قطيع من الأبقار يسير ألف ميل لإطعام موظفي أرامكو

بدايات استكشاف النفط في المملكة العربية السعودية صاحبتها قصص تحكي جزءاً من البطولات التي حققها الرجال السعوديون بقيادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود رحمه الله أثناء تأسيس هذا الوطن والعمل على نقله من صحراء قاحلة إلا من بعض الواحات المختبئة خلف الكثبان الرملية أو بيوت الشعر المتناثرة بين المفازات إلى بلد عصري يضاهي أحدث البلدان العالمية.
في أرشيف شركة أرامكو السعودية الذي أتيح لي فرصة الاطلاع على بعض معلوماته بمساعدة فريق العلاقات العامة بأرامكوس كثير من القصص المثيرة التي ربما تشبه الأسطورة تعكس قوة العزيمة والإصرار على النجاح لدى المستكشفين القدامى ومن هذه القصص التي دارت أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية حين تسبب اندلاعها في اضطرابات وحالة الذعر التي اجتاحت أرجاء العالم ولم يسلم من تداعياتها أحد. بما في ذلك الدول المحايدة ، ما حدا بالجهات المعنية أن توزع المؤن بموجب بطاقات، وقد عرفت تلك السنة محليا بسنة "المطاقة" ويقصد بها البطاقة تلك التي جلبت الأبقار مشيا من اليمن إلى الظهران.
ففي ذلك الزمان الذي سببته الأوضاع العسكرية التي تضررت منها حركة الملاحة البحرية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة واستئثار الحرب بجميع الموارد العالمية المتوفرة، وجدت المملكة والعاملون في اتفاقية الامتياز السعودية أنفسهم يعانون شحا في الموارد ، وأخذت الآليات والمواد والاحتياجات التموينية تتناقص يوما بعد آخر وكان النقص يشمل كل شيء، بما في ذلك الطعام.
مطلق يواجه التحدي الكبير
في ظل هذه الأزمة التي كانت تهدد بتوقف جميع أعمال استكشاف وتطوير الزيت برزت فكرة إنشاء مزرعة لتربية الأبقار وتوفير اللحوم لإطعام موظفي ارامكو، غير أن معضلة جلب الأبقار كانت شبه مستحيلة لولا عمل بطولي حدث عام 1941م كان بطله رجل سعودي مسن أسمه "مطلق" قوي الشكيمة معتد بنفسه تدفعه الهمة العالية على تحقيق إنجاز غير عادي يرافقه صبي صغير السن فقد عرض جلب قطيع من الأبقار مشيا من اليمن إلى الظهران من خلال رحلة محفوفة بالمخاطر عبر أطراف الربع الخالي أكبر صحراء رملية في العالم في رحلة أذهلت الأمريكان وأعادت إلى أذهانهم الرحلة الأسطورية لقافلة س تشيزلومس في فترة الغرب القديم.
كانت الفكرة غريبة عندما عرضت على "ستيف فيرمان" رئيس مخزن التمويل في أرامكو في ذلك الوقت إلا أن فيرمان لم يقف حائلا أمام هذه الفكرة الإبداعية خاصة أنه كان يرعى إنشاء مزرعة للخضروات بالظهران لتوفير الخضروات لموظفي ارامكو بيد انه ولشكوكه بعدم وصول هذه الأبقار اشترط أن يدفع لعدد الأبقار التي تصل إلى الظهران وكانت المفاجأة أن "مطلق وابنه" وصلا بقطيعهما إلى الظهران بعد رحلة أربعة أشهر.
القطيع وصل هزيلا
القطيع الذي سلك طريقاً تتوفر فيه آبار المياه والمرعى وصل هزيلا أو كما يقال "عظم على جلد" وينقل أرشيف ارامكو الذي استمده من كتابة لهيلينكا ديلوكا ان وصول القطيع إلى الظهران دعا الجميع إلى الإنصات لتفاصيل قصة المغامرين اللذين عبرا كل هذه المسافة متنقلين ما بين بئر إلى أخرى ومن مرعى إلى مرعى واثبت وصول جزء كبير من القطيع حيا رغم هزله الشديد كان دليلاً على صدق الرواية والمعاناة التي واجهها في سبيل الوصول إلى واحة الخرج جنوب مدينة الرياض أو تلك المصاعب التي واجهها مطلق وأبنه في أصعب جزئية كانت من الهفوف إلى الظهران وما رافق ذلك من روايات كانت أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة لولا إنجاز ذلك وإثباتها.
الأبقار المنهكة عبر رحلة الألف ميل مات منها الكثير غير أن الذي وصل في حالة هزال شديد تم العناية بها وإطعامها وإدخالها في برنامج تكاثر لتموين العاملين باللحوم بصورة مستمرة.
قلة الإمطار تجهض التجربة الثانية
حلاوة النجاح ونشوة الانجاز شجعت المسن مطلق والصبي اليافع على الدخول في تجربة أخرى لنقل أبقار مماثلة وتنفيذ صفقة أخرى في السنة التالية، بيد أنهما لم يحسنا التوقيت ولم يأخذا بالحسبان قلة الأمطار التي أدت إلى انحسار المراعي في بعض أجزاء من المملكة التي يمرون من خلالها الأمر الذي أدى إلى نفوق عدد كبير من قطيع الصفقة الثانية قبل أن يصل مطلق ومرافقه إلى الهفوف مما دفع أحد المهندسين في ارامكو الذي كان موجوداً بالموقع أن يرسل إشارة بالراديو لفيرمان مفادها أنه إذا أراد الحصول على بقرة واحدة حية من القطيع فعليه القدوم ونقلها بالشاحنة.
ورغبة من فيرمان في إنجاح التجربة الثانية قام بإرسال شاحنات لنقل باقي القطيع الذي نجا وكان عدده 30بقرة ويقال إنه مرت شهور كثيرة دون أن يأتي مطلق لاستلام أجرته لخيبة أمله لعدم تمكنه من إيصال العدد الذي وعد فيه إلى الظهران، كانت هذه الرحلة المثيرة محط اهتمام الموجودين في الظهران لا سيما انها كانت محفوفة بالمخاطر في وقت يكثر فيه قطاع الطرق والنهب، إلا أنه يبدو أن الأبقار لم تعد غنيمة لدى القبائل ولذلك مرت بسلام واجتازت صحارى المملكة واستقرت بالساحل الشرقي حيث عملت الشركة على تكاثرها لتخطي عقبة توفير اللحوم لموظفي الشركة وتم تنمية الأبقار من خلال برنامج لتكاثرها والعناية بتربيتها والاستفادة من ألبانها ولحومها.