آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: من القصص الأردي - القانون الجديد

  1. #1
    رئيس قسم اللغة الأردية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر فرع البنات بالقاهرة مصر الصورة الرمزية إبراهيم محمد إبراهيم
    تاريخ التسجيل
    16/10/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    236
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي من القصص الأردي - القانون الجديد

    كلمة لا بد منها :
    احتل الإنجليز شبه القارة الباكستانية الهندية عام 1857م ، وأذاقوا أهلها الذل والهوان كما هي عادتهم مع أهل البلاد التي احتلوها ، وبعد زيادة مقاومة أهل شبه القارة للاحتلال جرت بعض المحاولات السياسية لتغيير بعض القوانين في البلاد لتخفيف حدة المقاومة ، ومن هذه المحاولات محاولة عام 1935م في إصدار قانون جديد بهذا الشأن اعتقد معه عامة الناس من أهل البلاد أن فيه خلاصهم من الإنجليز ، وهو اعتقاد ساذج ، وهذه القصة تتناول هذا الموضوع .
    القانون الجديد
    سعادت حسن منتو

    كان "منجو" العربجى يعد الأكثر عقلاً بين زملائه فى موقف الحناطير، ومع أن حالة "منجو" التعليمية لم تكن تتعدى صفراً ولم ير شكل مدرسة أبداً فى حياته. لكنه كان على معرفة بكل مايدور فى العالم، وكل عربجية الموقف، خاصة أولئك الذين لديهم الرغبة فى الإطلاع على ما يحدث فى هذه الدنيا، كانوا على علم تام بمعلومات "منجو" الواسعة.
    فى الأيام القلائل الماضية عندما سمع "منجو" ذات مرة من أحد ركاب حنطوره عن شائعات لنشوب الحرب فى أسبانيا، ربت على كتفى زميله العمدة "جاما" العريضتين، وقال متنبئاً فى لهجة فلسفية متدبرة: سترى يا عمدة، إن الحرب ستنشب فى أسبانيا فى غضون أيام قلائل. فلما سأله العمدة "جاماً": أين تقع أسبانيا هذه؟ أجاب "منجو" بكل ثقة: أين تقع؟! فى إنجلترا طبعاً !!.
    وعندما نشبت الحرب فى أسبانيا، ووصلت أخبارها إلى الجميع، اعترف كل عربجية الموقف الذين كانوا يجلسون ملتفين حول النرجيلة بعظمة "منجو" فى قلوبهم. كان "منجو" فى ذلك الوقت يسير بحنطورة فى شارع "مال" المتألق يتناقش مع ركابه عن الاضطرابات التى حدثت مؤخرا بين المسلمين والهندوس، فلما عاد إلى الموقف فى المساء كان وجهه محمراً بشكل غير عادى، ودارت النرجيلة بين الجالسين، ودار معها الحديث عن الصدامات بين المسلمين والهندوس، عندئذ خلع "منجو" عمامته من على رأسه ووضعها تحت إبطه وهو يقول بلهجة فلسفية عميقة: لا بد أن هذا الذى حدث ما هو إلا دعوة أحد الأولياء، يومياً ترتفع السكاكين والسواطير بين المسلمين والهندوس، ولقد سمعت من أحد أجدادى أن الملك "أكبر" (1) كان قد جرح قلب أحد الدراويش، فغضب الدرويش ودعا عليه قائلاً: أغرب، ستبقى الاضطرابات الطائفية فى بلدك الهند إلى أبد الآبدين. ثم تنفس "منجو" الصعداء، وأخذ نفساً من النرجيلة وهو يواصل حديثه: إن أعضاء "حزب المؤتمر" هؤلاء لا يريدون تحرير الهند، وأنا أقول لو ظل هؤلاء يضربون رؤوسهم فى الحائط ألف عام فلن يحدث شئ، على أكثر تقدير سيرحل الإنجليزي، ويحل محله الإيطالي، أو ذلك الروسى الذى سمعت أنه فى غاية القوة لكن الهند ستبقى محتله..... نعم، نسيت أن أقول لكم إن الدرويش الذى آذاه الملك "أكبر" قد دعا أيضاً بأن الهند ستبقى دائماً يحكمها الأجانب.
