أوراق
تمهيد :
برنامج أسمه أوراق لهواة القصة القصيرة,كانت تقدمه إذاعة bbc العربية.
وكانت تقدم للفائز بأجمل قصة هدية رمزية.
كان يشترك في تقديمه السيد سمير فرح والأديبة هادية سعيد.
التي وضعت العبد لله عن فن القصة في مكان بعيد بعيد.
وإليكم ما حدث مع محدثكم,وحاولوا أن لاتسمعوني أصوات ضحكاتكم.
أوراق
أغراني مبلغ الأربعون جنيها الذي يقدم لصاحب أجمل قصة قصيرة,وصوره لي طمعي بأنه ثروة كبيرة.
فآليت على نفسي إلا أن أناله,وقررت أن أكون أنا له.
فما دام كل الفائزين من الهواة,والأمر لا يحتاج سوى قلم ودواة.
فما المانع من أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع,فحق المنافسة هو حق مشروع.
أشتريت أوراق وأقلام بثمن زهيد لا يسام.
وعدت إلى بيتي بسرعة,تدفعني الحماسة والفرحة.
وضعت الأوراق والأقلام أمامي,وأنا أخمد جاهداً ثورة ألهامي.
أخذت أنا والاوراق نتبادل النظرات في دهشة,غريبان ألتقيا بمحض الصدفة.
كان تجاوز هذا الموقف أولى خطواتي الصعبة.
لن أدع هذا الأمر التافه أن يوهن عزيمتي,فالغريب يصبح حبيب حينما أظهر له مودتي.
مددت يدا ثقيلة غليظة نحو الأقلام,ففرت منها مذعورة..إنه الموت الزؤام.
لكن أصاعبي ألتقطت أحد الضحايا,وأنا أحاول الأمساك به بكل لطف وعناية.
لكنه أنقلب من بين أصاعبي بحركة بهلوانية,وأسقط نفسه هاربا من المقصلة الأدمية.
بعد محاولاتي العديدة إليه بالتودد,أستكان مرغما في يدي بعد تردد.
وما أن وضعت يدي على الأوراق,حفت تأن من هذا العناق.
كل هذا لا يهم,الأربعون جنيها هي المهم.
كل مافات يا أصدقائي كان سهلاً حينماجائتني المصبيبة تقول لي أهلاً.
ماذا سأكتب!؟..وكيف سأكتب.
الويل لي ثم الويل كيف للاعمى ان يركب الخيل.
لم ورطت نفسي هذه الورطة, وانا في غنى عن هذه العبطة.
لكني كنت مصرا على الكتابة اشد الاصرار,رغم ما سيلحقني من اذى و اضرار.
ففكرت الفوز بالجائزة,وان قصني هي حتما فائزة تجعلني أصّير الذي لا يصير,وأفترض بأن النعامة تطير.
واحول نفسي من مجرد متعهد بناء,لم يلقى في حياته سوى العناء.
إلى كاتب فذ موهوب,يغرق في احاسيسه ويذوب.
وبدأت أزيل من رأسي مقالب الأتربة والأحجار,لعلي أفسح طريقاً لتوارد الخواطر والأفكار.
وبعد مخاض عسير وهرج ومرج,ولدت أخيراً لحظة الفرج.
حكاية قديمة,روتها لي جدتي نديمة رحمها الله.
ولأنها كانت دائماً ترددها,لم أحفظ حكاية غيرها.
سارعت إلى كتابتها دون تأجيل,فليس أمامي سواها بديل.
وبذلت جهداً عظيماً في تلافي الأخطاء,من نحوٍ وصرفٍ وإملاء.
وبلغ مني الجهد كل مبلغ,أستحق عليه الأربعون جنيهاً كمبلغ.
وبعد أن أعدت قراءة ما كتبت,أحسست بالزهو والفخر مما أنجزت وأبدعت.
ولم يخاملني أي شك أو ريب,فالأربعون جنيهاً صارت في الجيب.
ولكن حينما حل المساء,وحان موعد أوراق وجاء.
أطلت علينا السيدة هادية سعيد,بصوتها الهادئ السعيد.
وهي تنقد وتعلل,وتركب وتحلل,وتشخص وتوصف,وتضيف وتحذف.
ثم تنهي حديثها المليح,بجملة من النصائح والتصاريح.
بعدما سمعت ما سمعت,أحسست بتفاهة ما كتبت.
أسرعت غاضباً لأوراقي,أكتم غيظي في أعماقي.
مزقتها بالطول والعرض,وألقيت بها على الأرض.
رغم هذه الضربة اللئيمة,لم أعلن بعد الهزيمة.
فالأربعون جنيهاً ماتزال تدغدغ أفكاري,وتلهو بعقلي وأوصالي.
تذكرت ما قالته السيدة هادية سعيد,وهي تفصح عن رأيها السديد.
(عندما نكتب من وحي تجربتنا الشخصية,تصبح قصتنا واقعية,وتصير أكثر جاذبية,وترتفع قيمتها الأدبية).
فقررت أن أطبق كل ذلك,لأجنب نفسي سبل المهالك.
فعدت لأوراقي من جديد,متسلحاً هذه المرة بعزيمة من حديد.
وكان اللقاء الثاني بيني وبين الأوراق ودياً,ليس كسابقه عدوانياً.
وكتبت قصة..وأي قصة..ستورث للمحفوظ غصة.
لكن السيدة هادية كانت لي بالمرصاد,تدفعها غيرتها على لغة الضاد.
تخاطب أحد المستمعين في تهذيب,وهي تحرك له سبابتها في تأنيب.
(اللغة يا عزيزي..إنك لم تشتغل على اللغة بفكر القاص,بل أشتغلت عليها بفكر من حر ولاص).
راعني ما سمعت من هذا الأطراء,فهرولت نحو قصتي دون أبطاء.
لأكتشف بأن قصتي العظيمة,لم تمتلك أصلاً لغة أصيلة.
فازدادت حدة غضبي,وألقيت اللوم على ورقي.
مزقته بالطول والعرض,وألقيت به على الأرض.
رغم كل هذا لم تفقد الأربعون جنيهاً بريقها,وأنا ما زلت على ثقة بأنها قادمة إلي في طريقها.
أزداد تعلقي ببرنامج أوراق,وصار بيننا ما يصير بين العشاق.
ولكن ما أن ينتهي حديث الأشواق,حتى أرمي أوراق فوق أوراق.
وبدأت أشك بأن الأربعون جنيهاً حلقت في الأفاق.
دخلت مرحلة الخطر والهلوسة,وأفكاري صارت مشوشة.
أخوض كل يوم مع أوراق أمتحان عسير,أخرج مع نهايته بصفر مستدير.
وصرت أتوهم بأن قصتي ستذاع اليوم أو غدا,مع أنني لم أرسل أي قصة أبدا.
وصارت السيدة هادية سعيد تتقصدني شخصياً,وعن الأربعون جنيهاً تبعدني نهائياً.
وصارت تخاطبني وتقول,وهي لا تدري بأنني أصول وأجول.
(إن لغتك يا عزيزي كانت جيدة,لكن فكرتك جداً سيئة).
وأنى لي أنا مقاول الأنفار,أن أتي لها بالصور والأفكار!؟.
(إن الحبكة في قصتك يا عزيزي غير محبوكة,والخيطان في القصة كلها متروكة).
أحقاً ما أسمع أم أنا غلطان,هل للقصص أبر وخيطان!؟.
وتردف السيدة الخطيرة,التي لا تفوتها لا صغيرة ولا كبير.
(حينما يأخذ الكاتب أكثر من حصته,في التدخل مع شخصيات قصته,يفرغ القصة من محتواها,وعن الأدب ضاع وتاها).
فأكتب قصة كلها حرية,يسودها جو الديومقراطية.
وأدع أبطالها يتصرفون كما يشاؤون,ولأحداث القصة هم يكتبون.
أصبت بهستريا الكتابة,وأهملت واجباتي حتى العبادة.
ولم أنتبه إلى أنني وصلت إلى هذه الحالة,إلا حينما قامت زوجتي هالة.
برمي المذياع من الطابق الثاني,وهي تتهمني بأنني مهمل وأناني.
(لم يبقى لدينا لا سمن ولا زيت,يا أنا يا هذا المذياع في البيت).
لم تعد الأربعون جنيهاً تهمني,فطمعي فيها أفلسني وهمني.
المسألة صارت مسألة وجود,فالأدب عندي صار حوض مورود.
أكون أولا أكون,وزوجتي لا تعي هذا المضمون.
أريد أن أتخلص من الهم الذي أضرسه,كلما وقع نظري على مئات الأوراق المكدسة.
لأكتشف بأنني كنت قليل الفهم,لأدرك لم سمي أوراق بهذا الأسم.
وأعلن الآن بأنني سأدفع أربعون جنيهاً في التو والحال.
لأي شخص ذو خبرة,ويمتلك كل القدرة.
أن يقولها لي بصراحة,بأنني تطاولت على الأدب بوقاحة.
ويمهر بخاتمسه الصريح,على هذا التصريح,لأعلقه نيشاناً على صدري وأستريح.