قـاضـي الـبـصـرة …
شعر: د . شاكر مطلق

قـاضـي الـبَـصـرةِ
يـَجـلـسُ فـي الدّيــوانِ
على جُـبـَّتـهِ الـسَّــوداءِ
يُـداعـب ، فــي قـلقٍ ، مُرتـبـكــاً
لحـيـتَـهُ الـبـيـضــاءَ
يُـتـمـتِـمُ ، مـهـمـومـاً ، أسـمـاءَ الـبــاري
يَـلـعَـنُ ، فـي الـسـرِّ ، الأنـثــى و الشّـيـطـانْ ...

مـاذا يـَفـعــل بالـــوَلـــدِ
الــواقــفِ فـي الـحـَضــرةِ
مُـضـطـربــاً عُــريــــانْ ؟
لا يـعـرفُ أحــوالَ الـبـصـرهْ
لا يـفـهـمُ أســـرارَ الـتِّـيـجــانْ
أمـسَـكـهُ جـنــدُ الـسـلـطـانِ
بـجـرمٍ مـشـهــودٍ
لا يُـغـفَــرْ
آنَ رأَوْهُ يـمـــدُّ
مـن الـعـيـنـيـن الـغـائـرتـيـنِ
شــعـاعـاً ورديــاً
يُطـلـق مـن شـفـتـيـهِ الـصَّـامـتـتـيـنِ
نــداءً شــبَـقـيّـاً
نـحـو أمـيــرةِ " بـغـدادَ "
و قـد جـاءت فـي هـَوْدجـهـا الذَّهـبـيِّ
إلى حـاراتٍ ضـيِّـقـةٍ مَـنـسـيَّـهْ
لـمْ يـَعـبُـرْهـا مـن قـبـلُ
سـوى الـعـَسـَسِ اللَّـيـليِّ
و أســرابِ الجُـرذانْ …

قـالـوا ، فـي صـوتٍ مـهـمـوسٍ :
جـاءتْ تـَسـتـقـرىءُ طـالـَعـهـا
عـنـدَ عـجـوز الـحـيِّ الـعـرَّافـــهْ
كـي تـسـألَ عـن بعـلِ الأحــلامْ
عـن اِسـمِ حـبـيـبٍ مَـوعـودٍ
للـنّـهـدِ العـالـي مـَرصـودٍ
سـيـجـيء إلـيـهـا يــومــاً
يـعـدو فــوقَ زرافــهْ
الـرأس كـثــورٍ بـريٍّ
أدنـاهُ شـبـيـهٌ بالإنـســانْ …

قـال الـفـرسـانْ :
هـذا مـا سَـطَّـرهُ الـكُـهَّــانُ
عـن الأجــدادِ
وظـلَّتْ تـحـكـيـهِ الـجـدَّةُ للأحـفـادِ
و تـرويـه الـنِّـســوانْ
تتـنـاقـلُـه ، عـنـد الـحـجِّ ، الـرُّكـبـانُ
إلى كلِّ مـكـانْ …

الـرَّكـبُ الذهـبـيُّ
يـخِـبُّ ، وئـيـداً ، بـيـن الحـاراتِ المَنـسـيَّـةِ
يَـسـأل شـيـخـاً أعـمـى
عـن بـيـت الـعـرَّافـهْ
و يـُنـاخ الـرَّكـبُ ، أمـامَ البـيـت الطِّـيـنـيِّ
لـتـنـزلَ صـاحـبـةُ الـعـفَّـةِ
مـن هـوْدجِـهـا
كـي تـعتبـرَ مـن بـابٍ خـشـبـيٍّ ضـيَّـقْ
فـتـرى ظـلاً شـاحـبَ
جافتْه الألوانْ
يُـقْـعـي ، فـي خَـدَرٍ ، خـلْـفَ الـجـدرانْ
لـفـتـىً مـهـمـومٍ " غـَلـبــانْ "
رسـَـمَ الـعـمـرُ عـلـيـهِ
قـلـيـلاً مـن شَـعـرٍ فـي الـشّـفـتـيـنِ
كثيراً من صَـدَإٍ في الأجفانِ
و غـيـمـاً مـن أحـزانٍ فـي الـعـيـنـيـنِ
و نـظْـراتٍ مـن لَهَـب الـجــانْ …

يـقـوم الـظِّـلُ إلـيـهـا
مـَبـهـوراً مَـذعـوراً
يـرمـي ، فـي دَهَــشٍ ، نـظـراتٍ حـارقـةً
فـي عـيـنـيـهـا الـسّــوداويـنْ
كـشـظـايـا الـجـمـر إذا لامَـسـه الـمـاءُ
و تُـطـلَـقُ مـن قُـمـقُـمِـها ، الأنــواءُ
و يـرتـعـشُ الـبــانْ …

رآه الـجُـنــدُ
فجُــرّوه بـعـيـداً عـنـهـا
أُشـبـعَ ضـربـاً و تـخـاطـفـه الـسّـجـانْ
و اقـتـيـدَ إلى القـاضـي مَـغـلـولاً
يـحـكـي مـا كــانَ …

قـالَ القـاضـي
_ الـعـارف بالآثـامِ الـكـبـرى _
فـي قـلـقٍ :
_ مـاذا تـبـغـي مـن نَـظْـراتٍ
تـغـلـي شــوقـاً يـا مـجـنـونْ ؟
حـتـى رائـحـةُ الـرِّيـحــانْ
مـحـظــورٌ أن تَـدْنـوَ مـنـهـا
كـيـفَ الـعـيـنـانْ ؟
هـوْدجُـهـا العـالـي قِـبـلَـتُـنـا
و بَـنـانُ الـكـفِّ لـنـا الـمـيـزانْ
لا أنـسٌ يَـقـربُ هـودجَـهـا
حـتَّـى لـو كـانَ من الأعـيـانْ
مـن دونِ طـقـوسٍ أوَّلُـهـا
أنْ يـفـهـمَ آيـاتِ الـقـرآنْ
و يُـجِـلَّ الأرضَ كـمـا الرّحـمـنْ ...

أطـرَقَ صـاحـبُـنـا فـي صـمـتٍ
و تَـنـهَّـدَ جهراً كالنَّدما نْ
عـيـنـاهُ بـقـايـا من " فَـرقَـدْ "
مـكـســورٍ فـوق الـشـّطـآنْ
و الصـوتُ كـمـوجٍ يـتـَمـدَّدْ …

قـالَ " الغَـلـبـانْ " :
- يـا سـيِّـدنـا الـقـاضـي …
إنَّ عـذابَ الجـوع مـُخـيـفٌ
و الحـلْـمُ لَـطـيـفٌ
إذْ تَـشـهَـدُ في العـيـنـيـن فـضـاءً
و رغـيـفـاً مـن شَـهْـدٍ أســودْ
إذْ تـشـتَّـمُّ الأبـعَـدْ
يـدنـو بـرذاذ الـبـحـرِ مـن القَـفـرِ الـعـاتـي
إذْ يَـشـتَـمُّ الـفـرحَ الآتـي
طـفـلُ الـحُـمَّـى
ويـرى شـمـسَ اللـهِ تَـشـعُّ عـلـى " بـغـدادَ "
فـتـنـقـَشـعُ الأحـزانْ
و هـوى " بـغـدادَ " سـيـبـقـى
و شْـمـاً فـي القـلـبِ عـلـى الأزمــانْ
لـكـنَّ " الـكَـرْخَ " نـأى عـنَّـا
و الإرثُ الأمـويُّ تَــبـدَّلْ
و نـواسِـيُّ الـخـمـرِ تـرحَّـلْ
لـقـضـاء الـحـاجـةِ فـي خُـرْءِ الأمــةِ
و تـعـجَّـلْ
مـنْ وقـعِ الـتُّـخـمـةِ
مـن زَحـمـة مـا ألـقـى
مـن أشـعـارِ القـارِ
عـلـى خـدِّ الـسّـلـطـانْ
و غَـدا مـن كـَثـرةِ مـا أُعـطِـي
شــيـخَ الأعـــوانْ …

قـلـنـا: دجَّالٌ يـأكـلُ دجَّالاً
و "الـكَـرْخُ " سـيـلـبَـسُ أسـْـمـالاً
فـخـرابُ الـبـَصـرةِ في الأذهـانْ
لـكـنَّ الـشّـدةَ لـن تـبـقـى
سـيـظـلُّ لنـا مـجـدُ الأوطـانْ
قـد كـنـا أغـفـلـنـا الـعُـربـانْ
و نـسـيـنـا تـنِّـيـنَ الـجـانْ...

يـا سـيّدَنـا …
للـخَـلْـقِ نـوامـيـسٌ تُـرعـى
للـمـوتِ طـقـوسٌ كـلَّ أوانْ
أمّـا أن نُـذبَـحَ فـي صـمـتٍ
مـن غـيـرِ صـلاةٍ
دونَ أذانْ
هـذا لـمْ يـخـطُـرْ فـي بـالٍ
أبــــــــداً
لـمْ يـدخـلْ فـي الـحِـسْـبـانْ
نـَقـتـاتُ الـرّمـلَ و لا نـدري
إنْ كـان شــفـاءً للأبــدانْ
أمْ قــدَراً من ربِّ أعـمـى
فـصَّـلـه أحـفـادُ الـشّـيـطـانْ
إرضـاءً للـوحـش الآتــي
من خـلـفِ الـبـحـرِ مـع الـغِـيـلانْ
يـلـتـهـمُ الـروح و لا يُـبـقـي
إلاَّ أشــبـاحـاً من قــارٍ
تحيى فـي جُـحْـرٍ كـالـفـئـرانْ
الـفـوضـى صـارتْ مـذهـبَـنـا
وقـطـيـعـاً صـرنـا دون أمـانْ :

الـرّاعـي يـأكـل نـعـجـتَـهُ
يَـعـقِـرُ عـفَّـتـهـا مـنـذ زمـانْ
و النـّعـجـةُ قـدْ صـارتْ ظـلاً
تـاهـتْ ، مـن جَـزَعٍ ، فـي الـوِديــانْ
صـلَّـتْ لآلـهٍ من غـضـبٍ
كـي يـوري نـاراً فـي الـكُـثـبـانْ
داهَـمـها الـذِّ ئـبُ فـما ارتـاعـتْ
فـالـمـوتُ خـلاصٌ آنَ نـعـيـشْ
فـي قـفـْرٍ تـحـرسـهُ الذُّؤبـانْ
و كـِرامُ الـقـومِ يـؤرِّقـهـمْ
رِجْـسٌ فـي الأنـثـى لا الـغِـلْـمانْ
يـرمـونَ لـحِـرِّ عـروبـتِـهـمْ
نـظـراتٍ من شـبـَقِ الأوثـانْ
يـدعـون " اللاتَ " إذا اغـتـسـلـوا
و " الـعُـزَّى " تـغـفـو فـي الأحـضـانْ
يـدعـونَ لِـعـاصـفـةٍ تحمي
مـَلَكوتاً أطَّـرهُ الـطُّـغـيـانْ
يُـلـقـونَ أمـيـرةَ عـزتـهـمْ
للـغـازي فـي زمـنِ الـخِـصْـيـانْ ...
_ يـا سَـيـدَنـا …
يـا مـولانـا ...
مـا ذَنْـبـي
قـُلْ لـي مـا ذَنْـبـي
إنْ مـرَّ الـرَّكْـبُ عـلـى دربـي
و أنـاخوا الـهَـودجَ فـي قـلـبـي
و دعـانـي الـظَّـبـيُ إلـى البُـسـتـانْ
فـنـسـيـتُ و أغـرانـي الـشـيـطـانْ ؟ ! ...

صـدِّقـنـي _ يـا قـاضـي الـبـَصـرهْ _
إنـّي شـاهـدتُ مـن العـيـنـيـنْ
شَـهْـداً يـنـسـابُ إلى كَـفِّـي
نَجْـمـاً يـتـجـلَّـى فـي روحـي
و التَّمـرُ الـيـانـعُ فـي النـهـديـنْ
يـتـسـاقـطُ بُـرءاً لـجـروحـي
فـسـهـَوتُ قـلـيـلاً عن حـالـي
و شـطَـحـتُ بـعـيـداً في حـلُـمـي
و نـسـيـتُ الـحَـضـرةَ و السُّـلطـانْ
و مـعـانـي آيـاتِ الـغُـفـرانْ …

_ يـا سَـيِّـدَنـا …
مـاذا نـفـعـلُ مـن دونِ الـحُـلْـمِ
و قـد جـفَّـتْ فـي الرّوحِ عـروقُ الـكـرْمِ
و تـوارتْ عـنَّـا " إنَّـانـا "
و زمـانُ الـحـلُـمِ الأوَّلِ فـاتْ ؟
فـاحـكـمْ مـا شـئـتَ عـلـى جـسـدي
بالنِّطعِ أو الـنار الـعُـظمى
فـالـرُّوحُ أسـيـرةُ " بـغـدادٍ "
وأمـيـرةُ " بـغـدادَ " الـحُـبـلى
سـتـظـلُّ تـبـشِّـرُ بـالـطُّـوفـانْ …
===========

حمص-سورية ( كتبتْ بين 1995 _ 1999 ) - نشرت في الموقف الأدبي-دمشق .
E.Mail:mutlak@scs-net.org