    كان "منجو" يكره الإنجليز بشدة، وكان دائماً يذكر أن السبب فى كراهيته هذه هو أن العساكر الإنجليز فى المعسكر كانوا يعاملونه كأنه كلب ذليل. إضافة إلى هذا فإن لون بشرة الإنجليز لم تكن يعجبه أبداً، فعندما كان يرى وجوههم البيضاء المشوبة بالحمرة، كان يشعر بالغثيان، ولا يدرى لماذا، كان دائماً يقول: إن وجوههم المليئة بالتجعدات تذكرنى بجثة الميت عندما يتعفن جلده ويتساقط. .
    وإذا حدث ذات مره وتشارك "منجو" مع أحد سكارى الإنجليز، فإن مزاجه كان يظل طول اليوم مكدراً، فيأتى فى المساء، ويشعل سيجارة من ماركة "المحراث" أو يأخذ نفساً من نرجيلته، ويظل يسب هذا الإنجليزى كما يحلوله:-
    "......" وبعدما يسبه بمثل هذا السباب الغليظ يحنى رأسه بعمامته المتدلية ويقول جاءوا ديارنا لأخذ النار، والآن امتلكوا الديار، أولاد القردة، لقد أوصلو أرواحنا إلى الحناجر، يتحكمون فينا وكأننا عبيد آبائهم........، ولا تهدأ ثورة "منجو" عند هذا الحدّ، بل يظل ينفث ما فى صدره من غل لهم طالما كان أحد أصدقائه جالسا معه... أرأيت شكله، ..... كمن أصابه الجذام .... كالميت تماماً .... هذا الذى لا يتحمل صفعة واحدة "يشخط" "وينطر" وكأنه سيذبحك ... وحياتك يا أخى... فى البداية مرّ بخاطرى أن أفتت جمجمة هذا الملعون، ولكنى تراجعت، لأن قتل مثل هذا الرجيم إهانة لى..... ثم يصمت "منجو" لبرهة، وينظف أنفه بكمّ قميصه الكاكى، ويواصل السبّ والشتم متمتماً:- قسماً عظماً، إننى لم أعد أتحمل دلال هؤلاء اللوردات، عندما أرى وجوههم المنحوسة يفور الدم فى عروقي، أقسم برأسك أننا سنتخلص من هؤلاء الناس وتعود الروح إلينا إذا تم سن قانون جديد.
    وذات يوم كاد الأسطى "منجو" يطير فرحاً عندما فهم من حديث راكبين من طائفة "المرواريين" (2) ركبا معه من أمام مجمع المحاكم أن هناك قانوناً جديداً سينفذ فى الهند. كان هذان الرجلان من طائفة "المروارى" قد حضرا إلى مجمع المحاكم بخصوص قضية لهما، وأثناء عودتهما إلى البيت تجاذبا أطراف الحديث عن القانون الجديد أو القانون الهندي:-
    • سمعت أن القانون الجديد سيتم تطبيقه فى الهند فى الأول من إبريل فهل ستتغير الأمور؟!
    • بالطبع لن تتغير الأمور، لكنهم يقولون أن أشياء كثيرة ستتغير، وسوف تنال الهند استقلالها.
    • وهل سيتم إعداد قانون جديد خاص بالربا؟!
    • هذا أمر يستحق السؤال، سنستفسر عن ذلك غداً من أحد المحامين.
    هذا الحديث الذى دار بين الرجلين ولّد سعادة لا حدود لها فى قلب الأسطى "منجو"، وكان من عادته أن يشتم حصانه، ويضربه بكرباجه فى قسوة شديدة، لكنه اليوم يتلفت وراءه كثيراً ناظراً إلى الراكبين "المرواريين" وهو يرفع بأحد أصابعه شعر شواربه إلى أعلى، ويجذب لجام الحصان فوق ظهره برقة قائلاً: هيا يا بنى...... هيا، أرنا كيف تسابق الريح.
