آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قراءات في نصوص من التراث

  1. #1
    أستاذ بارز
    تاريخ التسجيل
    17/12/2008
    العمر
    49
    المشاركات
    172
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي قراءات في نصوص من التراث

    بسم الله الرحمن الرحيم
    تراث د لقمان شطناوي
    قراءات في نصوص من التراث


    1- النص الأول : من كتاب ( الف ليلة وليلة ).
    حكاية ( الملك وزوجة الفلاح )(1)

    تعد حكايات الف ليلة وليلة من أبرز الآثار الأدبية في التراث العربي القديم وقد جمعت هذه الحكايات بين الحكايات الخرافية والعجائبية وبين حكايات لها مرجعيتها في الواقع ،فكانت لذلك صورة حية للواقع الاجتماعي في العصر العباسي بجوانبه المختلفة كما ان فيها تصويراً للواقع السياسي والاقتصادي والثقافي.
    تقوم حكايات ألف ليلة وليلة من خلال راوٍ عليم هو شهرزاد ، وهي تكتفي بدور الناقلة والراوية فحسب ، وهي ليست راويا مخيراً ، فالرواية مجرد حيلة تستخدمها للخلاص من العقاب الذي أعده شهريار لكل امرأة يتزوجها ، وهناك هدف آخر خفي هو إيصال الرؤية التي تضمن لها النجاة ،وذلك من خلال تخليص الملك من القتل والشك وإبقاء صورة بنات جنسها نقية من خلال تطهير صورة المرأة في عين شهريار .
    وفي سبيل هاتين الغايتين تتسلح شهرزاد بفن الحكي ،اللغة الأدبية القائمة على السجع ، وتفعيل عناصر التشويق لإغراء المستمع بالإنصات لها ، ثم محاولة خلق جو من الألفة مع المتلقي باستخدام لازمة محددة في مفتتح كل قصة "بلغني ايها الملك .."(2) فالفعل بلغني فعل يرتبط بصوت مجهول مقصده نفي صفة الابتكار وتحديد دور شهرزاد بالرواية ، كما ان الراوية تلجأ إلى الإسناد لتأكيد القول جرياً على طريقة الحديث والخبر .
    وشهرزاد راوية بارعة تعرف كيف تبدأ ومتى تتوقف ، كيف تثير رغبة المعرفة ولذة السؤال ، ولا تتوقف الرغبة حتى تثير غيرها ، فيبقى المتلقي في حال توتر دائم ورغبة في معرفة نهاية كل قصة.
    ودور الراوية بالنسبة للأحداث أنها تقف خلفها وتقودها ، وهي تستعين بكلمات الشخصية وأفكارها ومشاعرها ، ولأنها تعي دورها الحقيقي في إيصال الرسالة التي تغير سلوك شهريار ، فإن المسافة التي تضعها بين القارئ وأحداث الحكاية تكاد تكون قصيرة جداً ، وقد أشار "اتول" إلى طبيعة العلاقة بين الراوي والرؤية بقوله " إن العلاقات المحتملة بين الراوي والأحداث والشخصيات من ناحية فعلية علاقات لا نهائية" (3).
    ومن الحكايات التي تسردها شهرزاد لتأكيد حضور الرؤية ومحاولة إيصالها لشهرزاد حكاية "الملك وزوجة الفلاح".
    فالملك في هذه الحكاية يخرج متخفياً لتفقد أحوال الرعية وحين يرى زوجة الفلاح وحيدة في بيتها فإنه يراودها عن نفسها ، وعندئذ تلجأ المرأة الى الحيلة فلا تمكنه من نفسها ، وحين يعود زوجها تخبره بما حدث لكنه يرفض تصديقها، وفي النهاية تنتهي الحكاية من خلال إخبار الملك له بصدق الزوجة وطهرها .
    إن نظام تكوين الأحداث في هذه الحكاية يقوم على متوالية محددة على النحو الآتي ( التوازن ـ انعدام التوازن ـ التوازن الجديد ـ انعدام التوازن ـ التوازن الجديد ).
    والحدث في الحكاية يقسم الى نوعين حدث داخلي مرتبط بوعي الشخصية وفعلها الداخلي وحدث خارجي تتعاون شخصيات الرواية في صنعه.
    الراوية تمهد للأحداث من خلال السرد المنطقي القائم على السببية ، فالملك يتخفى لتفقد أحوال الرعية وهو حين يعطش يدق أحد الأبواب ليروي عطشه ، والباب يفتح عن امرأة رشيقة القوام جميلة وفوق ذلك أديبة محتشمة وذلك ما دعاه الى حبها وطلب وصلها.
    وشخصية الملك عند ذلك تقع في مفارقة واضحة حين ينقلب اهتمامها بالرعية وتفقد أحوالهم إلى تحقيق مأرب شخصي ونزوة عابرة.
    ويدور الصراع الداخلي من خلال المنولوج الذي يجري في نفس المرأة، وتكون الأحداث عندئذ في حالة انعدام للتوازن فهي لا تريد خيانة زوجها لكنها تخشى بطش الملك بها وبزوجها ، وتصل الى حالة التوازن حين تهتدي الى فكرة ان تعطيه كتابا يتسلى به وهو كتاب ينذر الفساق بأشد العقاب ويبشر أصحاب العفة بالثواب فيرتدع الملك ويتوب ويندم أشد الندم .
    وتصل الحكاية الى انعدام التوازن حين يرفض زوج المرأة تصديقها ولكن ومن خلال تدخل حدث خارجي ممثل بتعاون أهل الزوجة لإيصال الخبر الى الملك يعود التوازن مرة أخرى للحكاية من خلال إقرار الملك بما حدث وإجزاله المكافأة للفلاح ولأهل الزوجة.
    والأحداث وفق هذا التسلسل تقوم على وظائف متعددة تبدأ بالطلب ثم المنع ثم الاختراق والرحيل .
    والحكاية من جانب آخر تكشف عن عجز الانسان أمام السلطة وخشيته منها.
    ولكن كيف استطاعت شهرزاد ايصال رؤيتها من خلال هذه الحكاية ؟ وكيف وظفتها لتخليص شهريار من عقدته ونظرته الى النساء؟.
    وحقيقة الأمر أن هذه الحكاية هي تصوير لمعاناة شهرزاد والمشهد الختامي هو الصورة التي تريد شهرزاد إيصالها ، صورة امرأة نقية العرض بعيدة عن المتناول وتقف هذه الصورة البيضاء النقية ، بإزاء مشهد الخيانة ، المشهد الخلاعي للملكة السابقة (زوجة شهريار) وهي تجلس في الحديقة بصحبة عشرين جارية وعشرين عبداً.
    كما أن تداعيات مأساة شهرزاد بدأت حين أراد شهريار الزواج منها وفي نيته قرار يتضمن قتل كل امرأة يتزوجها ، وتحاول شهرزاد أن تدفع الموت عن نفسها بتقديم الحكايات (التسلية) ومن خلال هذه الحكايات تحاول أن تغير موقف شهريار تجاه النسوة ، وهو تماماً ما حاولت زوجة الفلاح أن تفعله من خلال إعطاء الملك الكتاب ليتسلى به ويجد فيه العبرة .
    أما شك زوج المرأة بها وعدم تصديقها فهو نظير شك شهريار بالنسوة وعدم الثقة بهن ، عقاب الفلاح لزوجته بهجرها يقابله عقاب شهريار لكل من يتزوجها ، اما ثواب الامانة والعفة من خلال تقدير الملك لزوجة الفلاح واعتذاره لها بعد ان أدرك عفتها وطهارتها ، فهو يضارع المقابل الذي تنتظره شهرزاد من الملك في ان يقدر عفتها وأن يرحمها ويعفي عنها.
    وهكذا تبدو حكايات الف ليلة وليلة وهذه الحكاية منها جزءاً من حكاية شهريار الخاصة لتتظافر اجزاء الحكايات في حل عقدته التي تعمقت بفعل خيانة الزوجة.

    2- النص الثاني : من( كتاب البخلاء ) للجاحظ
    حكايات ( ابي القماقم )(4)
    نقف مع بخلاء الجاحظ أمام مجتمع كامل يعرض البخل بشتى اصنافه وطرقه ويمارس الجاحظ الدور الرئيسي في التعبير عن هذا المجتمع من خلال الواقعية التي اتسم بها أسلوبه مصوراً البخل في عصره من غير مداراة ولا مواربة حريصاً على نقل المشاهد بجميع تفاصيلها ودقائقها وعبر سياق حكائي واقعي لا مجرد أخبار عابرة.
    والرواية عند الجاحظ تتسم بقواعد عامة منتظمة اساسها الصدق والواقعية يحرص فيها على إقامة علاقة واضحة الأبعاد بينه وبين القارئ (السامع) مع الحرص على دوره الأساسي في القيام بوظيفة السرد.
    ولهذه الوظيفة درجات فهي إما أن تعتمد على الأسلوب المباشر في نقل الكلام الذي سمعه الجاحظ من غيره ، سارداً الحكاية بأسلوبه الخاص وهو عندئذ يستخدم المفردات ( حدثني ، أخبرني ، سمعت )، وفي أحيان أخرى يميل الجاحظ الى نقل الحكاية كما وردت على لسان أصحابها فيستخدم عندئذ المفردات ( قال ، حكى ، قالت ) .. دون ان ينسى الجاحظ ان يدعم حكاياته بالسند والرواية إلا في بعض الحكايات .
    والجاحظ في نقله للحكاية التي تجسد البخيل يعنى عناية فائقة بالجانب التعبيري فيستخدم لكل شخصية ما يناسبها من ألفاظ وتعابير ومنطق بما يطابق في مستواه التعبيري ما تمثله الشخصية في الحياة على الرغم من أن معظم الشخوص قد اجتمعت على صفة واحدة هي صفة البخل .
    ويستخدم الجاحظ أساليب عديدة تجعل من كتابه اقرب للسرد القصصي منه الى الحكاية الاخبارية ، فطريقته في السرد ليست أداة توصيل فحسب بل هي وسيلة لجذب اهتمام القارئ وتشويقه وجذبه للمشاركة في الرؤية التي يصدر عنها، اي (موقفه من البخل والبخلاء ) ، وينبغي ان نلحظ هنا أن العلاقة التي تجمع الراوي (الجاحظ) بالأشخاص (البخلاء)هي علاقة عداء وتنافر .
    وسنحاول أن نستعرض الجوانب التي ظهر فيها السرد من خلال الوقوف على نموذج البخيل الذي يمثله "أبو القماقم" ، والجاحظ يروي بعضاً من الحكايات التي دارت حول هذا الرجل مستخدماً أسلوب السرد المعتمد على نقل الحكاية كما جاءت على لسان صاحبها.
    ويبدا الجاحظ كلامه عن هذا الرجل بنقل كلام على لسانه حول وجوب "ان يحافظ المرء على ما صار في يده وألا يفرط فيه الى يد غيره لأنه لو فعل فقد أباح لغيره أخذ ما كان له "(5).
    ولعل في هذا القول ما يكشف عن المستوى العقلي الذي يتمتع به أبو القماقم ، فكلامه أقرب الى حديث المتكلمين والفلاسفة وطبقة المثقفين ،والحقيقة أن أبا القماقم هذا وكما جاء في (أنباه الرواة ) (6)وفي (البيان والتبيين) (7)، هو أبو القماقم الأسدي الذي كان صاحب نوادر ورواية وشعر ، روى عنه الكسائي واختار له أبو تمام بعض الشعر .
    ولعل هذا القول لأبي القماقم والذي افتتح به الجاحظ حديثه عنه يعد بمثابة التمهيد والإعداد التجهيزي للحكاية فكأنما يقول الجاحظ للقارئ هذا هو فكر الرجل فإليك سلوكه وانظر كيف وظف فكره في حياته .
    والجاحظ كان قد أعدَ القارئ مسبقاً للوقوف أمام هذه الشخصية المثقفة حين أشار في مقدمة كتابه الى تعجبه من ان هؤلاء البخلاء على الرغم من غبائهم الشديد إلا أنهم يتحلون بفطنة عجيبة (8).
    وتكشف لنا الحكاية التي يوردها الجاحظ عن تناقض بين المستوى العقلي والمستوى الاجتماعي لهذه الشخصية ، ولعل أول الإشارات الى هذا التناقض تبرز من خلال الحوار الذي تديره المرأة فهي تبدأه بقولها " ويحك يا أبا القماقم "(9) وكلمة " ويحك" وإن لم تكن المرأة تقصد بها الى الشتم والزجر في ظل السياق الذي جاءت فيه إلا أنها توحي بدنو منزلة المخاطب ، ولعل ذلك يحيلنا الى شخصية أبي القماقم لنبحث فيها وفي الاسم الذي تحمله ، نجد أن القمقم في اللغة هو إناء من نحاس أو فضة يجعل فيه الماء ، أو هو نوع من الجرار يحملها السقاؤون ، وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يشر الى مهنة ابي القماقم الا أنه إن صح أن أبا القماقم كان يمتهن السقاية فإنه يصح تناسب مستوى الخطاب مع الشخصية .
    ولننظر في الحكاية الأولى وهي واحدة من ثلاث حكايات تجمعها عناصر عديدة.. أول العناصر أنها جميعا حكايات قصيرة ومكثفة تظهر فيها صنعة جاحظية تعتمد الاهتمام باللفظ الموحي المستخدم للتعبير عن مشهد كامل وصورة كاملة ، على عكس ما عرف عن الجاحظ من الاستطراد والعنصر الثاني هو أن البطل واحد وهو أبو القماقم (البخيل ) وهو يمارس الحيلة دائما للوصول الى هدفه أوللتخلص من المآزق التي يقع فيها ،والعنصر الثالث إن الضحية في كل الحكايات هو امرأة .
    تتحدث الحكاية الأولى عن امرأة كانت تستعد للزواج (النهاري) وأرادت أن تتجمل لزوجها فطلبت من أبي القماقم أن يحضر لها برغيف آساً تتعطر به وبفلس دهناً تتجمل به لكنه أخذ الرغيف والفلس وذهب دون أن يعود ، وعندما لقيته بعد أيام سألته عما فعل بها حين تركها فأجابها أن الفلس قد سقط منه وأنه من غمه أكل الرغيف .
    والحكاية تكشف في الجانب الاجتماعي عن الزواج النهاري ويبدو أنه زواج خاص وربما اقيم في النهار تحاول فيه الزوجة إرضاء زوجها بكل السبل الممكنة ، والأمر الثاني يتعلق بشراء السلع حيث يتم استبدال سلعة بأخرى كما هو في حال استبدال الآس بالرغيف .
    وفي هذه الحكاية يدير الجاحظ جل الحوار على لسان المرأة (الضحية) فتبدأ بعرض سوء حالها وتبالغ في محاولة لكسب تعاطفه وترغيبه بالأجر والثواب " فإنك تؤجر .. فعسى الله أن يلقي محبتي في قلبه ... فقد والله ساءت حالي وبلغ المجهود مني "(10) ، والحقيقة أن الجاحظ يستفيض في هذا الوصف ليكسب تعاطف القارئ مع هذه المرأة ويشده الى قصتها والتأثر بحالها وعملية الإسهاب في الحديث يمد في حالة القلق والاثارة التي يشعر بها القارئ تجاه ما ستؤول اليه الحكاية وبالتالي فان الجاحظ يحاول جذب القارئ جذبا مبطنا الى رؤيته في نبذ البخل .
    وعلى الرغم من هذا التطويل في السرد على لسان المرأة فإننا نفاجأ بأن شخصية أبي القماقم لا تبرز الا من خلال الحركة ( فأخذهما وجعلها وجهه ) ، ثم بعبارتين تختم بهما الحكاية لكنهما على الرغم من الاقتصار اللفظي قد اسهما في حل الغموض وازالا التوتر والترقب الذي ظل مسيطراً على القارئ ، ويفاجئنا هذا التطويل في السرد، قي أنه جاء للإثارة والتشويق وكسب التعاطف على حساب الأحداث ذاتها إذ تظل أحداث عديدة ضمن إطار الحكاية خاضعة للإضمار والغموض ، فأبو القماقم ترك المرأة في أزمتها وغادر ثم يخبرنا الجاحظ أنها رأته بعد أيام دون أن يخبرنا بما حدث لها بعد أن عاد زوجها ولم يجدها متزينة لاستقباله وتنتهي الحكاية دون أن نعرف رد المرأة عليه وأنها صدقته أم لا .
    ويوضح الجاحظ هذين الموقفين من خلال استخدامه للتكثيف اللفظي والايحاء ؛ ففي الموقف الأول يشير الجاحظ الى ما حل بالمرأة من خلال قولها لأبي القماقم " سبحان الله أما رحمتني مما صنعت بي "(11) ، وهذا يدل على أنها لم تستطع تجاوز الموقف فسقطت فيما كانت تحاذره وألقت باللوم على ابي القماقم الذي حاول التخلص من الموقف بايجاد حيلة مناسبة وقد كانت الحيلة التي ابتدعها طريفة مضحكة بسبب القدرة التي تهيأت في ابتكارها وفي اعتمادها على سذاجة الناس وبساطتهم في نجاحها ، فلماذا لجأ ابو القماقم الى هذه الحيلة بالرغم من أنه ليس من السهل تصديقها؟.
    قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعرف أن " البخلاء ليسوا بالاشخاص الذين يسيرهم عقلهم أو يتحكم فيهم تفكيرهم بل الذي يسيرهم هو البخل المتحكم في نفوسهم والمسيطر عى شعورهم وسلوكهم ولغتهم" (12). وابو القماقم وكما مهد له الجاحظ هو صاحب نظرية الإصلاح المتمثلة في أن لا يرد ما صار في يدي لك لذلك لم يكن يحتاج الى أن يعد المرأة بأن يعود اليها بما طلبته منه ونابت الحركة عما في نفسه ( أخذهما وجعلها وجهه ) ، وفي ذلك ايحاء بالسرعة وهي في ذات الوقت ممارسة عملية لنظريته " ما صار في يدي فهو لي .. ومن أخرج من يده شيئاً الى يد غيره من غير ضرورة فقد أباحه لمن صيره اليه " .فكانت الحكاية صورة مقابلة للحديث الذي أورده الجاحظ على لسان ابي القماقم .
    والحكاية الثانية ليست إلا صورة أخرى يتناول بها الجاحظ وصفاً لجانب من شخصية أبي القماقم يثبت لنا أن أبا القماقم لم يأكل الرغيف غماً وحزنا على فقد الفلس بل جوعاً وطمعاً وخوفا من ذهاب الرغيف الذي صار في يده الى يد غيره .
    في هذه الحكاية يتعشق أبو القمام امرأة فلا يزال يتبعها ويبكي بين يديها حتى ترحمه وتحن عليه ثم راح يطلب اليها أن تهديه من أصناف الطعام ويكثر حتى علمت المرأة موضع هواه وأنه يحب الطعام لا أياها فقالت ( رايت عشق الناس يكون في القلب وعشقك انت ليس يجاوز معدتك "(13) .
    والحكاية السابقة تصل الى الاضحاك عبر اعتمادها لاسلوب المفارقة فابو القماقم يطارد المرأة ويلح عليها ويبكي بين يديها حتى ترحمه لكن المفارقة تبدأ حين يستغل ذلك الحب فيطلب منها أن تهديه أطايب الطعام .
    والجاحظ ينقل لنا هذه الحكاية مستخدما تقنية السرد ولكنه يتدخل للمشاركة الفعلية حين يهئ القارئ للموقف ومن ذلك قوله " وكانت مكثرة وكان مقلاً "(14) .
    وفكرتي الاضحاك و السخرية التي يقوم عليهما كتاب البخلاء يتوصل اليهما الجاحظ عن طريق الثنائيات الضدية ثنائية من يملك ومن لا يملك ومن هو مقل ومن هو مكثر ومن هو شبعان ومن هو جائع .
    ابو القماقم مع هذه المرأة جائع يبحث عن الشبع ومقل يبحث عن مكثر ، والحيلة التي يلجأ اليها طريفة على الرغم من أنه لا يسوقها بشكل مباشر وهو يعتمد فيها على سذاجة الضحية التي يمارس معها الاحتيال ، ولكن المفاجأة التي تحقق للقارئ المتعة والاضحاك تكمن في اكتشاف الضحية للحيلة لتسير الأمور بعد ذلك نحو الانفراج .
    وتشبه هذه الحكاية الحكاية الثالثة في اعتماد الحيلة على سذاجة الضحية وتبدو شخصية ابي القماقم في هذه الحكايات اقرب الى شخصية الطفيليين منها الى شخصية البخيل رغم التقاطع الواضح بين ملامح الشخصيتين .
    يظهر التشابه مع شخصية الطفيلي من خلال استخدام ابي القماقم لاسلوب الالحاح على المسألة ( فلم يزل يتبعها ) في الحكاية الثانية ، وقول ابي الاصبغ في الحكاية الثالثة " الح ابو القماقم " وهو الحاح الطامع بمال غيره المتباخل بماله .
    ويمكن أن نلاحظ الاختلاف في البناء الفني للحكايةة الثالثة عن غيرها وذلك من خلال اعتماد السرد على راو ينقل الاحداث وهو ابو الاصبغ والسرد عندئذ يتحول الى الاسلوب المباشر المعتمد على نقل الحوار لتكثر في الحكاية مفردات ( يسأل ، قالوا ، قال ) ، وليتخذ المتحاورون مظهرا يعتمد الحكاية فيحل الحوار مكان السرد الحكائي .
    لقد قدم لنا الجاحظ صوراً ذات أطوار متعددة من حياة ابي القماقم وهي ليست في حقيقة الأمر الا ملامح مختلفة لجوهر واحد اوضحه الحديث الذي نقله الجاحظ على لسان ابي القماقم في بداية الحكايات .
    ولقد كشف لنا الجاحظ عن نفسية بخيله وتطور شخصية البخيل ، فقد ظهر البخيل أول الأمر متسترا إذ لم يكن المبادر الى الحيلة لكنه صار أكثر جرأة فراح يلاحق امرأة بدعوى الحب ومن ثم استغلالها لملء معدته ، والحكاية الثالثة تظهره أكثر جرأة حين لا يتورع عن المجاهرة بنيته ، وحين يصل البخيل الى هذه المرحلة فإنه يوقع نفسه في مزالق حيله بما يكشف عن غبائه وجهله وهذا هو السر في ضحك المتلقي الذي يفاجأ بالمفارقة الواضحة بين أهمية الموقف وسوء تفكير البخيل .
    ومما يزيد في جمال الموقف تلك الصنعة الجاحظية التي اعطت الموقف عمقا أكثر واسهمت في صبغ النص الحكائي البسيط بالصبغة القصصية .

    3- النص الثالث: من كتاب (الفرج بعد الشدة ).. للقاضي التنوخي
    • لماذا قتل أبو سلمة الخلّال ؟(14)
    يمثل كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي واحداً من كنوز التراث الأدبي العربي بما يزخر فيه من أحاديث وحكايات واخبار .
    يخبرنا التنوخي في مقدمة كتابه أنه دون هذا الكتاب بعد ما مر به في اواخر أيامه من محن وشدائد استطاع النجاة منها ، ويحتوي الكتاب على حوالي أربعمائة وإحدى وتسعين حكاية منها ما يقارب مائة وثلاثاً وخمسين حكاية استلها من بطون الكتب وهي حكايات واقعية ينقلها لنا من خلال الخطاب المستحضر معيداً كلام الشخصيات جزئياً وبأسلوب مباشر ، والحكاية التي بين أيدينا واحدة من هذه الحكايات .
    والتنوخي ينقل لنا هذه الحكاية تحت عنوان (لماذا قتل أبو سلمة الخلَال ) ، ويتضح من العنوان ارتكاز الكاتب على عنصر التشويق من خلال الاعتماد على الأسلوب الإنشائي المتمثل بأداة الاستفهام لماذا ثم من خلال الفعل الماضي المبني للمجهول (قُتِل ) الذي يحرك دوافع المتلقي لمعرفة سبب القتل ، والمرتكز الثالث للعنوان هو الشخصية الرئيسية أبو سلمة الخلال ، ولعل واقعية هذه الشخصية يحفز القارئ ويشوقه لمعرفة حقيقة السبب في مقتلها ، ويشير من طرف خفي إلى أن ثمة شكوكا وأقاويل عديدة قد أُثيرت حول كيفية القتل ودوافعه سيتم الكشف عن ملابساتها ، إن العنوان يفصح عن العلاقة التي تربط المؤلف بالمتلقي كما تفصح عن المحور الرئيسي الذي تدور حوله الحكاية وهو موت أبي سلمة ، ولكن هل هذا هو المحور الأساسي فعلاً في النص .
    إن هذه الحكاية ليست إلا واحدة من مجموعة الحكايات التي وضعها التنوخي في باب من ألجأه الخوف إلى هرب واستتار فأبدل بأمن ومستجد نعمة ومسار .
    وتنبئ الحكاية عن ان من هرب واستتر هم بنو العباس إذ لجأوا الى أبي سلمة فقام بإخفائهم ، ثم بدا له أن يغدر بهم عازما على جعل أمر الخلافة شورى بين ولد علي والعباس ليختاروا من أرادوا .
    ولنعد إلى العنوانين اللذين بدأ بهما النص ولنحاول إيجاد رابط بينهما ، العنوان الضمني للقصة (عنوان الباب ) يشير إلى أن الشخصيات الممثلة ببني العباس كانت مختفية في السرداب وسط الشعور بالخوف والغياب ، الاختفاء في السرداب كان تغييبا للفعل وهو من جانب موت للروح وموت للقدرة في حين أن الجسد باق ، السرداب (المكان المغلق) كان طريقا للحياة والموت معا في حين أن أبا سلمة كان سلم النجاة للخروج من السرداب ووصلة الأمل باتجاه الحياة ، وتظل هذه الشخصيات متمسكة بخيط الأمل حتى تكتب لها النجاة .
    أما العنوان الثاني فهو ينبئ عن صراع بين الموت والحياة كذلك ، فأبو سلمة بعد انكشاف أمره يكون في حال من الخوف حول ما ينتظره وفي محاولاته لدفع الموت عنه يتذرع بأنه أخَر خروج بني العباس حتى يهلك مروان بن محمد وكانت هذه الذريعة هي وسيلة أبي سلمة للخلاص من العقاب ويتحقق له ذلك وتكتب له النجاة .
    إن هذين العنوانين كحال الشخصيات بل كحال الكتاب كله يقومان على ثنائية ضدية هي الموت والحياة والشدة والفرج .
    ولكن .. كيف عبَر التنوخي عن هذه الرؤية للواقع من خلال بناء قصته ، ثم هل هي مجرد رؤية فردية يريد القاص أن ينقلها وأن يقنع غيره بها .
    النص الذي بين أيدينا ينقل لنا حكاية كاملة لها بداية ونهاية ،وهي تقوم على علاقة مكونة من ثلاثة أبعاد ، هي الطلب ثم المنع ثم الانفراج والخروج من المأزق ، عبَر الكاتب عن هذه العلاقة من خلال عنوان الكتاب الأحداث التي تقود الى الشدة ثم يتبعها الفرج وإذا كانت كل حكايات الكتاب مبنية وفق هذه العلاقة فأين المتعة التي يحققها هذا التكرار والنهاية المتوقعة دائماً .
    إذا نظرنا للحكايات على هذا النحو فليس ثمة متعة حقبقة ولذة يمكن أن يجدها القارئ ، فحكاية مقتل أبي سلمة ليست سوى إشارة إلى خيانة الرجل لمن وثق به وائتمنه على حياته فكان مصيره الموت ، إن مضمون هذه الحكاية يتكرر في أكثر من موضع بين دفتي الكتاب ، فما الذي أراد الكاتب تقديمه على مستوى الرؤية وهل الحكاية مجرد حديث عن جزاء الخائن والخيانة أم أنها صورة لحركة المجتمع وحركة الفرد وصورة للصراع بين الخير والشر والتعبير عن موقف الانسان من القضايا المتناقضة والتي تظهر جليا في الصراع بين الحياة والموت .
    يعتمد صوت الخطاب السردي في النص على راو كلي العلم استعان بالوثيقة (المستندات النصية المعلنة) ، لنقل حكايته فهو في مطلع السرد يقول " ذكر في في بعض كتب الدولة "(15) ثم يسرد لنا ما قرأه من خلال الخطاب المحول والخطاب المستحضر فنقل لنا كلام الشخصيات الى الأسلوب غير المباشر والأسلوب المباشر وبرز دور الراوي العليم من خلال سبر أعماق الشخصيات واستقصاء بواطنها فهو يرصد لنا حديث أبي جعفر حين سئل " أيكـم معه العلامـة " فقال أبو جعفر " فعلمت أني قد أخرجت من الأمر، لأنـه لـم يكـن معـي علامـة "(16) ، والحوار المضمن في النص هو امتداد للسرد والوصف يستخدمه وسيلة للإبلاغ وأحياناً يحل الحوار مكان السرد الحكائي بشكل تام فيتخذ المتحاورون مظهراً يعتمد السرد المستمر.
    ويبدو القص في جانب منه على شكل خطابات لغوية متقطعة لا ترتقي الى مستوى السرد ، ولكن تشكيل السرد يعتمد مبدأ السببية التي تجعل كل سبب يحيل الى نتيجة وكل حدث يفضي الى آخر .
    ولنعد الى بناء الحكاية ولنتعرف الى نمو الحدث وتطوره نجد الحكاية تبدا بالطلب من خلال استدعاء أبي سلمة لبني العباس أو لجوئهم هم إليه طالبين حمايتهم ،ثم تتطور الأحداث الى المنع حيث يعمد أبو سلمة الى تأخير إخراج بني العباس حتى بعد انتصارهم على الأمويين ويمثل ذلك ذروة التأزم في الموقف ثم ليأتي الانفراج بعد ذلك من خلال الانحراف الذي ظهر في سلوك الشخصيات فأبو سلمة كاتب مجموعة من العلويين فتأخروا عنه ،تبع هذا التأخر "وساء ظن بني العباس به"(17) ، ولم يملك بنو العباس بعد ذلك إلا أن أخذوا زمام المبادرة وحاولوا التخلص من الحبس لمعرفة ما يجري في الخارج ، ولتحقيق الانفراج تتم الاستعانة بعوامل مساعدة منها المولى الاسود الذي خرج يستطلع الأخبار ويبدو هنا كيف ان الفرج جاء على يد مولى أسود في محاولة للربط بين لبس السواد ورفع الرايات السود إيذاناً ببدء الدعوة للدولة العباسية ومجيء الفرج من هذا المولى الأسود ، وكان يمكن أن يروى الخبر على هذا النحو " أخرجوا مولى لهم" دون ذكر كلمة أسود ، لكنه يؤكد عليها في موضع آخر فه يشير الى احضار ابني قحطبة فيقول " فجاء حتى ولج الدار وأراه الأسود السرداب"(18) فلم يذكر كلمة مولى في هذا الموضع .
    ونلحظ في النص تلك المفارقة بين بداية الحكاية وخاتمتها فأبو سلمة هو الذي استدعى بني العباس حرصاً منه عليهم وعمل على حمايتهم حتى تنجلي الغمة عنهم لكنه في النهاية يفكر في خيانتهم وتسليمهم الى العلويين ليجعل الأمر شورى بين المسلمين بل ويراسل العلويين الذين يرفضون رأيه ، وتذكر لنا الحكاية موقف العلويين إذ أن جعفراً قال لعبدالله "فلا تمنين نفسك الأباطيل فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم" (19).
    ولا تبدو هذه الأحداث متوافقة مع حال أبي سلمة الذي أنفق الكثير من الأموال في سبيل الدعوة العباسية وكان يحمل الرسائل من الحميمة الى خراسان وكان الدعاة يؤمرون بقصده إذا ظهروا وغلبوا على الكوفة ليعرفهم الإمام، وهو الرجل الذي اختاره بنو العباس لحمايتهم ، فهل كان سيضحي بكل ما خطط له وهل كان من الجهل بحيث يخفى عليه ما كان عليه حال انصار العلويين من ضعف ، اظن أن الحكاية تحتاج الى المزيد من التحري لا سيما وان كتب التراجم تذكر في موت أبي سلمة أن أشخاصاً كمنوا له ليلاً ووثبوا عليه فقطعوه بأسيافهم وقيل إن أبا مسلم الخراساني دسهم له لشحناء بينهم .
    ولا تحاول الحكاية أن تكشف لنا عن خفايا موت أبي سلمة بل اكتفى الكاتب بممارسة دور الراوي الإبعادي فاستعان بكل الأحداث التي تلصق صفة الخيانة بأبي سلمة ، ومهما يكن فالحكاية تروي أحداثاً يفترض أنها وقعت في زمن ما .
    وعلى الرغم من أن الحكاية قامت على تسلسل الأحداث تسلسلاً منطقياً إلا أن ذلك لا يعني أن النص لم يستعن بتقنيات لكسر الزمن وخلخلة الأحداث ، من ذلك استخدامه للمنولوج أو تسريع الأحداث أو الإضمار في أحداث أخرى كقوله " استدعى بني العباس فصيرهم في منزله في الكوفه "(20) ، وقوله " فلما أوقع قحطبة بابن هبيرة " . ومن الأساليب التي يستخدمها أسلوب الاسترجاع استخدمه الكاتب حين أراد أن يذكر بمعرفة ابني قحطبة للعلامة التي تميز الإمام.
    والنص عامة يظل فقيراً من حيث تعدد وظائف السرد ومفتقراً الى الوصف ، لكنه يقدم لنا صورة عن واقع المجتمع ويمكننا أن نفتح النص على عدة احتمالات للتأويل على الرغم من أن الكاتب حاول أن يجعله نصاً منغلقاً على نفسه من خلال توجيه القص واستخدام صيغة السارد كلي العلم .


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. محمـد عبيــد الله
    تاريخ التسجيل
    30/01/2009
    المشاركات
    44
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: قراءات في نصوص من التراث

    اشكرك على مرورك على بحثي - فقه الحروف - , وقد نقلت الحديث في فقه الحروف الى موقع = ملتقى اهل التفسير = 0

    تحت عنوان : فقه الحروف


    اشكرك يا دكتور لقمان وفي رعاية الله تعالى

    محمد عبيدالله


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 1

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •