلى آليات تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة ، لسانية وسيميائية وإلى علم اجتماع الأدب لاستحصال المعنى فيها لا سيما حقل التاريخ الذي استلهم منه الروائي " وراء السراب ... قليلا " . فهي رواية تتناول الحياة اليومية لفئة اجتماعية ظلت هامشية ومهمشة في التاريخ المعاصر حينا من الدهر حتى جاء الدرغوثي فأزاح غبار السنين وأخرج ه>ه الفئة وما عانته من هموم ، في عمله الروائي هذا.
فكيف نصف الرواية ؟
وكيف تفاعلت مختلف النصوص في عالمها؟
وأخيرا كيف بنيت الدلالة من هذا التناص ؟

2) في تصنيف الرواية :
أول إشكال تطرحه رواية " وراء السراب ... قليلا " هو إشكال التصنيف . فالرواية تبدو واقعية وتبدو تاريخية في القراءة الأولى، غير أن قراءة ارتجاعية تجعلنا نعدل عن ذلك. ذلك أن إشكال التصنيف بحسب السمات النوعية المميزة للرواية في الأدب العربي،لئن تيسر واستقر إلى حدود السبعينات من القرن العشرين ، فإن كثيرا من روايات الثمانينات وخاصة التسعينات ذات الانتماء المغاربي جغرافيا تحتاج إلى مراجعة المعايير القديمة في التصنيف لأنها تجاوزت من جهة كتابتها وإنتاجيتها ومقروئيتها ما ألفناه فيما سبق من الروايات.
فروايات واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي من الجزائر ومحمد شكري المغربي
وإبراهيم درغوثي من تونس على سبيل المثال لا الحصر ، الصادرة في العشرية الأخيرة من القرن الفارط توظف معطيات الواقع والتاريخ المعاصر للبلدان المغاربية كما توظف السيرة الذاتية بطرائق مختلفة عما سبق.
وكمثال على ذلك يحضر في الرواية التي نحن بصدد تحليلها النص التاريخي مصطبغا بالخرافي . وواضح أن لديه صلة بالسياق الثقافي والتاريخي الذي هو أصل الحكاية التي تنطلق منها الرواية.
فلئن كانت الوقائع التاريخية ومعطيات الواقع الراهن قد شكلت جزءا من مكونات الرواية ، فإن ذلك غير كاف للحكم على الرواية بأنها تاريخية طالما أن سمة التاريخية ليست هي السمة النوعية الوحيدة المكونة للنص ، لأنه منطقيا يصبح النعت حينئذ غير فاصل نوعيا.
إن " وراء السراب ... قليلا " ليست نصا وليدا بجينة واحدة مميزة بل هي ذات خارطة جينية معقدة العلاقات . ولعل النظر في النصوص المكونة لها وكيفية تجانسها يوقفنا على بعض الخصائص المميزة للرواية.

3) التناص ودوره في البناء والدلالة.
أ – في العنوان :
إن العناوين في النصوص المعاصرة ذات أهمية ، إذ هي وحدة بنائية دالة لا تقل أهمية عن جملة سردية أو مقطع سردي داخل النص الروائي.
فالعنوان وإن كان أول ما يصل القارئ بصريا وهو أول ما يشدنا في تقبلنا للنص سواء كان قصيدة أو لوحة تشكيلية أو قصة أو رواية ، فإنه غالبا ما يكون آخر ما يتمخض عنه المتخيل السردي لدى المؤلف.
ولا نشك في أن العناوين لا تقدم على الصيغة التي تصلنا إلا بعد أن يطالها تحكيك فتهذب وتشذب ويعاد النظر فيها مرات لا تكون أبدا مفاتيح للقراءة أو طيا فيما سينشر في النص بل تكون أحيانا مراتيج تكثف الدلالات الحافة إيحاء وإن أوهمت بالدلالات المطابقة إنباء . ولعل عنوانا مثل " وراء السراب ... قليلا " من جنس هذه العناوين ، فهو مركب سواء من جهة بنائه النحوي أو من جهة إحالاته وإيحاءاته.
فكيف بني هذا العنوان نحويا ؟
وما هي إيحاءاته التناصية؟
أ – 1 : في البنية النحوية للعنوان :
يتضمن العنوان " وراء السراب ... قليلا " ثلاث كلمات هي أسماء . ويغيب في العنوان الحرف والفعل. هذه الأسماء الثلاثة تتشكل نحويا من مركب جزئي بالإضافة ثم مفردة وبينهما نقاط استرسال . ولما كان المعنى غير مستوفى فإنه لا بد من افتراض بنية نحوية مقدرة تكمل الإسناد وتحقق شرط المعنى يمكن تقديرها كما يلي :

وراء السراب ... قليلا
مركب إضافي مفعول فيه للمكان فعل مع فاعل مفعول مطلق
جملة فعلية بسيطة

ولنا أن نختار من الأفعال ما قد يناسب هذا السياق ، فتصبح الجملة مثلا :
وراء السراب نجري قليلا
أو : وراء السراب نكتب قليلا
وسنترك أمر ترجيح أحد الفعلين المقدرين لما بعد حين أي بعد معرفة الإيحاءات الممكنة المرتبطة بالعنوان في مستويي المعنى والدلالة.
أ – 2 : في إيحاءات العنوان التناصية وإحالاته:
قبل البحث في الإيحاءات لا بد من النظر في الدلالة المعجمية لكلمة سراب لأنها مكمن الدلالة في العنوان وفي نص الرواية كلها.
جاء في " لسان العرب " في مادة ( س.ر.ب) : سرب يسرب سروبا أي ذهب . والسرب ، الطريق . والسراب الآل وقيل السراب الذي يكون نصف النهار لاطئا بالأرض لاصقا بها وكأنه ماء جار . والآل الذي يكون بالضحى يرفع الشخوص فيزهاها الملا بين السماء والأرض. قال أبو الهيثم : سمي السراب سرابا لأنه يسرب سروبا أي يجري جريا" (3) . وأول ما تستدعيه كلمة سراب في الذهن هو الوهم والخداع ، إذ يرتبط في ذهن القارئ بما ورد في الآية 39 من سورة النور " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا " . فالسراب هنا وهم ماء . وجاء في أمثال العرب قولهم : " لست بأول من غره السراب " (4) . ف " وراء السراب ... قليلا " تستدعي نصوصا مختلفة بدءا بالقرآن وانتهاء بالأمثال تجمع كلها على أن السراب يحيل إلى الفعل الزائف المنتهي بالتعطيل والخيبة . ولذلك قدرنا أن يكون فعل " نجري " و " نسير " و " نمشي " هي أقرب الأفعال إلى سياق العنوان غير أن المؤلف قد اختار أن يصدر روايته بأسطر شعرية لمحمود درويش من ديوانه " لماذا تركت الحصان وحيدا " تجعلنا نرجح فعلا آخر في سياق العنوان هو " كتب " . فيصبح العنوان " وراء السراب نكتب قليلا ".
جاء في شعر درويش :
" وفي الصحراء قال الغيب لي:
أكتب
فقلت : على السراب كتابة أخرى
فقال : أكتب ليخضر السراب
ونرجح الكتابة لأمر آخر وهو أن الرواية كما سنرى تتعطل فيها جميع الأفعال وتتحول إلى زيف وسراب ولا يبقى قائما إلا فعل الكتابة الذي يظل شاهدا على السراب. فالرواية كتابة للجري وراء السراب . ولا يغير المفعول المطلق الدال على الكم " قليلا " شيئا ، إلا أنه يزيد العنوان غموضا.
ب ) التناص من خلال بنية الرواية وإيحاءاته :
إن ما نقصده هنا هو البنية الخارجية للرواية من خلال فصولها وأبوابها إذ أن هذه الرواية تحضر في فواتح فصولها وبعض الأبواب منها عناوين فرعية أو تعليقات ينسبها المؤلف لنفسه ولكنها موصولة بنصوص أخرى بعضها تاريخي وبعضها خرافي أو أسطوري وبعضها من جنس السير الشعبية. و " بما أن النص ينتج ضمن بنية نصية سابقة فهو يتعالق بها ويتفاعل معها تحويلا أو تضمينا أو خرقا وبمختلف الأشكال التي تتم بها هذه التفاعلات. وعلينا من خلال التحليل أن نبحث في أشكال اشتغالها داخل النص وأبعادها الدلالية" (5).
بنيت الرواية كما أسلفنا القول على فصول تفرعت إلى أبواب . وهذا البناء يستدعي في أذهاننا بنية كتب التاريخ ذلك أم هذه الرواية توظف التاريخ من جهة أنه مرجع وأيضا من حيث الشكل الحكائي في فواتح الأبواب التي هي تلخيص لما يرد داخل الأبواب . فنقرأ مثلا في الباب الأول ما يلي : " وفيه حديث عن عودة عزيز أمه إلى عتيقة التي غادرها وهو شاب للعمل في مناجم الفسفاط التي حفرها الرومان في" قرط حدشت " بعد الاستعمار الجديد لبلاد إفريقية في عهد مولانا المعظم علي باشا دام عزه وأخبار عن العذابات التي سامها باي المحال لوالد عزيز وما لاقاه الأهالي من تنكيل يشيب لهوله الولدان."
بل نجد داخل الأبواب استنادا واضحا إلى مرجع تاريخي معروف هو " إتحاف أهل الزمان " لأحمد بن أبي الضياف ، عندما يتحدث عن دستور عهد الأمان وعن فرمان تحرير العبيد على أن ذلك لا يحملنا على وسم الرواية بأنها تاريخية لأن الرواية هي النص الحاضن للنص الوريث فتجعل التاريخ مجرد استعارة لا نصا قائم الذات يمكن اعتماده وثيقة .
" إن الرواية التي تتخذ التاريخ مرجعا لها هي رواية فيها استعارة الواقعة التاريخية في تخيل الحكاية وإعادة تشخيص الوقائع عبر تمثل انعكاساتها على الإنسان والمجتمع . ولعل قصدية الاستعارة في ظرفية أو مرحلة بعينها تعني محاولة فهم الواقع والتفكير في وجوده بأفق متخيل اجتماعي وتاريخي قادر على المحاورة والانتقاد " (6). وسنرى ذلك من خلال متون الأبواب.
ج) التناص في متن الرواية :
إن الدرغوثي في روايته يجعل الواقعة التاريخية متجاورة مع تصور خرافي لها وهي طريقة لتثمير النص التاريخي ، إذ نجد مثلا في الباب العاشر من الرواية حديثا عن واقعة تاريخية هي ما حدث لعمال المناجم تعرف بحادثة " جبل الوصيف " بين 1900 و 1901 . والواقعة حقيقية ولكن أسلوب الحكي يخرجها مخرج الخرافة على أن نأخذ مثالا لذلك مقطعا يتحدث عن اصطحاب عزيز لمعاونه داخل نفق ليستجلي أمرا بعد سماع أصوات استغاثة : " جرى معاوني ورائي بعد أن أطلق صرخة استغاثة خفيفة وطلب مني أن أترقبه ... التصق بي وتساءل في هلع وهو يرى كتلا من العظام الآدمية والحيوانية متكدسة فوق بعضها ، هل أكل الشق وأصحابه كل هذا الخلق ؟ فقلت له : " لقد اكتشفنا مقبرة " جبل الوصيف " . هنا هلك أكثر من خمسمائة عامل في العام الأول من هذا القرن. وأضفت هامسا وتلك الأصوات التي استمعنا إليها هي استغاثة أولئك العملة وقد ظلت هائمة تطوف في أنفاق الجبل باحثة لها عن مخرج إلى أن انهار اليوم الحاجز الذي سد عليها الطريق فوصلت إلينا ضعيفة واهنة وهاهي تقودنا إلى المقبرة ".
والإحالة على الواقعة التاريخية ذات وضيفة توثيقية من ناحية لأن لا أحد من المؤرخين أرخ لهذه الفترة المعاصرة نسبيا ثم لأن الاستعمار أراد طمسها باعتبارها جزءا من جرائمه ضد فئة مهمشة . ولكن من ناحية أخرى فإن تخييل الواقعة يعكس تصورات العامة عن عالم الموتى ومعتقداتهم في ذلك الوقت .
إضافة إلى حضور النص التاريخي نجد النص الخرافي والأسطوري والسيرة الشعبية في رواية " وراء السراب ... قليلا " . ولا بد من الإشارة إلى أن اهتمام الروائيين في تونس بالتاريخ لم يكن بدعة ولكن الاهتمام بالموروث الشفوي المتمثل فيما ذكرنا هو اهتمام وليد سنوات قليلة فائتة ويعد تثميرها في رواية الدرغوثي طريفا وهو من باب التجريب المتميز.
لا يسعنا المقال لأن نميز مستويات توظيف هذه النصوص كل على حدة وإنما سنحاول أن نتحدث عنها بصيغة الجمع بما هي من جنس المرويات الشفوية وسنأخذ على ذلك بعض الأمثلة فقط لنرى طريقة توظيفها في البناء والدلالة وصلة ذلك بتعدد الأصوات في الرواية .
د) في مظاهر التناص وعلاقتها بالشخصيات :
يظهر التناص في مستوى تصوير الشخصيات فتخرج وهي حاملة لسمات شخصيات مختلفة . فالعجوز مثلا ( زوجة عزيز ) وهي أول شخصية تدخل بنا عالم الرواية ، تبدو عليها علامات الدراويش من خلال الطقوس التي تمارسها قبل النوم وبعده . فهي كما عرفها عزيز " لن تعود إلى الهدوء إلا إذا وضعت جمرة فوق جبهتها وترقب إلى أن تكويها النار فيرتعد جبينها وتأخذها قشعريرة في كامل بدنها وتنام كما ينام أصحاب الكهف" . وعندما تستيقظ يصفها لنا السارد فيقول : " تذهب إلى وسط الحوش لتغرق رأسها في حوض الماء البارد ثلاث مرات ثم تنزع عنها الثياب وتصب الماء على رأسها ... وتحط طيور الصباح على رأسها وعلى كتفيها ... " وفي وصف آخر تال لهذا تخرج المرأة من صفة مجرد درويش إلى صفة ولي صالح : " تختطف المرأة دلوا ترمي به في قعر بئر مهجور . والبئر التي تفتح على ماء بئر زمزم جافة منذ عشرات السنين وقعرها يابس كباطن الكف ولكن الدلاء التي ترمي بها المرأة في جوفها تنزل فارغة وتصعد ملأى بالماء الزلال " . فجلب الماء من بئر مهجورة تفتح على ماء زمزم هو ضرب من كرامات الأولياء .
إن شخصيات الفصل الأول في أغلب أبوابه هي من جنس هذه الشخصيات . فالجدة " جدة عزيز السلطاني " تظهر أيضا صاحبة كرامات . فعندما قتل الباي ابنها ( والد عزيز ) ودفنه الناس صنعت له قيامة وطار على حصانه الأبلق بألف جناح . والصورة هنا تناص مع صورة المهدي المنتظر عند الشيعة لتتحول هذه الشخصية إلى أسطورة يصطبغ بهالة من القداسة .
أما الجدة في حد ذاتها فبعد أن صنعت قيامة لابنها تحولت وهي حية، إلى تمثال يقف وسط الحوش ( الرواية ص 29) . وفي صفحة 73 في الباب السادس يستعيد سعيد صورة جدته مرة أخرى لتذكرنا الصورة المرسومة في هذه الصفحة بصورة سيدنا سليمان ودابة الأرض تأكل من منسأته حيث يقدمها الراوي كما يلي:
" وعم الهدوء المكان فسمعت خشخشة ورأيت جنود الأرضة منهمكين في أكل العصا التي تتكئ عليها الجدة ".
أما سعد الشوشان فإن غربته وبحثه عن أهله تتحول إلى تغريبة في الفصل الثاني ضمن الباب السابع حيث أن عنوان الفصل :" تغريبة السودان في عهد الأمان " والتغريبة إحالة إلى نص السيرة الشعبية لبني هلال . ويستفيد في هذا الباب مما وقع في تاريخ تونس الحديث وهو إصدار قانون تحرير العبيد . ولكن أسلوب الحكي وطريقة تقديم الشخصيات تحول الواقع إلى تغريبة ، والتغريبة في أذهاننا مضنية وشاقة.
في الحقيقة ، إن تصوير الشخصيات وإخراجها مخارج مختلفة عن طابعها الحقيقي إلى طابع تخييلي إنما يعود إلى الدلالة المركزية في الرواية وهي السراب . فالسراب إحالة على مسألتين ، أولا يعني الزيف وثانيا إحالة على الغربة والاغتراب.
فالشخصيات التي يقدمها السارد في لبوس القداسة ( العجوز والجدة ) إنما ترمز إلى الماضي الذي نقدسه رغم انحطاطه وتحنطه ولكننا بقينا نحن إليه بما هو جزء من هويتنا . ولكن هذه العودة التي لا تتأسس في الواقع على تصورات واضحة تصبح ضربا من الجري وراء السراب لذلك تعددت عبارات مثل : " ناموا على حافة السراب ، وباتوا على حافة السراب ، وابتلعهم السراب " في فضاء الرواية في جميع فصولها من أولها إلى آخرها . ويردف كل هذا بما جرى لعزيز مثلا في الباب السادس ( ص 71 ) الذي يقول عن نفسه : " انتبهت إلى أنني مازلت جالسا في المكان الذي نزلت فيه عشية الأمس . بحثت مرة أخرى عن أثر يدلني على طريق القرية فلم أجد غايتي فقلت لأضربن في الأرض كالعميان تلفت في كل الاتجاهات أبحث عن الصور فلم أجد له أثرا فاندهشت وقلت متعجبا باب ينغلق على لا شيء.
والصورة نفسها تقريبا تحصل لسعد الشوشان في باب آخر بعد ذلك . فالسراب يلاحق كل عودة إلى الماضي لأنها عودة تبدو بدون غاية واضحة تؤسس لها فتتحول العودة إلى غربة وجودية ومادية يفصح عنها الصراع من أجل الذات والهوية .
إن الصراع في هذه الرواية صراع مع الطبيعة ومع الإنسان نفسه ، فالسودان توهب لهم حرية تتحول إلى سراب فيهيمون في الصحراء على وجوههم بحثا عن الكلأ والمرعى ويسعون في عمارة الخلاء فلا يفلحون . وعزيز السلطاني يعود كل مرة إلى قريته القديمة " عتيقة " فإما لا يفلح في تمييزها وإما يجد نفسه أمام باب موصد على الخواء كما في المرة الأخيرة. غير أن الصراع في آخر الرواية يخرج من طور الغربة إلى طور إدراك وجهة الصراع الحقيقية حين تتوحد جميع القبائل القادمة من طرابلس ووادي سوف والمغرب وتونس مع أجناس أخرى من مالطيين وإيطاليين وفرنسيين في مواجهة الآخر ، العدو المتمثل في المشرفين على شركة الفسفاط ( فرنسا المستعمرة ) .
وتنتقل بنا الرواية من آخر القرن التاسع عشر إلى بداية العشرينيات . وهي الفترة التي ستشهد بداية تشكيل النقابات وخاصة نقابة عمال المناجم . فتنتقل الشخصيات من التفكير في العودة والحنين إلى الماضي إلى التفكير في البقاء في الحاضر والفعل فيه من أجل تغييره.
خاتمة :
هكذا إذن يمكن القول إن درغوثي يثمر مرجعيات مختلفة يفصح عنها التعدد اللغوي والصوتي في الرواية تتميز ناهضة بوظائف مختلفة.
" واء السراب ... قليلا " نص سردي تتعالق فيه ضروب من الدلالات شتى . فأدبيا وفيا تمثل الرواية كشكولا من النصوص طريفا من حيث طريقة التركيب النصي والسرد المازج للأجناس والموازات بين مجالات في المعرفة تبدو متناقضة إذ الرواية توازي في جملة سردية عجيبة بين التاريخ بما هو حكاية للواقع والخرافة بما هي تخيل بما يؤهل الرواية لأن تكون بحق نموذجا لصناعة روائية حديثة تتجاوز الأشكال التي عرفناها في الرواية إلى حدود الثمانينات وتستغل الرأسمال الرمزي المتمثل في المرويات الشفوية لتنشئ منه رؤية للكون والحياة والإنسان ينهض بوظيفة رصد التحولات الهيكلية في المجتمع التونسي في بداية القرن العشرين و " يمكن اعتبار الرواية بنصوصها الأساسية من المرويات الكبرى التي تسهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم لما لها من قدرة على تشكيل التصورات العامة عن الشعوب والحقب التاريخية والثقافية للمجتمعات " (7).
لذلك يمكن اعتبار هذه الرواية شهادة عن فترة تاريخية عاشتها فئة اجتماعية مهمشة وهو عمال المناجم. حضاريا تطرح الرواية أزمة المعنى التي يعيشها الإنسان ، فما السراب إلا هذا الخلاء الذي وجد فيه الإنسان يسأل فيعود صدى السؤال إليه دون رجع جواب . وتظل الكتابة هي الفعل الوحيد الذي يتحدى السراب إيمانا بقدرة الكلمة على تغيير الواقع القبيح واقع الغربة والغياب.
لأنه في البدء كانت الكلمة.
الإحالات:

المصدر :
درغوثي ابراهيم : وراء السراب ... قليلا ( رواية ) دار الإتحاف للنشر / سليانة – تونس 2002

المراجع :
1 – Kristiva Julia: Le texte du roman , Mouton 1970 P:138
2 – بوطيب عبدالعالي : النمذجة الروائية والتلقي ( مقال ) مجلة علامات / السعودية ، مج 12 ، ج 47
3 – ابن منظور جمال الدين : لسان العرب المحيط ، ط. يوسف الخياط ، بيروت .د . ت
4 – الميداني : مجمع الأمثال ، ط . دار التراث – بيروت
5 – يقطين سعيد : انفتاح النص الروائي : النص والسياق ، المركز الثقافي العربي ، ط 2 / الدار البيضاء 2001
6 – الحجمري عبد الفتاح : هل لدينا رواية تاريخية ( مقال ) ، مجلة فصول المصرية ، مج 16 ، ع 3 ، 1997
7 – ابراهيم عبدالله: الرواية العربية والموقف الثقافي ( مقال ) مجلة علامات السعودية ، مج 12 ، ج 47