    أوصل الأسطى "منجو" راكبيه، ثم توجه إلى محل الحلوانى "دينو" فى شارع "أنار كلى" وهناك تجرع نصف كيلو من اللبن الرائب، ثم تجشأ على أثر ذلك بصوت مرتفع، وجذب بفمه شعر شواربه يمص مصاً، ثم قال بصوت عال: إلى الجحيم.
    ولما عاد إلى المحطة فى المساء لم يجد هناك أحداً من معارفه على غير العادة، لقد كان يشعر ببركان عجيب بين جنبات صدره، كان يريد أن يقصّ على أصداقائه خبراً عظيماً، .. خبراً رائعاً، ويتحرق شوقاً لإخراج الخبر من داخله، لكن أحداً لم يكن هناك. وظل الأسطى "منجو" لنصف ساعة يروح ويجيء فى قلق تحت السقف الحديدى للمحطة واضعاً كرباجه تحت إبطه، كانت تصورات جميلة تدور فى ذهنه، لقد أدخله خبر تطبيق القانون الجديد فى عالم جديد، فأضاء كل مصابيح عقله مفكراً فى هذا القانون الجديد الذى سيتم تطبيقه فى الهند من أول إبريل، وكانت مخاوف ذلك الرجل "الماروارى" حول إمكانية سن قانون جديد للربا لا تزال تطن فى أذنه فتسرى فى جسده موجة من الفرح والسرور، وأخذ يبتسم من تحت شواربه الكثة وهو يشتم المارواريين قائلاً: سيكون القانون الجديد بمثابة الماء المغلى لهؤلاء "البق" المختبئين فى أسرة الفقراء.
    كان "منجو" فى غاية السعادة، ويغمر الفرح قلبه بصفة خاصة عندما يتخيل أنه مع صدور هذا القانون الجديد ستختفى وجوه هؤلاء "الفئران البيضاء القبيحة" هكذا كان يسمى الإنجليز فى جحورها إلى الأبد.. وعندما جاء الأسطى "نتهو" الأقرع إلى المحطة واضعاً عمامته تحت إبطه تقدم منه الأسطى "منجو" وأمسك يده قائلاً بصوت مرتفع: هات يدك، سأقول لك خبراً يسعد قلبك، وينبت الشعر فوق جمجمتك الصلعاء هذه....
    وبدأ "منجو" يحدث "نتهو" الأقرع عن القانون الجديد باستمتاع شديد، ولمرات عديدة أثناء الحديث كان يضرب بيده بقوة على يد "نتهو" الأقرع وهو يقول: ترقب يا "نتهو" ماذا سيحدث، إن ملك الروس هذا لا بد سيفعل شيئاً.
    كان الأسطى "منجو" قد سمع كثيراً عن النظام الاشتراكى السوفييتي، وكان معجباً بقانونهم الجديد وأشياء أخرى كثيرة لديهم، ولهذا فإنه أطلق لقب "ملك الروس" على القانون الهندى الجديد، وربط التغييرات التى ستحدث عند تطبيق هذا القانون فى أول إبريل مع هذا "الملك الروسي".
    ومنذ فترة نشطت حركة "أصحاب الأردية الحمراء" (3) المعارضة للإنجليز فى مدينة بشاور والمدن الأخرى، فربط الأسطى "منجو" بين حركة المعارضة هذه وبين الملك الروسى وبين القانون الجديد، إضافة إلى هذا فإنه عندما كان يسمع من أحد أن عدداً من صناع القنابل قد تم ضبطهم فى مدينة ما، أو أنه تم تقديم بعض المواطنين إلى المحاكم فى مكان ما بتهمة التمرد، كان يعتبر كل هذا مجرد إرهاصات للقانون الجديد، ويشعره ذلك بسعادة غامرة فى داخله.
    وذات يوم ركب معه حنطوره محاميان، وكانا ينتقدان القانون الجديد بعنف وهو ينصت إلى ما يقولانه، قال أحدهما للآخر: إن الجزء الثانى من القانون يتعلق بالنظام الفيدرإلى وهو ما لم أفهمه إلى الآن، إننا لم نر حتى اليوم مثل هذه الفيدرالية ولم نسمع عنها فى التاريخ، حتى من الناحية السياسية فإن الفيدرالية خطأ جسيم، بل ينبغى القول بأن هذه ليست فيدرالية أصلاً.
    وبما أن معظم الألفاظ التى استعملها المحاميان فى حديثهما كانت إنجليزية، ولم يفهم "منجو" سوى قليلاً منها، فإنه تصور أن هذين المحاميين يعارضان القانون الجديد، وأنهما لا يريدان لوطنه أن يتحرر، لذا نظر إليهما الأسطى "منجو" عدة مرات شذراً وهو يقول فى نفسه: يا أذناب الإنجليز. لقد كان "منجو" يشعر بسعادة كبيرة عندما يشتم أحداً سراً بقوله يا أذناب الإنجليز، لأنه كان يشعر أنه استعمل اللفظ فى مكانه الصحيح، وأنه الآن يستطيع التمييز بين الشرفاء وأذناب الإنجليز.
    وبعد يومين من هذه الواقعة ركب ثلاثة من طلاب الكلية الحكومية مع "منجو" فى طريقهم إلى منطقة "مزنج" فسمعهم يتحدثون فيما بينهم:-
    * لقد زاد هذا القانون الجديد فى آمالى، فإذا أصبح السيد فلان عضواً بالبرلمان فلا بد أنه سيجد لى عملاً فى مصلحة حكومية.
    • ومع ذلك فستكون هناك فرص كثيرة فى هذه الفوضى وربما نجنى نحن أيضاً شيئاً من وراءها.
    • نعم، نعم ولم لا؟!
    • على الأقل ستنخفض نسبة البطالة بين أولئك الخريجين العاطلين.
    زاد هذا الحوار من أهمية القانون الجديد فى نفس الأسطى "منجو" وتخيل أن هذا القانون شيء شديد اللمعان، فكان يحدث نفسه مرات عديدة فى اليوم الواحد قائلاً: قانون جديد، يعنى شيء جديد. فتتجسد أمام عينية عدة حصانه الجديدة التى اشتراها منذ عامين بعناية شديدة من العمدة "خدا بخش".. عندما كانت هذه العدة جديدة كانت المسامير الحديدية المنكلة تلمع من فوقها، أما المشغولات النحاسية عليها فكانت تبدو كأنها الذهب الخالص، ومن هنا كان "منجو" يعتبر القانون الجديد شيئاً لامعاً وبراقاً. وحتى الأول من إبريل كان الأسطى "منجو" قد سمع كثيراً من التأييد للقانون الجديد ومن المعارضة له أيضاً، لكنه لم يغير أبداً تلك الصورة التى رسمها له فى ذهنه، فقد كان يعتقد أن الأمور كلها ستتبلور فور تنفيذ القانون الجديد فى الأول من إبريل، وكان على يقين من أنه سيقرّ عيناً بما سينتج عن تطبيقه.
    وأخيراً انتهى اليوم الأخير من مارس، ولم تبق سوى سويعات قليلة من الليل ويبدأ اليوم الأول من إبريل. كان الجو بارداً على غير العادة، وكان الهواء منعشاً. نهض الأسطى "منجو" صباح الأول من إبريل مبكراً، ثم ذهب إلى الإسطبل، وعلق عربة الحنطور فى الحصان وخرج به. كان مزاجه فى هذا اليوم غاية فى السرور، فهو على وشك أن يرى القانون الجديد.
    تجول "منجو" بحنطوره صباح هذا اليوم مع لفحة الضباب الباردة فى عدد من الحارات الضيقة والأسواق الكبيرة، لكن كل شيء كان يبدو قديماً كما هو ... قديماً مثل السماء ... وعيناه تريدان اليوم خاصة رؤية منظر جديد، لكن كل الأشياء كانت قديمة ماعدا ذلك الريش الملون الذى يشبه عرف الديك والمثبت فوق رأس حصانه. لقد أشترى هذا العرف الريشى يوم 31 مارس بأربعة عشر مليماً ونصف من العمدة "خدا بخش" بمناسبة صدور القانون الجديد ... صوت حوافر الحصان... أرضية الشارع السوداء ... وأعمدة الإنارة على جانبى الطريق والتى يفصلها عن بعضها مسافات قصيرة... ولافتات المحلات ... وأصوات الأجراس المعلقة فى رقبة حصانه ... والمارة فى الأسواق ... أى شيء جديد بين هذا كله، بالطبع ليس من بينها شيء جديد، ولكن الأسطى "منجو" لم ييأس:- "مازال الوقت مبكراً، فالمحلات كلها مازالت مغلقة"، كان ذلك يدخل السكينة إلى قلبه، وبالإضافة إلى هذا فقد كان يقول لنفسه: إن دار القضاء العالى تبدأ عملها بعد التاسعة صباحاً، فكيف يظهر قانون جديد قبل هذا الوقت . وعندما اقترب بحنطوره من بوابة الكلية الحكومية كان جرس الكلية يدق التاسعة بصوته المزعج، وكان الطلاب الخارجون من بوابة الكلية حسنى الهندام، ولكن لا يعرف أحدٌ لماذا بدت ملابسهم قذرة متسخة للأسطى "منجو" ربما كان السبب أن عينيه اليوم فى انتظار مشهد مبهر ومحير.
    انحرف "منجو" بحنطوره إلى اليمين حتى وصل إلى سوق "أنار كلى" بعد لحظات، كانت نصف محلاّت السوق قد فتحت أبوابها، وبدأ الناس يتوافدون عليها، وكان هناك زحام شديد من الزبائن على محلات الحلوى، والبضاعة المعروضة فى الدواليب الزجاجية فى محلات الهدايا والتحف كأنها تدعو الناس إلى الفرجة، وبعض حمامات تتنافر فيما بينها فوق أسلاك الكهرباء، لكن الأسطى "منجو" لم يعر كل هذه الأشياء اهتماماً، لقد كان يريد رؤية القانون الجديد أمام عينه تماماً كما يرى حصانه.
    ذات مرة عندما حملت زوجة الأسطى "منجو" ، وقضى هو عدة أشهر فى قلق بالغ، كان متأكداً أن الطفل سيولد ذات يوم، لكنه لم يتحمل ساعات الانتظار، كان يريد أن يرى الطفل لمرة واحدة ثم يولد بعد ذلك فى أى وقت شاء، ولهذا فقد جعلته هذه الرغبة الجامحة يضغط بيده مرات عديدة على بطن زوجته المريضة، ويضع أذنه فوقها ليعرف شئا عنه، لكنه فشل فى ذلك، وذات يوم ملّ كثرة الانتظار فانهال على زوجته توبيخا وتعنيفاً: تجلسين هكذا دائما كالميتة.... انهضى وأمشى قليلاً ربما تتقوى أعضاء جسمك، فلا فائدة من جلوسك هكذا كاللوح الجامد .. أتعتقدين أنك ستلدين وأنت نائمة هكذا.
    كان الأسطى "منجو" متعجلاً بطبعه، يريد أن يرى كل شيء بشكل عملى، بل أكثر من ذلك أنه كان فضولياً ، وعندما كانت زوجته "جنجاوتى" تراه قلقاً بهذا الشكل كانت عموماً تقول له: مالك يا رجل، سيغشى عليك من العطش ولم يحفر البئر بعد. أياً كان الأمر فإن الأسطى "منجو" فى مسألة القانون الجديد لم يكن قلقاً بما يتناسب مع فطرته المتعجلة، لقد خرج من بيته اليوم ليرى القانون الجديد تماماً كما كان يخرج لمشاهدة مسيرات "المهاتما غاندي" و "جواهر لآل نهرو".
    كان مقياس عظمة الزعماء فى نظر الأسطى "منجو" بمقدار الزحام والضجيج فى مسيراتهم، وبمقدار ونوعية الورود التى كانت تعلق عقوداً فى أعناقهم، فإن كانت الورود المعلقة فى عنق الزعيم من النوع الأصفر الكبير فهو فى نظر الأسطى "منجو" قائدا عظيماً، وإن حدثت بعض الصدامات فى مسيرة أحد القادة صار فى نظره أكثر عظمة وقدرا، والآن يريد أن يقيس القانون الجديد فى عقله بمثل هذا المقياس.
    خرج الأسطى "منجو" بحنطوره من سوق "أنار كلى" واتجه إلى شارع "مال" اللامع وسار فيه ببطء، وعند أحد محلات بيع السيارات استوقفه أحد الركاب الإنجليز من المعسكر، وبعد أن اتفق معه على الأجرة لوح بكرباجه فى الهواء ليبدأ الحصان سيره وهو يقول فى نفسه:-
    لا بأس، هذا أفضل أيضاً، ربما نعرف شيئا عن القانون الجديد من المعسكر نفسه. وبعد أن أوصل الأسطى "منجو" الراكب إلى حيث يريد أخرج سيجارة من جيبه وأشعلها، ثم وضعها بين الإصبعين الأخيرين من اليد اليسرى وجلس فى المقعد الأمامى للحنطور. كانت عادة الأسطى "منجو" عندما لا يكون فى حاجة إلى راكب، أو يريد أن يمعن التفكير فى واقعة حدثت، فإنه بشكل عام كان يترك مقعده الأمامى ويجلس فى المقعد الخلفى بهدوء شديد، ويلف لجام حصانه حول يده اليمنى. وفى مثل هذه الحالات كان حصانه يصهل قليلاً ثم يبدأ السير ببطء شديد كما لو كان وجد الفرصة ليستريح من عناء العدو والجري.
    وبنفس البطء الذى كان يسير به الحصان كانت التصورات حول القانون الجديد تتهادى إلى ذهن الأسطى "منجو" ، كان يمعن التفكير فى كيفية الحصول على رقم لحنطوره من لجنة البلدية فى ظل القانون الجديد ... وبينما كان غارقاً فى هذا التفكير إذ شعر وكأن هناك راكباً يناديه ... تلفت خلفه فلمح إنجليزياً يقف بجانب أحد أعمدة الإنارة على الجانب الآخر من الطريق ويشير إليه بيده.
    وكما ذكرنا من قبل كان الأسطى "منجو" يكره الإنجليز بشدة، فلما رأى هذا الزبون إنجليزياً ثار شعور الكراهية فى قلبه، فخطر بباله أن لا يهتم به، وأن يتركه ويسير فى طريقه، لكنه قال لنفسه إن من الحماقة ترك فلوسه، على الأقل نحصل من جيبه على الأربعة عشر مليماً ونصف التى دفعتها هباء فى شراء العرف الريشى، فلأذهب إليه. ثم دار بحنطوره فى عناية شديدة إلى الشارع الخالي، ولوّح بكرباجه لحصانه فى الهواء، وفى غمضة عين كان عند عمود الإنارة، جذب "منجو" لجام الحصان وأوقف الحنطور ثم سأل الإنجليزى وهو جالس على المقعد الخلفي: إلى أين يريد السيد المحترم الذهاب؟! كان فى السؤال سخرية بالغة، عض الأسطى "منجو" على شفته العليا الغليظة المكتظة بشواربه وجذبها إلى أسفل بينما كان يخاطب الإنجليزى "بالسيد المحترم" فصارت التجعيدة التى تمرّ من تحت فتحة أنفه إلى أعلى ذقنه بهذه الحركة أكثر عمقاً، وبدا صدغه وكأنه قطعة من خشب السنديان الأسمر قد شق بسكين حاد. كان وجهه كله يضحك وإن كان قد أحرق هذا "الأبيض" فى نيران صدره وسيّره رماداً. فلما هم بوضع قدميه على سلم الحنطور، تلاقت نظرات الأسطى "منجو" فجأة بالإنجليزي وبدت وكأنها طلقات رصاص انطلقت من بنادقها، فتلاقت وتصادمت نيرانها سوياً حتى تحولت إلى دوامة من النيران اتجهت إلى أعلى. فك الأسطى "منجو" اللجام عن معصم يده اليمنى، ونزل من الحنطور وهو ينظر إلى الإنجليزى الواقف أمامه وكأن سيلتهم بنظراته كل كيانه ذرة ذرة، أما الإنجليزى فكان يحاول تنظيف بنطلونه الأزرق من أشياء غير مرئية وكأنه يحاول حماية جزء من وجوده من هجمة الأسطى "منجو" عليه. قال الإنجليزى وهو يبتلع دخان سيجارته: هل تريد توصيلي، أم تريد مجرد الثرثرة....
    • هو بعينه ... تبادرت هذه الجملة إلى ذهن الأسطى منجو، وبدأت تتراقص بداخل صدره العريض.
    • هو بعينه ... ردّد "منجو" هذه الجملة مرات عديدة بداخل فمه، وفى نفس الوقت تأكد تماماً من أن هذا الإنجليزى الواقف أمامه هو بعينه الذى تعارك معه العام الماضي، وتحمل رغم أنفه أشياء كثيرة بسبب هذه المشاجرة المفتعلة التى كان سببها سكرة الخمر فى دماغ الإنجليزى، ولولا أنه اضطر للسكوت خوفاً على مصلحته لكان قد أصلح للإنجليزي دماغه، أو هشم جمجمته ... لقد كان يعرف أنه فى مثل هذه الخناقات لن تنزل المحكمة بلاءها إلا على رأس العربجى.
    فكر الأسطى "منجو" فى مشاجرة العام الماضي، ثم فى قانون أول إبريل الجديد، وقال للإنجليزي: إلى أين تريد الذهاب. وكانت فى لهجة "منجو" لسعة مثل لسعة الكرباج، فأجاب الإنجليزي: إلى منطقة "هيرامندى"تحركت شوارب الأسطى "منجو" وهو يقول: الأجرة خمس روبيات.
    اندهش الإنجليزى عندما سمع ما قاله "منجو" فصرخ فيه: خمس روبيات ... إنك...
    • نعم، نعم، خمس روبيات. قال "منجو" ذلك و أطبق يده اليمنى حتى أخذت وضع اللكمة ثم قال: هيه، ستركب أم تثرثر، وصارت لهجة "منجو" أكثر حدة. وفى ضوء ما حدث فى مشاجرة العام الماضى فإن الإنجليزى لم يعر صدر الأسطى "منجو" العريض اهتماماً، كان يعتقد بأن رأس "منجو" مشتاقة للضرب مرة أخرى، واعتماداً على هذا الاعتقاد فإنه تقدم من الحنطور وتسمّر بجانبه، ثم أشار بعصاه إلى الأسطى "منجو" لينزل من الحنطور.
    لمست عصا الصفصاف المدهونة هذه، والتى لا تزيد عن شبر واحد، لمست فخذ "منجو" الممتلئة مرة أو مرتين، عندئذ صوب "منجو" نظراته إلى الإنجليزى قصير القامة وكأنه يريد أن يسحقه بثقل نظراته هذه، ثم أطلق لكمة خاطفة كأنها السهم المنطلق من القوس، فاستقرت تحت ذقن الإنجليزى ثم دفع الإنجليزى بعيداً عنه ونزل من الحنطور وانهال عليه ضرباً. حاول الإنجليزى الذى أخذته المفاجأة أخذاً أن يستجمع نفسه ويتفادى لكمات الأسطى "منجو" القوية، لكنه عندما رأى أن خصمه قد طرأت عليه حالة من الجنون، وأن الشرر يتطاير من عينيه صرخ بأعلى صوته، فزاد صراخه من قوة ضربات الأسطى "منجو" كان يضرب الإنجليزى يعنف بالغ وهو يقول:
    • كل هذه العجرفة فى الأول من إبريل أيضاً ... كل هذه العجرفة فى الأول من إبريل أيضاً ... الحكم لنا اليوم أيها الحقير.
    تجمع الناس حولهما، ونجح جنديان من البوليس فى تخليص الإنجليزى بصعوبة شديدة من قبضة الأسطى "منجو" وكان الأسطى "منجو" يقف بين رجلى البوليس وصدره يعلو ويهبط من أنفاسه المتلاحقة، وقطرات اللعاب تسيل من فمه، وهو ينظر بعيون مبتسمة إلى المارة الذين تجمعوا من حوله قائلاً بصوت متهدج:-
    • لقد مضى الزمن الذى كان "خليل خان" (4) يطير فيه الحمام .... اليوم القانون الجديد يا سادة ... القانون الجديد.
    أما الإنجليزى المسكين بوجهه الذى شوهته الضربات فقد كان ينظر كالحمقى تارة إلى الأسطى "منجو" وتارة إلى المجتمعين من حوله.
    اصطحب رجلا البوليس الأسطى "منجو" إلى قسم الشرطة وفى الطريق، وفى القسم كذلك كان "منجو" يصرخ بأعلى صوته ... القانون الجديد ... القانون الجديد ... لكن أحداً لم يستمع إليه.
    • ما هذا القانون الجديد الذى يهذى به ... القانون هو هو، قديم، القانون هو نفسه القديم ...... وزُجّ "بمنجو" فى السجن.


    هوامش
    1 - أحد ملوك الدولة المغولية الإسلامية فى الهند.
    2- طائفة التجار المرابين بالهند.
    3 - جماعة من الثوار المعارضين للاحتلال الإنجليزى في الهند كانوا يرتدون أردية حمراء تميزهم.
    4 - يشير إلى عدم مبالاة الشعب فيما سبق بأمور الحكم.


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية راسخ كشميري
    تاريخ التسجيل
    13/10/2007
    العمر
    42
    المشاركات
    107
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: من القصص الأردي - القانون الجديد

    زبردست سر! دونوں زبانوں میں ایک قصہ پڑھ کر بہت ساری باتیں سمجھ آجاتی ہیں جو ایک زبان میں کبھی کبھی مجہول لگتی ہیں

    بڑی مہربانی


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية Sami Ulhaqs
    تاريخ التسجيل
    15/01/2007
    المشاركات
    42
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: من القصص الأردي - القانون الجديد

    جميل جدا بارك الله فيكم
    دكتورنا الفاضل
    هل أكملتم ترجمة "تلاش" لممتاز مفتي وهل طبعت الترجمة؟؟ لماذا لاتضعون هذه الترجمة كلها في ملف واحد حتى أستفيد ويستفيد الجميع. شكرا

    سميع الحق عبد الحقرابطة المترجمين لاهور- باكستان

  4. #4
    رئيس قسم اللغة الأردية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر فرع البنات بالقاهرة مصر الصورة الرمزية إبراهيم محمد إبراهيم
    تاريخ التسجيل
    16/10/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    236
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: من القصص الأردي - القانون الجديد

    أخي راسخ ، أشكركم على هذا الإطراء الكبير وأدعو الله لكم بكل خير.


  5. #5
    رئيس قسم اللغة الأردية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر فرع البنات بالقاهرة مصر الصورة الرمزية إبراهيم محمد إبراهيم
    تاريخ التسجيل
    16/10/2006
    العمر
    61
    المشاركات
    236
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: من القصص الأردي - القانون الجديد

    أخي سميع الله
    أشكركم على محبتكم ، وأما بالنسبة لكتاب تلاش فقد اكتمل نشره في المنتدي ولم ينشر ورقيا حتى الآن ، وأدعو الله بالتيسير .


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •